قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الرابع والأربعون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الرابع والأربعون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الرابع والأربعون

أسكرته النظرات الساهدة من جوهرتيها، فغار القلب من فطرة جمالها، وجعل اللسان الأحرف تتشكل بمعسول عباراتها، لتنطق عفويًا بما يعمر الروح الخاوية. لم يبدُ تميم نادمًا على تصريحه النزق، كان يعني كل ما عبر عنه بمختصر الكلام ويفيض عنه أضعافًا، تطلعت إليه فيروزة بعينين تضيقان في حيرة، لم تحتج على ما سمعته، ولم تستاء منه، بدت وكأنها استمدت طاقة خفية من مشاعره النقية. لسعادته أعطته بسمة أخرى أقل في مدتها؛ لكنها أرق في نعومتها.

كاد يرقص فرحةً وهو جالس قبالتها، تحول في غمضة عين لطفل صغير فاز لتوه بتذكرة مجانية لمدينة الملاهي، حمحم يسألها وهو يشير نحو علبة العصير الممسكة بها:
-تحبي أفتحهالك؟

أخفضت نظراتها تلقائيًا نحو العلبة، وعادت لتحدق فيه بترددٍ، فأصر مشيرًا بيده، وللغرابة لم تمانع إعادتها إليه ليفتحها لها! ابتسامة عريضة ممتزجة بحماسٍ ووله طغت على كامل قسماته، انتفض مع لمسة غير مقصودة من أناملها وهو يناولها إياها مجددًا؛ كأنما لامس جسده تيارًا كهربيًا، مع فارق أنه من النوع المنعش للحواس.

نظرات خاطفة بين الحين والآخر سددتها لهما هاجر، كذلك كانت تتعمد إطالة الوقت مع همسة في الحديث عن مواضيعٍ شتى، لتلهيها عن توأمتها، علَّ شقيقها يحظى بفرصة طيبة مع من أنسته الأحزان، وأوجدت الآمال. تحولت كافة الأنظار نحو باب الغرفة عندما أطل منه الطبيب وهو يلقي التحية:
-مساء النور.
تحركت همسة لتستقبله قائلة:
-مساء الخير، اتفضل يا دكتور.

اضطر تميم آسفًا أن ينهض من مكانه، ويتراجع بعيدًا عند الزاوية، ليمنح الطبيب المساحة للقيام بفحصه الروتيني لمريضته، خفق قلبه سرورًا عندما سمعه يردد في رضا:
-عال أوي، أنا شايف في تحسن كبير، يعني أقدر أقول إنه ممكن أكتبلك على خروج النهاردة.
هللت همسة في سعادة شديدة:
-بجد يا دكتور؟ الله ده أحلى خبر.
ضحكت هاجر مضيفة بتلميحٍ شبه متوارٍ:
-ماشاء الله، باين وشك حلو عليها يا تميم...

ثم غمزت له بطرف عينها وهي تتم جملتها:
-مش كنا نعمل الزيارة دي من بدري؟
تحرج تميم من أسلوب شقيقته الملتوي في إظهار اهتمامه ب فيروزة بهذا الشكل، وحاول ألا ينظر في اتجاه الأخيرة فلا يشعرها هي الأخرى بالحرج، وأولى ظهره للجميع، مدعيًا تطلعه للمشهد خارج النافذة. أضافت همسة بمزيدٍ من السرور:
-دي ماما هتفرح أوي لما تلاقيها داخلة عليها البيت.
ردت عليها هاجر تؤيدها:.

-طبعًا، وإن شاء الله ترجع تنوره، هو البيت يبقاله حس من غير أصحابه؟
ثم ركزت أنظارها على فيروزة تسألها في خبثٍ:
-وعقبال ما تنوري دكانك يا حبيبتي كمان، ولا إيه؟

رغمًا عنه أدار تميم رأسه ليختلس النظرات نحو فيروزة من زاويته، أراد بشدة معرفة ردة فعلها، ولدهشته العظيمة أومأت برأسها إيجابًان فطرب القلب بعد جفاءٍ، وابتهج بعد كربٍ. تابعت هاجر قائلة بلؤمٍ، ونظراتها الماكرة تتجول تارةً على تميم، وتارة على معشوقته:
-احنا هنتسناكو عشان نوصلكم، مايصحش تاخدوا مواصلات واحنا هنا.
اعترضت عليها همسة بقليلٍ من الحرج:
-يعني هنتعبكم معانا وآ...
قاطعتها هاجر بإصرارٍ ودي:.

-تعب إيه بس؟ ده احنا أهل وآ...
تعمدت النظر في اتجاه تميم وهي تختتم جملتها:
-حبايب.
برقت عيناه مصدومًا من تلميحاتها المتعمدة، وشعر بانكشاف أمره، فخفض رأسه حرجًا، محاولاً تخبئة ما يعتريه من توتر وربكة، بينما شكرتها همسة بامتنانٍ كبير:
-ربنا يخليكوا لينا.
تنحنح بعدها تميم قائلاً، وهو يتحاشى النظر نحو الجميع:
-احم، أنا هاقف برا، وخدوا راحتكم.
ردت عليه هاجر بضحكة لطيفة:
-خليك قريب يا خويا، عشان أما نناديلك.

رمقها بنظرة مزعوجة؛ لكنها لم تبالِ بتحذيره البائن فيها، كانت تريد بذل ما في وسعها لتمهيد الطريق إليه، وإن كان دون إرادته.

وقف بالخارج في حالة جمعت بين أحاسيسٍ متنوعة: اللهفة، الشوق، السرور، الهيام، والحماس. لم ينكر تميم انزعاجه من تصرفات شقيقته الجريئة، والمناقضة لطبيعته المتحفظة بشأن ما يخص أموره الخاصة، حاول ردعها بنظراته، وبملامحه المحذرة؛ لكنها تجاهلته لتثير في الأجواء ما لم يكن ليفعله بمفرده مُطلقًا، وجد نفسه يبتسم ببلاهة وهو يمسد بيده على رأسه، حين استعاد في مخيلته حواره اللطيف المفعم بالأمل والابتهاج مع فيروزة، شعر مرة أخرى باندفاع قلبه بين ضلوعه، بخيطٍ أصيل من الضوء يبدد الظلمة الكائنة في الروح، كل هذا جدد الأحلام في نفسه، فرفع بصره للسماء مناجيًا بتضرعٍ:.

-يا رب قرب البعيد، يا رب ماتردش دعائي ليك.
لبرهةٍ تمسك باعتقاده بأنه أذاب جزءًا من الجليد الفاصل بينهما، وإذا استمر الوصال بينهما على ذلك الوضع، لربما رقَّ الفؤاد، وتذوق حلاوة الغرام. انخفضت عيناه نحو يده، تأمل أصابعه التي لامستها دون قصدٍ بنفس الملامح المتفائلة، احتضن كفه بالآخر، وأكد لنفسه بعد تنهيدة عاشقة:
-الإيد مش هتمسك واحدة غيرك.

بقلبٍ ما زال يئن في صمتٍ، أصر هيثم على اصطحاب زوج خالته، والجد سلطان إلى منزل أبويه، دون أن يمنح أيًا منهما التفسير وراء هذا الطلب المُلح. أوقف السيارة أمام مدخل البناية، وترجل منها بخطواتٍ أظهرت انكسارة نفسه، في حين تبادل بدير مع أبيه نظرات غريبة حائرة، واتجه ثلاثتهم للداخل. صعد سلطان الدرجات بتؤدةٍ تخفيفًا لآلام ركبتيه، وسأله قبيل بلوغه للطابق المتواجد به المنزل:
-خير يا واد، جايبنا هنا ليه؟

نظر له بخزيٍ وهو يجيبه:
-هتعرف دلوقتي يا جدي.
قال بلمحةٍ من السخرية:
-يا خبر بفلوس.
فتح هيثم باب المنزل، وأشار لهما بالدخول بعد إضاءة البهو، فردد بدير بصوتٍ خفيض موجهًا سؤاله لوالده:
-هو قالك حاجة يابا؟
أجابه نافيًا:
-لأ، العلم عند الله.
أجلسهما هيثم على الأريكة، وانسحب مغادرًا ليختفي بالداخل للحظاتٍ قبل أن يعود ومعه الحقيبة الجلدية، وضعها نصب أعينهما، فبادر سلطان متسائلاً بفضول:
-إيه دي؟

حرك السحاب ليكشف عن محتوياتها الغامضة، وأجاب وهو يقرب الحقيبة منهما بعد أن ظهر ما احتوته من أموال ومشغولات ذهبية:
-ده حقكم.
قطب بدير جبينه متسائلاً في دهشة:
-حقنا؟
خنق هيثم الغصة القاسية في حلقه، وأوضح لهما:
-أيوه، أنا عرفت كل حاجة خلاص، وفهمت إن أمي كانت عاملة حوارات كتير عشان تستغلكم وتسرق بفلوسكم على حِس إنه حق أبويا الله يرحمه.
تشدق الجد متسائلاً بوجهٍ غير مقروء التعبيرات:.

-إنت لاقيت اللي تحت البلاطة؟
اتجهت أنظار هيثم إليه، بعد أن حل الذهول على ملامحه، وسأله مصدومًا:
-كنت عارف يا جدي؟
أومأ برأسه مقتضبًا:
-أيوه.
نخر الحزن في وجدانه، وقال بعنادٍ:
-أنا مش عايز الفلوس دي.
تبادل بدير مع أبيه نظرة غريبة، ذات دلالة ما، قبل أن ينطق بحسمٍ:
-ولا احنا يا ابني..
تفاجأ من رفضهما المريب، وزادت استرابته بإضافة بدير المتسائلة:
-هو إنت فكرك مكوناش فاهمين هي بتعمل إيه؟

أشار سلطان لابنه بالصمت قائلاً:
-استنى يا بدير.
رد في طاعة:
-اتفضل يابا.
حملق سلطان في وجه هيثم المتجهم، وأخبره بتريثٍ:
-لما أمك كانت مفكرة نفسها بتستنصح علينا، كنا بنجاريها، بمزاجنا، مش علشانها، بس عشانكم إنتم...
تعقدت ملامحه أكثر والجد يواصل حديثه:
-إنتو تخصونا، ومش هنسمح لولاد غريب يتبهدلوا من بعده.
هتف متسائلاً بصوته المتألم:
-طب ليه سكتوا على كدبها؟
بعد زفيرٍ بطيء خاطبه دون أن يبعد نظراته عنه:.

-احنا بنراعي الأمانة، أبوك الله يرحمه كان شايل قرشين معانا على جمب، مش قايلها عليهم، احنا دورناهم في السوق وشغلناهم بمعرفتنا، واللي كان بيطلع كنا بنديهولها وزيادة، أول كل شهر، من غير ما تعرف أصل الفلوس دي إيه، مفكراها إحسان، بس الحقيقة غير كده، لأن أبوك وصانا مانجبش سيرة مهما حصل.
امتلأ وجهه بالمزيد من علامات الذهول، وتضاعفت كثيرًا مع إضافته للجملة الأخيرة:
-وكنت عارف إنها مخبية الفلوس تحت البلاطة.

تدلت شفته السفلى عن صدمةٍ أكبر، والجد ما زال يؤكد له:
-أيوه، ماتستغربش، ده سر أبوك ليا، بدير نفسه ما يعرفوش.
تراخت ساقا هيثم فجلس سريعًا على الأريكة ناظرًا إليه في عجزٍ ودهشة، حاول الجد تهوين ما يعانيه الآن، فخاطبه بلين الكلام:
-هاقولك على حاجة يا ابني...
لمعت عيناه بدموعِ الخذلان، مما جعل بدير يتعاطف معه كثيرًا، ويشفق على حاله البائس، بينما استمر سلطان في إخباره:.

-شوف، الرزق ده بتاع ربنا، إنتو ليكم نصيب في حاجة، ربنا بيبعته ليكم عن طريقنا، فاحنا مش هنمنعه عشان زعلانين من أمك ولا من غيرها.
رد معترضًا بألمٍ:
-بس هي ظلمتكم جامد، وخليتنا غصب عنا نكرهكم.
تقوست شفتاه عن بسمة ساخطة أتبعها قوله:
-محدش بياخد أكتر من نصيبه، وأمك خدت نصيبها سواء من الكره، أو الفلوس.
هب هيثم واقفًا، وصاح برفضٍ قاطع:
-وأنا مش عايز الفلوس دي، جابت معاها الغل والحقد وآ...

قاطعه الجد بلهجةٍ ما زالت تحتفظ بهدوئها:
-ده حقك إنت والمرحومة أختك.
تمسك برفضه المعاند:
-بس ده آ...
قاطعه بصرامةٍ نسبية:
-بأقولك إيه سيبك من حكاوي الماضي، خليها مطرح ما هي، إنت دلوقتي راجل متجوز، ومراتك هتجيبلك بعد كام شهر عيل صغير، فالمفروض تفكر في مستقبله.
جلس مرة أخرى في مكانه، وقال وهو يحني رأسه على صدره:
-أنا عقلي مش فيا.
استطرد بدير هاتفًا بابتسامة متحمسة قليلاً:
-أقوله يابا على المفاجأة.

رفع بصره إليه، والحيرة تكسو تعبيراته المهمومة، بينما منحه الجد موافقته، فاستمر موضحًا:
-واحنا يا هيثم مش ناسينك.
زوى ما بين حاجبيه مرددًا:
-مش فاهم!
استقام في جلسته، وأخبره بصيغة متسائلة:
-عارف محل عادل العجلاتي اللي بعدنا بناصيتين؟
هز رأسه إيجابًا وهو يجيبه:
-أه، ده مقفول بقاله زمن.
نطق بتعابيرٍ مبشرة:
-احنا كلمنا صاحب العمارة، وأجرناه باسمك.
هتف غير مصدقٍ، وقد اتسعت عيناه على الأخير:
-إيه؟

تلك المرة تكلم الجد في هدوءٍ:
-ماتستغربش، حوشنالك فلوس الكام شهر اللي فاتوا ودفعناهم خلو للمكان.
وأضاف عليه ابنه يحفزه:
-اتجدعن بقى عشان تشغله قبل ما تتلبخ في الولادة، وطلبات العيل.
أدمعت عيناه تأثرًا بصنيعهما الكبير، وقال في امتنانٍ شديد:
-أنا مش عارف أقولكم إيه؟!
ضحك الجد وهو يُمازحه:
-تقولنا اتفقولي مع التجار.

زغرودة أتبعتها بأخرى -في نفس قوتها وتعبيرها عن فرحتها العامرة- أطلقتها آمنة حينما رأت ابنتها تقف عند أعتاب باب المنزل، وإلى جوارها شقيقتها تحاوطها من كتفها، انسابت العبرات السعيدة من عينيها، وأخذتها في أحضانها مرددة بلهفةٍ:
-حمدلله على سلامتك يا فيروزة، نورتي البيت يا غالية.

شدت من ضمها لها، وظلت تمسح على ظهرها بحنوٍ أمومي مشتاق إليها. أقبلت على صوت زغاريدها المبتهجة الصغيرة رقية، فقفزت طربًا لرؤية ابنة عمتها، وركضت إليها تناديها:
- فيروزة!
انضم إليهن خليل، وحرك مقعده المدولب في اتجاه الباب محاولاً الترحيب بها أيضًا، فقال بصوتٍ لا يخلو من سعادته:
-البي، ت مكان، ش ليه ح، س من غي، رك.
هتفت همسة قائلة وهي تمسح دموعها العالقة في أهدابها:.

-طب خلونا ندخل، مش هنفضل واقفين على الباب كده.
ردت عليها والدتها بصوتٍ شبه متأثر:
-من فرحتنا يا همسة بأختك، الحمدلله إن ربنا نجاها من اللي كانت فيه...
ثم أحاطت ابنتها من كتفيها؛ كأنما تحميها من المخاطر المحدقة بها بتلك الطريقة البسيطة، وحثتها على التحرك معها قائلة:
-تعالي يا حبيبتي.
أوصلتها على مهلٍ إلى غرفتها، ووجهت كلامها إلى توأمتها وهي تزيح الغطاء لتهيئ لها الفراش حتى تستلقي عليه:.

-بس مقولتيش إنكم جايين ليه؟
أجابتها مسترسلة:
-كله حصل في تكة يا ماما، الدكتور دخل شافها، وقالنا بقت أحسن، وهيكتبلها على خروج، والحمدلله إن هاجر وأخوها كانوا موجودين ساعتها، مارضيوش يسبونا لوحدنا، ووصلونا لحد هنا.
تأكدت آمنة من تمديد ابنتها لجسدها، وامتدحت حسن أخلاقهما بترديدها
-ناس جدعة، وكلها شهامة...
ثم تحولت نبرتها للتوبيخ إلى حدٍ ما وهي تسأل همسة:
-طب ما عزمتيش عليهم ليه يا فالحة يطلعوا؟

أخبرتها الأخيرة بصورة عفوية:
-عملت كده، بس هما مرضيوش خالص، يعني عايزين يسبونا على حريتنا.
زمت شفتيها معقبة عليها:
-ناس أصيلة، فعلاً عيلة تفتخري بمعرفتها.
وافقتها الرأي، وقالت:
-أه والله.
تأكدت آمنة من تغطية جسد فيروزة، بعد أن تقلبت على جانبها لتغفو قليلاً، وأشارت لابنتها الأخرى، وللصغيرة رقية بالانصراف، حتى لا يزعجاها، ثم أغلقت الباب من خلفهما، وأردفت متسائلة:
-صحيح جوزك عامل إيه دلوقتي؟

التفتت همسة ناظرة إليها وهي ترد:
-الحمدلله
سألتها بنبرة مهتمة:
-قالك على اللي مضايقه؟
هزت رأسها نافية وهي تجاوبها:
-لأ، وأنا بصراحة محاولتش أعرف.
علقت في استحسانٍ:
-سبيه، كده أحسن، هياخد وقته، وهتلاقيه يفضفضلك...
اكتفت بتحريك رأسها كنوعٍ من التعبير عن استجابتها لنصيحتها، بينما تابعت آمنة توصيها:
-وإنتي من عندك شوية، لا تزعليه ولا تكسري بخاطره.
ردت مؤكدة لها:
-ربنا اللي عالم أنا بأعمل إيه معاه.

وضعت آمنة يدها على كتف ابنتها، وقالت بعد زفير بطيء:
-هو مالوش غيرك دلوقتي، واحنا مجربين الهم لما بيعشش جوا قلب الواحد.
ضمت شفتيها في أسفٍ، قبل أن ترد:
-معاكي حق يا ماما.

-سامع الزغاريط؟
استخدمت هاجر تلك الكلمات في سؤال شقيقها، أثناء جلوسها معه في السيارة، كنوعٍ من تحفيزه بشكلٍ متوارٍ وسبر أغواره الكامنة، عله يحرك ساكنًا، ويعترف لها بما يخبئه في أعماقه، فتسعى بطريقتها لتمهيد الطريق له، بقيت كل نظراتها عليه، وأضافت بمكرٍ، وتلك البسمة العابثة على محياها:
-مش كنا طلعنا معاهم؟

استحثته كل ذرة في كيانه على الصعود معها، ومرافقتها حتى اللحظة الأخيرة؛ لكنه قاوم تلك الرغبة بكامل ما أوتي من عزمٍ، حاول أن يبدو غير مهتم، وأخبرها بوجهٍ جاد:
-بلاش نبقى رزلين يا هاجر.
ضحكت قائلة في استمتاعٍ:
-عليا برضوه يا تميم؟ ده إنت تلاقيك آ...
قاطعها محذرًا بجمود جدي:
- هاجر! مابحبش كده.
لم ترهبها نبرته، وحملقت فيه متسائلة بلؤمٍ:
-طب عيني في عينك؟

أدرك أنه لن يفلت من قبضتها الفضولية إن تابعت الضغط عليه بتلك الطريقة الأفعوانية، لذا أدار محرك السيارة، ولف المقود بكلتا يديه، ثم حرك رأسه بعيدًا عن أنظارها المراقبة له، ليقول بعدها بوجومٍ:
-لا عيني ولا رجلي، خليني أوصلك عشان أشوف شغلي.
استمرت في ضحكها المستمتع وهي ترد:
-ماشي، براحتك خالص يا خويا.

تنفس بعمقٍ، والتزم الصمت ساعيًا ألا يثير الشكوك، وإن كان متأكدًا أنها باتت على دراية بغرقه في بحور العشق حتى النخاع، وإن واصل إنكار هذا أمامها؛ لكنه بات على يقين كبير باقتراب مجيء هذا اليوم الذي يبصر فيه حبه النور، حينها ستزهر براعمه وتنضج على يد واحدة فقط، مملوكة لطاووسه النفيس...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة