قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الأول

تهادت في خطواتها وهي تواصل التقدم للأمام، إلى حيث أشار لها عند الطاولة المستديرة المقاربة للشاطئ، قبيل المغرب، سبقها بخطوتين ليتمكن من إزاحة مقعدها قليلاً كنوعٍ من اللباقة حتى تجلس عليه، فابتسمت في رقةٍ لتهذيبه، تحرك بعدها وجلس إلى مقابلها. دقيقة من الصمت سادت بينهما قبل أن تقطعها ريم متسائلة:
-مش هاتقولي جايبني هنا ليه يا ماهر بيه؟

أسند الأخير متعلقاته على سطح الطاولة، وقال بوجهٍ تزينه ابتسامة عذبة:
-عشان نتكلم على راحتنا.
ثم طلب منها بجدية:
-وأتمنى نشيل الرسميات بينا.
لم تبدُ مرحبة بتلك الفكرة، فاكتفت بالصمت لبعض الوقت، وتطلعت بعيدًا عن وجهه، نحو زرقة المياه الداكنة. حاول ماهر تجاذب أطراف الحديث معها فاستطرد مجددًا:
-إنتي عارفة إن أمر فيروزة يهمني، باعتبرها زي أختي علا، واللي مرت بيه مكانش هين، وخصوصًا إن صاحبنا كان آ...

ملّت من تكراره لنفس الحجج المستهلكة كلما طلب الالتقاء بها، لذا تلك المرة لم تتحمل تبريره لرؤيتها، وقاطعته بصوتٍ ثابت، وتعابير وجه كانت تميل للرسمية:.

- ماهر بيه حضرتك وضحتلي الأسباب كلها قبل كده، وأنا كتبتها في المفكرة بتاعتي، وحقيقي مقدرش أفاتح المريضة بتاعتي في أسرارها بدون ما تكون هي مستعدة لده، وفي نفس الوقت مقدرش أطلع أسرارها لحضرتك لمجرد إنك عايز تطمن عليها، وإن كنت حضرتك مش واثق فيا، وحاسس إنيي مقصرة معاها يبقى تقدر تشوف بديل.
شعر بالحرج لانكشاف أمره، وحمحم محاولاً تلطيف الموقف:
-مش كده خالص، بالعكس أنا مبسوط إنها معاكي.

حملقت فيه بنظراتٍ مشككة وهي تسأله:
-طيب، أومال في إيه؟
أخبرها دون احترازٍ، وبتجريد اسمها من أي لقب يمكن أن يبقى الحاجز الوهمي بينهما قائمًا:
- ريم بصراحة كده أنا باستريح للكلام معاكي، وجايز موضوع فيروزة ده حجتي عشان أعرف أشوفك، بدل ما ترفضي.
تفاجأت من اعترافه، واحتفظت بملامح وجهٍ غير مقروءة حينما ردت متسائلة بهدوءٍ:
-وإيه اللي يخليني أرفض؟
قال مبتسمًا في بلاهة:
-مش عارف.

اكتفت بتلك الابتسامة الحمقاء، ولم تلاحقه بأسئلتها، ثم نظرت حولها في غير وجهة محددة، إلى أن توقفت عيناها على الأمواج، كأنما تتأمل حركتها المتتابعة، شتت نظراتها عنها حينما أردف يسألها:
-تحبي تشربي إيه؟
اعتذرت بلباقةٍ:
-مش عايزة، شكرًا.
ألح عليها بلطفٍ:
-يبقى إنتي زعلانة مني.
صارحته بما يختلج صدرها الآن من مشاعر مزعوجة:
-لأ، بس محبش أحس إن في حدد مقلل مني.
من تلقاء نفسه اعتذر منها بشدةٍ:.

-وأنا استحالة أعمل كده، وحقك عليا لو كنت ضايقتك من غير قصد.
التوت شفتاها ببسمةٍ صغيرة، وقالت وهي تومئ برأسها:
-اعتذارك مقبول.
استرخى في جلسته، وأصر عليها بسؤاله؛ ولكن تلك المرة بعينين لامعتين في اهتمامٍ كبير:
-طب تمام، ها تشربي إيه بقى؟

لليوم الرابع على التوالي تأتي في نفس موعدها، وتسير في نفس الشارع بثيابها السوداء لتتجه إلى دكانها، حينها فقط يشعر وكأن يومه قد بدأ بوجودها، فيزداد نشاطًا، ولا تفارق البسمة محياه. اضطر تميم أن يرضخ لتعليمات أبيه، وألا يبارح مكانه سوى عند الضرورة القصوى، منعًا للقيل والقال، في مجتمع يستسهل نشر الشائعات بدلاً من تحري الدقة، وإيقاف النميمة. بصوته الجهوري نادى على أحد عماله، ومستخدمًا يده في الإشارة أيضًا:.

-خد ياض هنا.
امتثل لأمره، وقال صاغرًا:
-نعم يا معلم.
لف تميم ذراعه حول كتفي العامل، ومال على أذنه يُحادثه، بصوتٍ تعمد خفضه:
-هتعدي على دكان الأبلة، بتاع لوازم السبوع، وتاخد واد معاك، تشوفوا طلبتها، إن كان في حاجة تتروق ولا تتنقل، وتقولها الحاج بدير هو اللي باعتني.
أومأ برأسه في طاعة، وغمغم بجدية:
-ماشي الكلام.
ربت على جانب ذراعه بضعة مرات هاتفًا بلهجةٍ احتفظت بصرامتها، دون أن يرخي ذراعه عن كتفيه:.

-وماتخلوهاش تعمل قشاية، مفهوم؟
لم يعارضه العامل، بل أظهر له انصياعه الكامل:
-أوامرك يا ريسنا.
ربتة أخرى خفيفة على جانب ذراعه قبل أن يحرره وهو يوصيه:
-يالا أوام، وماتسيبوهاش إلا لما تقفل.
همَّ العامل بالركض في اتجاه الطريق المؤدي إليها وهو يردد:
-عينيا.
فرك تميم كفيه معًا في انتشاء، وعيناه معلقتان في الطريق أمامه، ليهمهم مع نفسه وهو يدور بنظراته في المكان متتبعًا خطوات العامل:.

-على الأقل كده أطمن عليكي، ولو حتى من بعيد لبعيد.
حاد بنظراته عنه، ليلتفت نحو أبيه الذي ناداه:
- تميم!
هلل معلنًا استجابته له:
-جايلك يا حاج.
توجس من احتمالية ملاحظته لاهتمامه الزائد بمتابعة ما يدور في دكانها، فجاهد ألا يبدو مرتبكًا أمامه، لذا دنا منه حتى وقف قبالته، وانتظر سؤاله التالي له، متوقعًا أن يكون عنها؛ لكن لحسن حظه سأله:
-إيه الأخبار عندك يا تميم؟ الرجالة جهزوا النقلة؟
هز رأسه قائلاً بارتياحٍ:.

-كله تمام يا حاج.
استحسن بدير اجتهاده في عمله، وتابع متسائلاً:
-حلو، عملت إيه في دكان العجلاتي؟
بعد لحظة من التفكير، استخدم تميم يده في التوضيح حينما جاوبه:
-كلمنا المهندس، وخد المقاسات وهيعرض على هيثم الرسمة.
زم شفتيه هاتفًا وهو يستدير ليجلس على مقعده الخشبي:
-خير.
سبقه تميم في خطواته ليقربه منه، فربت والده على جانب كتفه امتنانًا من صنيعه، انتظر ريثما جلس الأخير، وسحب كرسيه إلى جواره مستطردًا:.

-صحيح، كنت عايزك في موضوع يا حاج.
تحولت كامل أنظار بدير إليه، قبل أن يستقيم بكتفيه سامحًا له بالكلام:
-قول.
تنحنح ممهدًا لموضوعه:
-دلوقتي هيثم فاتحني من مده قريبة، في موضوع شرا شقتي القديمة.
تعقدت ملامحه متسائلاً بدهشة:
-شقتك؟!
أعاد سرد الموقف بصورة أخرى مُبسطة:
-هو مش شرا على أد ما نقول عليه إنه بدل!
طالعه بنظراتٍ جادة وهو يكرر عليه في صيغة تساؤلية:
-أنا مش فاهم حاجة، يعني مالها شقتك؟ عايزها منك ليه؟

ببساطةٍ علل له الأسباب التي قصها عليه ابن خالته:
-هو عاوز ينقل فيها مع مراته، ويبع بيت أمه، مش عايز يفضل فيه، وأنا اقترحت عليه نبدل.
استغرب بدير كثيرًا مما سمعه، ولسان حاله يتساءل:
-ليه كده؟
جاوبه كذلك في حيرة:
-معرفش دماغه فيها إيه.
بهزات متعاقبة من رأسه أردف في صوتٍ جاد:
-عمومًا أنا هتكلم معاه بعدين، ويالا عشان نشوف ورانا إيه، الشغل مابيستناش حد.
نهض تميم من على كرسيه أولاً وهو يرد، ليحمله بعدها بكفه:.

-حاضر يا حاج.

تأكدت من ضبط الأكمام معًا، قبل أن تطوي القميص النظيف، وتضعه فوق كومة الملابس المرتبة، تلك التي انتهت من طيها وتنظيمها. أدارت همسة رأسها في اتجاه زوجها الجالس على الطرف الآخر من الفراش، يتطلع إلى التلفاز بنظراتٍ شاردة، مدت يدها وأمسكت بقطعة أخرى من الثياب، وسألته بحذرٍ:
-برضوه مش عايز تروح تشوفها؟
فهم أنها تقصد والدته دون أن تفسر ذلك علنًا، فقال بتعابيرٍ جامدة:
-لأ.
تنهدت تخبره بما يُقارب الرجاء:.

-يا هيثم مهما كان دي أمك، وأكيد زيارتك ليها هتفرحها.
التفت يحدجها بنظرة منذرة وهو يشدد عليها:
-قفلي على الموضوع ده يا همسة، مش عايز أتكلم فيه تاني.
تأملت وجهه المتجهم، فأدركت أنه لا يمزح، لذا لم تستمر في محاولتها اليائسة لإقناعها بالعكس، وهسهست في استسلام:
-براحتك.
غيَّر زوجها من مجرى الحوار متسائلاً بصوتٍ لان قليلاً:
-ميعادك إمتى مع الدكتور؟
بعد زفيرٍ سريع أجابته مستفيضة في التوضيح:.

-بكرة على المغرب، اتفقت مع فيروزة تعدي عليا ونروح سوا.
لم تتبدل ملامحه المتجهمة عندما علق:
-اعتذريلها.
سألته باسترابةٍ:
-ليه؟ في حاجة؟
جاوبها بتعابيرٍ حاول أن تكون مسترخية قليلاً:
-هاجي معاكي، فمالوش لازمة نخليها تيجي.
ابتسمت لاهتمامه، وقالت في استحسان:
-ماشي يا حبيبي، أنا هاعرفها الصبح، عشان برضوه لو وراها تخلصها، افتتاح محلها قرب.
قال وهو يعاود التحديق في شاشة التلفاز:
-ربنا معاها.

بمنديلها الورقي مسحت العرق المتجمع عند مقدمة رأسها، بعد أن أغلقت الباب خلفها، لتتجه بعدها نحو غرفتها، وتضع آخر مجموعة من الأكياس الممتلئة بالنواقص أرضًا، تبعتها والدتها وهي تجفف كلتا يديها بمنشفة المطبخ القديمة، ألقت عليها نظرة ماسحة، وسألتها بنبرة مهتمة:
-عملتي إيه النهاردة؟
ابتسمت رغم التعب، وأجابتها:
-الحمدلله، هانت، معدتش إلا حاجة بسيطة.
سألتها بحاجبين معقودين:
-هتنزلي تاني؟

فركت فيروزة جبينها بيدها، وحللت من عقدة حجابها الأسود قائلة بزفيرٍ مرهق:
-لأ، مش مستاهلة.
ردت في حبورٍ:
-على خيرة الله، كمان أختك اتصلت.
أخرجت فيروزة منامتها من الرف الأوسط بضلفة الدولاب، ووجهت أنظارها نحو والدتها تسألها:
-هي كويسة؟
هزت آمنة رأسها إيجابًا وهي ترد:
-أيوه، بتقولك هاتروح مع جوزها عند الدكتور بكرة، فمافيش داعي تعطلي نفسك.
ردت بعد زفير متعب:.

-أوكي، طالما مش هتبقى لواحدها، وأنا كمان هاستغل الوقت ده، واشتري الكام حاجة اللي نقصاني، بحيث أبقى قفلت المحل من كل حاجة.
ابتسمت والدتها معقبة:
-ربنا يعينك يا بنتي، وأنا من بدري هاخد خالك ونطلع على دكتور العلاج الطبيعي، الصراحة الراجل مش متأخر علينا، عامل كل اللي في وسعه عشان خالك يرجع يقف على رجليه.
دعت له بصدقٍ:
-ربنا يجيب الشفا من عنده.
أمنت عليها مرددة:
-يا رب.

تساءلت فيروزة وهي تحمل أشيائها لتتجه إلى الحمام:
-أومال كوكي فين؟
جاوبتها وهي تشير بيدها نحو الخارج:
-أكلت ونامت جمب أبوها.
حررت شعرها المعقود ليتنفس الهواء، وأخبرتها:
-عايزة أبقى أشوف يوم كده أفسحها فيه، حرام هي بقالها كتير محبوسة، ويوم ما بتخرج بندويها يا عند دكتور، يا عند مركز العلاج الطبيعي.
أشفقت عليها عمتها، ورددت في عطفٍ:
-أه والله، غلبانة أوي البت دي...

لكن سرعان ما تبدلت نبرتها للتفاؤل وهي تختتم جملتها:
-بس ربنا عوضها خير بيكي، ما إنتي أختها الكبيرة.
ظهرت ابتسامة صغيرة على ثغرها عندما ردت:
-ربنا يخليكي لينا يا ماما.
تحركت والدتها خلفها، وأضافت:
-صحيح سمعت في التلفزيون إن احتمال الجو يقلب آخر النهار، مش فاهمة كانوا بيتكلموا عن منخفض كده جاي.
علقت عليها بتهكمٍ:.

-هو حد يصدق بتوع الأرصاد يا ماما، ما هو على طول بيقولوا هتطلع برد، نلاقيه حر، هتمطر، منلاقيش ولا نقطة نزلت، سبيها على الله.
رغم عدم اقتناع ابنتها بهذا التحذير إلا أنها أكدت عليها:
-إنتي خلصي بس بدري، وخدي بالك.
قالت كنوعٍ من الواجب:
-ماشي.
أكملت بعدها سيرها نحو الحمام لتغتسل من عناء يومٍ آخر كان مشحونًا بالكثير من المهام، انقضت غالبيتها على خير، وأكسبتها المزيد من الثقة، والشعور بالقدرة على الإنجاز.

هدهدت رضيعها في لطفٍ حذر، حتى يستغرق في نومه الهانئ، بعد أن انتهت من إطعامه. تطلعت إليه هاجر بعينين تعكسان حزنًا عميقًا، لم ترغب أن ينشأ صغيرها على ماضٍ غير مشرف خلفه له والده المُخادع، ربما قد يعايره به أحدهم عندما يشتد عوده، ويعي ما يدور حوله. أرجأت التفكير في مستقبله المجهول مؤقتًا لتحملق في وجه والدتها التي أطلت عليها متسائلة في محبة عظيمة:
-حبيب قلبي نام؟
ردت بابتسامة هادئة:
-أه الحمدلله.

أراحت نصفها السفلي على الفراش، لتبدو في مواجهة ابنتها، ثم استطردت تسألها، وهي تشملها بنظراتها المهتمة:
-فكرتي يا حبيبتي في الموضوع إياه؟
من البادرة الأولى لم يتفقه ذهنها لمقصدها، فردت متسائلة:
-موضوع إيه؟
أجابت بابتسامة عريضة، وهي تربت على ركبتها، كنوعٍ من إظهار الألفة لها:
- سراج العريس، أرد على أبوكي وأقوله إيه؟
اكتسبت ملامحها طابعًا منزعجًا، وقالت في ضيقٍ لم تخفه:
-لسه بفكر يامه...

ما لبث أن فقدت انضباط أعصابها، وسألتها بألمٍ محسوس في صوتها، وهي بالكاد على وشك الانخراط في البكاء:
-هو إنتو مستعجلين على إيه؟ للدرجادي أعدتي معاكو مضيقاكم؟ فعايزين تجوزوني؟
استنكرت ونيسة محدودية تفكيرها، وهتفت مبررة دوافعها:
-حاشا لله، ده بيتك يا هبلة، وقسمًا بالله أبوكي ما نطق بكلمة، ده أنا من نفسي اللي جتلك، وقولت أزن عليكي عشان تاخدي الموضوع بجدية...

ثم مدت يدها لتمسح عبراتها المنسابة على خدها، وتابعت بحنوٍ أمومي:
-ده إن كان على أبوكي عايزك ماتفرقيش حضنه لثانية، ده احنا اتعلقنا ب سلطان الصغير أكتر منك.
سحبت هاجر نفسًا عميقًا لتثبط به نوبة البكاء التي هاجمتها، ربما بسبب وضعها الحرج، فأصبحت أكثر حساسية عن ذي قبل، مدت ذراعها قليلاً لتلتقط منشفة ورقية من علبة المناديل الموضوعة على الكومود، نفخت فيها أنفها، واقتضبت قائلة:
-ربنا ييسر.

استمرت ونيسة في تهوين الأمر عليها بترديدها:
-وإنتي بكرة لما ابنك يكبر هيبقى نفسك تفرحي بيه، وتجوزيه النهاردة قبل بكرة، وقتها هتحسي بيا، وتفتكريني، ما هو فرحتنا بعيالنا ماتتصوفش.
نظرت إليها في صمتٍ، فأتمت والدتها كلامها بحذرٍ:
-بصي أنا مش هضغط عليكي، لما توصلي لرأي ابقي عرفيني، المهم عندي تبقي مرتاحة ومتهنية في حياتك.
حررت زفرة خانقة من صدرها وهي تعقب عليها:
-إن شاءالله.

غادرت بعدها ونيسة الغرفة، وعينا هاجر تتابعاها في وجومٍ، لن تنكر أنها ترغب في تذوق طعم السعادة، في استعادة ما كانت تتنعم به من دلالٍ وغنج؛ لكنها في نفس الوقت تخشى من التجربة، خاصة مع رواسب العداوة القديمة؛ وإن كانت ترى –على الرغم من غرابة الوضع- مدى الانسجام والألفة بين شقيقها و سراج، وذاك أكثر ما يثير الحيرة والتساؤل في عقلها المزدحم بمخاوفه!

بضغطة شبه قوية من ركبته على الحقيبة الجلدية العتيقة، الموضوعة على أرضية غرفة جده، تمكن تميم من جر السحَّاب في مجراه بعد أن علِق لأكثر من مرة، وغلقها. استقام بعدها واقفًا، وزحزح الحقيبة –الثقيلة نسبيًا- من طريقه ليتركها إلى جوار الدولاب الخشبي، ثم استدار ناظرًا إلى جده مخاطبًا إياه:
-كده أنا عبيت كل الحاجات اللي إنت مش محتاجها في الشنطة دي، عايزني أوديها فين بعد كده؟

حرك سلطان حبات مسبحته بحركة ثابتة بكلتا يديه، ورد على مهلٍ:
-طلعهم بقى لله.
ارتفع حاجبا حفيده للأعلى في دهشة وهو ينطق بتلقائية:
-كلهم؟
دون إعادة تفكير أكد عليه:
-أه، هاعمل بيهم إيه؟ مش جايز يكون حد محتاجهم أكتر مني؟
بدا مبتسمًا في رضا وهو يكمل باقي كلامه:
-وبعدين خليني أخد ثواب إدخال البهجة على مؤمن.

أحس تميم بالفخر من نزعته الدينية المترسخة فيه، دومًا ينشد في جلوسه معه اكتساب أو تجديد عادة طيبة قد غفل عنها، لالتهائه الدائم بالعمل ومشكلاته. تقدم ناحيته، وانحنى على أعلى رأسه ليقبله منها قائلاً في حبورٍ شديد:
-ربنا يباركلنا في عمرك يا جدي.
تطلع إليه سلطان بمحبةٍ كبيرة، وسأله وهو يمسح برفقٍ على جانب ذراعه:
-قولي إنت أحوالك إيه؟
اعتدل واقفًا، وأخبره:
-أنا تمام الحمدلله.

لثانية من الزمن صمت دون أن تحيد نظراته عنه، ثم سأله موجزًا، وبابتسامةٍ صغيرة ذات مغزى على محياه:
-وبنتنا؟
وكأن مارد الحب قد انتفض من مصباحه السحري ليستفيض في التعبير عن مشاعرها، فباح له دون ترددٍ أو خوف، وبريق يشع بالأمل يتراقص في حدقتيه:
-ياه! مش متخيل لما بشوفها قصاد عيني بيحصلي إيه..
تنهيدات –ويالها من تنهيدات- خرجت من صدره خلال وصفه العميق:.

-بحس إن الدنيا كلها بتضحك، وقلبي من جوايا عايز يطير، ويروح لحد عندها.
قهقه الجد ضاحكًا قبل أن يعلق بمرحٍ:
-إنت حالتك بقت صعب أوي.
شاركه بالابتسام وهو يرجوه بما بدا مزاحًا:
-أه والله يا جدي، ما تكثف الدعاء كده عشان ربنا يكرمني بسرعة.
بثقةٍ تامة ردد عليه:
-قولتلك قبل كده، كل شيء بأوان إلى أن يأذن الله.
دون تشكيكٍ صدّق قائلاً:
-ونعم بالله.

سعلة خفيفة خرجت من جوف سلطان، تبعها نهوضه من مقعده، ليمشي بتؤدة متجهًا نحو فراشه، استلقى عليه، وحفيده من خلفه يدثره بالغطاء، أدار جده وجهه ناحيته، وقال له:
-روح مدد في فرشتك، وراك من بكرة هم كبير، أبوك قالي على النقلة الجديدة.
حك تميم مؤخرة عنقه بأصابعه، ليخفف من التيبس العالق في فقراته، وهو يُحادثه بتذمرٍ ظاهر كذلك على قسماته:.

-أيوه، رحلة بحرية، والقبطان بتاعها حنبلي أوي، ده ناقص يعمل كشف هيئة للخضار والفاكهة، بس لو ظبطنا معاه الحاجة على الشعرة، هنرزق من وسع.
بدا المجهود المبذول في عملهم شاقًا، لذا دعا له بصدقٍ:
-ربنا يوسع عليكم من رزقه.
اعترض عليه تميم بعبوسٍ، وهو يلقي عليه نظرة تحمل مدلولاً بعينه:
-بس كده؟
كان مستمتعًا بما يعايشه من مشاعر نقية، فراح يتذاكى عليه قائلاً:
-ويكرمك يا واد ببنت الحلال.

أشار تميم بيديه في الهواء وهو يُلح عليه:
-الأبلة يا جدي، خلي الدعاء واضح ومباشر.
بصعوبة كتم سلطان ضحكته السعيدة، وزجره بحدةٍ كان يعلم جيدًا أن حفيده لن يسيء فهمها:
-إنت هتتأمر كمان؟ طفي النور، وخليني أنام.
نكس تميم رأسه في حزنٍ مفتعل، وقال في طاعة:
-ماشي يا جدي، تصبح على خير.
تثاءب الجد قائلاً بنبرة انخفضت بشكلٍ ملحوظ:
-وإنت من أهله...

مشى تميم ناحية باب الغرفة ليتفاجأ بجده يضيف من خلفه بصوتٍ كان مسموعًا إليه:
-ويجعلها من نصيبك يا رب.
ابتهجت أساريره، وقفز قلبه في فرحةٍ، تتضاعف لأقصاها كلما نبضت الرغبة بداخله.

ظل مرابطًا أمام باب الدكان الأمامي، مركزًا بصره على المارة، ومنتظرًا عودة أحد أصحابه ليسلم إليهم الأمانة التي تركها المحامي لديه، فالأخير قد أكمل الناقص من الأوراق القانونية الخاصة بدكان فيروزة، من أجل استخراج ترخيص مزاولة المهنة، السجل التجاري، وأيضًا البطاقة الضريبية. كانت حركة المارة شبه محدودة، نظرًا لسوء الأحوال الجوية، وبالتالي سعت الغالبية لترك الشارع، والمكوث في المنازل من أجل الاحتماء من الهواء الشديد.

هب العامل واقفًا على قدميه، وأسرع نحو سيارة تميم حينما رأه يصفها في الزقاق الضيق، توقف أمام مقدمتها، وبأنفاس شبه لاهثة ناداه:
-يا معلم! يا معلم.
ترجل تميم من سيارته، ونظر إليه باسترابةٍ وهو يسأله:
-في إيه؟
للحظة انتابه هاجسًا بحدوث أمر خطير، خاصة مع الاضطراب الحادث في الطقس، لهذا لاحقه متسائلاً في جزعٍ انعكس على ملامحه:
-حد حصله حاجة؟
رد نافيًا ليطمئنه على الفور:.

-لا يا معلم، كله تمام، واحنا مأمنين على البضاعة.
هتف به بخشونةٍ:
-أومال في إيه؟
امتدت يده الممسكة بالحافظة البلاستيكية إليه، وواصل إخباره:
-المحامي جاب الورق ده، ووصاني أسلمه بالإيد ليك أو للحاج بدير.
أخذه منه تميم، وتفقد محتواه على عجالة قبل أن يقول في هدوء:
-كويس...
لم ترتخِ ملامحه وهو يتابع إلقاء أوامره على العامل:
-قفل الدكان وهاتلي المفاتيح، وخلي باقي العمال تروح، النهاردة أجازة على حسابي.

وكأنه منحه جائزة استثنائية بكلامه التلقائي، فافترت شفتا العامل عن ابتسامة عريضة وهو يمتدح كرمه:
-تعيشلنا يا معلم، ربنا يخليك لينا.
انصرف بعدها نحو الدكان، وبقي تميم في مكانه حائرًا، أدار رأسه ناحية الطريق الآخر المؤدي لدكانها، وتطلع للفراغ الممدود على مرمى بصره مخاطبًا نفسه:
-أنا باصص على محلها من الصبح كان مقفول، معتقدش هتفتح في الجو ده.

راوده للحظة فكرة استحسنها للغاية، بل وأراد بالفعل تحقيقها في التو، لما لا يزورها ويُقدم لها الأوراق؟ أليست حجة مناسبة ومنطقية، وفي نفس الآن لا تدعو للاسترابة؟ لم يفكر مرتين، كان قد حسم أمره، واستقر خلف عجلة القيادة، وتعابير وجهه زاخرة بعلامات الحب.

بمهارة قيادية عالية، تمكن تميم من تفادي بعض السائقين المسرعين في الشارع الرئيسي، رغم عدم عمل المكابح بكامل طاقتها، جراء تجمع مياه الأمطار في برك عميقة، زادت كذلك من صعوبة سير المارة في الطرقات. بحث عن بقعة شاغرة على مقربة من بيتها ليوقف سيارته؛ لكن للأسف تعذر عليه هذا وسط تواجد عشرات السيارات المصفوفة. ركز نظراته جيدًا فوجد مساحة بالكاد ستكون كافية لإيقاف سيارته، أسرع في اتجاهها ليبلغها قبل أن يصل أحدهم إليها قبله، ابتسامة انتصارٍ ظهرت على ثغره عندما نجح في ركنها.

استدار محدقًا في البيت الذي أصبح يبعد عنه بعشرات الأمتار بنظرة العاشق الواله، كان من المحمود أنه تواجد على مسافة بعيدة، وإلا لافتضح أمره! استطاع أن يلمح من زاويته حينما أخفض رأسه خليل وشقيقته، وتلك الصغيرة رقية يترجلون من سيارة أجرة، حقًا رؤية شخص ما من طرف من يحب تطرب النفس بقدرٍ جميل؛ كأنما قد التقى بشيء منه! جعل خطواته سريعة إلى حدٍ ما ليلحق بهم، كان سائق العربة قد أنزل المقعد المدولب من الصندوق الخلفي. تدخل تميم قائلاً:.

-الجماعة تبعي، تسلم يا اسطا.
ابتسمت آمنة لرؤيته، ورحبت به وهي تخرج من حافظة نقودها الأجرة:
-إيه الصدفة الحلوة دي؟
رد مجاملاً:
-ده من حظي الحلو إني أقابلكم.
وقبل أن تفكر آمنة في إعطاء السائق أجرته، تولى عنها هذا، مانحًا إياه أكثر مما يستحق، ليظهر الأخير امتنانه الكبير بسخائه:
-متشكر يا باشا.
شكرته في حرجٍ بادي عليها:
-تعبت نفسك ليه بس يا ابني؟ ده أنا كنت بأطلع الفلوس وأحاسبه.
رد مبتسمًا:.

-دي حاجة بسيطة، مش قضية يعني.
التفت تميم بعدها لينظر للصغيرة التي حاوطته من خصره قائلة بسعادة:
-عمو.
ربت على كتفها، ومسد بحنوٍ على رأسها وهو يبادلها الترحيب الودود:
-إزيك يا حلوة؟ عاملة إيه؟
هتفت في مرح وهي تنظر إليه ببراءة:
-الحمدلله كويسة.
حول تميم أنظاره في اتجاه أبيها يسأله في اهتمامٍ:
-أخبارك إيه يا عم خليل؟
بتلعثمٍ حاول التغلب عليه أجابه:
-الحم، د لله.

رد عليه تميم وهو يتجه إليه ليعاونه على الاستقرار في مقعده:
-يستاهل الحمد، شايف حالتك أفضل بكتير.
علقت آمنة في حبورٍ:
-لأ ولسه، لما نواظب على العلاج، مش هيحتاج الكرسي إلا قليل أوي.

دفع تميم المقعد إلى مدخل البيت الطويل، ومنه اتجه إلى ما قبل الدرج بمسافة خطوة، ليجد بعدها خليل يشير إليه، فحدق فيه بغرابةٍ قبل أن يرى آمنة تتقدم في خطواتها لتمنحه عكازًا طبيًا لم يكن قد لاحظه سابقًا، ناولته لشقيقها، ليتعاونا معًا في مساعدته على الوقوف على قدميه. من جديد تدخل تميم لمد يد العون له وهو يوجه ذراع خليل نحو الدرابزون ليقبض عليه، كوسيلة مدعمة لتثبيته خلال صعوده:
-اسند عليا، أنا هطلعك.

لم يضجر من تباطؤ خطواته أثناء محاولة خليل تعويد قدميه شبه العاجزتين على استعادة قدرتهما على المشي، ليدرك أن هناك نعمة أساسية قد يغفل المرء عن شكر المولى عليها، استمر في دعمه لئلا تلفت ساقه حول الأخرى ويتعثر، فينكفئ على وجهه حتى بلغ الدور الأول، هناك وجد آمنة تنتظرها ولسانها يلهج بعبارات الشكر:
-كتر خيرك يا ابني، جمايلك دايمًا مغرقانا.
بعتابٍ ودود خاطبها تميم:.

-مافيش بين الأهل جمايل يا حاجة، واحنا عيلة واحدة.
ردت مؤكدة بمحبةٍ:
-طبعًا، ده احنا نتشرف بيكم.
ركز تميم نظره على خليل الذي أوشك على بلوغ عتبة المنزل، وسأله في اهتمامٍ:
-إنت كويس يا عم خليل؟ معلش ضغطنا عليك النهاردة.
هز رأسه قائلاً بأنفاس متعبة، وبصوتٍ كان متقطعًا:
-أه، الحم، د لله، أدي، ني بت، عود.
شد من أزره قائلاً:
-ربنا يقويك، إنت أدها وإدود.

تأكد من إدخاله المنزل، حينئذ قربت آمنة الكرسي المدولب منه، ليجلس وهو يزفر مطولاً نتيجة المجهود المضاعف الذي بذله، بعدها ضغط خليل على زر تحريك مقعده ليتجه إلى الداخل، في حين اختطف تميم نظرة سريعة باحثة عن طاووسه بالبهو المتسع؛ لكن لسوء حظه لم تكن في الأرجاء. عاد ليحملق في وجه والدتها التي سألتها:
-أجيبلك تشرب إيه؟
رفض بتهذيبٍ:
-تسلمي يا حاجة مالوش لزوم تتعبي نفسك...

ثم مد يده بالحافظة المطوية، وتابع معللاً سبب وجوده:
-ده أنا كنت جايب الورق ده للأبلة.
سألته في استغرابٍ وهي تأخذه منه:
-ورق إيه؟
أشار بيده موضحًا:
-تراخيص المحل بتاعها، المحامي جابها الدكان عندنا من شوية، وخوفت تتبهدل.
راحت تشكره في امتنانٍ يستحقه:
-والله ما عارفين نقولك إيه، داوشينكم معانا وآ...
قاطعها بطريقته المعاتبة قبل أن تُنهي جملتها:
-تاني يا حاجة؟ قولنا إيه؟
ابتسمت وهي ترد:.

-خلاص مش هتكلم، بس لازمًا تشرب حاجة، مسافة ما ترتاح من السلم هاكون عملالك عصير طازة.
كنوعٍ من المجاملة، وربما لرغبة خفية في نفسه، استطرد موافقًا:
-مش هكسفك.
انتقى أريكة عند الركن، وعلى مقربة من باب المنزل ليجلس عليها، حل الإحباط على ملامحه عندما تأكد من عدم وجودها بالمنزل، تصنع الابتسام وقد رأى رقية تُقبل عليه متسائلة:
-عمو، إنت مش بتيجي تزورنا ليه؟
أجابها بعفويةٍ:
-ما أنا موجود أهوو.

جلست على الأريكة المجاورة له، واسترسلت بتلقائية طفولية وهي تشير بكفيها:
-عارف، بكرة هيجيلنا بيبي صغنن أد كده.
برزت عيناه في صدمةٍ، وردد بخوفٍ دب في قلبه:
-بيبي؟
لوهلةٍ اعتقد أنها تتحدث عن وجود جنين ينمو في أحشاء فيروزة، مما قد يربك كافة الحسابات، كادت الهواجس تتفشى في رأسه لولا أن أوضحت له الصغيرة:
-أه، همسة هاتيجب واحد ألعب بيه.
تنفس الصعداء بارتياحٍ، وهسهس مع نفسه:
-يا شيخة خضتيني.

لم ينكر أن قلبه اطمئن للنبأ الصحيح؛ لكن ذلك لا يعني كرهه لرؤيتها تحظى بمولود تختبر معه أعظم إحساسٍ خلقت به الأنثى، ما كان يدور في رأسه في هذه اللحظة أن الجديد من العقبات قد يرجئ شروعه في خطبها، ويؤخره لبعض الوقت. انتبه تميم للصغيرة التي كانت ما تزال تنظر إليه؛ وكأنها تنتظر تعليقه، فأردف قائلاً:
-وماله يا حلوة، إنتي تاخدي بالك منه.
ردت عليه بمرحٍ وهي تشير إلى فمها:
-هاكله في بؤه، كدهون.

تحولت أنظارهما نحو الباب الذي فتح، وأطلت منه فيروزة مُلقية بالتحية:
-السلام عليكم.
خفق الفؤاد لرؤيتها بكامل الوجاهة، والنعومة، والجمال المميز الذي انحصر في شخصها؛ كأنما لا تبصر عيناه سواها من النساء، قفز واقفًا من مقعده، ورد عليها مبتسمًا ابتسامة بلهاء:
-وعليكم السلام، إزيك يا أبلة؟
دنت منه فيروزة ترمقه بنظرة غريبة، قبل أن تسأله بلهجةٍ مالت للرسمية قليلاً:
-خير يا معلم في حاجة؟

كانت تخاطبه بثباتٍ وهي تنظر في عينيه، ومع هذا كان مرتبكًا، متخبطًا، يبحث عن الكلمات المناسبة لينطق بها، بدا وكأنه بحاجة لفسحة من الزمن ليستجمع شتات نفسه أمام سحر النظرات الفيروزية الآسرة. قطع تواصلهما البصري الذي دام لثوانٍ صوت آمنة الهاتف بفزعٍ:
-كويس إنك رجعتي يا فيروزة، ده الجو قلب هوا جامد.
استدارت ناظرة إلى والدتها التي تابعت وهي تقدم المشروب للضيف:
-اتفضل يا ابني.
رد وهو يتناوله منها:.

-شكرًا يا حاجة.
سحبت آمنة ابنتها للجانب لتهمس لها بقلقٍ:
-عايزين نلم الغسيل بدل ما يطير، ونقفل الشبابيك كلها.
ردت بإيماءة من رأسها:
-حاضر يا ماما.
اعتذرت آمنة من تميم، وهي تحاول الابتسام رغم التوتر الظاهر على محياها:
-متأخذناش يا ابني، خد راحتك، احنا بس بنأمن على البيت بدل ما الهوا والمطرة يبهدلوا الدنيا.
قال في تفهمٍ:
-ولا يهمك.

انسحبت من أمامه لتتجه نحو الشرفة القريبة حتى تجمع الثياب المعلقة على الحبال قبل أن تنتزعها الرياح العاصفة، بينما توجهت فيروزة نحو النافذة الموجودة في نهاية البهو لتغلقها؛ لكن لشدة الهواء، عجزت عن جمع الضلفتين معًا، بل فقدت القدرة على الإمساك بإحداهما، وظنت أنها ستنخلع لولا أن رأت ذراعًا قويًا –تأتي من ورائها- قد امتدت لتسحبها عكس حركة الرياح العاتية، وبالأخرى ثبت الضلفة الخشبية. سمعت فيروزة صوت تميم من خلفها يردد:.

-دي نوة أكيد.
لم تترك الضلفة كذلك، وتشبثت هي الأخرى بها لتضمها إلى مثيلتها وهي ترد:
-فعلاً نبهوا عليها من إمبارح.

الحق يُقال أنه لولا دعمه لما تمكنت أبدًا من استعادة الضلفة وغلق النافذة دون خسائر. من منظور حسه المرهف في تلك اللحظة، وبعيدًا عن أي أمنيات مؤجلة؛ كانت أقرب ما يكون إليه وهي في كامل وعيها، وإن أولته ظهرها. ففي أقصى أحلامه المستبعد حدوثها الآن، رجا أن يراها مبتسمة، تغازل الضحكة شفتيها، ويداعب البهاء المغري صفحة وجهها؛ لكن أن تحتويها أحضانه، أن يشعر بها بين ذراعيه، كان حقًا يفوق كافة ما اشتاق تحقيقه. تراجع عنها سريعًا، قبل أن تدرك مدى الحرج الذي يُمكن أن تشعر به، إن اكتشفت أنها كانت محاصرة بين ذراعيه، دون أن يلمسها، لم يرغب في إشعارها بالسوء. ترك مسافة خطوتين، وغض بصره عنها رغم اشتياقه للظفر بنظرة أخرى من لؤلؤتيها، فقط لو تسمع صوت القلب الصارخ بحبها...!

لو عجبتكم الأحداث رجاء الدعم بتعليق وشير، شكرًا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة