قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والثلاثون

اكتساب الثقة لا يأتي من فراغ، ولا يحدث بين عيشة وضحاها، بل إنه يحتاج لبذل الجهد ومواقف عدة لإثبات أن هذا الشخص جدير بها. اضطرت فيروزة أن تتباطئ في خطواتها لتنتظر استباق تميم لها لتعود إلى المكان الذي كانت متواجدة فيه قبل أن يستبد بها غضبها، نظرًا لتشابه معظم المحال في هذه المنطقة. أشار لها الأخير بيده نحو أحد محال الصاغة قائلاً:.

-ده المكان.
رفعت رأسها للأعلى لتلقي نظرة فاحصة على وجهته واسمه قبل أن ترد في إيجازٍ:
-تمام.
ما إن رأتهما ونيسة حتى نهضت من مكانها، ودنت من الباب لتتساءل بملامح تسودها الحيرة:
-إيه يا ولاد؟ حصل إيه؟
أجاب تميم مبتسمًا وبدبلوماسية واضحة:
-مافيش حاجة يامه، كله تمام.
وجهت ونيسة سؤالها لمن تقف خلفه، وكامل عينيها عليها:
-هو زعلك في حاجة؟
هزت رأسها بالنفي، بينما تدخلت آمنة في الحوار، وتساءلت بتعابيرٍ مالت للفزع:.

- فيروزة! إنتي عملتي إيه؟
تجهمت قسمات وجهها في انزعاجٍ واضح من رنة الاتهام المستترة في صوتها، وقبل أن تهم بالإجابة عليها، تولى تميم الرد بلطافةٍ:
-متقلقيش يا حاجة، الدنيا زي الفل، وربنا ما يجيب زعل إن شاء الله.
تنفست آمنة الصعداء، ونهج صدرها في ارتياحٍ، لتعلق بعدها في رضا:
-ألف حمد وشكر ليك يا رب.
التفتت ونيسة بجسدها قائلة في بهجةٍ أمومية:
-طب يالا يا ولاد عشان تنقوا الشبكة.

تحفزت فيروزة في وقفتها، ومالت على أذن تميم تهمس له:
-زي ما اتفقنا.
أدار رأسه ناحيتها، وابتسم معقبًا في ثقة:
-أومال..
تلك النظرة الغامضة في عينيه جعلت الشكوك تساورها، فسألته في لهجةٍ غير مريحة:
-أوعى تكون بتضحك عليا؟
وضع يده على صدره معاتبًا إياها بصوتٍ خافت:
-عيب عليكي، ده أنا هكلم حتى الصايغ أفهمه على جمب أهوو قصادك.
أومأت له بعينيه كأنما تشجعه:
-ماشي، اتفضل.

سبقها في خطواته متجهًا نحو صاحب محل الصاغة الذي نهض واقفًا ليقوم باستقباله بترحابٍ شديد، ووديةٍ واضحة، في حين تلكأت في سيرها مدعية إلقائها نظرة على ما تعرضه الواجهات الداخلية. .

وزع تميم نظراته السريعة ما بين الصائغ وبين فيروزة التي كانت تراقبهما عن كثبٍ، وبالتالي مراوغتها لإنهاء هذه المسألة العالقة لن يكون سهلاً. رسم تعابيرًا جادة على وجهه، واستمع إلى مُحدثه حين خاطبه:.

-تحت أمرك يا معلم تميم، المحل كله بتاعك.
شكره أولاً في اقتضابٍ قبل أن يخفض صوته ليطلب منه:
-بقولك إيه، عاوزك تهز دماغك كده كأن مش عاجبك الكلام.
عقد ما بين حاجبيه متسائلاً في دهشة:
-ليه؟
علق عليه بحزمٍ، ودون توضيحٍ كافٍ:
-من غير ليه، تعمل اللي بقولك عليه.
هز رأسه بالإيجاب وهو يرد:
-حاضر اللي تؤمر بيه.
حين وجده يفعل العكس بتلقائية وبخه في غير عصبية:
-يا سيدي هز راسك بلأ، إيه الصعب في كده؟

قام الرجل بتنفيذ طلبه وهو يقول:
-طيب.
عندئذ استدار تميم برأسه نحو فيروزة التي كانت تتابعهما، أوحى لها بتعابير وجهه أنه يواجه القليل من الصعوبة في إقناع الرجل؛ لكنه لن يتوقف، وعاود الحديث إليه بنفس النبرة الخفيضة:
-افضل هز راسك وكشر كأن في حاجة مش عجباك.
قال الصائغ في تحيرٍ شديد:
-ولو إني مش فاهم حاجة بس ماشي.
واصل تذمره الزائف على أمر يجهله كليًا حتى أتاه قول تميم الأخير وهو يربت على كتفه:.

-الله ينور، كده زي الفل.
من الناحية الأخرى تحركت آمنة نحو الركن الذي تقف في ابنتها، معتقدة أنها حائرة في انتقاء المناسب من المشغولات، وقفت إلى جوارها، وسألتها بعينين تعكسان بريق الذهب فيهما:
-عاوزة مساعدة يا حبيبتي؟
نظرت لها فيروزة من طرف عينها في تحفزٍ، وردت نافية:
-لأ.
كأنها لم تنبس بشيء، بل أشارت بيدها نحو قلادة كبيرة الحجم، وأخبرتها في حماسٍ:
-ما تشوفي كده دي عليكي، شكلها فخم وآ...

قاطعتها في صوتٍ حازم رغم خفوته:
-لأ، هختار المناسب ليا.
لاحظت ونيسة التوتر السائد بين الأم وابنتها، وخمنت بطبيعة الحال سببه، لهذا اقترحت قائلة بما ينم عن سخاءٍ كبير:
-سبيها على راحتها يا آمنة، اللي يعجبها تاخده مافيش مشكلة.
استدارت آمنة برأسها ناحيتها، وشكرتها:
-كتر خيرك يا حاجة، طول عمركم أهل كرم.

إظهارها بهذا الشكل الطامع استفزها بدرجةٍ كبيرة، وجعل تقاسيم وجهها تشتد وتعكس حنقها، بالكاد قاومت انفلات أعصابها لتسأل تميم الذي انضم إليهما:
-ها كلمته؟ عرفته هنعمل إيه؟
أجابها مبتسمًا ابتسامة عريضة وهو يلوح بيده:
-طبعًا، كله تحت السيطرة!.

إقناعها بشراء تلك الحلي، فاق في صعوبته الجمة، الحصول على توكيل توريد الأطعمة الطازجة لواحدة من السفن السياحية الهامة، لم يصدق تميم أنه نجح في استمالة رأسها، ومضى الأمر على خير. رفضت فيروزة حمل علبة الشبكة، وأعطتها لوالدة تميم عنادًا في والدتها التي كانت تعيش في حالة من السرور العظيم، استطردت الأخيرة تقول في امتنانٍ كأنها ظفرت بكنزٍ لا يقدر بثمن:.

-تسلم إيدكي ورجليكي يا حاجة، ماشاءالله الشبكة تحفة، ده مافيش بعد كده.
ردت عليها ونيسة في وديةٍ:
-على إيه بس؟ هي تستاهل الحلو كله، وعقبال ما نتعبلهم في الفرح دايمًا.
أمنت عليها في نبرة متلهفة:
-يا رب أمين.
على النقيض مع ما كان عليه في بداية اليوم، أصبح تميم يراقب فيروزة أثناء قيادته للسيارة، كأنما يخشى ارتكابها لحماقةٍ ما تضع كليهما في موقفٍ حرج، أمسكت به وهو ينظر إليها، وسألته بنظرة حادة:
-في حاجة؟

أجابها نافيًا، وشفتاه تتقوسان عن بسمةٍ صغيرة:
-لأ، مافيش.
كانت على وشك إضافة شيء ما لولا أن قالت والدته مقترحة من الخلف:
-خلوا الحاجة معاكو.
هبطت عليها الصدمة المستنكرة، وهتفت محتجة:
-مالهاش لازمة، احنا مش آ...
قاطعتها في لطفٍ، وهذه التعابير الدافئة تغطي وجهها:
-هتزعليني منك يا بنتي؟
تحرجت من رفض طلبها، واشتدت قبضتها على حقيبة يدها وهي تبرر لها رفضها:
-لأ، بس لسه بدري على كتب الكتاب، وأنا مش هلبسهم أصلاً.

تلون وجه آمنة بكافة الألوان المذهولة، لوهلةٍ ترددت في التدخل لئلا تظهر بمظهر الطامعة التي سال لعابها لمجرد رؤية الذهب، حاولت الحفاظ على القليل من ماء الوجه، وأردفت كذبًا؛ كأنما تؤيد ابنتها:
-الحاجة تزيد معاكو يا حاجة، وفي الأصل دي بتاعتكم.
نظرت لها ونيسة في عتابٍ، ثم خاطبت ابنها في تذمرٍ:
-يرضيك الكلام ده يا تميم؟ ما تقول حاجة!

حملق في والدته لهنيهةٍ قبل أن تدور عيناه على وجه فيروزة كأنما يرجوها برجاءٍ خفي:
-معلش يا أبلة اسمعي الكلام.
قرأ الاحتجاج جليًا في نظراتها إليه، وبادلها تلك النظرة الحانية المليئة بالرجاء وهو يصر عليها:
-عشان منكسرش بفرحة حد.
اضطرت للرضوخ على مضضٍ، وغمغمت:
-ماشي.

دقيقة أخرى مضت وكانت السيارة تقف أمام مدخل البيت، ترجلت آمنة أولاً وهي تودع الاثنين في محبةٍ وسرور، لتتبعها فيروزة في تلكعٍ، بينما أمرت ونيسة ابنها في حبورٍ:
-انزل وصلهم كده للحوش وتعالى، خلي خطيبتك تفرح بقربك.
كأنما منحته التصريح لختام لقائه بها بوداعٍ لطيف، قفز قلبه بين ضلوعه، وردد مبتسمًا:
-حاضر يامه.

أوقف المحرك، وترجل من مكانه، لينظر أمامه باحثًا عنها، سارع الخطا، ووجدها عند المدخل تقدم قدمًا، وتؤخر الأخرى، فخمن أنها كانت تتوقع قدومه، وها قد صدق توقعها! هتف من ورائها يودعها في لهجةٍ جمعت بين اللهفة والجدية:
-طيب يا أبلة، خلي بالك من نفسك.
ما إن سمعت صوته حتى استدارت لتواجهه وهي تعنفه في كدرٍ:
-هو إنت مش قولت إنها تمثيلية؟ ممكن تفهمي إيه اللي حصل ده؟
بلع ريقه، وأخبرها بابتسامةٍ مهتزة:.

-أيوه، بس هعمل إيه، ما هو كله على يدك، ده غير إني...
توقف عن الكلام ليجدها تسدد له نظرة مهددة، فتابع بحذرٍ:
-يعني مقدرش أكسف أمي وأزعلها، ست كبيرة برضوه.
تذمرت عليه في نقمٍ:
-وأنا مقدرش أقبل أسيبهم معايا، ده غير إننا أجلنا كتب الكتاب، هاتقولهم إمتي بده كمان؟
فرك مؤخرة عنقه معلقًا في وجومٍ طفيف:
-إديني فرصة أمهدلهم في البيت، مش هديهم الخبر خبط لزق كده في وشهم.

سألته في تجهمٍ، وهي تشير بيدها للأعلى، إلى حيث صعدت والدتها بعلبة الشبكة:
-طيب، وأنا المفروض أعمل إيه بدول؟
حك طرف ذقنه مقترحًا بتلقائية:
-اعتبريهم أمانة عندك لحد ما نرجعهم.
أتاه تعليقها فيه لمحة من السخرية:
-أمانة؟ إزاي يعني؟ دي تهمة!
تجاوز عن وصفها غير المناسب، وعلق في هدوءٍ:
-زي أي حاجة يا أبلة.
نفخت في ضيقٍ، وأضافت:
-بس دي شيلة تقيلة أوي.
ابتسم يخبرها في صدقٍ:
-وإنتي أدها.

نظرت إلى عينيه في تلك اللحظة فرأت فيهما ثقة كبيرة لم تعتدها، حينئذ ارتخت ملامحها المتشنجة قليلاً، ورددت في قلقٍ:
-ربنا يستر.
حافظ على عذوبة ابتسامته وهو يؤكد لها بغزلٍ متواري:
-هايستر إن شاءالله، ده إنتي اللي زيك اليومين دول مافيش.

لم تنكر إعجابها بطريقته الغريبة في تحوير المواقف الأكثر تأزمًا إلى شيءٍ لطيف، يمس جزءًا من قلبها بشكلٍ ما تتلذذه في كثيرٍ من الأحيان، شردت في تأملها له، ولم يبعد تميم عينيه عنها؛ كأنما يغتنم فرصته الذهبية على أكمل وجه، أشاحت بوجهها للجانب حين نادت والدتها من الداخل:
-يالا يا فيروزة، إيه اللي مأخرك كده.
هتفت ترد في نبرة مرتفعة:
-جاية يا ماما أهوو.

تنهدت مجددًا، وهزت رأسها تودعه بقسماتٍ اكتسبت جدية غريبة:
-ماشي يا معلم، شكرًا.
قابل تحيتها الجافة بشفاه مبتسمة وهو يرد ملوحًا بيده في الهواء:
-صباحك تفاح يا أبلة.

على إثر ذكر تلك الكلمة تحديدًا ابتسمت في عفوية، وتلك اللمعة تظهر في حدقتيها، استدار معاودًا أدراجه ووجهه يشع ببهجةٍ راضية، الآن شعر بأنه فاز بتعويضٍ ملائم ينسيه مشاحنات اليوم الغريبة، ومع هذا لم يكتفِ بذلك، بل أخرج هاتفه المحمول، واتصل برقمٍ يحتفظ به في القائمة، لينطق بعدها في جديةٍ تامة:
-أيوه يا دكتورة، محتاج أتقابل معاكي ضروري.
هز رأسه مصغيًا إليها، وهو يقول:.

-ماشي يا دكتورة، أه مناسب، هاكون هناك.
استغرقها الأمر ما يقرب من دقيقة لتكمل فيروزة صعودها المتكاسل على درجات السلم وهي تكرر على لسانها:
-اشمعنى التفاح بالذات اللي ماسكهولي؟

انخفضت نظراتها نحو حقيبتها الممتلئة بألوف الجنيهات في شكل حليٍ ذهبية، عاد الصراع يسود في رأسها، ما بين إنكار لأطماع والدتها، وبين ثقة عمياء لخطيبٍ يسعى لنيل ثقتها، سئمت من هذا التخبط المتلف للبقايا المتماسكة من أعصابها، فقررت اللجوء للمساعدة من طبيبتها المختصة، كانت بحاجة ماسة لذلك، لهذا لم تتردد في الاتصال بها، وهاتفتها وهي تلج إلى داخل منزلها:.

-دكتورة ريم، أخبار حضرتك إيه؟ عاوزة أتكلم معاكي في حاجة مهمة وتعباني. .

قبل ميعاده معها ببضعة دقائق، كان تميم متواجدًا في الاستقبال التابع للمركز العلاجي الذي تعمل به ريم، أصر على اللقاء بها لمناقشتها في وضعه المتأرجح مع فيروزة، لهذا أرجأ كافة أعماله، وتفرغ بالكامل لمقابلتها. جال ببصره في المكان مترقبًا قدومها، ورأسه يزدحم بعشرات الأفكار القلقة، وعندما انضمت إليه الطبيبة النفسية، أخذ يقص عليها تصرفاتها المليئة بالتهور، والرعونة، ثم راح يشكو إليها تهديدها بإنهاء الخطبة في أي وقت، ومحاولاته المضنية للتحايل على اضطرابها المبرر.

استحسنت ريم حسن تصرفه، وبدأت تسترسل في التوضيح ليعي جيدًا تبعات أزمة انتكاستها الأخيرة:
-عين العقل اللي إنت عملته ده، وأنا قايلالك إن علاقتك ب فيروزة محتاجة تتبني على الثقة قبل ما أي حاجة، الخذلان اللي شافته في حياتها صعب أي حد طبيعي يتحمله، وهي رغم كل ده قاومت وحاولت تقف على رجليها.
أكد عليها دون تفكيرٍ:
-أنا معاكي يا دكتورة في أي حاجة، بس تديني الفرصة أعمل كده...
تحولت نبرته للضيق حين استكمل:.

-ده أنا ساعات بحس إنها مخلية موضوع خطوبتنا على تكة، كأنها مستنية تنهيه في أي لحظة، وده مزعلني شوية.
أخبرته بنبرة عملية:
-مقدرش ألومها، طبيعي يكون ده ردة فعلها.
تطلع إليها في صمتٍ، فاستمرت في المتابعة:
-هي بتحسب كل شيء بالعقل، وبتحدد مدى الضرر اللي هيقع عليها، حتى لو كان من علاقة عادية، أي تهديد بسيط يدخلها الدوامة اللي كانت فيها هتلجأ للدفاع عن نفسها غريزيًا.

اِربد وجهه بالمزيد من الضيق، فبارقة الأمل التي لاحت في الأفق أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التلاشي. حاولت ريم بث التفاؤل في روحه:
-أنا مش عاوزاك تستعجل يا أستاذ تميم، كل حاجة مع الوقت هتتحسن وتبقى أفضل، إنت تعتبر في تحدي كبير معاها، ومحتاج كل جهد لحد ما تفوز بيها.
قال بعد زفيرٍ ثقيل:
-أنا صابر، وربنا يكرم.
تابعت الثناء على مجهوده بتشجيعه:.

-حقيقي أنا ممتنة لدورك المهم في علاجها، وأتوقع في النهاية إن النتيجة تكون إيجابية.
لم يعرف تميم إن كان يبتسم، أم يرسم الحزن على محياه وهو يعلق ساخرًا، وقد تهدل كتفاه:
-يا رب يا دكتورة، بدل ما تلاقيني بتعالج عندك...!.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة