قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل السادس والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل السادس والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل السادس والثلاثون

صراعها معه لم يكن مجرد خصومة عادية، ينتهي النزاع فيها بجلسةٍ عرفية، أو بتدخل وساطة عائلية لعقد مصالحات وهمية؛ لكنها حربٌ ضروس بين شهادة الحق، ولسان الزور. دفعتها كل المشاعر المكبوتة بداخلها، والتي فاقت حد الاحتمال الطبيعي، للانتفاض مجددًا من قوقعتها، واستعادة إدراكها الحسي، ليبدأ وعيها في التيقظ والانتباه لما يحدث حولها. في البداية كانت الأصوات متداخلة، متزاحمة، غير مفهومة لها، تكاد تصيبها بالصمم، ومع القليل من التركيز تبينت أن ما خاضته ليس بكابوسٍ عابر، وإنما واقع أليم فُرض عليها القتال فيه لإثبات طهرها، وأن عفتها لم تدنس.

شرفها الذي ما زال كما هو، لم تمسه يد، ولم يره مخلوق، كيف يستبيح الخوض فيه هكذا بجراءة وفُحش؟ استعر الغضب في أحشائها، وغزا كامل عروقها، لتصبح كل خلية فيها كجمرة لم تغرب النار عنها. صوت فيروزة الجريح زأر مرة أخرى بحرقةٍ زادت من وهج النيران المشتعلة في صدره:
-هاقتلك، والله ما هاسيبك يا بغل.
تركزت كل الأنظار معها، وأسرعت همسة في احتضان توأمتها، محاولة دعمها بقولها غير المجدي:.

-ربنا هينتقم منه، اهدي بس يا حبيبتي.
في غمرة انفعالها، دفعتها بقسوةٍ لتبعدها عن طريقها، وأصرت على الاقتصاص منه فصاحت بكل عنفوانها:
-هموته، ده الحل الوحيد.
ردت عليها ونيسة بغيظٍ:
-والله معاكي حق، اللي زيه يستاهل الموت بدل المرة عشرة.
ثم مصمصت شفتيها متابعة بانزعاجٍ:
-ده عرض ولايا اللي خاض فيه.
أضافت عليها هاجر بتوجسٍ:
-والناس مابتسبش حد في حاله، حتى لو متكلموش قصادنا بحاجة تجرح، هيلسنوا بكلام مش حقيقي.

نفس الكلمات تتردد، نفس العبارات المبطنة التي تودي بها إلى خيارٍ لا مناص منه، وإن لم تبح به الألسن بعد؛ لكنها لم ولن تلجأ إليه أبدًا مهما دفعتها الظروف، لن تسمح لأحدهم بالانتقاص منها، بسحقِ البقايا الصامدة فيها. ثارت ثائرتها من جديد بعصبيةٍ مضاعفة استغربها من حولها:
-والله لموته، مش هاسيبه يعيش.

وكأن بكلماتها العنيدة تستثير حمئته أكثر وأكثر، فلم يعد يطيق البقاء ساكنًا، فاندفع بعزم ما فيه للخارج قاصدًا تلك المرة نحر عنقه، وإن كان في هذا سجنه للأبد، لتحيا هي كريمة، حرة، مرفوعة الرأس، على أن يدعس حقير مثله طرفها! تجاهل تميم نداء جده وهو يَزْعق من خلفه:
-استنى يا تميم، اسمع هاقولك إيه.
همهم بصوتٍ لم يفارق ثغره وهو مستمر في تقدمه:
-معدتش ينفع مع اللي زيه كلام يا جدي.

أشار بعينيه الملتهبتين من كم الغضب المنتشر فيهما بالتحرك أيضًا، فنفذوا أمره غير المنطوق بإذعانٍ كامل، ليخرج الجميع من المنزل متجهين إلى السطح، وخلال صعوده صاح تميم في جيرانه بنبرة جمعت بين الحزم والعرفان بالجميل:
-كتر خيركم يا جماعة، خشوا بيتكم، الليلة عندي أنا...
ظل ثابتًا في مكانه وهو يكمل بتحذير شديد اللهجة، مستخدمًا سبابته في الإشارة، وكامل نظراته تدور على الأوجه المتطلعة إليه:.

-ولو كلمة اتحكت عن اللي دار هنا لأي حد في الحتة، ولا شميت خبر إن سيرة حد من طرفنا اتمست بسوء مش هحاسب حد إلا إنتو، أيًا كان من هو...

بالطبع لم يجرؤ أحدهم على مناقشته، أو الاعتراض على تصرفاته الآمرة، أو السؤال عن تفاصيل تلك المشادة الدموية، أو حتى معرفة نهايتها المأساوية، خاصة وهو في حالة من الاستنفار الرهيب، والتي تؤكد لمن يراه بأنه عائد للسجن لا محالة. باعد نظراته العدائية عنهم ليقول بصوته الأجش المجلجل:
-وكتر خيركم من تاني على وقفتكم، مردودالكم.

همهمات تنوعت ما بين شاكرة وطائعة لم يعبأ بها تميم، واصل صعود الدرجات، ومع كل درجة يتخطاها كان يشحذ المزيد من حنقه، صوتها النافذ إلى قلبه قبل أذنه جعله يتخشب في مكانه كتمثالٍ من الحجر، حتى أن قبضته الممسكة بحافة الدرابزون تصلبت عليه، عندما هدرت عاليًا بالأسفل:
-سيبوني عليه، محدش يمنعني.
جاءه صوت والدته يرجوها:
-يا بنتي اهدي، أنا مش ملاحقة عليكي وعلى تميم.
ردت بحرقة وَأدت بصيص الرحمة بداخله:.

-ده شرفي، وأنا مش هسامح في اللي مسه!
خاطب تميم نفسه مؤمنًا عليها:
-ولا أنا.
تابع صعوده برويةٍ لتلتقط أذناه دمدمتها الغاضبة، متغاضيًا عن أصوات صراخ الأوغاد المحتجزين، والذي يخترق الجدران من شدة الضرب والوجع على يد عماله المتعصبين الذين أذاقوهم ألوانًا من العذاب الأليم.

مكالمة عاجلة أتته من زوجة شقيقه تخبره فيها بملاحقة ابنه لابنتها، واستئجاره لغرباءٍ من أجل اختطافها عنوة، فأدرك أن توابع رعونته هذه لن تمضي على خير ككل مرة، خاصة إن لجأت إلى من يخشى الصدام معه؛ لأنه ليس بشخصٍ عادي، يمكن تهدئته بمعسول الكلام؛ لكنه من أرباب السجون، لا يعرف سوى لغة العنف، وأساليب الإيذاء الشرسة. تطلع إسماعيل أمامه محدقًا في الطريق الترابي على مدى بصره، ورفع ذراعه ملوحًا للسائق وهو يخاطبه برجاءٍ يميل للتوسل:.

-سوق يا ابني بسرعة الله يكرمك.
بتعابيرٍ هادئة، وجسدٍ مرتخ علق عليه السائق:
-حاضر يا حاج...
ثم لوى ثغره معللاً بطء الحركة:
-بس إنت شايف الطريق عامل إزاي.
رجاه بصوته القلق:
-معلش يا ابني، في نصيبة ولازم ألحقها.
نظر إليه السائق بنظرة فضولية سريعة قبل أن يحدق أمامه، وقال:
-ربنا يسترها علينا جميعًا.
لفظ إسماعيل الهواء الثقيل من صدره، وظل يدمدم داعيًا:
-جيب العواقب سليمة يا رب...

بقيت أنظاره عالقة بالطريق المزدحم بعشرات السيارات في مختلف أحجامها وأنواعها، وتابع كلامه مع نفسه:
-أنا قلبي كان حاسس إنك ناوي على مصيبة يا فضل.
هز رأسه في استنكارٍ مرددًا بين جنباته في حزنٍ وسخط:
-بقى دي أخرتها، اتبهدل في السن ده؟ وأجري ألم ورا ابني؟!
عاد ليحدق في السائق، واستعطفه من جديد:
-يالا يا ابني، دوس بنزين، السِكة فضت شوية.
أومأ برأسه وهو يرد:
-عينيا يا حاج.

ظل يدعو الله كثيرًا في سريرته، أن يصل في الوقت المناسب، قبل أن تزداد الأمور تعقيدًا، ويعجز حينها عن نجدة ابنه، أو تخليصه من جرائر شره.

لم يستطع أحدهم منعها من تسلق درجات السلم لبلوغ السطح سوى جسده العريض والذي ظل عائقًا أمامها، يحول دون دخولها إليه. رفعت فيروزة عينيها إلى ظهره المنتصب، ترمقه بنظرة نارية محذرة قبل أن تهدر به بأنفاسها المنفعلة:
-حاسب، خليني أدخل.

لم يلتفت إليها تميم، ولم يفِ بوعده لها بتلبية ما تطلبه أيًا كانت ماهيته تلك المرة، بل على العكس بدا متحكمًا، متشددًا في رأيه، فرد ذراعه ليضعه على حافة الباب، وعاندها رافضًا بشكلٍ قاطع، لئلا تلوث نظراتها بهيئة ذلك النجس مجددًا:
-لأ، مش هايحصل.
استطاع أن يشعر بالألم في نبرتها وهي ترد بإصرارٍ:
-أنا هاخد حقي بإيدي، مش هاسمح لكلب زي ده يجيب في سمعتي بالباطل، ويفلت كده بسهولة..

خنقت غصتها القاتلة، وأكملت بكبرياءٍ ما زال جريحًا:
-أنا مش رخيصة.
قال على الفور محتجًا على وصفها بحنقٍ متزايد دون أن يأخذ اللسان حذره:
-إنتي غالية عندي...
تدارك زلة القلب، وصحح بنفس الصوت المتشنج:
-عند الكل، وحقك أنا هاجيبهولك.

ألا يكفيها ما سمعته من افتراءات لتسمح بالمزيد من القيل والقال، إن ارتضت بمساعدته؟ تخبطت في تفكيرها، واختلط عليها العاطل بالباطل، لذا هتفت تسأله في عصبيةٍ معترضة على تدخله في شأنها:
-ومين فوضك تعمل كده؟
أجاب بخشونةٍ ضاربًا بقبضته المتكورة على الحافة الخشبية:
-أنا مش محتاج تفويض.
بألمٍ مازال يشوب صوتها أخبرته؛ وكأنها تبرر سبب حمئته الرجولية:
-أه صح، لأن الكلام مسَّك، ولازم تبرئ نفسك...

لمحة من السخرية المريرة غلفت نبرتها عندما أتمت الباقي من جملتها:
-ما هو أنا اللي ضحكت على سيد المعلمين، وجرجرته ورايا.

هنا التفت تميم ناحيتها ليواجهها وجهًا لوجه، وجد في نظراتها إليه بهاءً يخالطه الشموخ، وثباتًا مغريًا لا يمكن إنكاره، بالرغم من أمارات الغضب النافرة منها، شتت عينيه عن جوهرتيها الساحرتين، ليلقي نظرة شمولية على تعبيراتها، فقرأ في ملامحها جرحًا عميقًا لا يمكن اندماله بين عشية وضحاها. أعادت فيروزة تكرار سؤالها على مسامعه بشفاه مقلوبة:
-مش ده اللي هيتقال؟ صح ولا أنا غلطانة؟
رد نافيًا بإجابة قاطعة:.

-مش هيتقال حرف.
استهجنت ثقته الغريبة، وظنت أنه يمنحها مسكنًا مؤقتًا لتتراجع عن الثأر لنفسها، لذا هدرت تسأله بصوتها المتشنج:
-ده على أساس إيه بالظبط؟

مجددًا شرد سريعًا في نظراتها المسلطة عليه، كانت قادرة حقًا على أسره وسط نوبة هياجها، انتابته أمنية عجيبة حينئذ، ألا يمكن أن يحظى معها –ذات يومٍ- بحوارٍ هادئ غير ذلك المشحون بكافة درجات الغضب والحنق؟ أفاق من سرحانه الخاطف في التفكير فيها مؤكدًا عليها:
-لأني قولت كده.
أهانته دون تعمدٍ:
-ما تقولش حاجة إنت مش أدها.

كل ما كان يضطرم به حاليًا نيرانًا لا نهاية لها، حاول اختلاق الأعذار لها، مبررًا في نفسه أنها لا تعلم بعد ما هو قادرٌ على فعله إن أعطى أحدهم وعدًا. استدارت فيروزة برأسها للجانب عندما سمعت صوتًا ذكوريًا يخاطبها بتحذيرٍ واضح:
-حاسبي على كلامك يا بنتي.
أمعنت النظر في وجه الجد سلطان الذي تقدم نحوها، وواصل كلامه معها بلهجته الجادة:.

-احنا متأكدين من أصلك وفصلك، مش هنمشي ورا حتت (، ) قال كلمتين طق حنك يكسب بيهم بونط، بعد ما اتخسف بيه الأرض.
انضمت إليهم كلاً من ونيسة، و همسة، فسادت لحظة من الصمت المشحون، قطعته الأولى حينما صاحت مبررة مقصدها:
-هي أكيد عارفة ده يا حاج، بس إنت عارف البني آدم ساعة الغضب بتخليه أعمي، وينطق بحاجات مش قاصدها.
حاوطت همسة توأمتها من كتفيها، تأملتها بنظراتٍ حانية، ثم رجتها بحرجٍ طفيف:.

-اهدي يا فيروزة، مايصحش كده، الحمد لله إنهم واقفين معانا.

أدارت رأسها في اتجاه شقيقتها، فرنت إليها الأخيرة بنظرة إشفاق استثارت غزيرة الدفاع لديها، رفضت تقبل مثل ذلك النوع من التعاطف الممتزج بالخجل، خاصة حينما جالت بعينيها سريعًا على الأوجه المتباينة في تعبيراتها، كأن هناك خذلانًا متواريًا وراء نظراتهم إليها، لوهلةٍ غمرها شعورًا غريبًا بأن كل شيءٍ يتكرر، وكأنها تعايش نفس الموقف المليء بالإدانة من جديد مع اختلاف تفاصيله، لذا اتخذت موقفًا هجوميًا على الفور، وأزاحت يدها عنها لتتراجع قائلة بحدةٍ وهي تشير بسبابتها:.

-لو فاكرين إني هاصلح غلط بغلط فده مش هايحصل، حقي هاجيبه منه، وهاقطع لسانه اللي افترى عليا زمان ودلوقتي.
حملق فيها تميم بنظراتٍ غريبة، فكلماتها كانت ذات دلالات قوية، تمنى ألا يكون تفسيرها هو ما يدور في خلده، بلع ريقه، وسألها بصوتٍ أجش جاهد ليبدو هادئًا معها:
-تقصدي إيه بكلامك ده؟ وضحي.
لم تحد بنظراتها عنه وهي ترد بشيء لم يتوقعه:
-إني أتجوز...

بتصريحها المفاجئ بدت له وكأنها تتسرب من بين أصابعه كالزئبق، توقف لهنيهة عن التنفس من صدمته، أحس بانقباضة تعتصر قلبه، وكأن الموت قد حط عليه ليقبض روحه، غامت ملامحه، وأظلمت نظراته أكثر عندما تابعت بنفس الثبات الحاسم:
-سواء بيه أو بغيره، فده مش هايحصل مهما كان.

وحده كان يعلم أي ألم يقاسيه حفيده الآن، نظراته المتفرسة إلى وجهه الواجم بشدة أكدت له معاناته الصامتة، فهناك شرخ جديد تصدع في حبه السري، ربما يهدم كل شيء إن تصاعدت الأمور، نبضاته السريعة المتلاحقة كانت ظاهرة في عرقه الذي انتفض في جبينه، ورغم ذلك لم يحاول الجد سلطان التدخل، والنطق بما لا يفيد الآن، بقي ساكنًا ومرر نظراته على فيروزة، كانت في أوج غضبها، لا ترى إلا ما حاق بها من ظلم، إذًا ليتركها تهدأ؛ لأن العقل لا يتكلم، وإنما صراخ روحها المفطورة.

أضافت فيروزة قائلة باعتزازٍ وهي تسند يدها المتورمة على راحتها الأخرى:
-أنا عمري ما هطاطي راسي، لأني معملتش الغلط اللي يخليني أدارى، وأرضى بحاجة مش عايزاها، عشان أخرس ألسنة الناس.
أراد أن يكون اختيارها له عن طواعية تامة، أن ترغب فيه بإرادتها الكاملة، وليس لأنه فُرض عليها جراء موقفٍ ما تحتم عليها ذلك فيه؛ وإن كانت كل الشواهد ترجح ذلك الاختيار. منحها تميم حرية ظنت أنها مسلوبة منها بقوله:.

-وأنا عايزك ترفعي راسك من غير جواز.
بعزة نفسٍ لا تدرك أنه يعشقها فيها أخبرته دون أن يرف لها جفن:
-هرفعها وقت ما أقتله بإيدي.
ضيق نظراته نحوها، فحدجته بنظرة مليئة بالإصرار وهي تكرر عليه أمرها:
-وسع من طريقي.

رؤيتها لهذا القميء مجددًا يعني انطلاق شارات الإنذار بجريمة أكيدة، ستحدث على يده، احمر وجهه من غضبه الذي يكبته أمامها، محاولاً كبحه بشتى الطرق، لم يحبذ أبدًا أن ترى الجانب القبيح منه، خاصة عندما يثور، ويفقد قدرته على ضبط انفعالاته، لذا كور قبضته، وضغط على أصابعه حتى ابيضت مفاصله، قبل أن يلكم الباب الخشبي بعنفٍ مباغت جعلها تنتفض في ذهولٍ قلق. حذره جده من التمادي في عصبيته صائحًا:
-بالراحة يا تميم.

كلمات جده لن تخمد أبدًا ما اندلع في صدره، شتت انتباهه لحظيًا عن النظر في اتجاهه، تلك الخطوات السريعة الصاخبة المصحوبة بنداءٍ يلفت الانتباه:
-يا معلم، يا معلم!
اتجهت الأنظار نحو العامل الذي تابع باقي حديثه بصوتٍ شبه لاهث:
-عربيات البوليس جاية من على أول الشارع...
بلع ريقه على عجالةٍ ليختتم بعدها جملته:
-الظاهر حد بلغ.
بتوترٍ ظاهر على وجهها هتفت همسة مخاطبة الجميع:.

-أنا فعلاً كلمت البوليس، كنت بأحاول أتصرف بأي شكل عشان ألحق أختي.
تحولت أنظار سلطان نحو حفيده، وسأله بهدوءٍ:
-هتعمل إيه يا تميم دلوقتي؟ الموضوع دخل في الجد.
رد بعنادٍ يحوي رغبة جمة على الانتقام المهلك، حتى أنه فاق طاووسه بكثيرٍ:
-أنا قولتها للكلب ده بدل المرة اتنين، إدي بالك جيالك، والظاهر إن التالتة ثابتة، هاخلص عليه وقتي.
هدرت فيه فيروزة بغيظٍ:
-لأ عندك، أنا اللي هموته.
صاح سلطان بتهكمٍ مستاء:.

-هو إنتو بتتعزموا على بعض في حاجة عِدلة؟
أطبقت فيروزة على شفتيها؛ لكن نطقت ملامحها بالكثير، بينما استمر الجد في مخاطبه حفيده بلهجةٍ عقلانية:
-الموضوع دخل في الجد يا تميم...
ثم دنا منه، وخفض من نبرته عندما تابع:
-ولو خايف على اللي يخصك يبقى تُفضها حالاً.
نظر له مليًا وهو مقتطب الوجه، في حين تساءل العامل بصوته اللاهث:
-هنعمل إيه يا معلم؟

أخرج من جيبه سلسلة المفاتيح المعدنية، وقذفها في الهواء نحوه وهو يملي عليه أوامره بوضوحٍ:
-خد مفاتيح العربية التلاجة، ومعاك الرجالة اللي جوا، واخرجوا بالأنجاس دول من سطح العمارة اللي جمبنا، هتلاقي العربية مركونة ورا، واشحنوهم على طريق المطار.
هز رأسه طائعًا:
-ماشي الكلام يا معلم.
همَّ بالتحرك في اتجاه السطح، لكنه استوقفه أمر تميم التالي:.

-وكلم الواد بتاع الكاميرات، خليه يفرمت كل حاجة اتسجلت، هو فاهم هيعمل إيه.
أدار رأسه ناحيته قائلاً بنفس الصوت المطيع:
-عُلم يا ريسنا.
حاولت فيروزة المرور، والدخول خلف العامل؛ لكن سد عليها تميم الطريق مرة أخرى، فأصابها الغضب، اشتعل وجهها على الأخير وصاحت فيه، كأنما تعنفه:
-إنت بتعمل إيه؟
لم يجبها، وأكمل سحب المزلاج المعدني الغليظ، ليوصد الباب، نظرت له بوجهٍ مشتط، وواصلت هتافها المغتاظ منه:.

-حاسب، أنا مش هاسيبه يفلت باللي قاله، هاقطع لسانه.
تنفس بعمقٍ ليكبح نوبة تتجدد بداخله لتنفيذ طلبها، ثم التفت ناحيتها، ونظر إليها بنظرات جادة، لا تحمل سوى الوعد، ورجاها بزفيرٍ ثقيل طرد معه قدرًا ضئيلاً مما يعتريه من مشاعر هائجة:
-انزلي دلوقتي يا أبلة.
ردت عليه برفضٍ معاند:
-لأ مش نازلة.

لم يتحرك قيد أنملة، وبقي ساكنًا صامتًا، ينظر إليها بنظراتٍ غير تلك الهائمة الساهمة التي اعتادت عيناه عليه، نظراتٍ عبرت عن رغبته في محو أي تعاسة حطت بها. فسرت همسة صمته الطويل بأنه يمنع نفسه من التفوه بحماقة، لذا بادرت بالتحرك، وحاوطت توأمتها من كتفيها، فانتفضت الأخيرة عندما هبطت يدها لتلمس ذراعها المتورم دون قصدٍ، وتطلعت إليها بعينين حادتين، فأخبرتها الأولى بتوسلٍ شديد:.

-استهدي بالله يا فيروزة، واسمعي الكلام.
هتفت في عنادٍ أكبر:
-مش هاسيب حقي يا همسة.
تلك المرة أكد عليها تميم بصوتٍ لم يكن بالمازح أبدًا:
-هتاخديه، بس من غير بهدلة ليكي.
تكرر صياح الجد الآمر مع لكزة من عكازه على الأرضية الصلبة:
-يالا أوام، ولو مجابوش ليكي يبقالك الكلام.

اضطرت مرغمة أن تتراجع عن عنادها المُهلك، وبدأت تنسحب خلف الجد الذي كان أول الهابطين، ليظل تميم باقيًا في مكانه، حتى تأكد من نزولها، حينها فقط تنفس الصعداء وتبعهم؛ لكن توقف غالبيتهم بالتدريج عن الهبوط عندما وصلوا للطابق المتواجد به منزل همسة ؛ فالشرطة قد اقتحمت البناية، وبدأت في التحري عن البلاغ الذي تم التقدم به. صاح الضابط بصوته الجهوري الصارم:
-كله ثابت! محدش يتحرك من مكانه.

مر تميم بينهم ليتجاوزهم، ووقف قبالة الضابط يسأله بوجهه المتصلب:
-في إيه يا باشا؟
كما سأله الجد أيضًا:
-خير يا حضرت الظابط؟
بنظرة شمولية فاحصة لكل وجهٍ على حد أجاب الضابط:
-جالنا بلاغ إن في حالة خطف.
من تلقاء نفسها قامت همسة بتفسير تصرفها بتلعثمٍ مرتبك:
-أيوه، ده أنا آ...

لم يرغب تميم في توريط أي فرد قانونيًا، لهذا أعمل عقله سريعًا، وتصرف بسرعة بديهة، فقاطعها بلهجةٍ بدت خشنة وجافة، مخاطبًا الضابط، ليتولى تفسير الموقف عنها:
-لا مؤاخذة يا باشا، مرات ابن خالتي خافت لما شافت حد غريب عندها، أصله كان حرامي جاي يسرق الشقة، وافتكرها فاضية، واتعرض لأختها لما شافها، فكلمتكم تلحقوها.
نظر الضابط في اتجاهه، وسأله بعدم اقتناعٍ بنبرته المحققة:
-كده في عز الضهر؟!

تحدث من زاوية فمه بنوعٍ من التهكم:
-ما هو حرامي غشيم، مش متودك في الشغلانة.
علق عليه الضابط متسائلاً بجديةٍ، وهو يطالعه بنظراته المتشككة:
-وإنت بقى عارفه؟
تدخل الجد قائلاً بتنهيدة متعبة:
-يا حضرت الظابط الحمدلله الحكاية عدت على خير، ولحقنا بناتنا.
تحولت أنظار الأخير ناحيته ليسأله في استهجانٍ:
-وراح فين الحرامي ده؟
أجاب تميم عن جده رافعًا كفيه في الهواء:
-فص ملح وداب.

تأمل الضابط الكدمات والعلامات الحمراء الجافة المطبوعة على جلده، وشعر بالاسترابة مما يلفق من أكاذيب، فهدر به بحدةٍ:
-بالبساطة كده؟ هو إنت بتكلم واحد أهبل.
أخفض كفيه، وقال ببرودٍ:
-لأ لا سمح الله، ده اللي حصل.
نظر له بنظرة دونية قبل أن يقول:
-هنشوف، ده بلاغ رسمين وهيتحقق فيه بطريقتنا.
بابتسامة شبه مغترة لاحت على ثغره استطرد معقبًا عليه:
-براحتك يا باشا، شوف شغلك.

خبت نبرته للغاية، ليبدو كأنما يعاهد نفسه مجددًا، وقلبه يرنو دون عينيه إلى حبيبة ليست ببعيدة عنه؛ إن كان يحول بينهما الموج، فلن يتخلى عنها، لعل وعسى -ذات يومٍ- ينفذ سهم العشق إليها، فتدرك حينئذ ما ضمرته الروح لها من كل درجات الهوى:
-راسك عمرها ما هتطاطي طول ما أنا عايش..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة