قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والستون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والستون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والستون

لم يكن لزامًا عليها مواساته، أو حتى ادعاء تعاطفها مع وضعه المأساوي؛ لكن شيء ما بنفسها استحثها على إظهار الدعم له، تطيب جراحه غير المرئية، مثلما كان يحدث معها، حين بدت بحاجة ماسة إلى مثل تلك المؤازرات الودية. طرقت فيروزة على باب غرفة خالها، واستأذنت بالدخول بعد أن أدارت المقبض وفتحته:
-ممكن أخش؟

انتبه لها خليل وهو ما زال جالسًا على مقعده المدولب، تطلع ناحيتها بنظراتٍ تَعِسة، ثم حرر زفرة ثقيلة مشحونة بالكثير في صدره قبل أن يخاطبها بصوتٍ شبه متحشرج:
-تع، الي.
ولجت للداخل، وأغلقت الباب في إثرها، وضعت ابتسامة لطيفة مقتضبة على ثغرها وهي تستهل حديثها معه:
-عامل إيه يا خالي؟
تنهد مجددًا، وقال:
-الحم، دلله.

اقتربت أكثر منه، وجلست على طرف الفراش لتبدو في مواجهته، ثم مدت يدها لتمسح على ذراعه المسترخي على مسند مقعده قائلة في نبرة شبه حذرة:
-يستاهل الحمد، ماما قالتلي على اللي حصل.
غامت عيناه، وتلبدت ملامحه أكثر وهو يعقب:
-كل واح، د بياخد نصي، به.
سكتت مصغية إليه في اهتمامٍ، فأكمل على نفس الوتيرة المهمومة:
-والزمن مهما طال أو قصر الكل هيتحاس، ب.
وافقته الرأي بهزة خفيفة من رأسها، قبل أن تؤكد على ذلك بترديدها:.

-فعلاً يا خالي، ربنا اسمه الحكم العدل، وزي ما هو رؤوف رحيم، برضوه شديد العقاب.
اكتفى بإيماءات بسيطة من رأسه، فتابعت متسائلة بنوعٍ من الإشفاق:
-بس إنت ليه حابس نفسك كده؟ احنا عاوزينك معانا، و كوكي بالذات.

عند ذِكر ابنته، انقبض قلبه في جزعٍ، لا يعلم إن كان الزمن سيمنحه الفرصة لتربيتها بالشكل الجيد الذي يطمح أن تكون عليه، لاح شبح الموت في مخيلته، وبدأت الهواجس تسيطر عليه، فانتفض موصيًا ابنة شقيقته بجديةٍ في غاية الشدة:
-البت دي أمانة في رقبتك يا فيروزة لو جرالي حاجة.
ارتاعت لفكرة خسارته، وهتفت في استنكارٍ:
-بعد الشر عنك، إن شاءالله تربيها بنفسك وآ...

قاطعها قبل أن تواصل ترديد نفس العبارات المستهلكة على الأذن:
-علميها اللي ماعرفتش أغرسه فيها، خليها تبقى زيك.
رغم أنها تمنت سماع مثل تلك الكلمات سابقًا، في الأوقات التي احتاجت فيها لتصديقه وثقته بها، إلا أنها نفضت عن عقلها أي ضيقٍ، وعلقت عليه محاولة الابتسام قليلاً لتخفيف توتر الأجواء:
-هاتبقى أحسن مني كمان، بوجودك معانا يا خالي.

بدا وكأنه قد تنفس الصعداء بعد عبارتها هذه، فبادلها بسمة باهتة، وعاد إلى صمته الحزين. لم تدعه فيروزة ينخرط في دوامة البؤس، وهتفت ناهضة من مكانها بحماسٍ:
-يالا بقى، كفاية حبسة في الأوضة.
أحنى رأسه على صدره، مستسلمًا لشعوره باليأس؛ لكنها ألحت عليه بتصميم أكثر عنادًا وهي تجثو على ركبتيها أمامه:
-أنا مش هسيبك النهاردة، وجاية أقعد معاك، وأشوفك بتضحك.
رفض بهدوءٍ:
-مش ق، ادر.

تصنعت العبوس، وأصرت عليه وهي تنظر إليه من موضعها:
-كده إنت هتزعلني يا خالي، يرضيك أمشي من هنا زعلانة؟
أمام نظراتها الحانية تخلى عن عنده، وأوجز في رده:
-لأ.
استندت على كفها لتنهض وتستقيم واقفة، ثم هللت في فرحةٍ:
-ده حتى كوكي هتفرح لما تشوفك تاني بتلاعبها، وقاعد وسطتنا.
رمشت بعينيها تسأله مرة ثانية:
-جاهز تخرج من هنا يا خالي؟

استأنس بالكلام معها، وانتابه إحساسًا عميقًا بالارتياح لنقاء قلبها، وصفاء سريرتها، رغم كل الصعاب القاسية التي مرت بها. حرك رأسه بالإيجاب قائلاً:
-عشان خاطرك.
مالت عليه لتحتضنه صائحة في سرورٍ:
-ربنا يخليك ليا.

استبقته فيروزة بخطواتٍ شبه قافزة نحو الباب، فراح خليل يدفع كرسيه المدولب للخارج ليتبعها، وقد شعر بعد حديثه الموجز معها، أنه أزاح همًا ثقيلاً كان وما زال يؤرقه كل ليلة؛ من سيعتني بابنته إن فارقت الروح هذا الجسد الفاني؟!

لاحقًا، بعد مضي النصف ساعة، بصالة المنزل الفسيحة، وفي حجرها المريح جلست محبوبتها الشقية واستكانت، وأخذت تؤرجح ساقيها في الهواء، كأنما تتدلل عليها. رمقت رقية ابنة عمتها بنظرة معاتبة، ورسمت تلك التكشيرة العجيبة على محياها، قبل أن تلومها في تجهمٍ طفولي، يدعو للابتسام:
-كده ماخدتنيش معاكي؟
وعدتها فيروزة باسمة في وداعةٍ:
-المرة الجاية هاخدك، وأفسحك، لحد ما تزهقي.
-إنتي بتضحكي عليا!

رفعت يدها أعلى رأس الصغيرة، وبدأت تمسد خصلاتها في رفقٍ وهي تؤكد عليها:
-لا والله، هي المرادي بس، بعد كده هانروح مع بعض.
قفزت رقية من حجرها، حين تنبهت لصوت مقدمة برنامجها المفضل، وهتفت في غير مجادلة:
-ماشي.

تابعتها فيروزة بنظراتها المهتمة وهي تشعر بالرضا لرؤيتها بخير، جال بخلدها خاطرًا عرضيًا، ماذا لو كانت يد الأذى طالتها؟ بالطبع لم تكن بينهم الآن، استعاذت بالله من هذا الهاجس المخيف، وانتقلت بعينيها نحو والدتها التي صاحت تأمر الصغيرة في حزمٍ:
-تعالي يالا عشان تاكلي يا كوكي وإنتي بتتفرجي على الكرتون.
ردت عليها الصغيرة مبتسمة في براءة:
-أنا عاوزة فيرو تأكلني.

احتجت آمنة بتعابير وجهٍ جادة وهي ترفع مَطْبقيَّة الشوربة الدافئة نصب عينيها:
-لأ مش هينفع.
قطبت رقية جبينها، وتساءلت وهي تتحرك عائدة إلى مكانها بجوار فيروزة:
-ليه؟
ببساطة ووضوح أجابتها عمتها:
-عشان ما تبهدليش هدومها.
كتفت الصغيرة ساعديها أمام صدرها، وتمسكت برغبتها هاتفة بعنادٍ:
-لأ ماليش دعوة، أنا عاوزة أكل معاها.

حاولت آمنة إقناعها بالعكس، ومع هذا لم تنجح، وأخذت رقية تقفز في مكانها بغير تركيزٍ، فأطاحت دون قصدٍ بالمَطْبقية من يدها، فلم تستطع الحفاظ عليها، وانسكبت محتوياتها على ثياب فيروزة، لتتطلخ بالكامل، وتنهض منتفضة من مكانها في صدمةٍ فزعة. تجمدت الصغيرة مذهولة تتأمل ما فعله طيشها الطفولي، في حين هدرت بها عمتها توبخها في غيظٍ:
-عجبك كده؟ ارتاحتي دلوقتي؟

تدخلت فيروزة من فورها، وحالت دون أن تطالها يد والدتها لتُأدبها، وقالت مهدئة من ثورة غضبها المتصاعدة:
-خلاص حصل خير يا ماما.
هتفت في تذمرٍ:
-خير إيه بس؟ ده إنتي هدومك باظت!
ثم التفتت إلى الصغيرة مكملة تقريعها لها:
-كده ينفع البهدلة دي؟ ما أنا قولتلك من الأول.

حاولت المرور وتجاوز ابنتها لتصل إلى الصغيرة، فتكور قبضتها وتلكزها بوكزة جانبية موجعة؛ لكن منعتها فيروزة من بلوغها، وهتفت في تعقلٍ محاولة امتصاص غضبها:
-مش مشكلة، أنا هشوف حاجة من هدومي القديمة في الدولاب وألبسها.
قالت من بين شفتيها في استياءٍ عارم:
-هاقول إيه بس..
ربتت فيروزة على كتف والدتها، ورددت:
-معلش يا ماما، خير.
ثم استدارت مخاطبة رقية بلهجةٍ مالت للحزم:
-روحي على الأوضة، وأنا شوية وجيالي.

أطاعتها في أدبٍ، وهرولت مغادرة المكان بخطى سريعة، لتبقى فيروزة بمفردها مع والدتها، فتكلمت الأخيرة قائلة بعد زفيرٍ سريع:
-إنتو تفضلوا معانا بقى للغدا، كلمي جوزك وقوليله.
اعتذرت منها ابنتها في حرجٍ طفيف:
-معلش يا ماما، خليها وقت تاني، حماتي عزمانا النهاردة.
اندهشت آمنة للخبر، وقالت وهي ترفع حاجبها للأعلى:
-والله؟
ثم أتبع ذلك هزة خفيفة من كتفيها، لتضيف في استحسانٍ:
-كتر خيرها، هي ست صاحبة واجب طول عمرها.

اتفقت معها في الرأي، وبدأت في التحرك بعيدًا عن الفوضى الحادثة في محيطها؛ لكن استوقفها تعقيب والدتها الجاد:
-والأهم من ده كله بتحبك.
رفعت ناظريها نحوها، وأكدت بابتسامةٍ ممتنة:
-ده حقيقي، أنا مشوفتش زيها في طيبة قلبها.
دعت لها والدتها برجاءٍ:
-ربنا يحبب فيكي خلقه..
ردت عليها دون أن تفتر بسمتها:
-يا رب.
أوصتها والدتها مشيرة بيدها في لهجةٍ غلب عليها طابع الجدية:.

-الحقي بس غيري هدومك، وخليني أنقعها قبل ما أحطها تتغسل في الغسالة.
اعترضت وهي تخفض رأسها لتتطلع إلى ثيابها المتسخة:
-مالوش لزوم، هابقى أخدها معايا.
هتفت معاندة في تصميمٍ:
-لأ، البقعة تلزق ودي فيها سمنة، سبيها، مش هتاخد مني غلبة.
أمعنت النظر في البقع المتناثرة هنا وهناك على ثيابها، فأيقنت أنها إن لم تتصرف وتتخلص منها فورًا، سيبقى أثرها مطبوعًا ويفسدها بالكامل، هزت رأسها قائلة بانصياعٍ:
-حاضر.

ما وجدته مناسبًا للارتداء في دولاب ثيابها، بعد فحصه بدقة، كان بنطالاً قماشيًا من اللون الأسود، ذي أرجلٍ واسعة، وخصرٍ يضيق حول منطقة الأرداف، يعلوه كنزة بيضاء قصيرة ومنزوعة الأكتاف تصل إلى خصرها، فاختارت سترة زهرية اللون لتضعها عليها؛ لكنها كانت أقصر منها في الطول. لم تكن الخيارات متاحة كثيرًا، فالبقية كانوا متهالكين، أو يظهر عليهم القِدم، وغير ملائمين للخروج من المنزل. أعادت فيروزة ضبط حجاب رأسها، وجذبت أطراف الكنزة لتغطي ردفيها البارزين نسبيًا، لم تكن مستريحة في هذه الثياب؛ لكنها اضطرت أن تكون بديلها المؤقت لحين عودتها لبيتها.

ودعت والدتها، وغادرت المنزل لتسير في الشارع متجهة إلى الدكان أولاً، أرادت رؤية تميم، وأخذ مفتاح البيت منه، بعد أن أدركت تناسيها لمحفظتها في سيارته، حين فتحتها لتنظر إلى هيئتها قبل أن تصعد لرؤية عائلتها، وضعتها آنذاك بالمقعد الخلفي فوق حقيبتها، وجذبت الأخيرة دون أن تتأكد من وضعها بداخلها، حتمًا سقطت أسفل المقعد، أكدت على نفسها هذا بصوتٍ يدور في عقلها:
-مالهاش تفسير إلا كده، يا رب بس ماتكونش ضاعت!

كانت تسير متعجلة نسبيًا، تحتاط من نظرات الناس إليها، خشية أن ينظر أحدهم بوقاحة إلى جسدها، وهي لم تكن معتادة على ذلك. ما إن أصبحت قريبة من محيطه، ضاقت عيناها بفضولٍ مستريب، فقد لمحت تميم من ظهره يقف على مقربة من إحدى السيدات المُتلفحات بالسواد، لم تستطع تبين ملامحها من زاويتها البعيدة، توقفت في مكانها تراقبهما عن كثبٍ، وهي تشعر بالغيرة تتزايد بداخلها. تساءلت مع نفسها بغير صوتٍ:.

-هو إيه اللي بيحصل هناك بالظبط؟!

التهت عن سبب مجيئها، وراحت تمعن النظر فيما يفعلاه معًا، وهذا الشعور المزعج يأكلها، لصدمتها! رأت المرأة تتعامل بأريحية وألفة كبيرة مع زوجها، وكأنه لا توجد حواجز بينهما، فوجدتها تربت تارة على جانب ذراعه، وتارة أخرى على ظهره، وفي بعض الأحيان تضحك بصوتٍ مرتفع لافت للأنظار، اشتعلت بها نيران الغيرة أكثر، فأكثر، وأحرقها المشاهدة عن بعدٍ، انصرفت مندفعة بعيدًا عن الدكان وهي بالكاد تكبت غليلها، هسهست متوعدة بحقدٍ:.

-ماشي يا تميم!
لم تستطع كبح مشاعرها الحانقة كثيرًا، فأمسكت بهاتفها المحمول، وكتبت بعصبيةٍ رسالة نصية قرأتها بلسانها كذلك:
-يا رب تكون الأعدة حلوة، وطرية.
ضغطت على زر الإرسال وصوت أنفاسها المنفعلة شبه مسموعٍ لها، تابعت السير المتعجل إلى أن بلغت محلها، ربما أحسنت التصرف بابتعادها وهي في تلك الحالة العصبية؛ لكنها لن تمرر الأمر على خير، فزوجها غير متاحٍ لغيرها!

من حُسن حظها أنها انشغلت قليلاً بحديث مساعدتيها عن العمل، وما دار خلال الأيام الماضية، من بعض الاتفاقات المُربحة ماديًا لها، بعد تهنئات فرحة بعودتها من أجازتها القصيرة. حافظت فيروزة على ثبات بسمتها العملية وهي تصغي إليهما؛ لكن بقي ذهنها مشحونًا بالأفكار الغاضبة، تركت واحدة تنصرف مبكرًا، والأخرى استأذنت لتأتي بالجديد من المطبوعات. أوصتها قبل أن تغادر بلهجةٍ متشددة:.

-متتأخريش، تستلمي الأوردر وتيجي على طول.
ردت الفتاة وهي تعلق حقيبتها على كتفها:
-حاضر يا أبلة.
للغرابة! شعرت بالضيق لهذا اللقب المقترن بشخصها، خاصة أنه تزامن مع هذا المشهد المؤذي لمشاعرها كزوجة قبل أن تكون أنثى تغار على نصفها الآخر. غمغمت مع نفسها بإحباطٍ يائس:
-أبلة! ده أنا شكلي هطلع متأرطسة في الآخر.
خرجت من شرودها اللحظي على صوت أحدهم قد وطأ أعتاب محلها هاتفًا في تهذيب:
-لو سمحتي، ممكن مساعدة.

ألقت عليه نظرة سريعة شاملة، قبل أن تنهض واقفة لترحب به في طريقة عمليةٍ بحتة:
-اتفضل يا فندم، أنا تحت أمرك.
تنحنح في خفوتٍ وهو يضبط نظارته الطبية على أنفه، ليقول بعدها بتعابيرٍ جادة:
-أنا كنت عاوز أجيب بلورات في عيد ميلاد ابن أختي نوزعها على قرايبنا.
سألته وهي تدور حول مكتبها لتتحرك في اتجاه الأرفف المخصصة لبيع البلورات الكريستالية:
-أوكي، في تصميم معين حابه؟

لم تلمح هذه النظرة المدققة لمفاتنها على وجهه، فكامل تركيزها كان منصبًا على مسح الأرفف لانتقاء المميز من معروضاتها، التوى ثغر الرجل ببسمة طفيفة وهو يدنو بتؤدة منها، مستمتعًا بما يراه خلسة منها، تصنع الجدية حين لاحظ استدارتها، واستطرد يخبرها وهو يشير بيده:
-ممكن أشوف الأشكال اللي عندك.
تعاملت معه دون تشكيكٍ في نواياه:.

-في هنا في الرف كام حاجة حلوة، وفي لسه هايجيلي المحل كمان يومين، ده لو حضرتك تحب تستنى.
ثم مدت يدها لتنتقي البعض منهم، ووضعتهم على الطاولة الزجاجية الفاصلة بينهما، ادعى اهتمامه بشيءٍ معروضٍ بالأعلى، فقال وهو يشير ناحية إحدى البلورات الموضوعة في الرف العلوي:
-طب ممكن أشوف اللي فوق دي.
أمعنت النظر في الرف الأخير من موضعها، وسألته لتتأكد من مقصده وهي توجه سبابتها إليها:
-تقصد دي؟

أخفض رأسه قائلاً بتضليلٍ:
-أيوه، معلش هتعبك معايا.
سحبت المقعد الخشبي ذي الشكل الدائري منزوع المسند والظهر، وقربته من الرفوف وهي ترد:
-ولا يهمك.
صعدت بحرصٍ عليه، ورفعت ذراعها للأعلى لتلتقط هذه البلورة، ثم هبطت عن المقعد لتناوله إياها وهي تكلمه:
-اتفضل.
أخذ يفحصها بنظرة مهتمة، كأنما يبدو متحيرًا في اختياره، ثم طلب منها بحرجٍ:
-طب ممكن اللي جمبها، وأنا أسف على الدوشة اللي عملهالك.

ردت دون تكلفٍ وهي تضع بسمة رسمية على محياها:
-ده شغلي، لحظة.

عاودت الكَّرة، وصعدت على المقعد مرة أخرى، لتأتي له بالمطلوب، دون أن تعي حقًا أنها منحته فرصة من ذهب ليدور بعينين تلمعان فيها نظرات شهوانية على استدارة جسدها المشوقة، بالكاد كانت فيروزة تهبط عن المقعد من وضعها اللافت للأنظار حين ولج زوجها للمحل. نظرت إليه نظرة متفاجئة ومصدومة لرؤيته، خاصة لأنها تقابلت مع نظراته المظلمة مما جعلها تتوتر بشكلٍ غريب، كأنما أمسكت بالجرم المشهود. استطرد تميم مُلقيًا التحية بصوتٍ أجش وخشن:.

-سلام عليكم.
في البداية لم يلقِ الرجل له بالاً، ومنحه نظرة عابرة، سرعان ما تبدلت لشيءٍ من التلبك عندما وجده يحدجه بنظرات لا تنتوي خيرًا، تضاعف هذا الخوف بداخله، وقد أبصره يقبل ناحيته بتعابيرٍ متوعدة، كأنما يريد التشابك معه، أخرج من جيبه منديلاً ورقيًا جفف به عرقه البارد وهو يردد:
-وعليكم السلام.
على عكس توقعه، تقدم تميم ناحية زوجته متسائلاً في صوتٍ جاف:
-في حاجة محتاجاها يا أبلة وأنا أجيبها؟

عاملته بنفس الجفاء، وأخبرته:
-هو حابب يشوف البلورات اللي فوق، وأنا بجيبهاله.
كتمت شهقتها عندما وجدته يجذبها من ذراعها لتقف خلفه في قسوةٍ غريبة، وصاح مخاطبًا الرجل بعينين تطقان شررًا:
-خليكي إنتي، وأنا هتعامل...
سلط تميم كل بصره المحتقن عليه، وسأله في تحفزٍ يُنذر بالشر:
-عاوز إيه بقى؟
لم يبدُ الرجل مستريحًا لوجوده، وهتف متهربًا:
-طب، آ، نخليها لما يجيلك الجديد، جايز يكون في حاجات أحلى.

طرق تميم براحة يده على سطح الطاولة الزجاجية في عنفٍ لتهتز البلورات الموضوعة عليه، وخاطبه في حدةٍ محسوسة في صوته:
-مافيش غير الموجود هنا، ده لو عاجب يعني.
فرت الدماء من وجهه، وبدا شاحبًا إلى حدٍ كبير عندما همهم في تلعثمٍ
-أها، طيب، آ، هاخد لفة، و، أرجع.
هدر به تميم في نبرة اخشوشنت أكثر:
-بالسلامة.

لم تحاول فيروزة ردِّه أو حتى معاتبته اعتراضًا منها على أسلوبه الفظ مع زبائنها، وانتظرت ذهاب الرجل لتسأله بضيقٍ وهي تبتعد عنه لتجلس عند مكتبها:
-في إيه يا تميم؟
تحرك خلفها قائلاً باستهجانٍ متهكمٍ، وهو يكبت بصعوبة نوبة غضب وشيكة:
-لا مافيش، افتحي الكاميرا.
نظرت إليه متسائلة باسترابة:
-ليه؟
رد عليها بسؤالٍ آخر:
-ولا إنتي مش مشغلاها يا أبلة؟!
أكدت عليه بدهشة أكبر فاقت ضيقها منه:
-طبعًا شغالة.

أمرها بلهجةٍ لا ترد:
-رجعي الفيديوهات بتاعة آخر خمس دقايق..
رمقته بتلك النظرة المدهوشة، فتابع بنفس الصيغة الآمرة:
-لما البيه المحترم كان واقف هنا
للحظة ظنت أنه يفتعل تلك المشاجرة غير المبررة ليقلب الطاولة على رأسها، ويغطي على ما لا يريد تفسيره لها، انتفضت واقفة من على مقعد مكتبها تسأله في احتجاجٍ:
-إنت قصدك إيه بكده؟
أجلسها عنوةً بدفعة قوية من يده على كتفها وهو يجاوبها بغموضٍ ضاعف من هواجس عقلها:.

-هتعرفي لما تشوفي بنفسك.
أرغمت نفسها على التعامل بحكمةٍ وروية مع بوادر الأزمة الوشيكة، وراحت تفحص ما سجلته كاميرات المراقبة الموجودة بمحلها من عدة زوايا، اتسعت عيناها في ذهول مذعور حين رأت ما حدث، واختفى لون بشرتها الطبيعي تأثرًا بما أدركته، ألقت نظرة سريعة مرتاعة على وجه زوجها الغائم، وهتفت مدافعة عن نفسها:
-مش معقول، ده كان واقف محترم.
أحست بقبضة تميم تعتصر كتفها وهو يعلق على ما رأه معها:.

-أه بأمارة ما مخليكي طالعة نازلة عشان يتفرج على لبسك الضيق.
انكمشت على نفسها في حرجٍ، وهي تكاد لا تستوعب مدى الحُمق والغباء اللذين وقعت فيهما لتتعامل بسذاجة مع أمثاله من معدومي الضمير. تأوهت فيروزة في ألمٍ وقد اشتدت قبضته على كتفها، وأجبرت نفسها على الالتفاف والنظر إلى تميم حين تابع من بين أسنانه بصوتٍ لم يكن مرتفعًا؛ لكنه أدانها:
-اللي بالأمارة مكانش لبسك النهاردة.

عللت السبب وراء ذلك، فقالت بتوترٍ:
-ما هو كوكي دلقت الشوربة عليا، وبهدلتني، فاضطريت ألبس حاجة من حاجتي القديمة، ومعرفش إنها ضاقت أوي عليا كده.
سألتها بنظرة جعلت قشعريرة باردة تنتفض في كامل جسدها:
-ومشيتي بيه في الشارع؟ والناس اتفرجت عليكي؟
أنكرت على الفور برجفة محسوسة في رنة صوتها:
-لأ، أكيد دي مش نيتي...

حدجها بنفس النظرات الباعثة على الرهبة، فاستأنفت تبريرها رغم ما يعتريها من قلقٍ غريب، خاصة مع ثباته الانفعالي غير المعتاد عليه:
-حتى أنا جيت الدكان عندك عشان أخد منك مفتاح البيت، لأن محفظتي نسيتها في العربية، ولاقيتك واقف مع واحدة عمال تضحك وعايش حياتك ولا همك!
كلماتها الأخيرة استفزته، فحذرها بخشونةٍ بعد أن حرر كتفها من أسفل قبضته:
-ماتغيريش الموضوع!

وضعت فيروزة يدها على موضع الألم تدلكه في رفقٍ، وراحت تعارضه بتشنجٍ:
-لأ معلش، أنا من حقي أعرف مين دي اللي كانت معاك؟
أخبرها بزفيرٍ ثقيل، وهذه النظرة القاسية تكتسح وجهه:
-وأنا جيتلك مخصوص عشان كده، مهانش عليا أسيبك لراسك، وتظني فيا الظنون، بس كان من حظي أشوف بيحصل إيه هنا.
لعقت شفتيها، واستطردت هاتفة في حمئة:
-أنا كنت قادرة أتعامل على فكرة.

منحها نظرة هازئة مستنكرة قبل أن يتراجع مبتعدًا عن مكتبها وهو يقول:
-أه ما هو واضح.
استغلت ابتعاده عن محيطها لتهبَّ واقفة، ثم تقدمت في اتجاهه خطوة حذرة، لتسأله بعدها في غيرة غير مشكوك فيها:
-برضوه مقولتليش مين الست دي؟
لم ينظر ناحيتها وهو يجيبها:
-دي واحدة من معارف أبويا، في مقام أمي، وأكبر منها في السن.
هتفت تسأله في غيظٍ:
-وعشان كده واخدة عليك أوي؟
باستعلاءٍ متجافٍ تطلع إليها تميم، ليعقب في قسوةٍ صريحة:.

-ما هو عشان أنا في الأساس مراعي غيبتك، بعدت من غير ما أحرجها، وقت ما لاقيتها بتتعامل بنفس الطريقة اللي مش حاببها...
رغم ما به من غضب مستعر ينهش في صدره، لعدم فتكه بهذا الدنيء النجس، إلا أنه كبته مضطرًا، محاولاً بجهدٍ جهيد ألا يحرر ثورته الهائجة، بدت أنفاسه محمومة وهو يكمل كلامه:
-بالظبط زي ما عملت دلوقتي، مع إن سهل أضرب كرسي في الكلوب، وأقلع عين اللي يبصلك، وإنتي عارفة ده كويس.

استخدم سبابته في الإشارة مع ختام جملته، فحركت فيروزة شفتيها مكررة دفاعها عن نفسها:
-وأنا معرفش إنه بني آدم بالقذارة دي.
رمقها بنظرة جافة من عينيه، خالية من الدفء، ومغايرة لما اعتادت عليه منهما، ازدردت ريقها، ورققت من نبرتها تناديه في حذرٍ:
- تميم، أنا...
قبل أن تعطيه عبارة مفيدة قاطعها في صوتٍ آمر مليء بالصرامة:
-اقعدي في مكتب وماتقوميش منه لأي سبب، وأنا هاجيب العربية ونمشي.

بترددٍ محسوس في صوتها حاولت الاعتراض على أمره:
-بس البنت اللي شغالة معايا آ...
قاطعها وهو يسرع الخطى نحو الخارج:
-كلميها تحل محلك، سلام.
تجمدت في مكانها تتابع ما كان أثره قبل لحظةٍ في استياءٍ واضح، تجلت التعاسة على قسمات وجهها وهي تردد مع نفسها:
-هو احنا بنلحق؟!

هام مرة ثانية في شروده الصامت المحفوف بالكثير من الرغبات العنيفة في إيذاء ما يبيح لنفسه ما ليس له، كان منفذه الوحيد للتنفيس عن المكبوت من مشاعره المستثارة الحديث مع جده الغالي. زاره في غرفته، وجلس مقابله على طرف السرير، ثم بدأ في التكلم بشيءٍ من الاحتراز:
-عامل إيه يا جدي؟
شمله سلطان بنظرة خبيرة جابت على تقاسيم وجهه بتفرسٍ، ليشرع متسائلاً بعدها في مرحٍ:.

-إيه يا واد؟ مصدقت، غرقت في العسل ونسيت جدك؟
حرر دفعة من الزفير الحانق من صدره، ونفى ذلك بغير ابتسامٍ:
-أبدًا والله، ده إنت على راسي.
ارتكزت عينا الجد عليه، وسأله في هدوءٍ:
-إيه أخبارك؟ كله تمام معاك؟
مجددًا طرد الهواء من رئتيه قبل أن يجاوبه في فتورٍ:
-الحمدلله في نعمة.
مهد لاسترساله معه بقوله العادي:
-بس وشك بيقول غير كده.
تهرب من منعه التفسير بتعليله غير المقنع:
-يعني، متخدش في بالك يا جدي.

أراح سلطان ظهره للخلف، وارتكن بقبضته على رأس عكازه، ثم أخذ يلفه يمينًا ويسارًا بحركة رتيبة متكررة، قبل أن يستطرد:
-طيب أنا عاوز أقولك كلمتين بما إني عارف طبعك الحامي، اللي مع أول مناغشة هيطلع وينط.
وكأنه قادرٌ على قراءة ما يجول في عقله من مناوشات حامية الوطيس، كما لو كانت الحرب على وشك الاندلاع، نظر إليه بإمعانٍ وهو يبدي ترحيبه بنصائحه الثمينة:
-قول يا جدي.
استفاض الجد في توضيحه العقلاني:.

-الست من دول تحب راجلها يكون حِمش، شديد على غيرها، بس في نفس الوقت حنين معاها، صارم، بس محافظ على كرامتها وقيمتها، يعني يضرب ويلاقي، لو كان قاسي مع غيرها، تلاقيه مضلل عليها، واخدها تحت جناحه، مايخليهاش تشوف منه الوش الوحش دايمًا، لأ في وش الحنية والدلع، والطبطبة...
تطلع إليه مبهورًا، كأنما عرف كيف يطفئ لهيب النار المتأججة فيه، أصغى إليه بانتباهٍ تام وهو يواصل مخاطبته:.

-عشان لو عمل العكس ساعتها الحب اللي موجود في الأول هيروح، ومع الوقت مش هايبقى غير الشوك والضيق، والخنقة.
تخلل صدره الملتاع بغضبه قدرًا لا بأس به من الارتياح، فهتف في امتنانٍ، وقد نهض من مكانه ليقترب منه:
-والله يا جدي كلامك جاي في وقته.
أحنى رأسه على كف جده يقبله في توقيرٍ، فمسح سلطان على رأس حفيده داعيًا له بما يحتل القلب من محبة صادقة:
-ربنا يهدي سرك ويصلح حالك.

أغلب الوقت كان نائيًا عنها، متجافيًا معها، لا يكلمها إلا قليلاً، وبمختصر الكلام، كأن في ذلك نوعٍ من العقاب لها، حتى حينما استقبلتها والدته بحفاوة حارة، بدا على جفائه الداعي للريبة وإثارة الشكوك، لهذا اضطرت فيروزة للتعامل بحنكةٍ وإخفاء ما بينهما من توتر وخلاف، على أمل أن تمر هذه المشكلة الجديدة على خير، بحثت عيناها عنه عندما وجدته اختفى بالداخل لفترة استطالت مدتها، ولم تمتلك هذا القدر من الجراءة لتنهض من موضع جلوسها للبحث عنه، تساءلت في باطن عقلها بتحيرٍ شديد:.

-يا ترى بتعمل إيه يا تميم؟ وهنحل الحكاية دي إزاي؟!
نفخت في سأمٍ، وبدأت أفكارها في التخبط، انتشلتها من هذا التصارع المستنزف لصبرها صوت ونيسة القائل بوديةٍ:
-قومي يا بنتي غيري هدومك، هتلاقي في أوضة هاجر كام قميص بيت نضيف.
اعتذرت بلباقةٍ:
-مالوش لزوم.
سألتها ونيسة في نبرة يشوبها العتاب:
-إنتي مكسوفة ولا إيه؟ ده بيتك، إنتي مش ضيفة...
ضمت شفتيها معًا، فأصرت عليها بودٍ أكبر:
-يالا يا حبيبتي، خدي راحتك.

ربما كان في نهوضها فرصة مناسبة لرؤية زوجها الغائب عمدًا عنها، وتفقد أمره، أظهرت ابتسامة لطيفة على فمها وهي تخبرها مرة أخرى:
-شكرًا يا طنط.

بخجلٍ شبه ظاهر آثاره على وجهها، بدأت فيروزة في السير نحو الردهة المستطيلة، وعيناها تسبقاها في التفتيش عن زوجها، بمجرد أن دنت من باب غرفته، وجدته واقفًا عند أعتابها، خفق قلبها بقوةٍ، وهمَّت بالتكلم؛ لكن خرجت الحروف على شكل تأويهة مباغتة عندما قبض على رسغها، وجذبها في لمحة خاطفة إلى الداخل، موصدًا الباب خلفهما، انتشرت رعدات متفاوتة في قوتها في كامل بدنها، استجمعت رغم ذلك جأشها، لتظهر ثابتة أمام نظراته غير المُريحة، وسألته في نبرة لائمة:.

-إيه ده؟ إنت بتعمل إيه؟
لا تعرف لماذا أُجبرت قدماها على التراجع بشكلٍ تلقائي للخلف، كما لو كانت تحاول إيجاد مسافة آمنة بينهما، كأنما تخشى من طريقة تطلعه إليها، هوى قلبها بين قدميها، وشعرت برجفة أقوى تنتابها عندما بدأ يتحرك ناحيتها قائلاً بغموضٍ ضاعف من هذا التلبك المستحوذ عليها:
-ليا لي كلام معاكي.
سألته بصوتٍ متحشرج، وهي ترمش بعينيها في قلقِ:
-كلام إيه؟

رأته يشمر عن ساعديه، ويثني أطراف أكمام قميصه في تمهلٍ مهلك لأعصابها المستنزفة مسبقًا، زادت قوة الخفقان بها، وأحست بتحفزٍ عجيب يجتاح كل ذرة في جسدها، حذرته بصوتٍ مذبذب وهي ترفع سبابتها أمام وجهه، دون أن تتوقف عن الارتداد للخلف:
-بص، مامتك برا، وجدك كمان.
التوى ثغره بشبح بسمة غريبة، وقال في غير مبالاة على الإطلاق:
-وإيه يعني؟

تفشت حمى التوتر في كامل أوصالها، مع حركته البطيئة نحوها، وراحت الخيالات العجيبة الخجولة تجتاح ذاكرتها، واقترنت بسابقتها المحرجة لها، تلك التي ذاقت فيها تقريعًا جعلها تتهذب معه بشكلٍ فتنه بها، تضاعف ارتباكها، وهتفت في صوتٍ مرتجف، غير رادعٍ له، بل تكاد تُجزم أنه زاده بأسًا على بأس:
-هيقولوا عنك إيه؟ مايصحش اللي بتعمله ده.
تقوست شفتاه أكثر، وقال في نبرة ذات مغزى:
-مين قالك؟

التصق ظهرها بالدولاب، وأصبحت شبه محاصرة، تفكر بغير هدى عن وسيلة للنجاة من عقابه الوشيك، ورغم تخبطها إلا أنها سمعته يقول باستمتاعٍ:
-بالعكس هيعتبروا الموضوع عادي جدًا، راجل واخد راحته مع مراته حبتين.
زَحِفت وتزحَّفت بظهرها على الدولاب لتفر من نظراته المتوعدة لها، مستشعرة زيادة الوخزات الحسية في جسدها دون مساس، توسلته بصوتٍ مهتز:
- تميم، أنا...

شهقت في تلبكٍ كبير وقد أمسك بها من رسغها يسألها بصوتٍ خفيض؛ لكنه باعث على كل مشاعر الرهبة:
-البنطلون مش ضيق صح؟
هددته في يأسٍ، وقد تقلصت عضلاتها:
-أنا مش هاسكت، لو قربت مني، ه آ...
قاطعها مكملاً الجملة عنها:
-هتصوتي؟
هزت رأسها دون أن تنطق، فضحك في خفوت، ليخبرها بعدها بهسيسٍ:
-براحتك، وقوليلهم جوزي كان بيأدبني لأني غلطانة.

احتد شعورها بقوة الوخزات المنتفضة في بدنها، واستعطفته رغم يقينها بأنه لن يصغي لتوسلها الهزيل:
-ماشي إنت معاك حق تتضايق، بس بلاش هنا.
لاح على ثغره بسمة ماكرة، والتمعت في عينيه تلك النظرة الشقية، ليتبع ذلك همسه الخطير:
-ده مافيش أحلى من إنه يكون هنا.
بنداءٍ لن يشكل فارقًا معه استجدته:
- تميم!

شهقة أخرى مذهولة انفلتت منها وهي لا تعرف كيف امتلك من القوة البدنية ما جعله يشدها بعيدًا عن دولاب الثياب، أم أن مقاومتها خارت مع تأثير تهديد كلماته الممهدة لتأديبه الخاص، في طرفة عينٍ وجدت فيروزة نفسها موضوعة على ركبتيه، منكفأة على وجهها، ويداها تستندان على الأرضية، قبل أن تفكر في التخلص من هذا الوضع المخزي، التفت ساقه حول ساقيها، وضمتهمًا معًا، ليحكم قبضته عليها، صارت تحت سطوته كليًا، غير قادرة على الفكاك أو المناص منه، توسلته بصوتٍ مرتعش:.

-أنا أسفة، مش هتحصل تاني.
تحفزت يده لمنحها ما ظن أنها تستحقه، فأخذ يربت على ردفيها بهوادة ألهبت بشرة وجهها حرجًا وخجلاً دون أن تبدأ جولته المحمومة فعليًا، استفزته حين نطقت بغير تفكيرٍ:
-ما أنا محاسبتكش على وقفتك إياها، وعدتها.
كتمت شهقة بدت أقرب للصراخ حين انطلقت أول صفعة قاسية أصابت هدفها، أعطاها أخرى مماثلة في القوة وهو يكلمها بغير تساهلٍ:
-دي ليها كلام تاني، بس خلينا نخلص كل حساب لوحده.

لتتوالى بعدها الصفعات التأديبية الجادة، في تواترٍ متزايد ومحفز للغاية، جعل الأمر يصل بينهما في نهاية المطاف، إلى رحلة اجتذاب وتقارب شديد الحميمية، دفعهما نحو عالمٍ أصبحا يتناغمان فيه بشكلٍ مُذيب للخلاف، ومُنعش للوجدان...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة