قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية المحترم البربري للكاتبة منال سالم الفصل الثاني عشر

رواية المحترم البربري للكاتبة منال سالم الفصل الثاني عشر

رواية المحترم البربري للكاتبة منال سالم الفصل الثاني عشر

مزيجٌ من النظرات الغاضبة والمتوعدة انعكست في أعينه عقب صفعتها التي أتت من حيث لم يتوقع، توقعت آسيا أن يثور في وجهها ويرد لها الصفعة، لكن على عكس ما توقعت منه اكتفى معتصم فقط بالتحديق فيها بصمت مريب ألبكها ووترها في نفس الوقت، سحبت نفسًا عميقًا لفظته دفعة واحدة لتواصل حديثها قائلة بكبرياءٍ:
-مش للدرجادي هاقبل بيك.

احتدت نظراته نحوها قائلاً بهدوء مخيف وكأنها لم تضع بصمتها على صدغه: -تربية نادية فلحت معايا
ثم صمت للحظة ليكمل بعدها بنبرة شبه مهددة: -وهتربيكي من أول وجديد.

لم تتحمل طريقته التي تعبر عن ثقته الزائدة ولا حتى جموده الذي يعصف بهدوئها، أرادت أن تشعره بأنها في مركز قوة، فرفعت يدها مجددًا لتصفعه لكنه أمسك بها من رسغها مانعًا إياها من تكرار الأمر، تأوهت بصوت خافت مستشعرة ضغطة أصابعه على معصمها وكأنه يعتصره، جذبها منه نحوه ليقترب وجهها من وجهه، شعرت بأنفاسه الغاضبة تلفح بشرتها حينما استطرد محذرًا:
-حسابك كان مرة واحدة.

قطبت جبينها وهي تحدق في عينيه الملتهبتين، وبالرغم من غموض جملته في البداية إلا أنها فهمت مقصدها بعد تفكير سريع فيها، تذكرت الصفعة التي تلقتها منه حينما طردها من منزل والدتها في أول لقاء جمعهما سويًا، رفع معتصم حاجبه للأعلى ليتأكد من إيصال رسالته لها ثم تابع مهددًا بخشونةٍ:
-أكتر من كده هاكسر إيدك.

خرج عنها شهقة خافتة التقطتها أذنه، كان بالفعل جادًا في تهديده، حتى نظراته كان موحية بأنه سيقدم على ذلك بالفعل، كما تعمد إيلامها ليؤكد لها ذلك إن شكت للحظة أنها تستخف به، وقبل أن تحرك شفتيها لتنطق كان نبيل منضمًا إليهما يهتف برجاءٍ:
-من فضلكم، كفاية مشاكل وخناقات
وجه حديثه إلى آسيا تحديدًا متوسلاً إياها بامتعاض: -لو سمحتي يا هانم
زمت ثغرها قائلة بعبوس وهي تومئ بعينيها نحو رسغها: -لما صاحبك يسيب إيدي!

استدار نبيل نحو ابن عمه يرجوه قدر استطاعته بتريث ولباقة: - معتصم، أرجوك!
حرر الأخير يدها دافعًا إياها بعصبية دون أن يبعد نظراته الحانقة عن وجهها المتشنج، رن هاتف نبيل فجأة، فدس يده في جيب بنطاله ليخرجه، وزع أنظاره بين الوجهين المتحفزين وهو يجيب على اتصال عمه المريب في ذلك الوقت المتأخر:
-أيوه يا عمي
تحركت عيناه نحو معتصم قائلاً بغموض: -هو موجود معايا، في حاجة حصلت؟

استشعر معتصم وجود خطب ما من طريقة حديث نبيل، صرف تركيزه عن آسيا لينتبه كليًا إليه، وخاصة حينما واصل بقلق:
-تمام، احنا جايين على طول
أنهى معه المكالمة فسأله معتصم بتلهف قلق وهو يضع يده على كتفه: -في إيه؟
ابتلع نبيل ريقه ليجيبه بتوتر: -طنط نادية تعبت جامد واتنقلت المستشفى
اتسعت مقلتاه فزعًا وهو يسأله مصدومًا: -بتقول إيه؟!

انقبض قلب آسيا لمجرد سماعها لذلك الخبر الصادم، تبلدت حواسها لوهلة وكأنها أصيبت بشلل مؤقت في تفكيرها، هتفت بلا وعي معتقدة أن الموت قد بات وشيكًا منها:
-مش لازم تموت قبل ما تتحاسب!
استدار معتصم نحوها والغضب يعتريه من جملتها التي قضت على أخر ذرة هدوء فيه، أمسك بها من ذراعيها يهزها بعنف وهو يصرخ بها:
-إنتي إيه، مش بني آدمة؟

لم تشعر بصراخه ولا حتى بتعامله العنيف معها، كانت نوعًا ما مغيبة عنه تفكر في احتمالية رحيل والدتها عن العالم الفاني قبل أن تحقق انتقامها منها، خشي نبيل من تدهور الوضع الذي لا يهدأ أبدًا بينهما فهتف فيه راجيًا:
-سيبها يا معتصم.

استخدم نبيل قوته الجسمانية في تخليصها منه وإبعاد معتصم عنها، ومع ذلك لم يتوقف الأخير عن إطلاق اللعنات والسباب في حقها رغم جره نحو السيارة، طالعته آسيا بنظرات شاردة تفكر فقط في تلك المصيبة التي سمعت عنها، لم تفق من حالة اللا وعي إلا بعد برهة وبعد انصراف الجميع عنها، تلفتت حولها بتوتر فوجدت نفسها بمفردها في الطريق، شحوب واجم حل على تعابيرها، لا تعرف لماذا تشعر بتلك الغصة في حلقها، وبذلك الألم في صدرها، قاومت رغبة تداعب حدقتيها بالبكاء بلا سبب، تنفست بعمق لتسيطر على الحالة الغريبة التي بدأت تعتريها، أشارت بيدها المرتجفة إلى إحدى سيارات الأجرة لتستقلها، ولكن ليس إلى منزلها بل إلى أحد الفنادق القريبة، فالتواجد حاليًا فيه ربما سيزيد من سوء حالتها النفسية.

مر الوقت بطيئًا كالدهر عليه وهو يقف وسط أفراد عائلته بالرواق مترقبًا خروج الطبيب ليطمئنه على حالها، تعاسة جلية سيطرت على ملامح وجه معتصم وهو يقف مستندًا بظهره على الحائط، أدار رأسه في اتجاه والده الذي كان حزينًا للغاية، لم يره بمثل تلك الحالة منذ وفاة والدته، أحقًا مازال يكن لها حبًا صادقًا ونابعًا من أعماق قلبه رغم مرور السنوات على زواجهما ليخشى من فقدانها فجأة؟ اقترب منه ثم جلس إلى جواره ماسحًا على ظهره برفق، خرج صوته متحشرجًا نوعًا ما وهو يسأله بخفوت:.

-للدرجادي بتحبها؟
أجابه وحيد بانكسار: -أنا السبب في اللي حصلها
حدق فيه باستغراب، فأكمل استرساله الحزين معاتبًا نفسه: -كنت غلطان لما فكرت في ده، ازاي أنا بأحذرك تحكي عن بنتها وأنا اللي عملت ده بنفسي
ضغط معتصم على كتف والده برفق قائلاً: -اهدى يا بابا، ماتعملش في نفسك كده، كان هايجي عليها وقت وتعرف الحقيقة!
رفع رأسه في وجهه مضيفًا بندمٍ: -بس مش مني وبالشكل ده!
-أهوو اللي حصل.

راقبتهما أية في صمت، لكن أثر فيها عتاب عمها لنفسه وتحميل كامل اللوم عليه، مسحت بيدها تلك العبرات التي تجمعت عند طرفيها، رغبت في التهوين عليه فاقتربت منه ثم جثت على ركبتيها أمامه، وضعت يدها على كفه لتمسح عليه برفق، دعمته في مصابها قائلة برقةٍ:
-أنكل وحيد، بليز اهدى علشان ضغطك، صدقني أنطي نادية هتخف وتبقى تمام.

حاولت أن تضيف المرح في حديثها فتابعت مازحة: -أكيد بتدلع عليك علشان تشوف غلاوتها عندك، مش كده يا معتصم؟
قالتها وهي تسلط أنظارها على الأخير فابتسم مؤكدًا: -طبعًا يا أية
انتفض معتصم في جلسته حينما وجد باب الغرفة يُفتح، نهض من مقعده متجهًا نحو مصطفى الذي كان يتابع حالتها الصحية مع الطبيب المختص بوضعها، سأله بتلهفٍ وقد برقت أعينه:
-أخبارها إيه؟

أجابه مبتسمًا ليمتص كافة توتراته الواضحة: -متقلقش، هي فاقت وبقت أحسن الحمدلله
تنفس معتصم الصعداء لكونها بخير، استدار نحو والده يبشره وعلى ثغره ابتسامة عريضة:
-ماما بخير يا بابا
بكى أباه تأثرًا بذلك وامتزجت عبراته مع ضحكته المتفائلة، تجمع حوله أفراد العائلة يهنئوه بتلك الأخبار السارة، تساءل معتصم بحماسٍ بعد أن دبت الحيوية في جسده الخامل من جديد:
-ينفع نشوفها؟

رد مصطفى بجدية: -أيوه، بس بلاش تتعبوها في الكلام وكده
قاطعه مؤكدًا وهو يحتضنه: -حاضر، هانفذ كل أوامرك.

تعجب مصطفى من ردة فعله المبالغ فيها ورغم هذا ابتسم له، توهجت نظراته مع رؤيته لوجه أية الملائكي، أحس بدقات قلبه تتسابق بداخله لمجرد وجودها في محيطه، تضاعف توتره مع اقترابها منه، ورمش بعينيه وهو يجاهد بصعوبة لإخفاء ارتباكه الحرج الذي يصيبه كلما رأها، فماذا عن حديثها معه؟ شعر بسخونة تصيبه كالحمى وهي تشكره:
-دايمًا تعبينك يا د. مصطفى معانا
ابتلع ريقه قائلاً بتردد ممزوج بالخجل المرتبك: -ده. واجبي!

ربما هي لحظات عابرة بالنسبة لها لكنها عنت السعادة الحقيقية له، اختلس مصطفى النظرات نحوها وهي تلج مع باقي العائلة إلى غرفة نادية، حدث نفسه بنبرة متمنية:
-يا ريت أقدر في يوم أعبرلك عن مشاعري!

غمرت رأسها في مياه المغطس الدافئة لثوانٍ قبل أن ترفعها وتسندها على حافته، أزاحت آسيا بيدها بقايا رغوة الصابون عن عينيها مكملة تمددها المسترخي فيه، آملت أن تتولى المياه تليين تيبس عضلاتها، لكن ماذا عن قلبها الموجوع؟ لن تجد ما يُسكن آلامه، أغمضت جفنيها متذكرة الحديث الأخير عن مرض والدتها، وكيف رأت في أعين معتصم ومن معه تلهفهما على الذهاب فورًا لرؤيتها، بدأت دمائها تفور من جديد مع تلك الذكرى التي داعبت رأسها، لم تستطع مقاومة نسيانها فانخرطت في ذلك المشهد الموجع، كانت صغيرة ووحيدة في الفراش، بحاجة للرعاية وإلى الدواء، ارتفعت حرارتها ولازمت المنزل من أجل العلاج، انتبهت لصوت والدها القائل:.

- آسيا حبيبتي، أنا نازل دلوقتي عندي شوية مصالح هخلصها وراجع
مدت يدها لتمسك بكفه تتوسله بوهنٍ: -خليك جمبي يا بابا
ربت على كفها بيده الأخرى، ثم رد بأسفٍ: -صعب يا حبيبتي، مضطر أنزل
أدمعت عيناها تسترق قلبه من أجل البقاء معها: -أنا تعبانة وعاوزاك معايا
انحنى على رأسها مقبلاً جبينها الدافئ بودٍ ثم مسح حبات عرقها قائلاً: -يا ريت كان ينفع، بس أمك هي السبب.

طالعته بتلك النظرات الحزينة متوقعة أن يرأف بحالها، لكنه لم يرمقها بنظرة تعاطف واحدة بل حدق أمامه مكملاً حديثه المليء بالحقد:
-لازم أعوض الخسارة وأدفع ديوني وإلا هاتحبس وإنتي تتشردي، ماهو أمك اتجوزت واحد غني وعايشة حياتها ومسألتش فيكي، وأنا غرقان في الديون
انهمرت عبراتها التي امتزجت مع عرقها تستعطفه بإصرار: -النهاردة بس، أنا مش قادرة.

كانت في حالة إعياء واضحة وبحاجة ماسة لمن يجالسها، أرادت أن تشعر بالاهتمام، لكنها وجدت جفاءً عاطفيًا من ناحيته، ابتسم لها شرف الدين ابتسامة متكلفة ثم رد بهدوء:
-معلش يا آسيا، بس أوعدك مش هتأخر
قبل كفها بلطف قبل أن يسنده بجوار جسدها المريض، ألقى نظرة جادة على أدويتها ثم أضاف قائلاً:
-ناقص المضاد الحيوي، هو موجود برا، هاجيبهولك يبقى جمبك لو عوزتي تاخديه.

أومأت برأسها وهي تخفي إحساس الانكسار الذي ملأ قلبها من ناحيته، تركها شرف الدين بمفردها تقضي ليلتها الطويلة تعاني من ويلات الألم، كانت بحاجة لتناول المسكنات لكنها لم تستطع الوصول إلى علبة الدواء، فقد غفل والدها عن إحضاره لها مثلما وعدها، حاولت النهوض من على الفراش، لكن لم يسعفها جسدها، زحفت ببطء عليه حتى بلغت حافته، أنزلت ساقيها وتوقعت أن تحملاها، لكنها خانتها فوقعت أرضًا، عجزت عن النهوض من جديد، ظلت تفترش الأرضية الباردة بجسدها وهي تئن بأنين موجوع طوال ساعات الليل، بكت بمرارة مستشعرة عجزها وقهرها حتى جفت دمعاتها، هي لم تجد من يمد لها العون في أشد حالاتها ضعفًا ووهنًا، بل لم تجد من ذويها من يداويها ويسهر بجوارها، تذوقت معنى اليتم وأبويها على قيد الحياة، عرفت قساوة الوحدة وكرهت هذا الشعور.

أفاقت آسيا من شرودها وقد احتقن وجهها بدمائها الثائرة، لم ترغب في استعادة تلك الذكرى المقيتة، انهمرت عبراتها من جديد ولا تعرف لماذا حدث ذلك، لكنها انفجرت صارخة:
-يا ريتني مت يومها.

غطست برأسها من جديد في المياه حابسة أنفاسها لفترة أطول، أرادت في لحظة طيش هوجاء أن تتخلص من حياتها، لكن عاد شيطانها يعبث بعقلها ويحثها على الانتقام ممن تسببت لها في ذلك الشعور، من حظيت بالاهتمام وتركتها وحيدة تنازع الموت، هي تستحق أن تقاسي مثلها، بل تمر بتجارب أشد قسوة، انتفضت آسيا رافعة رأسها عن المياه في اللحظة الحاسمة، شهقت بسعال حرج لعدة مرات تستعيد انتظام أنفاسها المختنقة، استندت بيديها على حافة المغطس لتضبط اتزانها، قست نظراتها وهي تقول لنفسها:.

-هاخليكي تحسي بكل لحظة ألم مريت بيها، مش هاتعذب تاني لوحدي يا نادية!

التفتت مبتسمة نحو زوجها عمها بعد أن أسندت باقة الورد على الطاولة المستديرة الملاصقة لفراشها بغرفتها بالمشفى، منحتها أية نظرة حب صادقة قبل أن تحني رأسها عليها لتقبلها بودٍ، تحركت بعدها للخلف مفسحة المجال لعمها للاقتراب من زوجته والجلوس إلى جوارها، أمسك بكفها بين راحتيه مخرجًا زفيرًا مهمومًا من صدره، تحرك معتصم في اتجاه ابن عمه هامسًا له:
-مالوش لازمة تفضلوا هنا، خد العيلة وروحوا يا نبيل.

اعترض عليه قائلاً: -ازاي بس، احنا..
قاطعه بإلحاح: -معلش، إنتو معانا من بدري، امشوا ولو في حاجة جدت هاكلمك.

وجد نبيل أن الجدال معه لن يجدي لذلك استسلم أمام إصراره وسحب أفراد العائلة واحدًا تلو الأخر خلفه تاركًا فقط عمه وابنه بصحبة زوجة عمه، راقب معتصم والده وهو يطالع نادية بنظراته الشغوفة، شرد يفكر في التحول الذي انتابه منذ أول لحظة لقاء له ب آسيا، لم يفهم لماذا يتصرف معها بهذا العنف المقيت، فهو معروف عنه بلباقته، باحترامه وتقديره للأخرين، بل بحسن معاملته لجنس النساء، لكن مع تلك القاسية يتحول كليًا إلى شخص أخر، همجي، متعصب، وربما عنيف، لم يكن هكذا يومًا، ولم يحب ما تؤول إليه الأمور معها، انتبه لصوت والده حينما رفع رأسه نحوه يسأله:.

- مصطفى قالك إنها هاتبقى كويسة، صح؟
أجابه معتصم بهدوء محاولاً إخفاء قلقه: -ايوه، متقلقش يا بابا
التفت محدقًا بحزن في وجه زوجته الساكن، اعتلى ثغره ابتسامة مفاجأة سعيدة حينما رأها تحرك رأسها للجانبين، هتف بتلهفٍ:
- نادية، سمعاني!
ردت بنبرة يشوبها الوهن: -حصل إيه يا وحيد؟
أجابها وهو يقترب بجسده أكثر نحوها: -إنتي تعبتي شوية وجبناكي المستشفى، بس الدكتور طمنا وإنتي هاتبقي أحسن
ارتجفت شفتاها هامسة: - آسيا.

عبست ملامح معتصم مع ترديدها لاسمها، اكتفى بالمطالعة الصامتة مجبرًا دمائه الثائرة على تجاهل مع له صلة بها مؤقتًا كي لا يخرج عن هدوئه الزائف، أشارت نادية بكفها المرتعش متابعة حديثها:
-عاوزة أشوفها
خشي معتصم أن تسوء حالتها إن قابلتها بالفعل وعرفت نواياها الشريرة نحوها، فالأخيرة لن تكف أبدًا عن إذاقتها ألوان العذاب، لذا اعترض على طلبها قائلاً بجدية:.

-ماينفعش يا ماما، مش هاتستحملي طريقتها ولا معاملتها الجافة ليكي، صدقيني مش هي البنت اللي في خيالك
هي تعلم أنها لن تكون مثلما تمنت، لكن لماذا يثنيها الجميع عن رؤيتها؟ ألتلك الدرجة هي سيئة؟ حتى لو كانت كذلك لن تتخلى عنها مثل الماضي، هي تستحق أن تعرف الحقيقية وتعلم إلى أي مدى خدعها والدها، بدت متعصبة رغم الإعياء الظاهر عليها وهي ترد:
-خلوني أقابلها الأول، جايز أفهم منها هي بتعمل كده ليه.

احتج وحيد قائلاً بضيق: -قولتلك يا نادية إنها تربية شرف الدين، يعني أحط بني آدم ممكن الواحد يعرفه في حياته!
بررت رغبتها في الالتقاء بها قائلة: -هي متعرفش ده، بالنسبالها باباها اللي رباها، خلوني أتكلم مرة معاها وساعتها هتفهم هو عمل فيا إيه و..
توقفت عن الحديث بسبب نوبة السعال التي انتابتها فجأة، كانت تشعر بأن روحها تنتزع منها، قبل معتصم رأسها يتوسلها:.

-ماشي يا ماما، هنعمل كل اللي إنتي عاوزاه، بس ارتاحي دلوقتي
هزت رأسها رافضة حتى تصديقه، ركزت بصرها عليه قائلة: -اوعدني يا معتصم؟
حاول أن يبتسم ليشعرها بتنفيذه لوعدها دون أن ينطق لكن لم تطاوعه شفتاه، عاودت تكرار طلبها فلم يجد بدًا من الرفض، كان أكثر وجومًا وهو يقول:
-حاضر.

مارس بعنف ملحوظ تمارين تقوية العضلات في الصالة الرياضية التي يرتادها مصيبًا من حوله بالفضول والاندهاش، فلم يكن سامر على تلك الحالة العصبية من قبل، اقترب منه المدرب المسئول عنه يحذره بجدية من خطورة التمادي في إرهاق عضلاته، لكنه رد بإصرار وهو يتصبب عرقًا:
-عندي طاقة بأطلعها يا كوتش!
لوح له بذراعه مكملاً تحذيره: -ماشي، بس مش بالشكل ده، ممكن يجيلك شد عضلي أو..

قاطعه سامر بوجهه المزعوج: -أنا تمام، متقلقش يا كوتش.

يئس المدرب من إقناعه بالتوقف فتركه متوجهًا لأحد أخر يتفقده، حدق سامر في الفراغ أمامه متأملاً طيف آسيا الذي تجسد نصب عينيه، اغتاظ من نبذها له وكأنه لا يستحق الظفر بوقت خاص له معها رغم ما دفعه من أموال وما عرضه عليها من إغراءات كافية لإقناع واحدة غيرها بالقبول بعرضه، توهم أنها سهلة المنال، لكنها كانت العكس، عاملته وكأنه شخص دوني لا يرتقي أبدًا لتطلعاتها، مجرد التفكير في تلك المسألة من هذا المنظور جعل الدماء الساخنة تدفق في عروقه بقوة، ربما هو ليس بالشاب المجتهد والجاد في عمله، لكنه يملك من الأموال ما يفتح له الأبواب الموصدة، كذلك لم ينسَ نظرات ذلك الشاب الذي هاجمه مدافعًا عنها دون سابق معرفة به، شخص غيره أبدى هو الأخر اهتمامًا بها، تحول الأمر مع كم الضغوطات التي تخصها إلى ما يشبه التحدي، ولكن من نوع مختلف ومثير.

توقف سامر عن ممارسة الرياضة مجففًا عرقه بمنشفته القطنية، ألقاها بإهمال على الأرضية ثم بحث في حقيبته الصغيرة عن هاتفه المحمول، عبث بأزراره قبل أن يضعه على أذنه منتظرًا رد الطرف الأخر، وما إن سمع صوته حتى أمره قائلاً:
-عاوزك تجيبلي معلومات عن واحد اسمه معتصم المصري.

صمت لبرهة قبل أن يكمل بغموض: -اعرفلي بالظبط هو مين، بيشتغل إيه، مين أهله، كل حاجة تخصه، فاهمني، ويا ريت المعلومات دي تكون عندي في أقرب وقت!

أنهى معه المكالمة معاودًا ممارسة رياضته العنيفة وهو أكثر تحفزًا عن ذي قبل، مرت من أمامه إحدى الشابات الجميلات ذات الجسد الممشوق، وممن يرتدن الصالات الرياضية للتودد إلى المشاهير من أبناء رجال الأعمال، اقتربت منه متسائلة بميوعة وهي تتعمد الوقوف أمامه بطريقة مغرية:
-متعرفش الكافيه فين؟

نظر لها مليًا وهو يبتسم لها بعبث، فتلك الألاعيب الرخيصة يعرفها جيدًا، نهض واقفًا من على الآلة الرياضية ليقترب منها، بدت أمام كتلة العضلات التي تتطلع إليها ضئيلة إلى حد ما، عضت على شفتها السفلى متسائلة:
-هو أنا شوفت حضرتك قبل كده؟
أجابها مبتسمًا وبكلمات مراوغة: -أكيد، بس أنا لأ!
قطبت جبينها مبدية دهشتها من رده، تدللت في وقفتها فتابع ببرود وبنبرة موحية وهو يشير بعينيه:
-الكافيه أخر الصالة، شمال!

ثم تركها وانصرف دون أن ينبس بالمزيد، لو كان في وقت أخر لتودد إليها، لكنه حاليًا مشغول البال بواحدة فقط؛ اسمها آسيا، شعرت الشابة بالحرج الشديد من تجاهله لها، لكنها لم تستسلم فستبحث عن صيد أخر تفرض نفسها عليه.

انقضى أسبوع منذ عودتها إلى منزلها والكل مواظب على زيارتها يوميًا - من المعارف والأقرباء وكذلك الأصدقاء - من أجل الاطمئنان على صحتها، لكن ظل بالقلب غصة عالقة به، عمدت نادية إلى التصرف بتلقائية ودودة مع الجميع لتشعرهم بتجاوزها لتلك الأزمة، ومع ذلك عكست نظراتها الحزينة ما يعتري صدرها من هموم، هي تعلم أنها تضغط على عائلتها لقبول ابنتها بكل عيوبها وسطهم، لكن في المقابل تجهل ردة فعل آسيا على مسعاها، تابعت في صمت أخبارها، وتحرت خلسة عن كل ما يخصها من فضائح ومعلومات مغلوطة، أنبئها حدسها أن ابنتها عكس ما يدعيه الأغلب عنها، بكت قهرًا مع كل خبر تقرأه يطعن في شرفها ويزيد من الإساءة لسمعتها، شعرت بالذنب نحوها، بأنها كانت ضلعًا بصورة أو بأخرى في وصولها إلى تلك الحالة، كان أغلب حديثها مقتضبًا، كتمت في صدرها أحزانها، لكن بدا وجهها مقروءًا لزوجها و ل معتصم، أراد الترويح عنها فقرر تنظيم حفلة بالنادي احتفالاً بخروجها من المشفى، ورغم كونها مناسبة لا تستحق ذلك الاهتمام إلا أنها كانت بحاجة لتغيير حالتها المزاجية، لذا رحبت بالفكرة.

ما لم يضعه الجميع في الحسبان هو إقامة ذلك العرض التابع للمصمم الشهير في نفس التوقيت بعد أن تم الاتفاق مع أبرع العارضات وأشهرها للمشاركة فيه، بالطبع كانت آسيا أول المرشحات للتواجد فيه، ولم ترفض العرض المادي المجزي بعد أن تأكدت من طبيعة العرض ومكانه، ارتدت أحد تصميماته الخاصة بوقت السهرة تاركة شعرها الأسود ينساب على ظهر الثوب العاري، فامتزج لونه مع ذلك اللمعان الفضي الخاص به، لم تبتذل تلك المرة في وضع مساحيق التجميل، ولم تضع العدسات اللاصقة، أظهرت جمالها الطبيعي فباتت كلوحة فنية أبدع رسامها في تجسيدها، تسابقت عدسات الكاميرا في التقاط العديد من الصور المميزة لها، سارت آسيا بخيلاء على ممر العرض تجوب بنظرات خاطفة أوجه المحدقين بها، تجمدت أعينها لثانية على صاحب الوجه الذي رفع كأس مشروبه عاليًا كنوع من الترحيب بها وللإشارة إلى وجوده، نظرت له بوجهٍ متجمد التعبيرات وكأنها لم تتأثر بحضوره، لكن من داخلها أيقنت أنه لن يمرر الليلة على خير.

أنهت آسيا فقرتها مع باقي العارضات واتجهت للخلفية لتبدل ثيابها بثوبٍ أخر، تفاجأت بوجود سامر ضمن طاقم العمل فتوترت لحظيًا من حضوره، تجاهلته عمدًا مستعيدة ثابتها ثم اتجهت نحو المرآة الخاصة بها مشيرة لمساعدتها بتعديل تسريحتها، وقف سامر خلفها متأملاً انعكاس وجهها للحظات، مال نحوها هامسًا بنبرة ذات مغزى وهو يضع يديه على كتفيها:
-ماينفعش أفوت أول حفلة ليكي بعد حفلتي، ولا إنتي رأيك إيه؟

نظرت لانعكاس وجهه المائل عليها وكفيه اللذين يضغطان على بشرتها بامتعاض، ثم ردت قائلة بصيغة آمرة:
-ابعد إيدك عني!
اقترب أكثر من أذنها فشعرت بسخونة أنفاسه عليها، شدد من ضغط أصابعه على كتفيها فكتمت تأوهاتها المتألمة داخلها، تنهد قائلاً بهمسٍ أقرب لفحيح الأفعى:
-صعب أبعد، يا آسيا..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة