قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الأربعون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الأربعون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الأربعون

كلما نطق بمثل تلك الكلمات العفوية العذبة، امتلأ قلبها بالمزيد من هذه العاطفة الغريبة تجاهه، خشيت أن يصبح تعلقها به بعد برهةٍ إدمانًا لها، لا تستطيع التخلي عنه، أو حتى الاستغناء عنه، ومع هذا لم تنبذ تلك الأحاسيس، بل فتح باب فؤادها على مصراعيه ليستقبل كل ما يمنحه لها. قاومت فيروزة تأثير حضوره عليها، لتخبره وهي تشير بيدها نحو دكانها:
-احنا وصلنا عند المحل بتاعي.

تلفت تميم حوله، ليتحقق من صدق كلامها، وقال في تجهمٍ مصطنع:
-بالسرعة دي، أنا محستش معاكي لا بالوقت ولا بالسكة.
هزت كتفيها دون أن تعلق، فأوصاها بابتسامته الصغيرة:
-خدي بالك من نفسك.
أدركت فيروزة وهي تتأمله من زاويتها أن وجهه اكتسى بطابع وسامة رجولية مثيرة، ازدردت ريقها، وبادلته الابتسامة معقبة في صوتٍ رقيق:
-وإنت كمان.

عمق من نظراته ناحيتها؛ كأنما يريدها أن تنفذ إلى داخلها، فتستشعر عن طريقها مدى العشق الذي يكنه لها. لم تخبت بسمته وهو يرد في لباقةٍ:
-حاضر.

تسمر في مكانه، رافضًا الحركة أو الابتعاد، إلى أن شرعت في المشي عائدة إلى دكانها وهي تلوح له بيدها، حيئنذ أخذ يسير على مهل، وهو يتراجع بظهره للخلف، دون أن ينتبه جيدًا لخطواته، لذا كاد أن يتعثر في الركام الناتج عن أعمال حفر وصيانة الطريق، حافظ على توازنه قبل أن ينكفئ على وجهه، وهتف في مزاحٍ وهو يفرك مؤخرة عنقه عندما رأها تضحك على تصرفاته الخرقاء:.

-هما عملوا الحفر دي إمتى، لازم الواحد يركز لأحسن يضيع.
اكتفت بإظهار ضحكاتها الرنانة وهي تلج للداخل، فلوح بيده في سلامٍ أخير قبل أن يختفي عن أنظارها، استعادت فيروزة رزانتها، وألقت التحية على مساعدتيها:
-صباح الخير يا بنات.
نهضت إحدى الفتاتين من مكانها لتستقبلها وهي ترد في نبرة وديعة:
-صباح الخير يا أبلة فيروزة.

انتبهت كامل حواسها للقب الذي أصبح مستحبًا لها بسببه، جلست على مكتبها، ولسان حالها يردد بغير صوتٍ مسموع:
-محدش بيعرف يقولها زيه!

راقبته بشيءٍ من الغبطة والسرور، وهي تقف عند أعتاب باب الغرفة للحظاتٍ، قبل أن تتحرك ناحيته، والاعتزاز ينتشر في أوصالها لرؤيته على تلك الحالة المغايرة لما كان عليه في السابق. دنت سعاد أكثر من ابنها، وصاحت تمتدح عزيمته الجديدة:
-إيه النشاط والهمة دي يا فضل، عيني عليك باردة يا ضنايا.
استدار نحوها معلقًا وهو يرتدي الفردة الأخرى من حذائه:.

-عشان أبويا يعرف إني اتغيرت، وبقيت واخد بالي من مصلحة العيلة قبل مصلحتي.
ربتت على كتفه في استحسانٍ، ودعت له بتنهيدة راجية:
-ربنا يحميك لشبابك يا حبيبي.
سوى بيده الأجزاء المتجعدة من جلبابه، وقرب طرفي الياقة معًا ليخبرها بعد ذلك باهتمامٍ تعجبت منه:
-بقولك إيه، ماتعزمي إخواتي البنات وإجوازتهم...
رغم نظرة الاندهاش السائدة على ملامحها إلا أنه تجاهلها ليكمل في هدوءٍ:.

-عاوزين نتلم من تاني، اديلنا زمن ماتجمعناش سوا.
أبدت ترحيبًا واسعًا بالفكرة، فقالت:
-عينيا، هرتب معاهم، وتجمعوا كلكم، وهعملكم ديك رومي إنما إيه حكاية.
احتضن فضل بكفيه وجه والدته، وأحنى رأسه على جبينها يقبله، ليضيف في ودٍ:
-ربنا يديم لمتنا، احنا مالناش إلا بعض.

طباعه الجديدة كليًا كانت مثارًا للدهشة والاستغراب، أمعنت سعاد النظر في ابنها غير مصدقة أنها تحلى بالمحمود من الصفات، تبعته في خطاه وهو يتجه خارج غرفته متسائلة:
-مش هتستنى أبوك؟
رد نافيًا وهو يدير مقبض باب المنزل:
-لأ، هسبقه على الأرض...
ظلت نظرة التعجب تحتل قسماتها، وهو ما زال يخاطبها:
-عايز أشوف مع الرجالة اللي ناقص من التقاوي عشان أجيبهم، وبالمرة أحاسب الأنفار على اليومين اللي فاتوا.

قفز قلبها في سرور متعاظم لتبدل أحواله للأحسن، واستمرت في دعائها له:
-الله يحميك من العين، ويباركلي فيك.
كان على وشك الخروج من المنزل؛ لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، ليدس يده في جيبه، أخرج فضل محفظته، وفتحها، ثم تناول عدة أوراق نقدية منها، طواها، وتقدم نحو والدته ليضعها في راحتها قائلاً بحنوٍ استرابت كذلك منه:
-خدي دول يامه كمان، إديهم للعيال، وشوفي لو محتاجين حاجة، حس أبوهم في الدنيا.

-حاضر يا فضل، ربنا يخليك ليهم، وتعيش وتجيبلهم.
تطلعت إليه في دهشةٍ أكبر، وتلك الابتسامة الفرحة تنعكس على ثغرها، ودعها بنفس اللطافة الغريبة، ليغادر بعدها المنزل، وصوت دعائها يلحق به. أوصدت سعاد الباب بعد ذهابه، والتفتت إلى زوجها الذي استطرد متسائلاً في جديةٍ:
-إيه الدوشة دي على الصبح؟
بكل ما يسود فيها من بهجةٍ وفخر أخذت تخبره:.

- فضل ابنك يا حاج، من النجمة قايم يشوف مصالحك، ده غير إنه مراعي حق عياله، وعاوز يلم إخواته حواليه.
وكأنها نطقت بسخافة غير مستساغة للضحك حتى، فعقب عليها في نقمٍ:
-مش بعوايده، أكيد وراه مصيبة.
استاءت من سوء ظنه، وعاتبته دون أن تتجاوز في حديثها معه:
-ليه بتقول كده يا حاج؟ ده بدل ما تفرح إن حاله اتبدل وبقى أحسن.
جاءها رده بسيطًا ومنطقيًا:
-ديل الكلب عمره ما يتعدل يا سعاد، وابنك صعب يتغير بين يوم وليلة.

استهجنت صراحته، فهتفت بملامح عابسة للغاية:
-متقولش كده يا حاج.
لوى ثغره مرددًا في نفس النبرة المتهكمة:
-عشان أنا فاهمه كويس.
استمرت على دفاعها عنه، وقالت في تشددٍ:
-ليه بتكسر من مأديفه؟ ده بدل ما تشجعه..
رمقها بنظرة غير مُريحة، فتابعت في تحفزٍ:
-يبقى إنت لسه شايل منه.
قال بلا تعابيرٍ مرتخية:
-اللي عمله مش بالساهل يتنسي.
اشتاطت لتحيزه ضده، وواصلت الوقوف بصفه هاتفة:
-إيش حال ما بيعمل كل حاجة عشان يرضيك.

رفع سبابته أمام وجهها يؤكد لها بنبرةٍ ذات مغزى:
-المهم يرضي ربنا، مش أنا!
كزت على أسنانها في غيظٍ مكبوت من أسلوبه الجاف، وراحت تزيد من دفاعها المستميت عنه:
-ده طاحن نفسه في الشغل بقاله كام يوم، والكل شايف بيعمل إيه عشان يريحك، و آ...
ضجر إسماعيل من سماع هذا الهراء المستفز، فأنهى الحوار معها بفظاظةٍ:
-مالوش لازمة الرغي اللي على الصبح، هاتي المداس خليني ألحقه بدل ما يعملي مصيبة مع الرجالة.

بحثت عن حذائه أسفل المصطبة، وأتت إليه به، ارتداه في تؤدةٍ، ثم غادر المنزل ونظرات زوجته الحانقة عليه، أغلقت الباب من ورائه، وهي تردد في تذمرٍ:
-ربنا يهديك يا إسماعيل، أنا عارفة إيه اللي مش عاجبك فيه؟!

محاولة الالتهاء بالعمل وأداء المهام المكلفة بها لم يبدُ كافيًا لمنع عقلها من التفكير فيه، حيث استحوذ تميم بتصرفاته العفوية والمتعمدة على غالبية أفكارها، وبدا وكأن طيفه يُلهيها عن الحصول على التركيز الكامل، فأصبحت غالبية الوقت تنظر إلى الطريق كأنما تتوقع قدومه، تشرأب بعنقها حين تسمع صوتًا رجوليًا على مقربة من الدكان معتقدة أنه هو، ضجرت من ادعاء الثبات أمام مساعدتيها، وانصرفت مبكرًا من العمل، لتعود إلى منزلها وهي تشعر بتأثير تلك الشخصية الجديدة عليها؛ هذه الشخصية المُقبلة على الحياة، التواقة لما ينتظرها من سيل العواطف الجياشة.

اشترت فيروزة بعض ما ينقص المنزل من احتياجاتٍ في طريق عودتها، ووضعت الأكياس بالمطبخ، لتخرج بعدها باحثة عن والدتها التي كانت تجمع الثياب المبتلة من (الغسالة)، سألتها الأولى في اهتمامٍ جاد:
-خالي عامل إيه؟ أنا مش شايفاه في البلكونة زي تملي.
اعتدلت آمنة واقفة وهي تحمل الغسيل المبتل في سلة بلاستيكية، قبل أن تجاوبها:
-قافل على نفسه الأوضة.
حملتها عنها فيروزة، وقالت بنبرة عازمة:
-طيب أنا هدخل أتكلم معاه.

أمسكت أمها بقطعة قماشٍ نظيفة تجفف بها باب الغسالة المبتل قليلاً وهي تقول في رجاءٍ:
-يا ريت، جايز ربنا يصلح حاله ويسمعلك.
اتجهت فيروزة أولاً إلى الشرفة لتسند سلة الثياب بها، ثم سارت ناحية غرفة خالها، تنهدت مليًا قبل أن تطوي قبضتها لتطرق على الباب متسائلة في تهذيبٍ:
-صاحي يا خالي؟
أتاها صوته من داخل الغرفة هاتفًا:
-تع، الي.
فتحت الباب، وأطلت برأسها متسائلة بوجه مبتسم:
-أخبارك إيه النهاردة؟

قال في رضا وهو يرفع نظراته الممتنة للأعلى:
-الحم، د لله.
تقدمت ناحيته متابعة حديثها إليه في صوتٍ هادئ:
-ماما قالتلي إنك مش عايز لا تاكل ولا تشرب، وطول اليوم قافل على نفسك، ومحبوس في الأوضة.
لاحظت الغيمة التي حلت على ملامحه، فأدركت بفطنتها سبب انزوائه، استمرت في اقترابها منه حتى وقفت أمام كرسيه المدولب، وأخبرته بصراحةٍ:
-لو ده بسبب الموضوع إياه، فإنت يا خالي مش مجبور تعمل حاجة مش عاوزها.

بصوتٍ متشنج، وتعابيرٍ متقلصة علق عليها:
- حم، دية مج، رمة، قت، لت ولادنا، ويتمت بنتي بعد ما ق، تلت أمها.
ردت في لهجةٍ جادة:
-والقضاء قال كلمته، واتحكم عليها بالعقاب اللي تستاهله.
خرج صوته محملاً بالانفعال عندما قال:
-أن، ا مش عاي، ز أشوفها، دي مج، رمة.
أيدته في رأيه قائلة بجديةٍ:
-حقك، وده اختيارك..
لكن ما لبث أن لانت نبرتها نسبيًا وهي تتم جملتها:
-بس اسمعها لمرة واحدة، يمكن عندها اللي تقوله.

هتف في ازدراءٍ مليء بالقنوط:
-هت، قول إيه؟ إنها معم، لتش كده؟ دي ظ، المة، منها لله، ربنا ينت، قم منها.
لم تضغط عليه أكثر من ذلك، ونطقت بدبلوماسية:
-عمومًا يا خالي فكر مرة واتنين وعشرة، لسه قدامك وقت على ميعاد الزيارة اللي مكتوب في التصريح.
ثم ابتسمت له وهي تستأذن بالانصراف:
-هسيبك ترتاح يا خالي، بس لازم تاكل.
استوقفها قبل أن ترحل مناديًا:
- ف، يروزة.
ركزت أنظارها عليه وهي ترد:
-أيوه يا خالي.

نظر في عينيها قبل أن يوصيها بصوتٍ غلفه الحزن:
-لو ج، رالي حاجة، خدي بالك من رق، ية، عاي، زها ت، طلع زيك، ماتخافش غير م، ن اللي خلقها.
انقبض قلبها لكلامه، وصاحت في إنكار بائن على تقاسيم وجهها، وأيضًا في نظراتها إليه:
-ربنا يديك طولة العمر وتشوفها أحسن مني.
بدا الندم واضحًا في نبرته وهو مستمر في اعترافه:
-إنتي ج، وهرة، شر حمدية وحق، دها عماني عن قلبك الطيب، وروحك الحلوة.

أدمعت عيناها تأثرًا لكلماته، وخنقت غصة نبضت في حلقها، لتقول مبتسمةٍ؛ كأنما تسعى لمحو الذكريات السيئة بطرقٍ أخرى سلسة معززة لإرادتها وذاتها القوية:
-ده بقى من الماضي يا خالي، انساه زي ما أنا نسيته، وخلينا نبص لبكرة.
هز رأسه في قبولٍ، فاستغلت الفرصة لتلح عليه:
-طب مش هتاكل بقى عشان خاطري؟
تخلى عن عناده أمام نظراتها الدافئة، وقال في استسلامٍ:
-ط، يب.
اعتلى ثغرها بسمة رضا، وأخبرته في حماسٍ:.

-دقيقة وهاتكون أحلى صينية أكل عندك.

بعد بضعة أيامٍ، قبيل وقت العصر تقريبًا، دارت همسة بنظرات شمولية مدققة، على المترجلين من السيارة المصفوفة أمام مدخل البيت، أثناء تواجدها بشرفة بيت والدتها، برقت عيناها في سعادةٍ، كما ارتسمت ابتسامة عريضة مسرورة على وجهها، فاليوم هو ميعاد الزيارة العائلية المتفق عليها، للتقريب بين العروسين؛ كانت أكثر حماسًا عن شقيقتها، وتشوقت لكسر الجليد بين توأمتها وخطيبها، ليصير الاثنان أكثر انجذابًا إلى بعضهما البعض، لعل الوصال يزداد بينهما، ويقرران تقديم ميعاد عقد القران بعد إرجائه لسببٍ غير معلومٍ للجميع.

هرعت للداخل وهي تضع يدها على بطنها المنتفخ هاتفة بنبرة عالية، لتلفت انتباه الجميع:
-الجماعة جوم تحت البيت يا ماما.
نهض هيثم الجالس على الأريكة بصالة المنزل، ليتجه إلى الباب ويفتحه، استعدادًا لاستقبال الضيوف، في حين تأهبت فيروزة في وقفتها بداخل المطبخ، وانسحبت منه لتعود إلى غرفتها وهي تشعر بهذا التوتر اللذيذ يعتريها. سمعت صوت والدتها يقول من الخارج:.

-أنا جهزت مطبقيات الشوربة، ناقص بس أفرغها فيهم، جوزك يا همسة هيشيل الصينية بيهم وقت ما نقعد على السفرة عشانها هتبقى تقيلة.
أنصتت إلى رد توأمتها عليها:
-حاضر يا ماما، شوفي عاوزة إيه واحنا هنعمله.
أرهفت السمع كذلك إلى أمرها:
-قولي لأختك تجهز بسرعة.

عندئذ واربت فيروزة باب غرفتها، وتحركت إيذاء مرآة التسريحة، لتتطلع من جديد إلى هيئتها، كانت قد ارتدت كنزة فضفاضة من اللون الأحمر، على بنطالٍ أبيض اللون، في البداية شعرت بالثقة وبقدرتها على اجتذاب نظراته طوال الوقت عليها؛ لكن سرعان ما تبدلت لمحة الغرور بها إلى الحرج والتردد من رؤيته لها ترتدي مثل تلك الألوان المبهجة، حاولت تشجيع نفسها، فقالت:
-مش لازم أكون كئيبة، دي ألوان عادية.

ضبطت طرفي حجابها الأبيض، وألقت واحدًا منهما على كتفها الأيسر مؤكدة لنفسها مرة أخرى:
-إنتي كده جميلة، مالك قلقانة ليه؟!
تنفست بعمقٍ، وراحت تتحسس بروش زهرة الأوركيد الذي وضعته على عند الياقة اليمنى لكنزتها، مالت برأسها للأمام، ومسحت المتسرب من كُحل العين على جفنها. استقامت واقفة من جديد، واستطردت تتكلم في ثباتٍ مصطنع:
-أنا هستنى لما ينادوا عليا.

لكن التوق كان مستبدًا بجوارحها، أخذت تعزز من جمودها الهارب، علها تستدعيه، على أملِ ألا يكتشف تلهفها المتضاعف كلما مرت عليها الدقائق، لرغبتها المتنامية في مقابلته، الجلوس معه، ومشاركته حُلو الكلام وعذبه...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة