قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

بجسدٍ بدا متحفزًا للغاية، ونظراتٍ تعبر عن قلقٍ بالغ، جلس سراج في حضور بدير عند دكانه بمفردهما، بعد أن طلب منه القدوم لإطلاعه على أمر هام، لم يقم الأخير بتفسير ما يريد البوح به في المكالمة، وفضل الحديث معه وجهًا لوجه. لم يرتشف سراج أي رشفة من كوب شايه، وتساءل بتعابيره المتوترة، وساقه اليسرى تهتز في عصبيةٍ من أسفل جلبابه
-خير يا حاج بدير؟

استند مُضيفه بكفيه على رأس عكازه، ونظر في عينيه قائلاً باستهلالٍ غامض:
-شوف يا سراج يا ابني، اللي عايز أقولهولك ده بعيد عن أي مواضيع اتكلمنا فيها سابق.
ضاعفت كلماته الشكوك بداخله، وتوقع حدوث ما قد ينغص عليه يومه، ازدرد ريقه، وأنصت إليه وهو يتابع:
-إنت ابن حلال وجدع، ومهما مرينا بتجارب، لازمًا تيجي حاجات نتعلم منها، هو الإنسان مخلوق عشان كده، يغلط ويتعلم، ويفيد غيره.
علق بتوترٍ متزايد:
-معاك حق.

أضاف بدير بابتسامةٍ منمقة:
-إنت إنسان معدنك طيب، وأصيل.
ربت سراج على صدره كتعبيرٍ عن امتنانه، بينما أكمل بدير بنفس النبرة الرزينة:
-والظروف خليتنا نشوفك من حتة تانية خالص غير اللي كانت متصورالنا.
أتاه تعقيبه مناسبًا:
-ما محبة إلا بعد عداوة يا حاج، وربنا يديم الحب بينا.
أومأ برأسه مرددًا:
-مظبوط، بس الأهم من كلامي ده كله، احنا مش عايزين النفوس تبقى شايلة من بعض.
أكد عليه عن ثقة تامة:.

-لا يا حاج متقولش كده، أنا برضوه كنت زيي زيكم، والحمدلله إن الغُمة انزاحت.
همهم في اقتضابٍ:
-ربنا كريم...
انتظر لهنيهة مراقبًا ردات فعل سراج لينطق بعدها مبتسمًا في حبور:
-المهم يا ابني، تقدر تشرفنا في أي وقت يناسبك البيت، احنا منتظرينك.
وكأنه لم يستوعب ما قاله بعد، هبطت عليه صدمة الأنباء السعيدة لتشل تفكيره لحظيًا، بعد بضعة ثوانٍ هتف متسائلاً في غير تصديق:
-بجد؟ هي، ست البنات، وافقت؟

نظر له بدير بحاجبٍ مرفوعٍ للأعلى، وأردف مازحًا:
-أومال يعني هاجي اتفق معاك كده من نفسي؟
اعتذر في تلبكٍ:
-سامحني يا حاج، مقصدش.
حافظ بدير على صفاء ابتسامته، وأكمل:
-الحاجة أمها بلغتني، وأنا بعرفك.
هلل في سعادة كبيرة لا يمكن للرائي إنكارها:
-يا فرج الله، أنا مش عارف أقول إيه، أجيب شربات للحتة كلها.
رد عليه حماه المستقبلي:
-في الليلة الكبيرة هنعمل الحلو كله.
اعترض عليه في جديةٍ يشوبها كل التهذيب:.

-لأ يا حاج، لو مافيهاش إساءة أدب ليك، أنا متكلف بكل حاجة.
أخبره ببساطةٍ وقد فترت ابتسامته قليلاً:
-الأمور دي هنتفق فيها بعدين.
علق عليه بإصرارٍ أشد:
-معلش يا حاج، إنتو على عيني وراسي، أنا مش عايز من ست البنات إلا شنطة هدومها وبس، وكافة شيء هي هتختاره بمعرفتها وعلى ذوقها، اللي تشاور عليه هيجي إن شاءالله يكون إيه.
بوجهٍ مسترخي في التعبيرات خاطبه:
-ربنا يزيدك من فضله، ظبط مع الحاجة والدتك، واحنا مستنينك.

قفز واقفًا من مقعده ليرد بابتهاجٍ مضاعف:
-ده أنا رايحلها مخصوص أقولها، ما هو كلام التليفونات ده ماينفعش.
ضحك على تلهفه المتحمس، وقال:
-وماله.
استأذن بالانصراف مرددًا:
-تسلم يا حاج على ذوقك، عن إذنك بقى.
أشار له بيده مودعًا إياه، ولسانه يتمتم في رضا:
-صبرتي ونولتي يا هاجر، ربنا يعوضك خير.

لم يكن مولعًا بمواقع التواصل الاجتماعي، ولا من هواة متابعة أخبار الآخرين على شبكة الإنترنت؛ لكنه وجد نفسه ينشئ حسابًا على موقع الفيس بوك، لينضم لمن سبقوه بالاشتراك عليه، ليس لأجل غرضٍ ما سوى رؤيتها، فكانت أول الاقتراحات المُقدمة له؛ وكأن الذكاء الاصطناعي قد أدرك مدى حبه العميق لها، فيسر له السبيل إلى ما يخصها. انتفض حين قرأ اسمها، ورأى صورتها التي بدت وكأنها تضحك له. أحس بدوي قصف غير قابل للسيطرة انتشر في قلبه، فأصبح عاجزًا عن العودة إلى حالة السكون التي كان عليها منذ دقائق.

اعتدل في رقدته على الفراش، وأخذ يتفقد محتويات ما أظهرته في حسابها الشخصي، لم يجد الكثير، بعض المنشورات البسيطة، وبتواريخ قديمة، ومع هذا بدا متحمسًا لمتابعة ما كتبته، كان في أوج استمتاعه وهو يتأمل صورة نشرتها مع توأمتها في سن الطفولة، ووالدهما الراحل في المنتصف مبتسمًا، يحمل كل واحدة على ذراعٍ، وجد نفسه يدعو له:
-ربنا يرحمك يا عم علي، ويرحم موتانا جميعًا.

مضى عليه جزءًا كبيرًا من الليل وهو يدور بداخل حسابها مرارًا وتكرارًا، عاجز عن استدعاء النوم بسبب نوبة الحماس الجديدة التي تفشت في وجدانه، تنهد عميقًا وأغمض عينيه مناجيًا:
-يا رب قرب البعيد، وصبرني على اللي فاضل.
كان آخر ما أبصرته عيناه صورتها الضاحكة قبل أن يزحف النوم إلى جفنيه، فلازمه طيفها في منامٍ لم يذكر منه شيئًا سوى أنها كانت معه.

تنقلت عيناها ما بين صفحات المجلة المليئة بأفكارٍ قد تعزز من الحس الفني لديها، فأخذت تقرأ بتركيز النصائح المقدمة من أصحاب تلك الأفكار علها تستفيد في نهاية المطاف، وساعدها على ذلك مساحة الهدوء المدعمة بالمناظر الخلابة التي يطل عليها بلكون غرفتها الواسع، توقفت عما تفعل لتنظر إلى الجانب حين ناداتها ريم:
-فاضية شوية يا فيروزة؟
أغلقت المجلة، ووضعتها على حجرها قبل أن ترد بملامح جادة:
-أيوه.

تقدمت ناحيتها قائلة بابتسامتها اللطيفة:
-في ناس جايين مخصوص عشانك.
عقدت حاجبيها متسائلة في استغرابٍ:
-مين؟ دي ماما كانت عندي الصبح ومعاها همسة وخالي و رقية، هما رجعوا تاني؟
أجابتها بنفس الوجه المبتسم:
-لأ، دول مجموعة تانية بتحبك أوي.
كررت سؤالها بعلامات حائرة تكسو كامل قسماتها:
-مين؟
اتسعت ابتسامتها الليطفة وهي تخبرها بنظراتٍ احتوت على مكرٍ غير ضار:
-هتعرفيهم أول ما تشوفيهم، جاهزة أناديهم؟

هزت كتفيها قائلة، وهي تحكم ربط طرفي حجاب رأسها الأبيض حول وجهها:
-أوكي.
تأهبت في جلستها، وثبتت أنظارها على مدخل البلكون تنتظر بنوعٍ من التحفز الضيوف الغامضين، وفي ذهنها يدور تخمينًا أقرب للصح بأن القادم رفيقتها علا مع شقيقها، خابت توقعاتها مع رؤية بدير يلج للبلكون الشاسع بعكازه، نهضت واقفة لتردد في ذهول لا يخلو من الفرحة:
-حاج بدير، مش معقول.
دنا منها متسائلاً باهتمامٍ وحنو:
-إزيك يا بنتي؟

ردت على الفور وهي تبتسم لرؤيته:
-الحمدلله تمام.
لم تكن قد أفاقت بعد من صدمتها الفرحة لتجد سلطان قادمًا من الخلف يمشي على مهلٍ ويهتف بصوته الأجش:
-هو مش جاي لوحده، جدك سلطان معاه.
تضاعفت فرحتها كثيرًا، وتقدمت ناحيته تخاطبها بتعابير مبتهجة:
-إزي حضرتك؟ عامل إيه؟ أنا مش مصدقة والله.
أجابها بعد تنهيدة مرهقة:
-الحمدلله، طمنينا عليكي إنتي.
خاطبته بصوتٍ ما زال مسرورًا:
-أنا بقيت أحسن.
ربت على كتفها، وقال:.

-دايمًا يا رب...
ثم جال ببصره على مزيج المناظر الطبيعية الآسرة للأنظار، وتابع في إعجابٍ:
-هي الأعدة هنا فعلاً ترد الروح.
أشارت لهما بالجلوس وهي تسرع نحو الأرائك التي يفترش بها المكان:
-اتفضلوا ارتاحوا.
قبل أن يجلس سلطان خاطبها بصوتٍ تحول للجدية:
-في واحد جاي مخصوص يقولك كلمتين.
تعقدت تعابيرها متسائلة:
-مين ده؟

خفقة مباغتة أصابت قلبها عندما رأته يطل عليها بابتسامة غريبة أشعرتها أن سعادته لرؤيتها تفوق ما قد رأته هي في مجمل حياتها، رمشت بعينيها في ارتباكٍ حرج، شعرت فيروزة بانبعاث حرارة طفيفة من وجنتيها، واستنكرت الاضطراب الذي يعتريها عند رؤيته بعد أن باحت بكل شيء، شتت أنظارها عن تميم لتجد زوج توأمتها واقفًا إلى جواره، رمقته بنظرة مزعوجة، وهي تقاوم ذكرى آخر لقاء جمع بينهما، ظهر الامتعاض على محياها، وتنحت للجانب وهي تزفر ببطء. صاح الجد مناديًا:.

-تعالى يا هيثم.
حمحم تميم بضيقٍ ملحوظ وهو يدفعه من ظهره للأمام:
-اتفضل.
أمسك التردد بخطوات ابن خالته وهو يغمغم في صوتٍ خفيض:
-ما بلاش..
دفعه تميم بخشونة أكبر وهو يحدجه بتلك النظرة الصارمة قبل أن يقول:
-يالا خلينا نخلص.

سحب شهيقًا عميقًا طرده على الفور، وواصل التقدم للأمام حتى بلغ مقعدها الذي استقرت جالسة عليه، ظل واقفًا، ووزع نظراته المترددة على زوج خالته، والجد سلطان، ومن قبلهما تميم، تنحنح بصوتٍ خافت قبل أن يخاطبها باقتضابٍ:
-إزيك؟
أدارت وجهها للناحية الأخرى، وقالت بوجوم:
-الحمدلله.
تابع بما بدا وكأنه سخافة غير مستحبة:
-مبنكرش إني كنت بتضايق لما بشوف نظراتك ليا، عشان اتجوزت أختك، بس آ..

توقف عن الكلام للحظاتٍ ليفرك وجهه نازحًا أي تردد مسيطر عليه، ثم تابع:
-بس ده مايدنيش الحق إني أعمل اللي عملته المرة اللي فاتت.
حانت منها التفاتة سريعة لترد في اقتضابٍ:
-حصل خير.
بلع ريقه، وأكمل:
-حقك عليا، أنا، أسف.
كانت فيروزة على وشك الرد عليه، لكنه رفع يده أمام وجهها ليمنعها عن الكلام، واستأنف موضحًا سبب اعتذاره التالي، بما عكس الصدمة على ملامحها:.

-مش على المرة اللي فاتت، أنا بتأسف عن اللي عملته زمان، وإنتي، متكلمتيش عنه...
انقبض قلبها بشدة، وبدأت ملامحها في الشحوب، حاولت إيقافه قبل أن يكشف السر قائلة بلعثمة سادت نبرتها:
-مافيش داعي.
لم يكن هيثم جيدًا في قراءة تعبيرات وجهها، ولم يملك من الفراسة ما يخوله لفهم بواطن الأمور من مجرد إيماءة أو نظرة مستترة، لهذا استمر ناطقًا بما أزاح الستار عن الماضي المدفون:
-يوم حريقة دكان أبويا الله يرحمه...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة