قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الفريسة و الصياد الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والأربعون

رواية الفريسة و الصياد الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والأربعون

رواية الفريسة و الصياد الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والأربعون

في فيلا ناهد الرفاعي
عادت ناهد إلى الفيلا وهي ترثي حالها، فمحاولاتها باءت بالفشل الذريع، كانت ترجو أن تستطيعرحاب مساعدتها، ولكنها طردتها شر طردة...
أوقف السائق سيارته عند مدخل بوابة الفيلا، فوجدت ناهد تجمهرا لبعض الأشخاص امام بوابة الفيلا، فترجلت من السيارة، وسارت بخطوات بطيئة لترى حارس البوابة مسجى على الأرض وبجواره بعض المسعفين الطبيين، فنظرت إليه بصدمة، و...

-ناهد فاغرة شفتيها بقلق: في ايه اللي حصل هنا؟
-أحد المسعفين: مش عارفين يا هانم
-ناهد بتوتر للحارس: اللي جرالك؟
-الحارس بصوت ضعيف: آآآ، الست شاهي هانم
-ناهد مقاطعة بلهفة ولهجة آمرة: بنتي! مالها، انطق بسرعة!
-الحارس متابعا بصوت ضعيف: هي جت هنا وآآآ...

لم تستمع ناهد إلى باقي حديث الحارس حيث ركضت كالمجنونة إلى الداخل، وظلت تبحث وتجوب بعينيها عن ابنتها، ولكنه للأسف لم تجد لها أي أثر..
تملك الرعب قلبها، وارتبكت مشاعرها بشدة، وركضت عائدة للخارج و...
-ناهد بنبرة حزينة وشبه باكية: بنتي فين؟ راحت فين؟ اتكلم!

وضع الحارس يده على مقدمة رأسه محاولات التغلب على الآلم الرهيب الذي أصابه و..
-الحارس متابعا بصوت خافت: أنا مش عارف يا ست ناهد هانم، كل اللي فاكره انها جت هنا وطلبت مني ادفع أجرة سواق التاكسي، آآآ، بس بعدها بشوية جه واحد وراها وضربني وآآآ...
-ناهد بحدة وهي تشير بيدها: وايييه؟ انطق يا بني آدم انت!
-الحارس وهو مطرق الرأس: مدرتش بالدنيا يا ست هانم!

ترنحت ناهد للخلف قليلا، وكادت أن تفقد توازنها، لم تصدق أذنيها حينما أيقنت أن ابنتها كانت هنا، لقد لامت ناهد حظها العاثر الذي منعها من اللحاق بابنتها وإنقاذها من براثن زيدان...

دلفت ناهد إلى داخل فيلتها وهي تجر أذيال الخيبة من وراء ظهرها، ظلت تسب وتلعن، وتركل الأرض بقدمها بحدة، لعنت الظروف التي جعلتها ترتكب تلك الجرائم في حق نفسها، ولعنت طمعها الذي دفعها للتخلي عن أبنائها، وقفت ناهد في منتصف غرفة الاستقبال، تستعيد في ذاكرتها ما مرت به من أحداث، ولكن فجأة توقف عقلها عند شخص واحد، فنظرت أمامها بنظرات جامدة متوعدة و...

-ناهد بنبرة تهديد: مش هاسيبك يا فريدة، انتي السبب، لازم الكل يعرف انك كنتي السبب في اللي جرى لبنتي، لازم افضحك، مش هاسيبك، وإن كنت خلاص هاضيع يبقى مش لوحدي...!

في فيلا زيدان
وصل زيدان بسيارته السوداء إلى بوابة فيلته الحديدية الضخمة، ضغط ببوق السيارة فركض أحد الحراس لفتح البوابة، ثم دلف بالسيارة للداخل..
أوقف زيدان سيارته أمام مدخل الفيلا، وأشار بيده للحرس لمتابعة مراقبة الفيلا..

ترجل من السيارة بعد أن أوقف محركها، ثم دار حولها، وفتح الباب الأمامي للسيارة، وانحنى بجذعه قليلا للداخل، ووضع أحد ذراعيه خلف ظهر شاهي، والأخر أسفل ركبتيها، ثم حملها وسار بها نحو باب الفيلا بخطوات بطيئة، كان يرمقها بنظرات حانية بين الحين والأخر، ورغم أنها كانت غافلة عن الوعي، إلا أنه يشعر بدفئها في أحضانه..

قرع زيدان جرس باب الفيلا، فأسرعت الخادمة بفتح الباب على مصرعيه، ليدلف زيدان إلى الداخل، ودون أن ينطق بأي كلمة توجه نحو الدرج، وصعده بهدوء، ثم توجه إلى غرفة نومه، ودلف إلى الداخل، ومد يده وهو حامل لشاهي ناحية مفتاح الإضاءة لينير الغرفة، ثم سار ناحية الفراش، وأسند شاهي برفق عليه، وجلس إلى جوارها...

مسد زيدان على شعر شاهي بحنية بالغة، وأبعد بعض الخصلات عن جبينها، وعينيها، ثم خفض بصره تدريجيا ليتأمل تفاصيل وجهها بتمعن شديد، فتوقفت عينيه عند فكها الذي تورم بفعل لكمته القوية، فعاتب نفسه على تلك الفعلة المتهورة، ونهض من جوارها، وتوجه ناحية التسريحة وظل يعبث بالأدراج إلى أن وجد ( مرهما ) معالجا للكدمات، ففتحه ووضع البعض منه على طرف إصبعه، ثم اقترب من الفراش مجددا، وجلس على طرفه، ومد إصبعه ومسح به على فكها برفق..

حركت شاهي وجهها لا إراديا ناحية زيدان، فابتسم لها ابتسامة عاشقة من بين أسنانه، وظل محدقا بها لبرهة..

رن هاتف زيدان في جيب سترته، فزفر في انزعاج واضح، ثم أسرع بوضع يده في جيبه ليخرجه منه ويسكت رنينه المتواصل، فهو لا يريد لشاهي أن تفيق الآن..
نظر زيدان إلى شاشة هاتفه فوجد أن المتصل هي زوجة عمه، زفر زيدان مجددا في ضيق، ثم نهض عن الفراش، ووجهه قد تبدلت ملامحه من الارتياح إلى الضيق..

دلف زيدان خارج غرفة النوم بعد أن أطفيء الإضاءة، وأغلق الباب من خلفه بهدوء، ثم عاود الاتصال بزوجة عمه التي أجابت عليه وطلبت منه المجيء فورا عندها..
حاول زيدان التملص منها، ولكنها أصرت على مجيئه، فالأمر لا يحتمل التأجيل..

زفر زيدان في انفعال، ثم توجه للدرج ونزل للأسفل، وما إن دلف إلى خارج الفيلا حتى طلب من حراسته مراقبة الفيلا جيدا، والتأكد من وجود زوجته بالداخل، وشدد على متابعتها، وحذرهم من أنه إذا حدث أي تجاوز لأوامره فسيكون العقاب وخيما...

في فيلا رأفت الصياد
ظلت يارا مرافقة لكنزي في غرفتها القديمة، في حين جلس أدهم في غرفته وحيدا وهو يسب ويلعن، وعلى وجهه علامات الانزعاج الشديد..
حاول عمر تهدئته، ولكنه كان منزعجا للغاية، فزوجته يارا رفضت أن تترك تلك الفتاة البائسة وفضلت المكوث معها على أن تبقى بجوار زوجها..
تنهد عمر برومانسية حالمة، ثم نظر إلى أخيه وهو يسبل جفنيه و...

-عمر مبتسما: طب ايه رأيك نعمل تبديل، انت تقعد مع يارا، وأنا مع كنزي، مرضي يا عم؟

لكز أدهم عمر بقسوة في كتفه، و...
-أدهم بنفاذ صبر: وله أنا مش فايقلك، ابعد عن وش أهلي السعادي، بدل ما أطلع غلب الدنيا فيك
-عمر وهو يلوي فمه في تهكم: أنا مستني بس انت تتخمد وتنام و هاقوم أشوف اللي ورايا
-أدهم بنظرات حادة ونبرة مغتاظة: نعم يا خويا، أتخمد!
-عمر وهو يشير بيده، وبنبرة خائفة: آآآ، لا مؤاخذة، أنا أقصد يعني مستني النوم يكبس عليك عشان أنط من البلكونة
-أدهم باستغراب: ليه ان شاء الله؟

-عمر مبتسما ببلاهة: أصلي نويت والنية لله أعمل زيارة مفاجئة لمراتك وكنزي
-ادهم بنظرات مغتاظة: من البلكونة يا بأف!
-عمر غامزا، وبنبرة واثقة: اصل البلكونة دي لعبتي، وانت عرفني، مدمن بلكونات!

نظر أدهم إلى عمر بنظرات غاضبة، ثم كور قبضتييده في ضيق واضح، ونهض عن الفراش، ومد ذراعه وأمسك بعمر ولوى عنقه أسفل ذراعه وضغط عليه بقوة و...
-أدهم بنبرة حانقة: أنا مش سايبك النهاردة
-عمر متآلما: آآآآي، خلاص وحياة ضناك اللي جاي، مايصحش الواد يلاقي عمه رقبته مقطومة، ده حتى عيبة في حقك..!
-أدهم بغيظ: وربنا ما سايبك.

في فيلا عدلي الباشا
بعد برهة من الوقت وصل زيدان إلى فيلا عمه، دلف إلى الداخل بعد أن قرع الجرس وفتحت له الخادمة التي أخبرته بحالة السيدة رحاب السيئة، سار زيدان بخطوات سريعة نحو الدرج، ثم صعد إلى غرفة نوم زوجة عمه..
طرق زيدان الباب قبل أن يسمع صوت زوجة عمه وهي تسمح له بالدخول، وبالفعل دلف إلى الداخل ليجدها جالسة على الفراش وعينيها متورمتين من كثرة البكاء، وكذلك انفها منتفخ ومحتقن...

إنتاب زيدان القلق البالغ حينما رأها بتلك الحالة، وأسرع ناحيتها، ثم جلس على طرف الفراش، ومد يده وأمسك بكف يدها وربت عليه براحتي يده و...
-زيدان بنظرات قلقة: خير يا مرات عمي، في ايه؟

نظرت رحاب إلى زيدان بأعين دامعة باكية، حاولت أن تتحدث، ولكن منعها بكائها من أن تلفظ بالكلمات، فنظر إليها زيدان بريبة اكثر، واعتلى وجه علامات التوتر..
حاول زيدان تهدئة روعها، والاستفسار مجددا عما حدث..
مدت رحاب يدها، ورفعتها ناحية وجه زيدان، ومسحت به على وجنته، و...
-رحاب بصوت باكي: ح، حصلت مصيبة يا زيدان
-زيدان بنظرات جامدة ونبرة صلبة: مصيبة ايه؟

سردت رحاب بأنفاس متقطعة، وصوت باكي ما دار بينها وبين ناهد من أسرار تتعلق بزواجها السري من زوجها عدلي، بالإضافة إلى تآمرها على رفعت الصياد معه..
ظل زيدان منصتا لكل كلمة تقولها زوجة عمه بإنصات تام، ولم ينبس بكلمة واحدة، بل إن ملامحه ظلت متبلدة جامدة، حتى نظراته تحولت للبرود والقسوة مجددا..
ولكن كانت الصدمة الأكبر عليه حينما أخبرته رحاب أن ناهد قد اعترفت لها بأن شاهي هي ابنتها من عدلي وليس يسري..

هنا خفق قلب زيدان بقوة شديدة، تبدلت ملامحه وارتجف صدره لأول مرة و...
-زيدان بنظرات مصدومة: اييييه!
-رحاب بنبرة باكية: اللي سمعته يا زيدان، بتقول ان شاهي بنت عدلي جوزي، تخيل الكدب وصل لإيه!

نهض زيدان عن الفراش، وأولى ظهره لزوجة عمه، ثم سار مبتعدا عنها، وحدق في نقطة ما بالفراغ بجمود تام..
تسمر زيدان في مكانه، وشعر أن قد تلقى دلوا من الماء البارد فوق رأسه، كيف عقل هذا؟ كيف تكون زوجته هي ابنة عمه، ظن زيدان أن هذا ملعوبا جديدا من ناهد لكي تتمكن من خداعهما و...
-زيدان بنظرات قاسية: الولية دي مش سهلة، أكيد هي عارفة إنها لما هاتفول كده هآآآ...

-رحاب مقاطعة بنظرات زائغة: احنا لازم نتأكد يا زيدان من اللي هي بتقوله
-زيدان بنبرة متوترة: ص، صدقيني يا مرات عمي، استحالة تكون شاهي بنت عمي، مش ممكن
-رحاب بنبرة جادة وهي تجفف دموعها: أنا مش هاهدى غير لما تتأكدلي بنفسك يا زيدان
-زيدان بنظرات جامدة: هه.

نهضت رحاب هي الأخرى عن الفراش، وسارت في اتجاه زيدان، ووقفت خلفه، ثم رفعت يدها ووضعتها على كتفه، وضغطت عليه ضغطة خفيفة و...
-رحاب بنبرة مرتبكة: أنا لازم أعرف الحقيقة كلها، مش، مش هحاسب حد مالوش ذنب على جريمة جوزي عملها.

التفت زيدان إلى زوجة عمه ونظر إليها بنظرات ثابتة، و...
-زيدان بنبرة جدية: وايه اللي يأكدلك ان عمي عمل كده؟ أنا صحيح مكونتش قاعد هنا معاكو، بس عمي عدلي ماعمروش خبى عليا حاجة، أكيد الزفتة دي عاوزة توقع الدنيا في بعضها!
-رحاب بنظرات مرتعشة: انت مش متخيل يا زيدان أنا لما سمعت كلامها عن عمك ايه اللي جرالي، بس، بس هي ايه اللي يخليها تقول كده إن مكانتش متأكدة.

-زيدان بنبرة قاسية: يا مرات عمي الولية دي ممكن تعمل أي حاجة عشان مصلحتها، أنا فهمتها على طول
-رحاب بنبرة شبه جادة: بس اللي حكيته عن عمك ماينفعش يتسكت عنه، انت، انت عارف لما حكت كل البلاوي دي عن عدلي، أنا، أنا حسيت اني كنت عايشة مع واحد تاني، ومش هاستحمل إني أفضل عايشة في الوهم ده كتير، لازم يا زيدان تتأكد من الحقيقة
-زيدان بنبرة حادة: اكيد ده كدب، عمي استحالة يعمل كده.

-رحاب بنبرة صلبة: مش هاصدق غير لما أتأكد، أنا بقولك أهوو أنا مش هاشيل ذنب حد مظلوم...

صمتت رحاب للحظات، وأخذت نفسا عميقا، ثم تابعت في هدوء ب...
-رحاب بنبرة ثابتة: لازم تبقى عارف يا زيدان ان عمك عدلي أنا مستعدية أضحي بكل حاجة عشانه، لكن لو طلع كلام ناهد ده حقيقي، أنا، أنا مش متخيلة ازاي هاقدر أسامحه على كدبه عليا طول السنين دي وخداعه ليا.

لم يعثب زيدان، بل ظل يدير كل الحديث في رأسه، هل حقا شاهي هي ابنة عمه؟ وإن كانت فكيف يعقل هذا؟ وكيف استطاعت والدتها أن تخفي تلك الحقيقة عن عمه وزوجها...
جز زيدان على أسنانه في حنق وهو يعاود بذاكرته لمعاملته الأولى الصارمة مع شاهي، وكيف كان حادا عنيفا قاسيا مع أقرب الناس إليه برابطة الدم، ولكنه برر لنفسه أن ما زال الأمر قيد التحقيق، ولكن مجرد تخيل تلك الحقيقة جعلت قلبه يضطرب، ومشاعره ترتبك..

ارتعد زيدان من مجرد أن تصير تلك الأكذوبة حقيقة، وأمر مفروغ منه..
ولكنه عقد العزم على أن يتأكد بنفسه من أقوال ناهد، فقد أصبحت شاهي الآن تخصه، حتى لو لم تكن ابنة عمه الغالي..
في فيلا زيدان
عاد زيدان إلى الفيلا وهو شارد البال، بفكر في كل كلمة قالتها زوجة عمه، هو لن يجعل المر يمر مرور الكرام، توجه زيدان إلى الدرج، وصعده بخطوات مرتبكة، واتجه ناحية غرفة نومه.

أمسك زيدان بالمقبض وأداره بهدوء تام، ثم فتح الباب الغرفة، ودلف إلى الداخل وهو يسير بخطوات هادئة وحذرة..
اتجه زيدان إلى الفراش، ثم تطلع إلى شاهي الغافلة، ورمقها بنظرات غريبة..
تخيل في عقله إن كانت حقا ابنة عمه، فهي لا تستحق تلك المعاملة الخشنة منه، ولكن ماذا لو كانت والدتها تكذب، هل سيستمر في معاملتها بجفاء وقسوة...

ظل زيدان متسمرا في مكانه مراقبا إياها عن كثب، ظل يفكر في كيفية التصرف معها خلال الأيام القادمة
هو لا يستطيع أن ينكر أن بداخله شيء ما ناحيتها، ولكن، ولكن ماذا عنها، هو متيقن أنها تبغضه، ولكن هل ستتغير نظرتها إليه إن علمت انه ابن عمها، وليس فقط زوجها!
لقد بات يخشى زيدان من ردة فعلها، فهي على الأرجح لا تعلم بجرائر والدتها، لذا لن يتوقع أن تتقبل ما سيحدث في الأيام القادمة بسهولة..

أدار زيدان رأسه ناحية التسريحة، وسلط بصره على أحد الأدارج، ثم سار في اتجاه التسريحة بخطوات جادة، وما إن وقف أمام التسريحة، حتى مد يده وأمسك بمقبض أحد الأدارج وفتحه، وأخرج منه مقصا ما، ثم سار بخطوات بطيئة في اتجاه شاهي، ومد إصبعيه وأمسك بأحد خصلات شعرها في خفة، ووضع المقص عليها، ثم قص جزء صغير من خصلتها، وترك باقي الخصلة تنسدل من بين إصبعيه...

نظر زيدان إلى الخصلة بنظرات ثاقبة، وبتمعن شديد وكأنه يستجوبها..

تململت شاهي في الفراش، وحركت جسدها قليلا، فارتبك زيدان، وقام بتخبئة الخصلة فورا في جيبه، وظل قابعا في مكانه حابسا لأنفاسه، فتحت شاهي عينيها ببطء، ونظرت إليه بنظرات ناعسة، ثم أغمضت عينيها مجددا، فتنفس هو الصعداء لأنها لم ترى ما فعله..

خرج زيدان من الغرفة، ثم توجه ناحية الدرج، وامسك بالدرابزون، ووضع يده في جيبه يتحسس خصلة شعرها، ثم نزل للأسفل واتجه ناحية غرفة مكتبه...

أدار زيدان مقبض الغرفة لكي يفتح بابها، ثم اتجه إلى مكتبه الفخم، وأخذ مظروفا فارغا من أخد الأدراج ووضع به خصلة الشعر، ثم أغلقه..
أخرج زيدان هاتفه المحمول من جيبه، واتصل هاتفيا بشاهين وطلب منه أن يأتي إليه في الصباح الباكر لأمر غاية في الأهمية، وبعد أن أنهى المكالمة جلس على مقعده الوثير، وظل يفكر فيما هو مقبل عليه...

في صباح اليوم التالي
في فيلا رأفت الصياد
استيقظ خالد مبكرا، أو بالأحرى هو لم ينام طوال التفكير، بل ظل تفكيره مشغولا في كل ما دار، ارتدى خالد حلة من اللون الأسود القاتم بعد أن اغتسل في المرحاض، ثم مشط شعره، وعدل من هيئته، ودلف إلى خارج غرفته..
سار خالد بخطوات سريعة ناحية الدرج، ثم نزله على عجالة وتوجه إلى خارج الفيلا، ثم سار ناحية الجراج، وركب سيارته، وانطلق بها مسرعا خارج الفيلا...

عقد خالد العزم على زيارة كارما في الصباح الباكر والاطمئنان على أحوالها، ولكنه لم يرد اخبار أي أحد بهذا، ففضل أن يتكتم الأمر حتى لا يضطر لاصطحاب اختها الصغرى معه، وبالتالي لن يتمكن من الانفراد بها والحديث معها حتى لو كانت غائبة عن الوعي بقدر من الخصوصية..

لم يلمح خالد وهو يدلف خارج الفيلا تلك السيارة القادمة من بعيد وتتجه نحو بوابتها..

في غرفة عمر
وقف عمر في شرفته يتأمل شرفة غرفة يارا، وينتظر أن يرى فيها أي معالم لاستيقاظ من بها..
اعتلى وجه عمر ابتسامة عريضة وهو يمني نفسه بالمزيد مع كنزي و...
-عمر بنبرة فرحة: يا سلاااااااام، والله ما في أحلى من كده، الطبيعة الحلوة، والوجه الحسن، آآآخ، أهوو كده الواحد يقدر ياخد راحته مع المزة، ومافيش حد هيقدر يكدره، ولا يقوله تلت التلاتة كام..

أخذ عمر نفسا عميقا، ثم زفره في ارتياح شديد و...
-عمر متابعا بسعادة: والجميل إن فريدة هانم مش موجودة، أيوووه بقى، هانهيص ونظيط وآآآآ...

لم يكمل عمر باقي عبارته حيث لمح سيارة ما مغلقة بيضاء على أحد جانبيها شعارا لشركة سياحية، فانقبض قلبه، ونظر إلى تلك السيارة بنظرات مترقبة و...
-عمر بنبرة قلق: استر يا رب، مش عارف ليه حاسس ان العربية دي فيها آآآآ...

جحظت عيني عمر حينما رأى والدته تدلف خارج تلك السيارة و...
-عمر بنظرات مصدومة: لأ أنا كده حسدت نفسي وش، فريدة هانم جت، يادي النصيبة السودة، يادي المرار الطافح..!

أخفض عمر جسده حتى لا يظهر أمام والدته من الشرفة، ثم زحف على ركبتيه، ودلف إلى داخل غرفته وعلى وجهه علامات التجهم، ثم اعتدل في وقفته، وركض مسرعا خارج الغرفة...
توجه عمر إلى غرفة يارا وكنزي، وطرق الباب بعنف و...
-عمر بنبرة عالية ومتوترة: افتي يا يارا بسرعة، افتحي.

انتفضت يارا فزعا وهي على الفراش، فاستيقظت كنزي هي الأخرى على أثر حركتها المفاجأة و...
-يارا بصوت شبه ناعس: في ايه
-عمر من الخارج بنبرة قلقة: اصحي يا يارا
-كنزي وقد فتحت عينيها: هه
-يارا وهي تتثاءب: عمر، روح نام احنا لسه بدري
-عمر برعب: أنام ايه وفريدة هانم رجعت رجعت
-يارا بنبرة ممتعضة: إييييه! ام خالد رجعت، انت مش كنت قايل انها مش هاتيجي قبل آآآ...

-عمر مقاطعا بحدة: أصل أنا فقري، وعيني مدورة وحسدت نفسي، مش وقت رغي يا يارا، حاولي تفكري بسرعة في مبرر لوجود كنزي معانا لأحسن تكدرك وتعكنن عليكي وعلينا
-كنزي بعدم فهم: مين فريدة دي؟
-يارا وهي تمط شفتيها في انزعاج: اووف، ربنا يسهل، اصل وجودها لوحده هو العكننة اللي على حق.

نظرت كنزي وعلى وجهها علامات تسائل جلية و...
-كنزي بصوت شبه متحشرج: مين فريدة دي اللي كلكم مقلقين منها
-يارا على مضض: دلوقتي هتعرفي، بس عشان خاطري حاولي ما تتكلميش معاها.

ركض عمر إلى غرفة أخيه أدهم، ثم قفز على فراشه، وحرك جسده بقوة مفزعة، مما جعل أدهم ينتفض منه نومه وعلى وجهه علامات الاحتقان، فألقى بعمر على الأرض و...
-أدهم بنبرة غاضبة: انت غبي ياله، في حد يصحي حد كده
-عمر متآلما وهو يحاول النهوض: آآآه، قطمت وسطي، حسبنا الله
-أدهم بنظرات مغلولة: تستاهل، عقبال رقبتك
-عمر بتهكم: ماتستعجلش رقبتنا كلنا هتتقطم لو ملحقناش المصيبة اللي هاتحصل.

-أدهم وهو يلوي فمه في امتعاض: مصيبة ايه دي اللي على الصبح
-عمر باقتضاب: أمك!
-أدهم بحدة وهو يشير بيده: ما تحترم نفسك ياض انت، وتتكلم عدل
-عمر بنبرة متوترة: مقصدش، بس هي جت تحت وآآ...
-أدهم مقاطعا بنبرة جادة: ايه فيروو جت
-عمر وهو يوميء برأسه في فزع: اينعم، واستعد بقى للمواجهة
-أدهم وهو يزم شفتيه في تهكم: مافيش حاجة هتحصل، هدي أعضائك انت بس علينا شوية.

-عمر وهو يبتلع ريقه بتوتر بالغ: انت يا عم ادهم نسيت أمك هاتعمل ايه لما تشوف يارا، وحط فوقها كنزي كمان، ويا سلام بقى لو سألت دي مين دي، وكنزي بكل بجاحة قالتلها أنا بنت ضرتك، يااااااه، هاسيبك انت تتخيل الوضع هيبقى عامل ازاي!

أدرك أدهم أن كلام عمر فعلا يدعو للقلق والتوتر، فوجود كلتاهما مع والدته ينذر بوجود كارثة ما..
لذا نهض أدهم عن الفراش، وألقى بالملاءة في وجه عمر، ثم توجه للمرحاض وغسل وجهه على عجالة ودلف إلى الخارج و..
-عمر مازحا: مش لازم يعني تتسنجف قبل ما تطلع من الأوضة
-أدهم بضيق: اخرس ياض..

دلفت فريدة إلى داخل الفيلا ومن خلفها راضي وهو يحمل حقيبتها..
ترك راضي الحقيبة بجوار باب الفيلا، ثم عاد إلى البوابة مجددا، خلعت فريدة نظارتها الشمسية، ورفعت بصرها للأعلى وهي تزم شفتيها في ضيق..
نزل أدهم عن الدرج ومن خلفه عمر، فارتسم على وجه فريدة ابتسامة فرحة، ولكنها حاولت اخفائها، ورفعت أحد حاجبيها، ولوت فمها، ورمقته بحدة و..
-أدهم مبتسما: حمدلله على سلامتك يا فيرووو.

-فريدة بنبرة جادة: لسه فاكر ان ليك أم تسأل عليها.

اقترب أدهم من والدته، ورفع ذراعيه عاليا، وامسك برأسها وقبلة بحنية و...
-أدهم بنبرة هادئة: طول عمرك في بالي يا فيرووو، ومعزتك عندي ما اتغيرت.

أزاحت فريدة يديه عن رأسها، ثم رمقته بنظرات جادة و...
-فريدة وهي تمط شفتيها: هه، لأ واضح فعلا، تلاقي بنت الخدامة منبه عليك وآآ...
-أدهم مقاطعا وهو يلوى فمه: ماما، يارا مراتي الوقتي، ومن قبلها بنت عمي رفعت الله يرحمه، وان شاء الله قريب هاتبقى أم ابني أو بنتي
-فريدة وهي تزفر في ضيق: أوووف! خلفة الندامة
-أدهم بنبرة جادة: ماما من فضلك بلاش كده.

سارت فريدة عدة خطوات للأمام، ونظرت إلى عمر بنظرات استهجان، فابتسم هو لها ابتسامة مصطنعة و...
-عمر وهو يلوح بيده: هاي
-فريدة وهي تلوي شفتيها في إزدراء: هه.

رفعت فريدة بصرها للأعلى، وظلت مسلطة عينيها لبرهة، ثم التفتت فجأة إلى ادهم و...
-فريدة بنبرة صارمة: مين اللي جت معاك يا ادهم امبارح غير الزفت، آآآ، غير مراتك
-أدهم بنظرات مترقبة ونبرة متوترة: دي آآآ، دي
-فريدة بلهجة آمرة: قول يا أدهم مين دي؟

في نفس التوقيت دلفت يارا ومن خلفها كنزي إلى خارج الغرفة، وتوجهت كلتاهما ناحية الدرج، ثم استندتا بأيدهما على الدرابزون، و نظرا للأسفل حيث تقف فريدة..

تابعت فريدة حديثها، وهي تنظر إلى أدهم بنظرات صارمة و...
-فريدة بنبرة حادة: اكيد طبعا واحدة من معارف الهانم مراتك، بنت جربوعة جاية من الشارع، مالهاش لا أهل ولا حد يربيها وجاية هنا عشان آآآ...

اغتاظت كنزي للغاية من حديث فريدة اللاذع عنها، واحتقن وجهها بالدماء، فكورت قبضة يدها في غضب جم، و...
-كنزي مقاطعة بصوت هادر: لأ عندك يا ست انتي.

التفتت فريدة برأسها إلى الأعلى، ورمقت كنزي ويارا بنظرات ازدارء ممزوجة بالاحتقار، في حين وقف عمر مصدوما في مكانه و...
-عمر بنبرة متوترة للغاية: استر يا اللي بتستر، اوعي يا كنزي تشيل الفتيل، وترمي القنبلة!

ابتلع أدهم ريقه، وعجز عن النطق بشيء، فالوضع أصبح قاب قوسين أو ادنى من الانفجار...

وضعت يارا يدها على ذراع كنزي، ونظرت إليها بنظرات متوسلة و...
-يارا بنظرات راجية: كنزي بليز، اهدي.

اشاحت كنزي بيد يارا بعيدا عنها، ونظرت إلى فريدة بنظرات ممتعضة وبأعين مشتعلة من الغيظ و...
-كنزي بحدة: أنا مش جربوعة، ولا جاية من الشارع، أنا بنت ناس أخلاقهم أحسن منك
-عمر هامسا وهو يمط شفتيه: في دي عندك حق.

-فريدة بنبرة مغتاظة: اخرسي يا تربية الأسواق!
-عمر بنظرات جاحظة وصوت خافت: أوبا، كده ولعت!

-يارا برجاء وتوسل شديد: كنزي بلاش تعملي حاجة مش معمول حسابها، الدنيا كده هتولع
-كنزي بصوت هادر ونبرة جادة: لأ مش هاخرس، انتي مش اشترتيني ولا أنا عبدة عندك شان تطولي لسانك عليا.

أدرك أدهم أن الجدال سيتحول إلى تطاول بالألفاظ، وهو لن يقبل بأن تهان والدته مهما كان الأمر، لذا...
-أدهم بصوت جهوري وهو يشير بيده: خلاص يا كنزي، خديها يا يارا وخشوا انتو الاتنين جوا
-كنزي بإصرار ونبرة متهكمة: أنا مش هاخش جوا، ومش هانزل لمستوايا وأرد على امثالك، أنا أمي مربياني أحسن تربية، ولما يجي عمي رأفت هخليه يشوف شغله معاكي
-فريدة بنظرات مميتة، ونبرة صلبة: اييييه؟عمك!

وجهت فريدة نظرها إلى أدهم، ونظرت إليه بنظرات حادة و...
-فريدة وهي تشير بإصبعها، وبنبرة شرسة: مين البت دي
-أدهم وهو يجز على أسنانه: أرجوكي يا ماما مافيش داعي انك آآآ...
-فريدة بلهجة غاضبة: أنا بسأل سؤال محدد، مين البت دي؟
-كنزي ببرود تام: أنا أبقى بنت مرات جوزك رأفت الصياد..!

فغرت فريدة شفتيها في صدمة، ونظرت إلى أدهم وعمر بنظرات مشدوهة و...
-فريدة بنظرات مصدومة: اييييه، مين؟
-كنزي متابعة ببرود أكثر: بنت ضرتك يا، يا مدام!

في المشفى
دلف خالد إلى المشفى وهو يحمل في يده باقة من الورد الأوفوايت والمغلف بورق شفاف، ومربوط بشريط لامع..

صعد خالد إلى الطابق الموجود به غرفة كارما، ثم سار في اتجاه غرفتها، ولكن قبل أن يصل إلى هناك عرج أولا على الطبيب المتابع لحالتها، وسأله عنها، وأخبره أن الوضع مستقر نوعا ما، وحالتها في تحسن، شكره خالد وأوصاه على الاهتمام بها لأنها تخصه بدرجة كبيرة..
سار خالد ناحية غرفتها مجددا، ووقف أمام الحائط الزجاجي يتأملها وهي راقدة على الفراش، ساكنة عليه..

استأذن خالد من الممرضة لكي يدلف إلى الداخل ويجلس برفقتها للحظات، فأومأت الممرضة برأسها، وطلبت منه ألا يطيل المكوث بالداخل...

فتح خالد باب الغرفة، وسار بخطوات هادئة وحذرة ناحية فراشها، ثم مد يده وأسند باقة الورد على الطاولة المجاورة لفراشها..

سحب خالد المقعد وجلس عليه، ثم نظر إلى كارما، وتأملها بنظرات ممعنة..
درس خالد كل تفصيلة تشكل وجهها، وكأنه يحفر صورتها في ذاكرته، تململت كارما في الفراش وتنهدت، فانتصب خالد في جلسته، ومد كف يده ليمسك بكفها المسنود إلى جوارها، ثم وضع يده الأخرى على جبينها و...
-خالد بلهفة وصوت خافت: كارما!

حركت كارما رأسها قليلا، فضغط خالد على كفها برقة، ونهض عن مقعده، ثم مال برأسه ناحيتها، ونظر إليها بقلق، و...
-خالد بنبرة متوترة: كارما، سمعاني، أنا، أنا أسف على اللي، اللي عملته فيكي، أرجوكي سامحيني، بس غصب عني، كل الشواهد كانت ضدك والكلام اللي اتقال كان، آآآ..

لمح خالد دموعا تنساب على وجنتي كارما وهي مغمضة العينين فتوقف عن الحديث، ومد أطراف أصابعه ووضعها على وجنتها، ثم مسحها برفق عبراتها المنسابة و..
-خالد بصوت خافت: أنا مش هاسيب اللي طلع عليكي الكلام ده يا كارما، وأوعدك إني، اني هعوضك عن اللي حصل..!

أرخى خالد قبضته عن كف يدها، ثم اعتدل في وقفته، ونظر إليها مرة أخرى نظرة مطولة، ثم التفت بجسده، وسار ناحية باب غرفتها، وامسك بالمقبض بيده، وأدار رأسه ناحيتها ورمقها بنظرات نادمة وآسفة، ثم فتح الباب، واتجه للخارج، في حين فتحت كارما عينيها للحظات، وأغمضتهما مجددا وهي تبكي حالها و..
-كارما بنبرة ضعيفة وحزينة في نفسها: معدتش ينفع يا، يا بشمهندس...!

أغلق خالد الباب من خلفه، ثم سار بخطوات سريعة إلى خارج المشفى وهو ينتوي أن يتحرى بدقة عمن أطلق الشائعات عن كارما، ومحاسبة كل من أشعل نيران الغضب بداخله والتي كادت أن تودي بحياة انسانة بريئة نتيجة غضب أعمى، فوقت الحساب قد أزف...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة