قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والأربعون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والأربعون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والأربعون

بين طرفة عينٍ وانتباهتها كان قد اختفى عن أنظارها كالسراب، أقل من دقيقة التهت فيها عن التطلع إليه لتخاطب توأمتها التي استبد بها فضولها لتستعلم عن سبب بوادر الشجار المريب، التفتت بعدها لتنظر إلى رمز المروءة فلم تجده، أصابتها تعاسة غريبة، وشعرت بانقباضة مزعجة تعصف بقلبها. تحركت فيروزة من مكانها ودارت حول باحة المنزل الخلفية لتفتش عنه بين المتواجدين؛ لكنه كان غير موجودٍ، حاولت البحث عنه وسط عائلته، فلم تجد سوى والدته وشقيقته وزوجها، أما هو وأبيه وجده فلم يكونوا حاضرين.

نالت منها الحيرة، وتوقفت في مكانها، والضيق يكسو وجهها، كتفت ذراعيها أمام صدرها، ورددت مع نفسها في استياءٍ متعاظم:
-للدرجادي ماليش اعتبار عندك؟ تمشي من غير ما تقولي إنك ماشي!
دنت منها آمنة تناديها، فلم تنتبه لها، كررت عليها النداء بتذمرٍ:
-مش سمعاني يا فيروزة؟ عمالة أنادي عليكي من بدري.
استدارت ناحيتها لترد بعصبيةٍ ملحوظة عليها:
-أيوه يا ماما، في إيه؟

أشارت لها بيدها نحو بعض الجالسين عند الأركان وهي تأمرها بنوعٍ من التوجيه:
-شوفي مين ماخدش أكياس الفول وفرقي عليه، خلينا نلهي الناس في الأكل، بدل ما يركزوا في البهدلة اللي حصلت من شوية.
قطبت جبينها مغمغمة في خفوت بائس من محدودية تفكيرها الحالي:
-ده اللي همك.
لم تفهم والدتها ما الذي تقوله، فتساءلت، وعيناها تتجولان على الضيوف:
-بتقولي إيه؟
هتفت في غير صبرٍ:
-حاضر يا ماما، حاضر.

ثم غادرت بعدها في خطوات عصبية لتنفذ طلبها، و آمنة من ورائها تتطلع إليها بدهشة وهي تتساءل:
-مالها دي كمان؟!

انقضى ما تبقى من اليوم على خير بالنسبة للجميع فيما عدا هو، كان وحده مثقلاً بالهموم والضيق. انزوى خليل بغرفته، مصطحبًا معه طفلته الصغيرة، أصر على مبيتها معه بالرغم من اعتياد الأخيرة على النوم مع عمتها أو ابنتها. بقي ماكثًا على مقعده المدولب، شاعرًا بعدم قدرته على السير أو تحريك أي طرفٍ من جسده كما كان يفعل قبل سابق؛ وكأن العجز قد تمكن من أوصاله. تأملها بنظراتٍ حزينة لا تعكس معها سوى الخوف، تساءل صوت ما في عقله:.

-هتعمل إيه يا خليل؟ حُسني مش هيسكت، ده جاي وناوي على الشر.

عاد بذاكرته إلى الوراء، حيث كان يمتهن وظيفة تسفير الشباب إلى الخارج، عن طريق اللعب بأحلامهم، وإيقاعهم في فخ الثراء السريع بمجرد أن يطأوا البلدان العربية المتخمة بالثروات التي لا تعد ولا تحصى، آنذاك رأى سماح مع شقيقها حُسني، شريكه في تصدير الوهم. لفتت أنظاره، وانشغل عقله بها، قاوم التفكير فيها؛ لكنها سلبت لبه، وازدادت الرغبة بداخله في الزواج بها، بالطبع لصغر سنها، ولقدرتها على تعويضه عما يفتقده في علاقته مع زوجته حمدية.

بالنسبة له بدت صفقة مناسبة أن يتزوجها في مقابل منح شقيقها فرصة وهمية للسفر إلى الخارج، معتقدًا أن حيله وألاعيبه ستنطلي عليه مثل الآخرين؛ لكن الأخير كان أكثر ذكاءً عن البقية لم يرتضِ بالأمر، وقيده بشروطٍ مادية أثقلت كاهليه ليوافق على تزويجها له، واضطر أن يرضخ لطلباته للظفر بحياة هانئة مع فتاة لطيفة تُجيد دب مباهج الحياة في روحه التعسة. سارت الأمور على ما يرام لبعض الوقت، وبدأ يدفع له بانتظامٍ كلما سنحت له الفرصة لتسفير أحدهم للخارج؛ لكن مع التدقيق الأمني، والحملات المكثفة للقبض على وكلاء مكاتب السفر الوهمية، أنهى خليل عمله في هذه المهنة الخطيرة، واقتصر على بعض المعاملات الحسابية غير المضرة للحصول على مالٍ إضافي، وحين فقد حُسني عمله الآخر، بات مزعجًا له، يُطالبه إما بسداد باقي المستحقات التي لم تُدفع بعد، أو بفضح أمره بين أفراد عائلته، خاصة أن يملك من الأوراق القانونية ما يُدينه بشدة.

حيئنذ ظهر آسر على الساحة، وكان كطوق النجاة له، وسيلته الفعالة للخروج من المأزق الذي وقع فيه، فاستغل معارفه، وصلاته الجيدة في الحصول على تأشيرة للسفر لأحدهم، وأعطاها له مقابل تزويج فيروزة به، لم يمانع خليل مُطلقًا التضحية بغيره للنجاة ببدنه، اعتبر أنها صفقة رابحة للجميع، وبالفعل حصل على أوراق السفر، وساوم حُسني على أن يعطيه باقي الإيصالات وما يُدينه في مقابل منحه تأشيرة السفر المضمونة لإحدى الدول العربية.

ولمعاشرة حُسني الجيدة ل خليل، شعر أن بالأمر خدعة ما، لهذا وافق على إعطائه نصف الأوراق والإيصالات، وتأجيل البقية لحين استقراره في العمل؛ لكن ما لم يعلمه كلاهما أن التأشيرة لا تضمن فرصة الحصول على عملٍ جيد، مجرد وسيلة مضمونة لدخول البلاد، فاعتقد خليل بمغادرة صهره أن الكابوس قد انتهي، هو لن يعود مطلقًا، سيتدبر أمره، ويعمل بأي مهنة كبديلٍ عن العودة فارغ اليدين.

لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وحدث ما لم يكن في الحسبان، عاد شريكه في بيع الوهم، وبعد مجيئه، لن تكون الأمور كسابق عهدها! حتمًا سيطالب بالدين، ويهدده بفضح أمره أمام الغرباء قبل الأقرباء إن لم يدفع ما يخرسه للأبد.
أفاق من شروده على نفس الصوت النادم المردد في رأسه:
-هتصرف إزاي؟ بعد ما خلاص بقيت في عيون اللي حواليا مجني عليه ومظلوم، هابقى جاني ونصاب.

نظر مطولاً إلى ابنته النائمة، وتنهد مضيفًا في توجسٍ:
-ده غير إن بنتك مالهاش سند غيرك.
رفع رأسه للسماء، وأخذ يتضرع في حيرةٍ بصوتٍ غير منطوق:
-دبرها من عندك يا رب.

لم تتوقف عن قضم أظافرها وهي تجوب في جوانب غرفتها بعصبيةٍ وتوتر، اختفائه المريب دون وداعٍ يليق بها جعل الغضب يتصاعد بداخلها، لو لم تكن حاضرة وشاهدة على المشادة العنيفة بينه وبين هذا الغريب لما تساهلت معه. انتظرت فيروزة اتصاله بها ليطمئنها عليه، ولم تحاول مهاتفته كعقابٍ ضمنيٍ له. وقفت أمام نافذتها، تنظر للظلام الحالك بعينين مشتعلتين، انتفضت في لهفةٍ حين سمعت صوت الرسائل بهاتفها، ليعلن عن وصول رسالة متأخرة. اتجهت إلى تسريحة المرآة لتلتقط هاتفها، فتحته، وقرأت رسالته الموجزة بصوتٍ خافت؛ كأنما يسألها:.

-صاحية؟
بأناملٍ عصبية كتبت له الرد وهي تنطق به كذلك:
-هيفرق معاك يعني؟ ما إنت خدت في وشك ومشيت، كأنك مصدقت.
انفلتت منها شهقة صغيرة وقد اهتز الهاتف في راحتها ليعلن عن اتصاله بها، ترددت في الإجابة مباشرة عليه، وتعمدت التلكؤ وهي تحترق لهفةً للرد. رفعت أنفها في إباءٍ، وضغطت على زر قبول الاتصال قبل أن يتوقف الرنين، لتهتف بعدها في تجهمٍ:
-أيوه، خير؟
لفظ زفيرًا مهمومًا من صدره قبل أن يقول بهدوءٍ:.

-أنا عارف إنك زعلانة مني، بس كان لازم أمشي.
علقت عليه في جدية واضحة:
-وأزعل ليه؟ هو أصلاً زعلي يهمك؟
جاءها رده صادقًا، نابعًا من أعماقه، مما جعل نبضاتها تتسارع:
-كل حاجة فيكي تهمني، ومقدرش أبدًا أزعلك، ده إنتي الغالية عليا.
لانت نبرتها الجافة قليلاً، وسألته في فضولٍ لا يخلو من حيرة:
-طب مشيت ليه؟
سكت لحظيًا قبل أن يجاوبها:
-أبويا طلب مني ده، عشان كان عارف إني مش هسكت.

أكملت ما اعتبرته منقوصًا من اعترافه في صيغة تساؤلية:
-بسبب قريب خالي؟!
أكد بعد صمتٍ بسيط:
-أيوه، أنا صعب شوية في عصبيتي مع اللي يمس اللي بحبهم.
التفت سبابتها حول خصلة من شعرها وهي تعقب بإيجازٍ:
-خدت بالي.
أضاف تميم أيضًا في نفس النبرة الهادئة:
-ده غير إن جدي كمان كان محتاج يرجع البيت.
حررت خصلتها عن سبابتها، وسألته:
-هو كويس؟
أجابها في تمهلٍ:
-أه الحمدلله...
بدأت نبرته تتحول للعبثية حين أتم جملته:.

-مش هتسألي عني طيب أنا عامل إيه؟
تلونت بشرتها بحمرةٍ طفيفة، ورواغته الرد بآخر مبطن:
-مش لما تسأل إنت الأول.
أطلق ضحكة قصيرة، ليقول بعدها بلطفٍ:
-صح، أخبارك إيه يا أبلة؟
تنحنحت قبل أن تجيبه في جدية مصطنعة:
-الحمدلله يا معلم.
عابثها عن قصدٍ، ليزيد من ربكتها، ومن الحمرة الساخنة المتدفقة إلى خديها:
-مافيش تميم كده حاف من غير معلم، ولا الحاجات الحلوة مش بتطلع غير في الخناقات؟!

حمدت المولى أن اتصالهما كان صوتيًا فقط، وإلا لرأى بأم عينه تأثير كلماته العذبة عليها، عضت فيروزة على شفتها السفلى لثانية، وتلعثمت في نعومةٍ وهي تبرر قائلة:
-ما أنا خوفت بصراحة عليك تعمل حاجة كده ولا كده، والبني آدم ده مستفز، وناوي على شر.
أطربه ردها، وجعله في حالة انتشاء ونشوة، لذا هتف متسائلاً في لهفة محسوسة في صوته:
-بجد خوفتي عليا؟

أمام شوقه الظاهر ارتبكت أكثر، وبدا التردد واضحًا عليها، ألح عليها بصوته الهادئ؛ كأنما يرجوها:
-ما تبقيش بخيلة عليا كده، اكسبي فيا ثواب.
أطبقت على شفتيها مانعة نفسها من التفوه بكلمة؛ لكن سرعان ما تخلت عن عزوفها المتردد لتعترف له وهي تخبئ عينيها بيدها الآخرى؛ كأنما تخشى أن يرى خجلها اللذيذ:
-أه خوفت..
هنا صاح مهللاً، كمن حاز على نصرٍ عظيم:
-يا فرج الله! أيوه بقى، مرة من نفسي.

قهقهت ضاحكة من أسلوبه المرح، وحاولت المناص من رومانسيته المغرية بقولها:
-طب يالا عشان عاوزة أنام.
ردد مستنكرًا:
-إيه ده، الوقت الحلو بيخلص بسرعة ولا إيه؟!
مازحته وهي تضحك:
-إنت اللي جاي في الوقت الضايع.
علق عليها مؤكدًا بما بدا تحديًا لها:
-خلاص هعمل حسابي المرة الجاية اتصل من بدري، وأخد وقتي كله من أوله.
لوت ثغرها في غرورٍ، وقالت معلنة قبولها عرضه:
-أما أشوف.
ودعها بقليلٍ من الغزل اللطيف:.

-ماشي يا ست البنات، مساءك قمر، زيك.
لم تختفِ الابتسامة السعيدة من على وجهها وهي ترد:
-تصبح على خير.
سمعت تنهيدته قبل أن يقول:
-وإنتي من أهله.
لم تضغط فيروزة على زر إنهاء الاتصال، ونفضت بيدها شعرها في الهواء، قبل أن تستقيم واقفة وهي تغمغم:
-ناس ماتجيش إلا بالعين الحمرة.
قفزت في مكانها مصدومة حينما سمعت تعليقه:
-أنا مقفلتش الخط على فكرة، بس أي حاجة منك راضي بيها.
ارتعشت في حرجٍ شديد، ورددت بربكةٍ كبيرة:.

-إنت لسه موجود، س، سلام.
عندئذ تأكدت من الضغط على زر الإنهاء وهي تنظر إلى شاشته بعينين متسعتين في ذهولٍ حرج، تركت الهاتف على الفراش، ودفنت وجهها بين راحتيها هاتفة في خجلٍ، وهي تشعر بالسخونة المنطلقة من كامل بشرتها:
-ياني على الكسفة!

جاء في موعدٍ كان متأكدًا فيه من عدم تواجدها بالمنزل، ليلتقي بخالها الذي طلب مقابلته في التو، استقبلته آمنة بترحابٍ كعهدها به كلما أتى إلى المنزل، أغلقت الباب من ورائه، وأشارت له بيدها ليتوجه نحو الردهة الواصلة بين غرف البيت وهي تخاطبه:
-اتفضل يا ابني، خليل مستنيك جوا في الأوضة.
قال في ابتسامةٍ صغيرة:
-شكرًا يا حماتي.
سألته وهي تسير خلفه:
-تحب تشرب إيه؟
توقف عن المشي ليقول معتذرًا بلباقة:.

-مالوش لزوم.
أصرت عليه في ألفةٍ ومحبة:
-ودي تيجي، مايصحش والله، ده بيتك.
أخبرها بعد لحظةٍ من التفكير:
-خلاص، إن كان ولابد يبقى شوية شاي.
هزت رأسها قائلة:
-حاضر، من عينيا.
أشارت من جديد نحو غرفة خليل ليكمل سيره نحو بابها وهو يشكرها:
-تسلميلي يا رب.
لم يكن الباب مغلقًا بشكلٍ كامل، كان مواربًا بعض الشيء، ومع هذا طرق تميم عليه مستأذنًا بالدخول:
-السلام عليكم، موجود يا عم خليل؟
أتاه رده عاليًا:.

-وعلي، كم الس، لام، اتفضل.
دفع الباب بيده، وجال بنظرة سريعة على الحجرة ليحدد مكان مُضيفه، وجد الصغيرة رقية تركض ناحيته لترحب به في سعادة كبيرة:
-عمو تميم!
استقبلها في أحضانه، وربت على ظهرها برفقٍ وهو يسألها:
-إزيك يا حلوة؟
ابتعدت عنه، لترفع عينيها إليه وهي تجيبه بتعابيرها البشوشة:
-كويسة.
هتف خليل بلهجةٍ شبه آمرة:
-نروح ن، لعب برا شوية يا كوكي؟
أدارت رأسها بتلقائية نحو أبيها، وقالت في طاعةٍ:
-حاضر.

لكن قبل أن تنصرف خاطبت تميم في براءةٍ:
-عايزة أطير معاك الطيارة تاني.
هز رأسه بالإيجاب وهو يؤكد لها:
-حاضر، طلباتك أوامر يا حلوة.
ودعته بتحريك كفها في الهواء، وغادرت الغرفة لتترك الاثنان بمفردهما، طلب خليل من ضيفه في حرجٍ طفيف:
-ممكن ت، رد الباب؟

أومأ برأسه موافقًا، وأغلق الباب قبل أن يتجه إلى المقعد الآخر الشاغر بالغرفة ويجلس عليه، أمعن النظر في ملامح خليل التي اكتسبت طابعًا جديًا غريبًا، ظل يتفرس فيه وهو يستطرد متسائلاً:
-كنت عاوزني في إيه؟
أخفض خليل من نبرته قائلاً بحذرٍ واضح:
-هاقولك، بس توع، دني قبلة محدش ي، عرف حاجة...
استشعر تميم خطورة الأمر، وتضاعف إحساسه مع إكماله لعبارته بما يشبه التشديد:
-وخصوصًا ف، فيروزة.

ثبت كامل نظراته عليه، واكتست تعابيره بالجدية وهو يعلن قبوله بوضع الأمر في طي الكتمان:
-ماشي الكلام.

تذكرت أنها تركت ما استلمته من المطبعة في غرفتها، ولم تأتِ به أثناء ذهابها للعمل اليوم، لهذا غادرت دكانها مبكرًا –في غير موعدها- لتأتي بالمطبوعات الورقية، لئلا يظل العمل غير متكملٍ. صعدت فيروزة الدرجات في نشاطٍ وهمة، ويدها تعبث داخل حقيبتها لتأتي بمفتاح الشقة، تفاجأت بنزول تميم على نفس السلم، تسمرت في مكانها، وطالعته بعدم تصديق، انفرجت شفتاها عن صدمة بائنة، لتسأله بعدها بنفس الملامح الذاهلة:.

-إنت كنت فوق وأنا معرفش؟
على ما يبدو تفاجأ هو الآخر بتواجدها، فنظر إليها مصدومًا لوهلةٍ، مع طريقة تطلعه إليها سرعان ما استبدت بها الهواجس، وظنت وقوع مكروه ما، فتابعت متسائلة دون أن تمهله الفرصة للرد:
-في حاجة حصلت؟
أجابها نافيًا، وقد تقوست شفتاه عن ابتسامةٍ صغيرة:
-لأ، كله تمام.
سألته بنبرة مالت للتحقيق:
-أومال كنت بتعمل إيه عندنا؟

غازلها بتجرؤ غير نادم، لعله بهذا يصرف ذهنها عن التفكير في أي شيءٍ قد يثير الشكوك ناحيته:
-جاي أشوف القمر.
لم تترك لمعسول كلامته التي تطرب آذانها الفرصة لتُلهيها عن معرفة الحقيقة، ما زالت تستريب من وجوده، تقدمت في خطاها، واقتربت منه متسائلة بشكلٍ مباشر:
-اتكلم جد، في إيه؟ أنا حاسة إن الزيارة دي مش طبيعية، هو قريب خالي جه تاني؟
كانت فطنة الذكاء، لا يسهل خداعها، لذا راوغها في رده:
-وأنا هعرف منين؟

ضاقت نظراتها وهي تزيد من ضغطها عليه لتكشف سبب مجيئه المريب:
-طب عيني في عينك كده؟
من الغباء أن يترك فرصته معها تضيع سدى، لهذا استغل تميم عرضها السخي، وأسبل عينيه نحوها قائلاً بابتسامةٍ عذبة:
-هو أنا أطول أبص في عينيكي الحلوين دول؟!
خجلت من طريقة تحديقه بها، وتجاوزته لتقول في عبوسٍ زائف:
-إنت بياع شاطر على فكرة، أنا مش عارف أخد معاك لا حق ولا باطل.
أدار رأسه ناحيتها ليتبع حركتها، وادعى البراءة قائلاً:.

-ما هو لو في حاجة أنا هاقول على طول.
اغتاظت من محاولته التذاكي عليها، واستفزته بقولها المتعمد:
-ماشي، طيب فرصة إنك هنا عشان تاخد الشبكة بتاعتك.
بقيت ابتسامته مشرقة على وجهه، واعترض في لباقةٍ:
-لأ خليها شوية.
زوت ما بين حاجبيها قائلة بعنادٍ:
-هترجع في كلامك معايا؟ إنت وعدتني.
صعد إلى البسطة الواقفة عليها، وأكد لها بتعابيرٍ مسترخية:
-وأنا عند كلامي، بس تفتكري لو دخلت على أمي بعلبة الشبكة هتعمل إيه؟

نظرت إليه نظرة حائرة، فتابع موضحًا:
-أقل حاجة هتقلب الدنيا، ويجي في بالها إننا فركشنا لا سمح الله، وهتعكنن عليا، وهتبقى ليلة نكد على الكل.
رفعت حاجبها للأعلى مرددة:
-للدرجادي؟!
أومأ برأسه قائلاً في لهجةٍ جمعت بين الجد والهزل:
-أه، إنتي متعرفيش أمي، ربنا ما يجيب لا هم ولا غم علينا.
ضاقت عينيها بشكٍ وهي تعقب عليه:
-ماشي، هصدقك.
من جديد أسبل عينيه اللامعتين ناحيتها متسائلاً برجاءٍ:.

-مش ناوية تحني عليا ونقرب البعيد؟
رمقته بنظرة مترفعة قبل أن توجز في ردها:
-بعدين.
رفع كفيه في الهواء قائلاً بنبرة غير ممانعة:
-أنا مستني، طالما في الآخر هنكون سوا.
بدأت في الابتعاد عنه، والاقتراب من باب منزلها وهي تخبره ممازحة:
-ما احنا مع بعض أهوو.
قال بنبرةٍ ذات مغزى وهو يستند بيده على الدرابزين:
-أيوه، بس أنا طمعان نقرب أكتر كمان.

طنين خفقات قلبها المتلاحقة كاد يصم أذنيها، تمالكت نفسها، وادعت عدم تأثرها، لتقوم بدس المفتاح في قفله بالباب، استدارت ناحيته، وقالت وهي تدفع الكتلة الخشبية لتتوارى خلفها:
-يبقى ادعي بذمة.
سلط كل نظراته عليها، وهتف يُكلمها في لهفةٍ مغلفة بالشوق:
-ده أنا مش هاقوم من على سجادة الصلاة!
لم تخبئ ابتسامتها الناعمة وهي تقول بنبرةٍ موحية:
-هيبان.
هلل في صوتٍ غير مرتفع، ويداه مرفوعتان للأعلى كأنما يدعو:.

-يا مهون يا رب.
ودعته فيروزة بنظرة ضاحكة من عينيها، لتظل تلك الذكرى الجميلة حيّة في ذهنه، طوال الساعات القادمة من يومه المشحون بالكثير من المستجدات الواجب عليه تنفيذها، للذود عن أقرب الأحباء إليه...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة