قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

قشعريرة قارصة نالت من بدنه المبتل، رغم دفء المياه المتدفقة على جسده؛ لكن كان لذكرى مقتل "نوح" على يده، الأثر الكبير في توتر أعصابه، وربما خوفه أيضًا. أغمض "محرز" عينيه، وشرد بمخيلته لساعات مضت، حيث كان قلب ضحيته ما زال ينبض بالحياة، كانت التعليمات صريحة ومباشرة، التخلص كليًا من أي شيء أو شخص له صلة بالمواد المخدرة، لقطع كافة الخيوط التي من المحتمل أن تؤدي إليه أو لـ "آسر"، ولهذا بذل ما في وسعه، وأعمل عقله الداهية من أجل القضاء على كل التهديدات المحتملة .. وقف كلاهما خلف أحد الأكشاك المغلقة، ومعهما الجِوال الأزرق، تساءل "نوح" في فضولٍ، بصوتٍ شبه هامس، والقلق يتراقص في نظراته المراقبة لما حوله:
-هو احنا بنعمل هنا إيه؟

أجابه "محرز" مقتضبًا، وهو يفتح مقدمة الجِوال:
-شغل.
نظر "نوح" أمامه، وسأله مرة أخرى برنة القلق الظاهرة في صوته:
-بس احنا قريبين من بيت المعلم "تميم" وآ...
قاطعه الأول متسائلاً بتهكمٍ منزعج، وقد تضرج وجهه بأمارات الحنق:
-هو محرم علينا نبقى في الشارع اللي هو فيه؟
بلع ريقه، ثم رد نافيًا:
-لأ.. بس بعد الكلام إياه، واتفاق حرق الدكان، آ...

قاطعه مجددًا، وكأنه يوبخه:
-بأقولك إيه؟ أنا مش جايبك معايا عشان ترغي وتصدعني، ده شغل اللي بنعمله.
سأله مستوضحًا:
-هتعمل إيه طيب؟
لم يكن "محرز" راضيًا عن تردده الواضح، ومع هذا قال له بهدوءٍ زائف، وهو يدس اللفافة بداخل جِوال النشارة:
-هخزن البضاعة فوق السطح، لحد ما ألاقي تصريفة ليها.
تساءل بنفس الصوت القلق:
-واشمعنى هنا بالذات؟

ثم توقف هنيهةٍ ليضيف بعدها بنزقٍ:
-ما جايز يكون مغرز منك، وبعدها هتبلغ عنه.
فاض به الكيل من خوفه البائن، وصاح في ضجرٍ:
-البيت فيه كاميرات يا أبو مخ ذكي...

بدت نظراته غريبة نحو "نوح"؛ وكأنه يُعيد تقييم موقفه معه، لم ينكر أن الهواجس قد بدأت تساوره ناحيته، تردده غير المشكوك فيه، عزز من ذلك الإحساس، لهذا حاول التصرف بعقلانية، حتى ينهي ما جاء لأجله، فاسترسل موضحًا له:
-شوف يا "نوح"، لو فكرت بشوية عقل، هتلاقي إنهم هيعرفوا مين اللي جاب البضاعة، كل الحكاية إني هتاويهم كام يوم، لحد ما أشوف مكان تاني آمن.

تطلع إليه بنظراتٍ حائرة، فأكد عليه "محرز" بابتسامته السمجة:
-ماتبقاش خرع كده، ده احنا متودكين في الشغلانة بقالنا ياما.
رد عليه بلهجةٍ محذرة:
-أيوه، بس مش مع المعلم "تميم"!

اغتاظ "محرز" من إعطائه لكل تلك الأهمية لـ "تميم"، ناهيك عن خوفه الزائد منه؛ وكأنه من ذوي السلطة المطلقة، لا يجرؤ أحدهم على المساس به، أو حتى التفكير في الإساءة إليه، ورغم ذلك كظم حقده مرغمًا، وهتف من بين أسنانه المضغوطةٍ بنبرة آمرة:
-بأقولك إيه.. هات الطاقية بتاعتك.
ضاقت عينا "نوح" باستغرابٍ وهو يسأله:
-ليه؟

علق ساخرًا قبل أن يختطف غطاء رأسه من عليه عنوة:
-هتغندر بيها..
ارتداها "محرز" على رأسه، ووضع الجِوال على ظهره، ليقول بلهجة الآمر الناهي:
-بطل رغي، وراقب المكان.
دعك "نوح" رأسه الذي لفحه الهواء البارد بيده، ليعيد إليه دفئه المفقود، وقال على مضضٍ:
-طيب

-أنا قلبي وقع في رجلي لما شوفته طالع عندك...
بأنفاسٍ لاهثة ردد "نوح" تلك العبارة، وهو يلج إلى منزله بعد إنهاء "محرز" لمهمته السريعة ببناية عائلة "سلطان"، تمكن الخوف منه، وشعر بالرهبة من احتمالية كشف أمره، وبمجرد أن لمح "محرز" يخرج، حتى قطع الاثنان الطريق عدوًا كاللصوص، ليهربا قبل اكتشاف أمرهما، تسللا عبر الأزقة الضيقة، والشوارع الجانبية ليصلا في الأخير إلى منزل الأول، ظلت بقايا آثار القلق معكوسة على ملامحه، رغم انقضاء المهمة بسلاسةٍ .. استوى "نوح" على الوسائد التي يفترش بها أرضيته، وتابع إفصاحه عما يعتريه من مخاوف، بنبرته التي جمعت بين الجدل والهزل:

-أنا خوفت لتتمسك، وساعتها كنت هاقر للمعلم "تميم" بكل حاجة من طأطأ لسلامو عليكم، قبل ما يعلقني.
استشاطت عينا "محرز" على الأخير، بدت تعبيرات وجهه متغيرة للغاية، يغلفها الحقد والقساوة، وسأله، وكأنه يحقق معه:
-للدرجادي عمله حساب ومش خايف مني؟
بنوعٍ من الاستخفاف، وعدم الاحتراز، أجابه:
-إنت تمامك معروف؛ لكن هو نابه أزرق.

مع تلك الكلمات بلغ "محرز" ذروة غيظه، لم يتحمل احتقاره المتواري؛ وإن لم يقصد ذلك عمدًا، فعقب بصوتٍ بالكاد كان مسموعًا، وبنبرةٍ موحية، تحمل في طياتها شرًا عظيمًا:
-يبقى متعرفنيش كويس.

وقعت أنظاره على السكين الموضوع في طبق الطعام المتسخ، التقطه بيده، ونظر إليه ليتأكد من عدم ملاحظته له، ثم أخفاه عنه، وتقدم نحوه بخطواتٍ ثابتة متسائلاً بكذبٍ:
-الفحم فين؟ خلينا نولع حجرين.

كان سؤالاً مخادعًا، ليلهيه عن عمدٍ عن التركيز معه، أو تتبع خطواته، وبحسن نيةٍ أرشده "نوح" إليه، معتقدًا أنه يريد مشاركته المزاج، وليس الغدر به .. التف "نوح" من ورائه، وجثا على ركبته، ليتخذ موضعه خلفه، ثم رفع ذراعه الممسكة بالسكين للأعلى، وقام بوضع نصلها القاطع على جلد عنقه، لينحره بغتةٍ، وبشراسةٍ عنيفة، وهو يهمس في أذنه:
-إنت اللي اخترت نهايتك، ماتزعلش يا صاحبي.

خرج صوت "نوح" كالخوار من جوفه، وهو يسد بيده المرتعشة أنهر الدماء التي تدفقت من عنقه المذبوح، قبل أن يتبع ذلك شهقة مميتة، لتلقيه طعنة نافذة في قلبه، ارتخت أطرافه بالكامل، وسقط رأسه للخلف بعد أن جحظت عيناه، ليستكين بعدها جسده للأبد، تأمله "محرز" بنظراتٍ مليئة بالاستهجانٍ والغضب، ثم نهض واقفًا من جلسته خلفه، استدار حوله، وبحث عن قطعة قماشٍ يمسح بها آثار أصابعه من على السكين الذي بقي مغروزًا في قلبه، سدد له نظرة أخيرة، ثم استطرد قائلاً له، بما يشبه الشماتة:
-أشوفك في جهنم!

مضى بعض الوقت بالمكان ليتأكد من إزالة ما له علاقة به، ليتسلل بعدها خارجه، لينتقل إلى رفاقِ سوءٍ آخرين، أراد الاستعانة بهم في إكمال باقي مخططه، وأيضًا التخلص من عقبة لا تُذكر؛ تدعى"حاتم".

عاد "محرز" إلى محيطه الواقعي، وقد فرغت المياه الدافئة من السخان، انتبه لانخفاض الحرارة به، فأحس بالمزيد من البرودة تنخر عظام جسده المتجمد، أغلق الصنبور، وخرج من المغطس، ثم لف جسده بالمناشف القطنية، وجمع كل ثيابه في كومةٍ واحدة، ليضعها في أحد أكياس القمامة السوداء، حين يرتدي ملابسه النظيفة ويخرج من الحمام، فيتخلص منها لاحقًا، ابتسامات انتصار متنوعة غزت وجهه الذي كان غائمًا قبل قليل، وما ضاعف من شعوره بالنشوة، رنين هاتفه برسالةٍ تؤكد له إيقاع ضحيته التالية في الفخ، دندن مع نفسه بانتشاءٍ:
-هو ده الكلام!

في سابقة لم تبدُ له غريبة، طلب منه أحد الأشخاص، توصيل أحد الطرود خارج المنفذ الجمركي، بعد أن نما إلى مسامعه، قيامه بمثل تلك الأمور بسلاسةٍ ويسر، ولكون التوصية من "محرز"، فلم يتردد في قبول العرض السخي، كان الطرد يحوي بطاريات خاصة بتشغيل ساعات اليد؛ لكنها من النوع الباهظ، ومع ذلك لم تكن مهمته بالصعبة، بل بدت من أيسر عمليات التهريب التي يقوم بها، تحمس "حاتم" لتنفيذها، نظير ذلك المبلغ المالي المغري، يا لسعادته!

ربحٌ سريع سيجنيه في بضعة ساعات! وبحماسٍ واضح عليه، قسم الطرد على دفعاتٍ سينقلها بالتتابع، من خلال حقيبة يد جلدية سيعلقها على كتفه، لن تثير الشكوك مطلقًا، سيظن مسئولي الجمارك أنه أحد مندوبي الشركات، أو موظف ما في مصلحة حكومية ينتقل من مكان لآخر، لإنجاز بعض الأعمال، كان واثقًا من نجاحه، سريعًا ما تبدد شعوره بالثقة إلى الخوف والارتياب، خاصة مع رؤيته لكم أفراد التفتيش المرابطين على جميع بوابات المنفذ، بلع ريقه، وواصل تقدمه نحو الحافلات المخصصة لنقل الركاب للخارج، مؤكدًا لنفسه أنه قادر على إتمامه.

لاحظ خلال سيره تزايد القوات الأمنية، فبدا متوترًا بشكل كبير، يناقض اعتياده على تنفيذ مثل تلك المهام غير القانونية، أقنع نفسه أن تلك المرة مختلفة، المبلغ المعروض عليه مغري للغاية، ويستحق المحاولة. تنفس بعمقٍ، ليستعيد انضباطه، ثم تسلل بحذر نحو المنفذ الجمركي، مترقبًا بأعين كالصقر اللحظة المناسبة للتحرك والخروج منه، صوت أنفاسه كان مسموعًا له، بحث عن منديل ورقي في أحد جيبه، وجد واحدًا، فرفع يده الممسكة به للأعلى، حركه على جبينه، ماسحًا حبات العرق الغزيرة المتجمعة عليه. طال الوقت وهو ينتظر اللحظة المناسبة، وما إن تأكد "حاتم" من هدوء الأجواء، حتى استعد للتحرك بحرصٍ، اقترب من حافلة شبه ممتلئة بالركاب، تستعد للمغادرة؛ لكنه شعر بألمٍ موجع يصيب كتفه، مصحوبًا بصوت آجش خشن يسأله بلهجته الرسمية:
-على فين؟

التفت برأسه للجانب، ليجد شخصًا يفوقه طولاً، هتف متسائلاً بنبرة مذعورة:
-إنت.. مين؟
نظر له الضابط "وجدي" بنظراته القوية النافذة، قبل أن يسأله بتهكمٍ ملموس في نبرته:
-معاك إيه بقى المرادي؟
خمن هويته سريعًا بعدما جاب بأنظاره على ثيابه الرسمية، نظرة خاطفة ألقاها على هؤلاء الرجال المحيطين به من كل اتجاه؛ وكأنه هارب من العدالة، ارتجفت نبرته للغاية وهو يجيبه بتلعثمٍ:
-أنا.. مش معايا حاجة، ده أنا طالع أركب مكروباص و...

قاطعه "وجدي" ساخرًا:
-علينا يا "حاتم"؟
صدم من معرفته لهويته، فسأله بنزق:
-إنت عرفت اسمي منين؟!
أجابه مبتسمًا ابتسامة انتصار، وهو ينظر له بتفاخر:
-ده إنت متوصي عليك جامد!
انفرجت شفتاه للأسفل بهلع كبير، فتابع الضابط متسائلاً:
-ورينا مهرب إيه المرادي يا نجم؟!

اهتز جسده من فرط الخوف، باتت نهايته وشيكة إن اكتشف ما معه، جاهد ليخفي توتره الكبير؛ لكنه فشل كليًا، أكمل الضابط بتشفٍ:
-ماهو كله اتكشف خلاص، واللي مشغلينك اتمسكوا معاك!
ردد لنفسه في ذهولٍ:
-اتمسكوا!
توقف عقله عن التفكير، فمن يعمل لصالحهم كُثر، وسقطوه، والإمساك بهم، يعني قضايا لا حصر لها، هنا أدرك الحقيقة المريرة، مصيرًا مظلمًا ينتظره خلف القضبان الموحشة، لعق شفتيه الجافتين، وغمغم مع نفسه مصدومًا، ونادبًا حظه التعس:
-روحت في داهية يا "حاتم"!

كان الوقت قد اقترب من الظهيرة، حين تواجد كلاهما بالدكان، بدا "هيثم" شاردًا، واجمًا، حزينًا بصدقٍ على مقتل صديقه؛ وإن كانت علاقتهما –مؤخرًا- غير وطيدة، دفعه "تميم" برفقٍ نحو أحد المقاعد الخشبية الشاغرة بالمكان، أجلسه عليه، وصاح مناديًا على أحد عماله، بصوتٍ جهوري:
-حد يجيبلنا قهوة يا رجالة.

رد عليه أحدهم من الداخل:
-فوريرة يا معلم.
رفع "تميم" بذراعه مقعدًا آخرًا، ووضعه في مواجهة ابن خالته، ثم استهل حديثه معه مواسيًا إياه:
-الله يرحمه يا "هيثم"، ادعيله، مافيش في إيدينا حاجة نعملها.
سأله وهو يحبس الدموع في عينيه:
-مين قتله يا "تميم"؟

لم يملك ابن خالته الإجابة على سؤاله، فأبعد نظراته الحزينة عنه ليتابع:
-أنا عارف إنه دايمًا منفض دماغه، وتايهة منه معظم الوقت، بس مالوش في السكة دي.
ربت "تميم" على كتفه مهونًا عليه أحزانه، وقال بهدوءٍ:
-مسير كل حاجة تبان.
ثم التفت باحثًا بعينيه عن زوج شقيقته، لم يظهر بسماجته السخيفة على الساحة، ليتقصى الأخبار، لهذا تساءل بنبرة مرتفعة:
-يا رجالة! أومال فين الريس "محرز"؟

أجابه أحدهم من الداخل وهو يرفع أحد أقفاص الفاكهة:
-مجاش يا معلم لحد دلوقتي.
تعقدت ملامحه متسائلاً في اندهاشٍ كبير؛ وكأن مسألة تأخره مستبعدة كليًا:
-خالص؟ ولا حتى ساب خبر إنه هيتأخر؟
رد العامل نافيًا:
-لأ يا معلم، مافيش خبر عنه، وطلبناه مردش!

مط "تميم" فمه في استغرابٍ أكبر، وغمغم مع نفسه:
-غريبة!
انصرف العامل ليتابع عمله، بينما عقب على ذلك الأمر، مفكرًا بصوتٍ مسموع:
-ده عمره ما عملها من سنين، الدنيا تتشال وتتهبد، وهو ولا فارقة معاه، بيجي الدكان في ميعاده، إيه اللي حصله بقى.
حديثه كان منفردًا، لم يشاركه "هيثم" التعليق، أو حتى أظهر اهتمامه، حزنه كان طاغيًا على أي شيء آخر، صدح رنين هاتفه، فتجاهله، تكرر الاتصــال، ولم يحرك ساكنًا، مما دفع "تميم" لإخباره، بصيغةٍ آمرة:
-رد على تليفونك.

قال بوجومٍ، وكتفاه متهدلان للأسفل:
-ماليش مزاج.
هز رأسه في تفهم، وهو يرد:
-براحتك.
تركه بمفرده، لينهض من مكانه، متجهًا إلى عماله، ليتابع معهم سير العمل بالدكان، مر بعض الوقت على انشغاله، اهتز هاتفه المحمول في جيب بنطاله، أخرجه منه، ونظر فيه، وجد اسم والده يملأ شاشته، أجاب عليه دون تأخيرٍ، فقال:
-أيوه يا حاج.

سأله الأخير بصوتٍ بدا جادًا للغاية:
-إنت فين؟
بتلقائيةٍ أجاب:
-في الدكان يا حاج.
رد عليه بلهجةٍ صارمة:
-طب سيب كل حاجة، وتعالى بسرعة على البيت.
سأله "تميم" بتوجسٍ، وهو يشير بيده لأحد عماله ليخرج رصة الأقفاص من الثلاجة:
-خير في إيه؟
أخبره على عجالةٍ:
-البوليس عندنا، ومشقلب كيان البيت، ولو "هيثم" عندك، خليه يجي، بيفتشوا في بيته، وأنا واقف مع مراته.

تبدلت تعابيره للقلق والانزعاج، وهتف مرددًا بتلهفٍ:
-على طول هنكون عندك يابا.
اندفع خارجًا من الدكان، وجاذبًا "هيثم" من ذراعه بغتةً، اندهش الأخير من تصرفه الغليظ معه، وسأله وهو يحاول التحرر من قبضته:
-في إيه؟
التفت نحوه، وأجابه بغموضٍ؛ لكن عيناه نطقتا بالكثير من التوقعات:
-اللي كنت خايف منه حصل!

في حالة فوضوية، تُرك الأثاث الخاص بالمنزلين؛ وكأن حربًا اندلعت بالمكانين، بسبب تفتيش أفراد القوة الأمنية الدقيق، بحثًا عن المواد المخدرة المخبأة في أحدهما، كل شيءٍ كان نظيفًا، لا وجود لما يُدين ساكنيه، تحفز "بدير" في وقفته، وقد رأى نظرات الاتهام واضحة في أعين المتواجدين، اتجه إلى الضابط المسئول ليقول له، بضيقٍ كبير، معكوس على تقاسيم وجهه قبل نبرته:
-يا باشا ده أكيد بلاغ كيدي، احنا طول عمرنا ماشيين في السليم، مالناش في شغل الهَبو، ولا البودرة.

رمقه بتلك النظرة المتفحصة، قبل أن ينطق بأسلوبٍ متهكم:
-واحنا بنشوف شغلنا يا حاج.
رد عليه في استياءٍ شديد:
-وأنا معترضش، بس سمعتنا نضيفة، واللي بتعملوه ده يشبهنا.
قال له الضابط بلهجةٍ رسمية:
-يا حاج احنا مش بنتحرك كده عشوائي، في بلاغات وتحريات وآ...
قاطعه "تميم" قائلاً عن ثقة، رغم الحنق البادي عليه:
-براحتك يا باشا، فتش في كل مكان، احنا عارفين نفسنا.

التفت نحوه الضابط، ونظر له بتعالٍ، ليشيح بوجهه بعيدًا عنه، تحرك نحو أعتاب باب المنزل، ورفع رأسه للأعلى ليلمح الكاميرات المعلقة بزوايا الدرج، تساءل عاليًا وهو يشير بيده نحوها:
-الكاميرات دي شغالة؟
من تلقاء نفسه أجاب "بدير":
-أيوه.
رد عليه آمرًا:
-عايز كل تسجيلاتها!

أخفى "تميم" ابتسامة صغيرة، كادت تلوح على زاوية فمه، فما سجلته عدسات الكاميرات سابقًا تم محوه، بأوامر منه للشاب المتخصص في تركيبها، للبت في الأمر بنفسه، تصنع قلة الحيلة، وأجاب وهو يتقدم نحو الضابط:
-مش شغالة يا باشا بقالها كام يوم، وأنا مكلم الواد اللي ركبها يشوف مالها.
غامت عينا الضابط، وعلق عليه بصوتٍ حاد:
-أنا اللي أقرر وأشوف إن كانت شغالة ولا لأ، مش إنت.
رفع كفيه للأعلى في استسلامٍ، وهو يرد:
-خد راحتك يا باشا.

على الجانب وقفت "همسة" مع زوجها، بعد أن هبطت للطابق السفلي، لتمكث في منزل "بدير"، ولاحقته بأسئلتها في خوفٍ لم تسعَ لإخفائه:
-هو في إيه؟ بيعملوا فينا كده ليه؟ هو في حاجة حصلت؟
لم يجبها، وأشار لها بإيماءة من رأسه لتصمت، أطبقت على شفتيها بامتعاضٍ، والتزمت السكوت مرغمة؛ لكن بقي بالها مشغولاً بما يحدث حولها من أمور مُريبة، فالطرقات العنيفة على باب منزلها، وصوت الضابط الشرطي الصارم جعل الرعب يدب في قلبها، ولولا وجود "بدير" لازدادت فزعًا من حضورهم المفاجئ، وغير المرحب به.

لم يتوقف لسانها عن الثرثرة لوالدتها، وتوأمتها، بكل التفاصيل المهمة، وغير الهامة، عن زيارة أفراد الشرطة لمنزلها، ولمنزل عائلة "بدير" صباحًا، لتفتيشهما، وكيف انقضى الأمر على خير، دون وجود سبب فعلي للاتهام الباطل، تنهدت "همسة" في تعبٍ، واختتمت حديثها عن هذا الموضوع، وقالت:
-ده اللي حصل، والمحضر اتحفظ.
ردت عليها والدتها في ارتياحٍ:
-الحمد لله إنها عدت على خير.

أضافت باهتمامٍ، مستخدمة يدها في الإشارة:
-بس أنا برضوه شاكة زي المعلم "تميم" إن الحكاية دي مخرجتش برا حد يعرفوه.
ازدرت ريقها، وقالت بتخوفٍ:
-كلامك يقلق بصراحة.
حركت "همسة" رأسها في اتجاه شقيقتها المتابعة في صمت، وسألتها:
-وإنتي إيه رأيك يا "فيرو"؟
بفتورٍ علقت عليها:
-حاجة متخصنيش.

لم تسترح لتعبيراتها الجامدة، تفرست فيها متسائلة بفضول:
-يا بنتي مالك؟ من ساعة ما اتكتب كتابك، وإنتي مش مبسوطة.
حاولت أن تبتسم قبل أن ترد عليها:
-أنا كويسة، اطمني.
لم تقتنع بجوابها المقتضب، نظراتها الشاردة، عزوفها عن البوح بما يختلج صدرها كان جليًا، أرادت "همسة" الضغط عليها مجددًا، علها تفرج عن مكنونات قلبها؛ لكن منعها من فعل ذلك قرع جرس المنزل، فتساءلت في استغرابٍ قليل:
-مين اللي جايلنا؟

ورغم ذلك أجابت بنفسها على سؤالها:
-ماظنش إنه "هيثم"، قالي وراه مصالح مع ابن خالته.
أومأت والدتها برأسها، وأردفت قائلة:
-تلاقيها مرات خالك.
سخرت معلقة على تطفلها السمج:
-أيوه صحيح، هو في غيرها بيحشر نفسه معانا؟!
زمت "فيروزة" شفتيها، وردت بتعابيرها المتجهمة:
-اللي فيه طبع بقى.

وبخطواتٍ متكاسلة، نهضت "همسة" من على الأريكة، واتجهت إلى باب المنزل، فتحته بابتسامتها المرحة، والتي تلاشت كليًا، فور رؤيتها لآخر من توقعت تواجده بالمكان، حلت أمارات المفاجأة على قسماتها، واتسعت حدقتاها في ذهولٍ كبير، ثم تحركت شفتاها لتنطق باسمها، في صدمةٍ متوترة للغاية:
-"خلود"...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة