قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

ألا تدري ما صنع الهوى بقلوب العاشقين؟ جعل في انتظارهم نعيمًا يستحق التقدير. حين عاد تميم متأخرًا من تسكعه غير المحدد اتجاهه، رفع رأسه لينظر عاليًا، عندها خفق قلبه بشدة، فقد رأها تقف في الشرفة التي تعلو شرفته، تُريح مرفقيها على حافة السور، وتتطلع إلى الفضاء بنظراتٍ على ما يبدو شاردة، يا لحظه السعيد ما زالت حبيبته مستيقظة، ربما لا تنتظره عن قصدٍ؛ لكنه حظى مجددًا بنظرة إليها، ومع ذلك ضميره ما زال يؤنبه لعدم التزامه الكامل بوعده لأبيه، دومًا يخالف أوامره، ويختلس النظرات إليها، بل ويُطيلها أحيانًا حينما تسمح له الفرصة بهذا.

في تلك الأثناء، انخفضت رأس فيروزة نحو الأسفل لتتفاجأ بوجوده، والأكثر إحراجًا ودهشة لها تحديقه بها، تراجعت تلقائيًا للخلف لتختفي من أمام نظراته، وتلك الدقات السريعة تقصف في قلبها، كيف لنظرة واحدة أن تفعل بها هذا؟ ازدردت ريقها، وحفزت نفسها بصوتٍ لم يفارق جوفها:
-مالك في إيه؟ إجمدي كده، مافيش حاجة أصلاً.

سحبت نفسًا عميقًا، وطردته من رئتيها على مهلٍ لتستعيد هدوئها، ثم تقدمت نحو حافة الشرفة لتنظر ببطءٍ إلى كل الزوايا ما عدا المكان القابع فيه، بطرف عينها حاولت رؤيته؛ لكن لسوء حظها لم يعد متواجدًا، سلطت كل أنظارها على المدخل، وشبت على قدميها تفتش عنه في العتمة السائدة بالأسفل، ورغم ذلك لم تجد له أثرًا، حلت التعاسة على محياها، ورددت في استياءٍ منزعج:
-يا خسارة!
نفخت في ضيقٍ، وتساءلت بنفس الوجه العابس:.

-طب إيه اللي خلاه يمشي؟
ما لبث أن لكزت جبينها بباطن كفها وهي تردد:
-إنتي غبية ولا إيه؟ ما هو لازم يطلع بيته، هيفضل واقف في الشارع كده.
استندت من جديد على الحافة، وتذمر مقروء على تعبيراتها، خفقة أخرى نالت من قلبها عندما سمعت صوته يأتي من الأسفل مرددًا بصوتٍ شبه مرتفع:
-تسلمي يامه، هتعبك شوية معايا.

أبعدت رأسها للخلف، ورفعت يدها لتضعها على صدرها، تتحسس ذلك الخافق بقوة، حين سمعته يتكلم مجددًا بصوتٍ بدا قريبًا للغاية منها:
-كتير على الواحد إنه يبقى جار القمر.

لا تعرف إن كان يقصدها بهذا العزل الصريح، أم أنه يُحادث إحداهن عبر الهاتف؛ لكن كيف يتحدث فيه وقد جاء لتوه؟ حتمًا هي مخطئة، استبعدت على الفور ذلك الهاجس الضعيف، بل ولامت نفسها على التفكير فيه بهذا الشكل السافر؛ وكأنه استحوذ على عقلها، قبضت على الحافة بيديها، وأرهفت السمع مرة أخرى، وهذا الشعور الجميل بالنشوة يتسلل تحت جلدها، التقطت أذناها دعائه:
-يا رب هون، واجعل البعيد قريب.

شعرت بشفتيها تتقوسان لتعلن عن ابتسامة رقيقة فرحة، لم تنكر أن مثل تلك العبارات الموحية ترضيها كأنثى، تُشعرها بما افتقدت الإحساس به، بالكاد منعت شهقة عالية من الإفلات من ثغرها وقد سمعت تميم يردد بصوتٍ خافت لكنه ودود للغاية:
-تصبح على خير يا اللي في بالي لو كنت سامعني.

كالخرقاء فرت من البلكون لتعود إلى الداخل وهي تشعر بمدى غبائها لاكتشاف أمر وجودها، ارتمت على الفراش، ووضعت الوسادة فوق رأسها لتختبئ خلفها وهي تغمغم بهمسٍ مغتاظ:
-مبسوطة دلوقتي؟ هيقول عني إيه؟!
ضربت وجهها لبضعة مراتٍ بالوسادة، إلى أن توقفت عن تلك الحركة الموبخة لنفسها بعد سماع والدتها تسألها في تعجبٍ:
-إنتي بتعملي إيه يا فيروزة؟
اعتدلت في رقدتها على الفراش، وردت في تلعثمٍ وهي تتطلع نحوها:.

-ولا حاجة، ده أنا بفكر مع نفسي.
تقدمت نحو الفراش الآخر، واستلقت عليها معلقة في استغرابٍ:
-كده إنتي بتفكري؟ ربنا يهديكي.
لم تجد ما تنطق به لتبرر تصرفها الأحمق، ولاذت بالصمت، في حين أكملت والدتها قائلة بتثاؤبٍ مسموعٍ لها:
-اطفي النور عشان ننام، لسه ورانا مشاغل كتير الصبح.
امتدت يدها لتغلق المصباح الصغير المجاور لفراشها وهي ترد:
-حاضر.

أراحت ظهرها على الفراش، ووسدت ذراعها خلف رأسها، لتحملق بعينين يقظتين في سقف الغرفة وسط العتمة السائدة في أركانها، شيء واحد كان مسيطرًا على عقلها، تفكيرها العميق فيه.

على مسافة غير بعيدة من مركز الشرطة التابع لتلك البلدة، ضغط شيكاغو على مكابح عربة الربع نقل ليوقفها، ترجل من السيارة عقب نزول رفيقه حمص، ثم ألقى بسيجارته التي فرغ منها أسفل قدمه، دعسها وهو يتقدم للأمام باحثًا عن قالبٍ من الحجارة وسط هذا الركام، ثم دار حول مقدمة السيارة، وركز أنظاره على صديقه متسائلاً:
-جاهز؟
فرك حمص رأسه مرددًا:
-أيوه...

وقبل أن يرفع الحجارة للأعلى ليصوبها نحوه حذره بنظرة غير مازحة:
-خلي إيدك خفيفة.
التوى ثغر شيكاغو بابتسامة عبثية، وأخبره باستمتاعٍ:
-أومال هظبط الشغل إزاي؟ عشان تخش عليهم بدل ما نتكشف.

الخطة الموضوعة كانت بسيطة للغاية، اعتمدت على افتعال مشاجرة غير حقيقية بين اثنين من رجاله، بعد أن تأكد محامي تميم من المعلومات التي أعطاها له ليتحرى عن مدى صدقها، أخبره لاحقًا عن بقاء هذا المشعوذ المقبوض عليه في مركز الشرطة محبوسًا على ذمة التحقيقات، وبالتالي تبقى فقط تنفيذ الخطة، فعلى إثر نشوب هذا الشجار سيتوجهان لداخل المركز، ثم يحتدم الجدال بينهما من مجرد تراشق بالألفاظ لتطاول غير مقبول، ليتم الزج بهما داخل الحجز، وهناك تستكمل باقي الخطة لاستخراج المعلومات المطلوب معرفتها من هذا الحقير، قبل أن يرتضيا بالتصالح ويخرجا بسلام.

زفر حمص الهواء عاليًا، وصاح مشيرًا بيده في تحفزٍ:
-اتكل على الله.
ضربه شيكاغو بقساوة في جانب رأسه لتتفجر خيوط الدماء بغزارة من جرحه، صرخ الأخير متأوهًا من الألم وهو يعنفه:
-إيه ده يا جدع، مرزبة؟
رد منتشيًا:
-أصول الشغل.

فما كان من حمص إلا أن سدد لكمة مباغتة وعنيفة إلى وجهه، لتصيب أسفل عينه وتلهب حدقته، نعته الأول في غيظٍ، وكان على وشك ضربه مجددًا؛ لكنه تمالك نفسه واكتفى بشتمه. تخضبت يد الأخير بالدماء، وهتف يخبر رفيقه:
-بينا بدل ما دمي يتصفى من غير ما نعمل حاجة.
هرول الاثنان ينعتان بعضهما البعض بألفاظ نابية، لحبك تمثيليتهما الهزلية على المتواجدين. كان حمص الأسبق في الولوج، وصوت صياحه المستغيث يجلجل:.

-إلحقنا يا شاويش، فتح نافوخي يا حكومة.
رد عليه شيكاغو وهو يخفي عينه المصابة:
-هو اللي بدأ، ضربني بالعتلة، وكسر فانوس العربية، وأنا مش هاسيب حقي، هاطلع آ...
قاطعه حمص متوعدًا في غلٍ متزايد ليبدو أكثر إقناعًا:
-شايفين يا حكومة؟ طب مش سايبك النهاردة يا (، ).
على الفور ناطحه شيكاغو الرأس بالرأس، وكال له من السباب والوعيد:
-أما إنت ابن (، ) صحيح، والله لأقطعك.

ثم تشابك الاثنان بالإيدي وسط محاولة فاشلة للفض بينهما من العساكر المتواجدين، على إثر صوتهما المرتفع، خرج الضابط المسئول عن تلك الوردية من مكتبه ليتفقد الأمر، وهو يصيح بصرامة حاسمة:
-بس إنت وهو، هي سويقة؟
استمر حمص في الترديد بوعيد:
-مش سايبك النهاردة.
بينما علق عليه شيكاغو متحديًا:
-طب وريني هتعمل إيه يا (، ).
زجرهما الضابط بغلظةٍ شديدة:.

-هو أنا مش عاجبكم؟ هتمسكوا في خناق بعض قصادي، خدوهم على الحجز لحد ما أشوف حكايتهم إيه.
استجاب أفراد الأمن لأمره الصريح، واقتادوا طرفي النزاع إلى الردهة الطويلة التي تفضي في نهايتها إلى غرفة (الحجز)، ابتسامة ماكرة لاحت على ثغر شيكاغو لنجاح الخدعة، وتحرك كالذليل وهو ينظر بطرف عينه إلى شريكه الذي أومأ برأسه في خفةٍ ليحييه على انتصارهما الخفي.

استخدم ما اعتبرها قواه الخارقة لإرهاب من معه في الحبس، ليحصل على الحماية من مضايقات الغير أولاً، وكذلك ليضمن عدم إزعاج أحدهم له، أو محاولة تحقيره، كما كانت البقعة الأفضل في حجرة الاحتجاز من نصيبه، بل وقام اثنان من الخارجين عن القانون بالعمل على خدمته بحجة التبرك به.

فُتح الباب على مصراعيه، ودفع المستجدان إلى الداخل مع بعض الترحيب الحار من التوبيخ اللاذع، والضربات القاسية قبل أن يغلق الباب المعدني وصوت الفرد الأمني يحذر بتهديدٍ مباشر:
-أي شغب ولا قلق هيحصل جوا مش هيطلع عليكم نهار.

تجاهل الاثنان تحذيره، وبحثا بنظراتهما المدققة عن هدفهما، وجداه بسهولة، فتبادل نظراتٍ ذات مغزى، انخفضت يد شيكاغو عن عينه ليسير نحو هذا الكذوب مُدعي القدرة السحرية، واستطرد يخاطبه دون تمهيد:
-هو سؤال تدينا جوابه دوغري يا عم ال، شيخ.
حملت نبرته وهو ينطق بهذا اللقب تهكمًا صريحًا، فارتفعت أنظار الأخير نحوه يسأله بوجومٍ شديد:
-إنت مين؟

استمر في تقدمه نحوه، وقد أخرج من فمه شفرة حادة لينطق بعدها بملامح غير مبشرة بأي خيرٍ على الإطلاق:
-أنا واحد جاي بأوامر يا ياخد روحك، يا سيبك تعيش.
انكمش المشعوذ على نفسه، وسأله بنبرة مذبذبة، وحدقتاه تتحركان في توترٍ خائف:
-إنت مفكر نفسك مين؟
ثم خاطب من معه بذعرٍ؛ يريد الاستغاثة بدعمهم له:
-يا رجالة حوشه، وامنعوه يقرب مني وإلا الأسياد آ...

تلك المرة قاطعه حمص وهو يخرج من نعل حذائه مدية صغيرة، مخبأة بعناية بداخله:
-أسيادك دول احنا واكلين شاربين معاهم...
أشهرها أمام وجهه، وتابع كلامه باستحقارٍ:
-مش هيخيل علينا شغل الأونطة، فبلاش تخلينا نقل منك.
هم أحدهم بالتحرك لإيقافه؛ لكن كانت يد شيكاغو الأسرع في إبعاده مع جُرح مؤلم، مما أرهب البقية، حينئذ خاطبه مجددًا بتهديد مرعب:
-إنت متعرفناش، احنا بلطجية على قديمه.
هتف حمص مضيفًا عليه بلهجةٍ منذرة:.

-كله يركن على جمب، بدل ما تبقى العركة مع الكل، وفي الآخر هنلبسهالكم.
لم يجد المشعوذ بدًا من إظهار العداء لهما، من أجل شيء لا يعلمه بعد، خاصة أن هذه المعركة لن تنفعه أكثر من إلحاق الضرر به، وتقليل هيبته، لذا أثر التراجع، وقال في استسلامٍ:
-قولوا عايزين إيه وخلصوني.
نظرة ذات دلالة معينة تبادلها الاثنان معًا، قبل أن يستأنف شيكاغو الكلام بسؤالٍ كان مباشرًا ومحددًا:.

-راس العجل فضل طلب منك تعمله عمل لقريبته...؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة