قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية المحترم البربري للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والأربعون

رواية المحترم البربري للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والأربعون

رواية المحترم البربري للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والأربعون

لم يحرك ساكنًا في جلسته غير الاعتيادية على الأريكة لتبقى في أحضانه هادئة مستكينة، بدا كالصنم متخذًا حذره لتبقى قدر الإمكان مستسلمة معه، أشار معتصم بيده للخادمة التي كادت تقترب منهما لتتوقف عن التقدم وتستدير عائدة أدراجها من حيث أتت، تنهد بتمهل ثم أسبل عينيه ليحدق في وجه آسيا، راقبها باهتمام نابذًا خلف ظهره بقايا كراهيته لها، وبحذرٍ شديد أزاح تلك الخصلات التي غطت جبينها وحجبت الرؤية عنه ليتأملها عن كثب، أمعن النظر في تفاصيلها الناعمة، كانت حقًا جميلة للغاية، طالت نظراته المتعمقة نحوها، أحس بدقات قلبه تضطرب وبشيء ما بداخله يتحرك ويحثه على التودد إليها والاقتراب أكثر منها.

للحظة غمره شعورًا غريبًا بمعاودة تقبيلها مثلما فعل ليلة عقد قرانهما، قاوم تلك الفكرة الجامحة ومع هذا رضخ سريعًا أمام إلحاح خلاياه المتشوقة لها، لم يتردد كثيرًا، أحنى رأسه عليها ليتلمس شفتيها بحرصٍ وروية، نقلته قبلتها الناعمة إلى مكان آخر متناسيًا فيه كل شيء، شعر بتململها في أحضانه فتوقف عن تقبيلها وتراجع برأسه بعيدًا عنها مدعيًا النوم، أفاقت آسيا من غفلتها القصيرة على تلك القشعريرة التي تسربت إليها عبر شفتيها من ذلك الملمس الحذر عليهما فنبهت مراكز الإدراك لديها، فتحت عينيها ببطءٍ لتجد نفسها في ذلك الوضع المريب، انتفضت متسائلة بتوترٍ:.

-إنت بتعمل إيه؟
لكزته بقسوة في صدره وهي تلقي نظرة عابرة على ثيابها لتتأكد من بقائهم عليها، تنفست الصعداء لعدم حدوث ما تخاف التفكير فيه، ادعى معتصم استيقاظه من سباته محدقًا فيها بنصف عين، أجابها بصوتٍ شبه ناعس:
-كنت نايم
أكمل تمثيليته مضيفًا بتساؤلٍ: -في حاجة؟
حاولت النهوض من على قدميه متسائلة بانزعاج: -وأنا إيه اللي جابني عندك؟ وإنت كنت بتعمل إيه و..

أخفى عن عمد تقبيله لها كي لا تقيم الدنيا وتقعدها، تشبث بها أكثر لتعجز عن التخلص منه، ثم أجابها بابتسامة عابثة:
-كنتي تعبانة
تجهمت تعابيرها وقد بدت غير مقتنعة بمبرره الضعيف، أزاحت قبضتيه عنها مستخدمة قوتها لتنهض وهي تعلق بضيق:
-أنا دلوقتي كويسة
حافظ على ابتسامته الهادئة قائلاً باقتضاب: -تمام.

تحاشت النظر إليه وهندمت من ثيابها، شعرت بوجود خطب ما وبأنظاره تخترقها من الخلف، تجاهلت ما تشعر به لتكتفي بالإرهاق الذي نال من أعصابها وأضناها، وقف معتصم على قدميه ليسألها باهتمام:
-أهم حاجة أعصابك راقت؟
التفتت نحوه نصف التفاتة برأسها لتجيبه بتنهيدة متعبة: -عادي، مش هاتفرق كتير
دنا منها لتتقلص المسافات هاتفًا بتردد طفيف: - آسيا، أنا كنت..

لم تمهله الفرصة لإكمال جملته، قاطعته بجدية مفرطة: -أنا طالعة فوق
اعترض طريقها ممسكًا بها من ذراعها ليستوقفها وهو يقول لها بنبرة أقرب للرجاء: -استني يا آسيا
نظرت إلى يده القابضة على ذراعها بانزعاج كبير رغم نعومة نبرته، أرخى أصابعه عنها فسحبت يدها للخلف متسائلة:
-عاوز إيه؟

ركز بصره عليها مكملاً بهدوء يناقض شخصيته المناكفة معها: -إيه رأيك لو خرجنا نتعشى برا؟ يعني نغير المود شوية بدل الأعدة هنا في البيت، ها قولتي إيه؟
تطلعت إليه بغرابة وقد انزوى ما بين حاجبيها، رددت بنبرة مصدومة: -نتعشى سوا؟ أنا وإنت!
أومأ برأسه مؤكدًا: -أيوه، إيه رأيك؟
توتر من رفضها فتابع بوجه شبه مكفهر: -لو مش حابة خلاص، ده مجرد اقتراح.

ظلت تعابير الاندهاش مرسومة على ملامح آسيا، تحولت تعابيره للجدية موضحًا بتريث آملاً في نفسه ألا ترفض طلبه:
-أنا عارف إننا مرينا الفترة اللي فاتت بضغوط كتير، وأعصابنا تعبت وخصوصًا لما ماما ماتت، هي نفسها مكانتش هتحب تشوفنا كده، فكرت إننا ممكن نخرج شوية، ونشوف مناظر تانية، لو مش عاوزة مافيش مشكلة بالنسبالي.

صمتت لتفكر في عرضه الذي أثار الريبة في نفسها، راقبها معتصم بإمعان متوقعًا رفضها بين لحظة وأخري، توتر مع سكونها ولكن ارتخت تعابيره حينما ردت هامسة:
-أوكي
كانت آسيا بحاجة للترويح عن نفسها، يكفيها ما عانته من انخراطها في دوامة أحزانها لتظل أسيرة آلامها النفسية، هي بحاجة لفسحة من كل شيء، أولته ظهرها وانصرفت دون أن تعلق بالمزيد، لم يتبعها إلا بنظراته، ثم ردد بين جنبات نفسه بجدية:.

-احنا محتاجين فرصة نعرف فيها بعض صح، من غير المشاكل اللي بينا، كفاية اللي حصل زمان!

أحس بتأنيب الضمير لكونه قد أصدر حكمه المسبق على آسيا منذ أول لحظة تعارف صادمة بينهما دون أن يمهل حتى نفسه الفرصة ليكتشف أسباب إقدامها على ذلك، كان حكمه نافذًا غير قابل للرجعة حتى اتضح له كل شيء فضاعف من إحساسه بالندم، ما بدا له مزعجًا أنه عاملها بخشونة جافة مستخدمًا أسلوبًا بربريًا همجيًا لم يعهده في تعامله مع الجنس اللطيف، عقد العزم في قرارة نفسه على تعويضها عما لاقته على يديه، ستصير كالمدللات حتى تنسى تلك الذكريات المحزنة.

أغلقت باب غرفتها خلفها لتسير الهوينا في اتجاه فراشها، جلست آسيا عليه غير مستوعبة ما حدثها فيه معتصم قبل لحظات، بدت مرتبكة، متخبطة، حائرة في تفكيرها، فهو يدعوها هكذا ببساطة كإنسانٍ متحضر لتناول الطعام معه وكأنه متلهف للحديث معها بعد جولات الاقتتال بينهما، ما زاد من استغرابها هو قبولها لدعوته، بررت ذلك لنفسها بكونها قد سئمت الجدال والمشاحنة فيما لا يفيد، فلم يعد لديها ما تحارب من أجل استعادته أو حتى ما تخشى خسارته، همست لنفسها بيأسٍ:.

-هيحصلي إيه أكتر من اللي شوفته
دست أصابعها في خصلات شعرها وهي تميل بجسدها للأمام لتستند بمرفقيها على فخذيها، أغمضت عينيها متذكرة تلك الرعشة التي اعترتها فجأة، فتحت جفنيها متوهمة أنه ربما يكون قد قبلها خلسة، تحسست شفتيها عفويًا، ثم نفضت تلك الفكرة غير المنطقية عن عقلها قائلة:
-لأ طبعًا، دي أوهام.

أجبرت عقلها على إنكار ما أحست به، فهو لا يطيقها أو حتى يبادلها الحب الشغوف ليفعل هذا، أعادت ظهرها للخلف لتتمدد على الفراش مستسلمة لأفكارها اليائسة التي أغرقتها من جديد في ذكرياتها المحزنة.

عاد من الخارج متجهًا إلى غرفة آسيا ليطمئن على أحوالها بعد أن أخبرته ابنة أخيه عن النوبة العصبية التي انتابتها فور أن علمت بخبر وفاة سامر، طرق وحيد الباب فلم يجد منها استجابة، أدار المقبض بحذرٍ وأطل برأسه للداخل، وجد الغرفة خالية منها، انقبض قلبه ثم ولج باحثًا عنها، وقبل أن يصيح عاليًا سمع صوت انهمار المياه من داخل الحمام، تنفس بعمق ليستعيد هدوئه ثم انسحب بتريث مغلقًا الباب ورائه، هرع إلى غرفة ابنه ليستفسر منه عما حدث لها أثناء انشغاله بالخارج، سأله بتلهفٍ وقد تعقدت تعبيراته:.

- آسيا عاملة إيه دلوقتي؟ اوعى تكون عملت في نفسها حاجة؟
توقف معتصم عن إكمال ارتداء قميصه الكحلي ليلتفت نحو والده، أجابه ببرود وقد كانت تعابيره هادئة على غير العادة:
-كويسة يا بابا ماتقلقش عليها
اغتاظ وحيد من هدوئه فصاح به بضيقٍ: -وإنت عرفت منين؟ كنت قاعد معاها ولا..
قاطعه مؤكدًا بابتسامة شبه مغترة: -حاجة زي كده، أنا اتعاملت معاها بأسلوبي.

زجره والده بجدية بعد أن قست نظراته نحوه: - معتصم مش وقت ألغاز ولا كلام فاضي، إنت عارف إن آسيا بتمر بظروف صعب، مش معقول تضايقها بطريقتك دي و..
رد عليه مقاطعًا إياه من جديد وهو يضع يديه على كتفيه: -بالعكس يا بابا، أنا عازمها على العشا برا
رفع وحيد حاجبه للأعلى متسائلاً بعدم تصديق: -عشا؟!
هز رأسه بالإيجاب ليؤكد له ما سمعه: -أيوه
أشار له والده بسبابته في عدم اقتناع: -إنت وهي؟

نظر معتصم لأبيه بغرابة مستنكرًا أسلوبه في الاستهتار بدعوته قائلاً بامتعاضٍ: -هو ليه الكل مش مصدق إني عازمها على الأكل؟
فرك وحيد ذقنه معللاً: -معاك إنت صعب
رد عليه معتصم بتذمرٍ: -والله ما هاقتلها، ده أكل في مطعم وسط الناس، حاجة البشر الطبيعيين بيعملوها دايمًا
ابتسم له والده مرددًا بمزاح: -طب كويس، الواحد كان نسى ده بصراحة، الحمدلله إنك رجعت لطبيعتك.

لم يعلق عليه معتصم وتابع ارتداء رابطة عنقه ثم شرع في تمشيط خصلات شعره، جلس والده على مقربه منه يوصيه بجدية:
-أنا خايف عليها زي ما بأخاف عليك، ومش حابب إنها تحس إنها مالهاش لازمة وسطنا بعد موت المرحومة، وخصوصًا إن دي وصيتها ليا قبل ما تموت
أدار ابنه جسده نحوه ليقف في مواجهته، ثبت نظراته عليه قائلاً عن ثقة: -اطمن يا بابا، أنا وعدتك إني هاتغير، وده فعلاً اللي بأعمله معاها، وأديني بأحاول أصلح اللي فات.

ضغط وحيد على شفتيه متمتمًا: -أما أشوف، وبالنسبة لموضوع باباها، أنا هاتصرف فيه
سأله باهتمام: -هاتعمل إيه؟
رد بغموض أكبر: -بعدين هاحكيلك
ثم هب واقفًا على قدميه ليشدد عليه قائلاً: -المهم متتأخروش برا
رد معترضًا بمزاحٍ: -حاضر، بس أنا جوزها، مش ماشي معاها
ابتسم والده مداعبًا بلطفٍ: -إنت تطول تجوز واحدة زيها
اتسعت ابتسامة معتصم قائلاً بانصياع: -ماشاء الله، بتحاميلها أكتر مني، ماشي يا وحيد بيه، إنت بس تؤمر.

انتهت بصعوبة من انتقاء الثوب الملائم لترتديه في ذلك العشاء مفضلة أن يكون لونه أسودًا، تأملت آسيا انعكاس صورتها في المرآة بنظرات مطولة، كان جسدها أكثر نحافة عما مضى، عدلت من ضبطية الأكمام لتخفي آثار الندبات من على رسغيها، جذبت أطراف الثوب للأسفل لتغطي ما بعد ركبتيها، اعتدلت في وقفتها لتحملق في وجهها الذي فقد إشراقته المبهرة، حمدت الله أنها لا تزال محتفظة باللون الطبيعي لحدقتيها، رفعت يديها للأعلى لتعقد شعرها كعكة، ثم استخدمت مساحيق التجميل لتمنح بشرتها نضارة زائفة، سحبت شهيقًا عميقًا ثم لفظته ببطء لتتجه بعد ذلك إلى الخارج، شهقت عفويًا حينما رأت معتصم ينتظرها في الرواق واضعًا يديه في جيبي بنطاله، عبست متسائلة:.

-إنت واقف هنا ليه؟
أجابها ببساطة دون تكلفٍ وهو يجوب بعينيه على تفاصيلها المشوقة: -مستنيكي
ردت عليه بارتباك وهي ترمش بعينيها: -كان ممكن تستنى تحت، مش لازم هنا!
سألها مبتسمًا وهو يدنو منها: -هتفرق معاكي؟

أغمضت عينيها للحظة لتتجنب نظراته المحدقة بها، لم ترغب في التعليق عليه، ثم إذ بها تشعر بأنفاسه قريبة من بشرتها، فتحت جفنيها على الفور لتجد وجهه على مسافة تكاد تكون معدومة منها، توترت من اقترابه غير المتوقع وهي تردد:
-إنت..

وبلطفٍ غير مسبوق منه تناول يدها بكفه ليرفعه إلى فمه، منحها قبلة رقيقة عليه لتنفرج شفتاها وتتجمد الكلمات على طرف لسانها، تعلقت عيناها اللامعتان بنظراته العميقة، أخفض معتصم يدها لتتأبط ذراعه مكملاً بابتسامته الساحرة:
-مش يالا بينا!

ارتجفت من معاملته الناعمة معها، جاهدت لتخفي اضطرابها من تودده الذي أخافها، شعرت بعدم الارتياح من عدم تفسيرها لتصرفاته الغامضة، سارت معه نحو الدرج وهي تنظر له بعينين متعجبتين، لم تنتبه لخطواتها الهابطة على الدرج فزلت قدمها وفقدت اتزانها، تلقاها معتصم بذراعيه جاعلاً إياها تلتصق بجسده، حاوطها بإحكام متأملاً وهج نظراتها عن قرب، اختفت المعالم المحيطة بهما ليغدو الاثنان في عالم منفصل، نهج صدرها بتوترٍ مربك من قربه الخطير، دققت النظر في بسمته الصغيرة وعينيه المشعتين بتوقٍ كبير، ولأول مرة تشتعل بشرة وجهها بحمرة خجلة، التوى فمه للجانب هامسًا لها بعذوبة:.

-خدي بالك يا آسيا
استندت بكفيها على صدره لتجبر نفسها على الابتعاد عنه، حررها من حصار ذراعيه فاعتدلت في وقفتها، أكمل سيرها قائلة بتلعثمٍ:
-أنا هانزل لوحدي
استشعر بقوة ارتباكها منه فعزز ذلك من إحساسه الغريب نحوها، أسرعت آسيا في خطواتها حتى وصلت إلى الطابق السفلي، تبعها معتصم بخطواتٍ أقل سرعة منها حتى خرج الاثنان من المنزل.

لحظات وكانت آسيا تقف أمام مدخل البناية منتظرة إياه ليحضر السيارة لكليهما، تلفتت حولها بفتور ثم ما لبث أن تحول ذلك إلى استغراب كبير، خاصة حينما ترجل معتصم من السيارة ليفتح لها الباب الأمامي لتركب بجواره، نظرت له باندهاش وهي تسأله:
-ده بجد؟
تقوست شفتاه عن بسمة واثقة وهو يرد: -أكيد.

ثم أمسك بيدها ليعاونها على الدخول، رفعت حاجبها قليلاً مبدية تعجبها منه، مال عليها وهي جالسة لتتوهج بشرتها بحمرة أحبها، كانت الأجواء مربكة بالنسبة لها، تأملها قائلاً بخفوت:
-على فكرة ده أسلوبي الطبيعي، بس مكانش في فرصة إنك تشوفيه
ازدردت ريقها لتقول له باضطراب بذلت مجهودًا لإخفائه: -مافيش داعي.

اعتدل في وقفته مغلقًا الباب ثم دار حول السيارة ليركب بجوارها، التفت نحوها مانحًا إياها نظرة خشيت التصديق بأنها رومانسية، تجنبته محدقة في معالم الطريق بشرود وقد بدأ في القيادة، استطرد معتصم حديثه من جديد كاسرًا حاجز الصمت ليقول بغرور وغطرسة:
-لو سألتي عني هتتأكدي من ده، مافيش بنت إلا وتتمنى أتكلم معها
داعبت طرف أذنها مرددة باستنكارٍ: -أشك إنك بتعامل البنات بأسلوب يحببهم فيك.

أجابها وهو يستدير برأسه نحوها موزعًا نظراته بينها وبين الطريق: -اللي بأهتم بيها بتحس إنها ملكة، بس حظك معايا كان وحش
ردت عليه ساخرة وهي تنظر له بضيق: -واضح إنهم كتار
صحح لها بهدوء: -كانوا يا آسيا، دلوقتي مافيش ولا واحدة تهمني!
مطت فمها هاتفة باختصار: -أحسن
أبرز ابتسامة متسلية وهو يضيف: -بس إنتي غير البنات اللي عرفتهم
ردت بتهكمٍ: -أكيد أنا كرهتك في الصنف كله.

كركر ضاحكًا من طرفتها قبل أن يعلق عليها: -حاجة زي كده، ليكي السبق الصراحة في ده
تصنعت الابتسام وهي ترد: -كويس
تنهد مضيفًا بنبرة أقرب للهمس: -بس إنتي بالنسبالي مختلفة، قوية، وجميلة، وليكي تأثيرك عليا!
أحست من طريقته في الحديث محاولة صريحة للتغزل بها، أشارت له بعينيها تأمره: -طب يا ريت تركز في الطريق
غمز لها متسائلاً بمكرٍ: -خايفة عليا أعمل حادثة؟

ارتبكت من سؤاله ونظراته، استعادت ثباتها لترد بجمود: -إنت حر في نفسك، بس أنا لأ
مد يده في جرأة منه ليلمس جانب عنقها بأطراق أناملها، اقشعرت من لمسته المباغتة وانتفضت في جلستها تحدجه بنظرات قوية، أعاد يده للمقود مظهرًا تلك الابتسامة الغريبة على وجهه، ثم حملق فيها مؤكدًا:
-متخافيش طول ما إنتي معايا.

حدقت فيه باستغراب، أيعقل أن يكون ذلك معتصم المزعج دومًا لها بكلماته وأفعاله الحادة؟ قرأ نظراتها المرتابة منه مبادلاً إياها ابتسامات ساحرة ونظرات دافئة، عادت آسيا لتأمل الطريق بشرود وهي تفكر مليًا في ذلك التغيير الجذري في معاملته معها مستشعرة بحدسها الأنثوي وجود خطب ما يخفيه عنها حتى وإن ناقض ذلك مشاعرها المتخبطة نحوه.

فتح باب المطعم لها كرجل مهذب يعامل امرأته باحترام ووقار أمام الغرباء، تقدمت آسيا في خطواتها ملقية نظرة خاطفة على المكان الذي بدت أجوائه الرومانسية آسرة للعقول، شعرت بذراع معتصم تلتف حول خصرها وهو يقودها نحو الطاولة المنزوية التي حجزها مسبقًا في أحد أركان المطعم لينعزل الاثنان عن الصخب المحيط بهما، انزعجت من لباقته الزائدة معها معتقدة أنه يتصنع الاحترام ليثير غيرة النساء الموجودات بالمكان، أسرعت نسبيًا في خطواتها لتتجنب التصاقه المتعمد بها، همس لها بجدية:.

-ثواني يا آسيا
توقفت عن السير لتدير رأسها في اتجاهه، سألته بوجهٍ شبه عابس: -في إيه؟
لم يجبها بل سبقها في خطواته ليحرك المقعد لها كقاعدة ذوقية متبعة في الأماكن العامة، أبدت إعجابها بتصرفه ثم ردت بصوتٍ خفيض:
-ميرسي يا جينتلمان!
همس مازحًا: -طول عمري كده يا آسيا
وقف خلفها واضعًا راحتيه على كتفيها، فركهما برفق وهو يتابع همسه: -بكرة لما تعرفيني صح هتتأكدي من ده.

تلبك بدنها من احتكاكه المباشر بها، أغمضت جفنيها مقاومة بشراسة ذلك الإحساس الموتر لحواسها والمحفز لمشاعرها الأنثوية، تنهدت بعمق حينما تراجع عنها لتعيد السيطرة على نفسها، جلس معتصم على المقعد المقابل لها ليشير بيده للنادل الذي أحضر قائمتي للطعام، سألها بوجه مبتسم:
-تحبي تاكلي إيه؟
هزت كتفيها قائلة بفتورٍ: -أي حاجة
رد عليها: -طيب أنا هاطلبلك على ذوقي، اتفقنا؟

لم تكن مشتهية لطعام بعينه فلم تهتم كثيرًا بعرضه، اكتفت بالإيماء له فانتقى لها ما قد تستحسن مذاقه، جابت آسيا بنظراته المكان لتتحاشى نظرات معتصم المتأملة لها، كان الوضع غريبًا عليها، أزعجها بقدر كبير، حاولت على قدر المستطاع أن تلتهي بأي شيء متجنبة افتعال المشكلات من لا شيء، لكنها سريعًا ضجرت من استمراره في التطلع لها بنظرات المتيمين عشقًا، لذا نهرته بضيقٍ:
-ممكن تبطل طريقتك دي معايا؟

فهم حدتها بسبب رقته الزائدة في تعامله معها، زفر متسائلاً: -ليه؟
ضاقت نظراتها نحوه ثم أجابته بعصبية طفيفة: -مش مريحاني وخلاص، كأني في فيلم بايخ
اشتدت ملامح وجهه وهو يحتج معترضًا: -أنا مش بأمثل على فكرة، بأتعامل معاكي بطبيعتي اللي بجد، أتمنى تصدقي ده!
استندت بطرف ذقنها على مرفقها بتعالٍ قبل أن ترد: -يا ريت ترجع ل معتصم القديم، على الأقل أنا قادرة أفهم بيفكر في إيه وعاوز إيه مني.

احتدت نظراته محتجًا بهدوءٍ:
-بس أنا مش عاوز أرجعله، أنا حابب تشوفيني وتعرفيني على حقيقتي يا آسيا
توقف الاثنان عن الجدال الطفيف حينما أتى النادل ومعه أطباق الطعام الشهية، رصها بتأنٍ مانحًا كليهما الفرصة لالتقاط الأنفاس قبل معاودة التشاحن، أشار لها معتصم بيده قائلاً:
-اتفضلي، ويا رب يعجبك لما تدوقيه
أخفضت نظراتها متأملة صحنها وهي ترد بعدم مبالاة: -عادي، أهوو أكل والسلام.

استاء من رفضها الجدي الواضح لمحاولاته للتجاوب معه وإذابة الحواجز الموضوعة بينهما، ادعى استمتاعه بتناول الطعام رغم فقده للشهية، ما قلص معدته حقًا هو الصوت المتجهم الذي اقتحم خصوصيتهما قائلاً بتهكمٍ:
-مكنش صعب أوصلك يا آسيا
رفعت الأخيرة عينيها المصدومتين لتحدق في وجه أبيها الممتقع، علق الطعام بجوفها فأصيبت بسعالٍ مفاجئ من وجوده غير المتوقع، هب معتصم واقفًا لينظر له شزرًا قبل أن يسأله بحدةٍ:.

-إنت بتعمل إيه هنا؟
رمقه بنظرة احتقارية متعالية قائلاً له: -أنا بأتكلم مع بنتي مش معاك إنت
رد عليه بشراسةٍ وقد برزت عروقه المهتاجة: -و آسيا تبقى مراتي، وأنا مش هاسمحلك تقرب منها!
تحداه قائلاً: -هانشوف.

ارتشفت آسيا القليل من الماء لتهدأ من نوبة السعال التي أصابتها، فمجيء والدها كان مصحوبًا بذكريات مكدرة لها، مسحت بمنشفة الطعام فمها ثم حدقت مرة أخرى في وجهه القاتم لتسأله بجمود رغم ثورة الغضب التي اندلعت بداخلها:
-عاوز إيه؟
أجابها بصيغة شبه آمرة: -هتيجي معايا دلوقتي ومن غير أي نقاش
تجاهلته قائلة بنبرة باردة وكأن وجوده لا يعنيها: -لأ، مش هايحصل!

احتقنت نظرات شرف الدين وتحولت حدقتاه لكتلتين من اللهب لوقاحتها معه وإحراجها له بتلك الطريقة الفظة، هدر بها بتشنجٍ:
-إنتي بتقولي إيه؟
ردت عليه بغطرسةٍ مكملة تناول طعامها لتزيد من غضبه: -اللي سمعته
بلغ أوج حنقه منها في أقل من ثانية، اقترب منها ممسكًا بكأس الماء الموضوع أمامها ثم قذف ما فيه في وجهها لتشهق مصدومة من فعلته، ثم صاح بها بغلظةٍ:
-ماتنسيش نفسك وأنا بأكلمك!

اندفعت دماء آسيا الثائرة لتغزي بشرتها فضاعفت من حمرتها، رمقته بنظرات مغلولة وقبل أن تنطق لترد اعتبارها كان معتصم قابضًا على عنقه، تفاجأ شرف الدين به منقضًا عليه وقبل أن يقاومه طُرح أرضًا ليئن بألم كبير، فقد معتصم القدرة على التحكم في أعصابه المستثارة من تطاول ذلك الشخص البغيض المدعي للأبوة عليها ليخرج كليًا عن شعوره وعقلانيته، جثا فوقه يهدده بعدائية بائنة في نبرته ونظراته إليه:.

-إياك تقرب منها! مش هاسمحلك..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة