قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الخامس

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الخامس

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الخامس

لحظاتٍ من الذهول أصابتها، استفاقت منها سريعًا، ليرتفع حاجباها للأعلى في صدمةٍ، تخللتها علامات الفرحة الواضحة، فعلى عتبة باب منزلها، تقف شقيقة زوجها تنتظر استقبالها لها، وبحركاتٍ لا إرادية مسحت سماح على عباءتها المنزلية لتفرد قماشها المجعد، وهتفت مرحبة بها بحرارةٍ شديدة، وهي تتنحى للجانب قليلاً، لتتمكن من إفساح المجال لها، للمرور للداخل:
-يا 100 مليون مرحبًا، نورتي البيت يا ست آمنة.

لم تزح حمدية حجاب وجهها عنها، احتفظت به عليها ريثما تلج لمنزلها، لتضمن عدم رؤية أحدهم لها، ولو مصادفةً؛ كانت حريصة كل الحرص على إخفاء هويتها. تنحنحت وهي ترفع البرقع عنها، لتقول بعدها كنوعٍ من المجاملة، ويدها تحمل كيسًا بلاستيكًا:
-البيت منور بأهله.
سبقتها سماح في خطواتها، لتقترب من إحدى الأرائك، نفضتها بيدها لتزيح أي أتربة عالقة فيها، أو شوائب صغيرة، ودعتها للجلوس، بنفس الود الكبير:.

-اتفضلي هنا يا غالية.
رسمت ضرتها ابتسامة محبة زائفة على ثغرها، وتحركت في اتجاهها، وعيناها تحملقان بها بغموضٍ؛ وكأنها تدرس تفاصيلها، لترد بعدها بإيجازٍ:
-كتر خيرك.

مقارنة سريعة عقدها عقلها بينها وبين تلك المرأة، اعتبرتها لا ترتقي لمقياس السحر الأنثوي، ولا تستحق النظر إليها؛ فلم تكن تملك من الجمال إلا قدرًا قليلاً، جسدها ممتلئ، غير متناسق المنحنيات، ربما بشرتها أفتح بقدرٍ بسيط، الفارق الجدي الملحوظ بينهما هو اختلاف أعمارهما، فـ سماح تصغرها بعشرةِ أعوامٍ على أقل تقدير. انتبهت حمدية لنظراتها الزائدة، وأبعدت عيناها عنها، لتعلق بابتسامة صغيرة، وهي تسند الكيس البلاستيكي إلى جوارها:.

-ماشاءالله ياختي، بيتك زي الفل...
صاحب كلامها نظرات متأنية، مسحت بها تفاصيل المكان، وجاهدت كذلك أن تخفي ازدرائها فيها، على المنزل البسيط، الذي لا يحوي إلا أثاثًا زهيد السعر. عادت لتحدق في وجه مُضيفتها، وادعت كذبًا بابتسامة بدت إلى حد ما متقنة:
-الصراحة يرد الروح، مش زي بيوت تانية تخشيها يقبض نفسك.
ضحكت عاليًا، وعقبت عليها وهي تجلس على الأريكة المجاورة لها:
-الله يكرمك يا رب، ده من ذوقك والله...

ثم صمتت للحظة، لتضيف بعدها، بمزيدٍ من المدح:
-وربنا خليل ما ليه إلا سيرتك على لسانه طول اليوم، وأنا كان نفسي أوي اتعرف عليكي...
غلف العبوس تعابير حمدية، ولم يكن هذا كذبًا، بل صادقًا بدرجة كبيرة، لتعاظم حقدها بداخلها، غالبته بصعوبة، ثم مصمصت شفتيها، قبل أن تتابع بتنهيدة بدت آسفة:
-بس نقول إيه الظروف بقى.
تمتمت سماح ببسمةٍ لطيفة:
-الحمدلله.
ضاقت عينا حمدية، وأكملت بنبرة تميل للوم:.

-مالوش حق جوزك يخبي عليا.
أخبرتها بزفيرٍ مهموم:
-هو اتفق معايا على كده، مانجيبش سيرة لحد من طرفه، مع إن الحكاية دي ضايقتني أوي.
علقت عليها بتذمرٍ:
-هو أنا أي حد؟
ولتبدو مقنعة أكثر في تمثيل دورها، أضافت أيضًا، متجاهلة الغليان الحارق لصدرها:
-وبعدين هاكره لأخويا الخير؟ ده إنتي زي العسل وحلوة ونغشة كده.
كركرت سماح ضاحكة على إثنائها، وردت مجاملة:.

-ده من ذوقك يا ست آمنة، ياما كان نفسي أشوفك من زمان والله.
جاء ردها لطيفًا بشكلٍ مغاير للنيران المحتدمة بداخلها:
-القلوب عند بعضها يا حبيبتي.
لحظة من الصمت سادت بين الاثنتين، قطعتها حمدية بقولها الهادئ:
-بس مكدبش عليكي، أنا زعلت أوي لما قالي على جوازته منك، وكانت بالصدفة.
اكتسبت نبرتها إيقاعًا منزعجًا وهي تحادثها:
-هايعمل إيه بس؟ غصب عننا...
لكن ما لبث صوتها أن تحول للحنق، عندما استكملت جملتها:.

-كله من بوز الإخص مراته اللي ماتتسماش، منها لله قرفاه ليل ونهار، إن ما بيقول كلمة حلوة عنها أبدًا، أعوذُ بالله، ست ماتتعاشرش، يتفاتلها بلاد، ما إنتي أكيد عارفاها أكتر مني.
اشتعلت حدقتاها في غضبٍ، لسماعها تلك الإساءات المهينة في حقها، أخفضت أنظارها حتى لا ينكشف أمرها، وعقبت بزفيرٍ ثقيل:
-آه عارفاها.
ضحكة مفتعلة انفلتت من بين شفتي سماح، تبعها سؤالها:
-قعدتك الحلوة لهتني، ها قوليلي تشربي إيه؟

من الجيد أنها كانت بارعة في إخفاء مشاعرها المغتاظة، وإلا لفسد ما تخطط له، رسمت حمدية تلك الابتسامة الودودة على محياها، وقالت:
-مالوش لزوم، ده أنا جاية أقعد معاكي.
نهضت سماح واقفة، وهتفت في سرورٍ:
-ودي تيجي بردك؟ ده إنتي أول مرة مشرفاني، يا ريتني كنت أعرف من قبلها، كنت فرشتلك الحارة رمل وورد.
احتفظت بابتسامتها المشرقة، لترد بإيماءة استحسان من رأسها:
-أدها ياختي.
كررت عليها سؤالها في اهتمامٍ:.

-أعملك إيه؟
أشارت بعينيها نحو الكيس الذي جاءت به، وأخبرتها بنفس البسمة الهادئة:
-شوية شاي كده، أهوو ناكلهم مع الكيكة اللي عملتهالكم بإيدي.
هللت سماح في اندهاشٍ فرح:
-وكمان تاعبة نفسك؟
خدعتها بقولها الزائف، لتبدو حقًا كشقيقته آمنة:
-أكيد خليل قالك إن نفسي في الأكل حلو.
هزت رأسها بالإيجاب وهي تنطق في تبرمٍ:
-أومال، ده بيقولي على طول إنتي اللي بتطبخيله، بدل وش البومة اللي متجوزها.

سبة لعينة كانت على وشك الإفلات من حلقها، منعتها في اللحظة الأخيرة، وأردفت بنفسٍ عميق، وكلماتٍ بطيئة:
-أه يا، حبيبتي، ده أنا، شيلاه على كفوف الراحة، هو أنا عندي غيره سندي؟
نظرت لها قائلة بما يشبه الدعاء:
-ربنا يخليكوا لبعض.
أمرتها حمدية بجدية، وقد شرعت في إزاحة الكيس البلاستيكي، عن العلبة الصغيرة المغلقة الموضوعة بداخله:
-علقيلنا على الشاي، وهاتي طبقين من عندك عشان ناكل فيهم...

نظراتها الخبيثة تلونت بلمعانٍ مثير وهي تتم جملتها:
-ويا رب تعجبك.
لم تشكك أبدًا في نواياها الشريرة، وهتفت بترحيبٍ شديد:
-من غير حاجة عجباني يا ست آمنة، ده كفاية إنها منك.
اكتفت الأخيرة بهزة بسيطة من رأسها، ثم تحركت أنظارها في اتجاه الطفلة الصغيرة التي ظهرت أمامها، وبقيت لهنيهة مثبتة عليها. خطت سماح في اتجاه ابنتها، حينما رأت عيني ضيفتها عليها، أمسكت بذراعها، لتجذبها منه، وهي تقول:.

-بت يا كوكي، تعالي سلمي على عمتك آمنة.
بابتسامةٍ مهزوزة نطقت حمدية، وشعورها بالغيرة القاتلة ينهش فيها:
-ما شاء الله، دي بقى بنته؟
عرفتها بها، دون احتسابٍ، لسوء عواقب نواياها الطيبة:
-أيوه، رقية، وبناديها كوكي.
على مضضٍ علقت عليها:
-ربنا يخلي...

لازمتها نظراتها القوية، تدرس كل تفصيلة في ملامحها البريئة، إلى أن وقفت قبالتها، فاضطرت مرغمة، أن تحتضنها بكرهٍ شديد، أخفته بمزيدٍ من الجهد، أبعدتها عنها، وناولتها قطعة من الكعكة التي خبزتها لتأكلها الصغيرة، وأردفت قائلة:
-بنتك شبهك إنتي أوي
ردت سماح وهي توليها ظهرها:
-أه طلعالي، الكل بيقول كده.
برزت أسنان حمدية أكثر، وقد رأت الصغيرة تقطم قطعة من الكعكة، شجعتها لتناولها، بهسيسٍ أقرب لفحيح الأفعى:.

-عايزاكي تخلصيها كلها، عشان أبوكي خليل يتبسط منك.
دمدمت الصغيرة رقية ببراءة:
-حاضر.
تخشبت حمدية في جلستها، وجحظت عيناها بشدة، عندما سمعت صوت قرع الجرس، هوى قلبها بين قدميها، وهربت الدماء من وجهها، معتقدة أن زوجها الخائن قد حضر على غير موعده، رغم تأكيد الأخير استغراقه اليوم في عمله لساعات متأخرة، بسبب أعمال الجرد المكلف بها، شيعت سماح بنظراتٍ متجمدة، وقد هللت عاليًا، وهي تتجه نحو باب المنزل:.

-جاية أهوو.
حبست أنفاسها في ترقبٍ مرتعد، ما لبث أن تبدد بمجرد أن لمحت إحدى السيدات تقف أمام الباب، وصوت سماح المرحب يردد:
-إزيك يا ست أم دعاء؟
قالت الجارة في حرجٍ، ووجهها يعكس توترًا غريبًا:
-بخير يا حبيبتي، معلش ياختي هاعطلك شوية، وإنتي باين عليكي مشغولة، وعندك ضيوف.
تلقائيًا التفت سماح برأسها نحو حمدية، وعرفت بها بفخرٍ بائن:.

-ده مافيش حد غريب، دي الست آمنة، أخت خليل جوزي، جت تشوفنا، وتسلم على بنته.
هتفت الجارة بترحيبٍ:
-منورة يا حاجة.
اقتضبت حمدية في ردها عليها:
-تسلمي
وجهت أم دعاء حديثها لجارتها بلهجة جادة، وقد بدت مشتتة الذهن إلى حد ما:
-بصي يا سماح، هاتقل عليكي شوية، ده مفتاح الشقة، بعيد عندك أمي حجزوها في الحميات، وأنا رايحة عندها، واحتمال أبات هناك...
قاطعتها الأخيرة في أسفٍ:.

-يا ساتر يا رب، ألف سلامة عليها، دي كانت زي الفل.
غامت تعابير الأولى، وتابعت بحسرةٍ ظاهرة على تقاسيمها:
-الحمدلله على كل حال، لسه هانشوف الدكاترة هايقولوا إيه، وربنا عليه جبر الخواطر.
ربتت سماح على كتفها كنوعٍ من المواساة، بينما أضافت جارتها تستأذنها على عجالةٍ:.

-المهم يعني البت دعاء بنتي لسه في الدرس ومرجعتش، طلبتها على موبايلها، ماردتش عليا، وأبوها عنده وردية لمتأخر، فلو جت وخبطت عليكي اديها المفتاح، أنا هاقولها تعدي عليكي لما تكلمني.
تكلمت على الفور مبدية قبولها:
-وماله ياختي، بيتها، تيجي في أي وقت، أنا مش رايحة في حتة.
شكرتها بامتنانٍ كبير:
-تعيشي ياحبيبتي، ده العشم برضوه.
دعت لها سماح بنبرة راجية:
-ربنا يطمنك على الحاجة، ويشفي عنها يا قادر يا كريم.

اختتمت الجارة حديثها معها، فقالت:
-يا رب أمين، ومايوقعكيش في ضيقة أبدًا، فوتك بعافية.
ردت بعبارةٍ مجاملة:
-يعافيكي يا حبيبتي من كل سوء.
وقبل أن تغلق باب المنزل، أتاها صوت جارتها العالي قائلاً:
-سلمي على ضيفتك بقى.
أخبرتها بإشارة من رأسها:
-يوصل يا أم دعاء.
انتظرتها حتى هبطت بضعة درجات من السلم، لتغلق الباب، واستدارت بجسدها تستعد للذهاب إلى المطبخ؛ لكن فضول حمدية استوقفها بسؤالها:
-في حاجة؟

أجابت نافية، وبابتسامة عادية:
-لأ كله تمام، دي جارتي كانت قصداني في خدمة على السريع.
لم تعد مهتمة بمعرفة التفاصيل، طالما أن الأمر لا يُعارض تنفيذ مخططتها الدنيء، عادت توزع ابتساماتها عليها، وطلبت منها:
-طيب يالا ياختي، اعمليلنا شوية الشاي، عشان ألحق أقعد معاكي قبل ما أنزل.
هتفت سماح بنفس الترحيب الذي لم ينتقص منه شيء:
-ده إنتي منوراني النهاردة...
وقبل أن تواصل السير، لوحت بذراعها تخبرها:.

-وبعدين الزيارة دي ماتتحسبش، دي زي ما بيقولوا أعدة تعارف.
رغم اللهيب المشتعل بداخلها، إلا أنها احتفظت بنفس الملامح الوديعة، وردت بهدوءٍ مريب، بدا وكأنه يسبق حقًا عاصفة كاسحة:
-أيوه، الجايات أكتر من الريحات.

أول درجات الثقة بينهما، وربما البداية الجادة للإقدام على فعل المزيد، كانت في تركه يفتح الباب، بالنسخة الاحتياطية التي يحتفظ بها، لاستخدامها عند الطوارئ. أبقت فيروزة على مسافة بينها وبين الحارس الأمني، والذي بدا على نحوٍ غير عادي مهتمًا بأمرها، بلعت ريقًا غير موجود بجوفها، وأشــارت له بيدها نحو الأريكة الوحيدة بالمكان، قبل أن تستطرد قائلة بلغة انجليزية بسيطة:
-تفضل.

هز رأسه باهتزازة صغيرة، وقال راسمًا على محياه، ابتسامةٍ صغيرة، يمحو بها أي بوادر خوفٍ أو توتر:
-شكرًا لكِ سيدتي.
تقدم الرجل ما يقرب من خمسة خطوات، وتوقف في مكانه، رافضًا الجلوس إلى حيث أشارت، ليستطرد بعدها بصوتٍ عميق، كنوعٍ من الاستهلال المطمئن:
-في البداية، أود أن أخبرك أني أتحدث القليل من العربية، مع الانجليزية، فلن تكون هناك مشكلة في التواصل بيننا.
رمشت بعينيها وهي ترد:
-حسنًا.

وضع يده على صدره مضيفًا:
-كذلك أريد التعريف بشخصي، أنا أدعى كاران، وأعمل كحارس أمني هنا.
رحبت به بعبارة بسيطة:
-أهلاً بك.
غطى وجهه تعابيرًا جادة، وهو يتابع بنفس اللهجة الثابتة، وببطءٍ متعمد لتفهم مقصده:
-لكن قبل أن انتقل للحديث بشأن سبب زيارتي، أريد أن أوضح لكِ أنه قبل التحاقي بوظيفتي الحالية، كنت أعمل في أحد مراكز التأهيل الخاصة بالنساء المعنفات.
بدت بعض المصطلحات غريبة على مسامعها، فسألته:.

-اعذرني، لا أفهم.
حاول أن يفسر لها الأمر بلغتها الأم، فقال على مهلٍ:
-إنها إحدى المؤسسات المتخصصات، في رعاية السيدات اللاتي تعرضن، لأنواع من الإيذاء البدني والنفسي.
قطبت جبينها بتوجسٍ، وتقلصت عضلات وجهها أيضًا، وقد أشار نحوها مستأنفًا كلامه بتوضيح مكشوف:
-وما أراه الآن، يخبرني أنكِ إحدى ضحايا هؤلاء الأزواج القساة.
خفق قلبها في خوفٍ، وهتفت بصوتٍ مهتز:
-سيد كاران...

قاطعها بلطفٍ حين لاحظ أنها أجفلت، محاولاً تهدئة روعها قبل أن يتفاقم لاعتراضٍ مُعاند، ربما لا ينفعها:
-لا داعي لتبرير الأسباب، أنا جئت لمساعدتك، فقط عليكِ أن تثقي بي.
أطبقت على شفتيها، تصارع مع نفسها أفكارها المتناطحة بعقلها؛ فهناك ما يحثها على القبول بمساعدته، وأخرى تشدد عليها باتباع خطة ترسم معالمها بنفسها، انتشلها من استغراقها الواضح في التفكير، بقوله:
-ولا أنتظر أي مقابل، هذا واجبي سيدتي.

اعترضت بترددٍ:
-لكن..
من جديد قاطعها بمنطقيةٍ، مظهرًا لها الجانب السلبي لتخاذلها:
-صدقيني، صمتك عن تلك الإساءة الشرسة، سيدفعه لارتكاب المزيد، وربما تكون هناك ضحية غيرك، إن فرغ منك!
حقًا كانت على وشك الانهيار، ورؤية الوجه البشع لـ آسر، خلال استحضارها لوحشيته، المصحوبة باحتقاره المهين، قضت على آخر حصون تماسكها، اغرورقت عيناها سريعًا بالدموع الساخنة، وهتفت بشهقاتٍ متقطعة:.

-أنا في ورطة كبيرة، وأريد الخروج من هنا، لكني لا أستطيع، ليس الآن.
ترددها لم يكن محسوسًا في صوتها، بل ظهر على انتفاضة جسدها، سألها كاران في استغرابٍ، وقد بدا معتادًا على عزوف بعض النساء المعنفات، عن المطالبة بحقوقهن المهدورة:
-وما الذي يمنعك؟
كفكفت دموعها بظهر يدها، وهي ترد بتلقائية:
-ظروف
استطاع أن يفهم كلمتها المنطوقة بالعامية، وأخبرها بعقلانية علها ترضخ لمساعدته الجادة:.

-سيدتي بقاءك مع رجل عنيف كهذا، لن يتسبب إلا في إيذائك أكثر، صدقيني، من خبرتي الطويلة، وخلال ما رأيت طوال فترة عملي في مؤسستي السابقة، أعلم أن أمثال زوجك لا يتغيرون مطلقًا، القليل جدًا يتحسنون؛ لكن الغالبية العظمى تمارس العنف بشتى الطرق، ولن تنجي مع وحشيته المستمرة، عند نقطة ما ستنهارين.
قرأ في نظراتها المشتتة حيرتها، وتابع بصوتٍ أكثر جدية:.

-إذا أردتِ الخروج من هنا، يمكنني أن أوفر لك كل المساعدة المطلوبة.
نظرت إليه بعمقٍ؛ وكأنها تفكر مليًا في كل كلمة نطق بها، وتلك المرة لم يدفعها للتكلم، منحها الوقت الكافي للتفكير، إلى أن قالت أخيرًا:
-هل يمكن أن أحصل على هاتف محمول حديث الطراز؟
هز رأسه مدمدمًا:
-يمكنني توفير واحدًا لك.
أخبرته بكلماتٍ حاولت أن تبدو جيدة في السياق:
-سأدفع لك، لا تقلق؛ ولكن بإعطاءك قطعة من ذهبي الخاص.

ابتسامة ودودة احتلت ثغره عندما خاطبها:
-سيدتي، لا توجد مشكلة عندي في النقود، المهم حاليًا إخراجك من هنا.
فركت فيروزة أصابع يدها معًا، وسألته بلغتها الأم؛ وكأنها للحظة تناست أنه يختلف عنها في الجنسية، واللغة:
-حاجة تانية عايزاها منك تعملهالي، ممكن؟
لم يجد صعوبة في فهمها، ورد بنفس الوجه المبتسم:
-تفضلي.

سحبت شهيقًا عميقًا، استعانت به لتثبط من الانفعالات المتواترة التي انتابتها، لفظته على مهلٍ، وسألته بنبرة بطيئة، وبجملٍ مباشرة تعطيه المعنى المقصود:
-هل يمكن أن أصل لسفارة بلادي؟ أحتاج للتواصل مع أحدهم هناك، بصفة سرية.
منحها رده الموافق بإخبارها:
-لا بأس، سأتدبر الأمر.
شعور بالارتياح عرف الطريق إليها، حتى أنها لم تدرك أنها تبتسم وهي تقول:
-سيد كاران لا أعرف كيف أشكرك.

جاء رده عليها ناصحًا، ومحذرًا في نفس الآن:
-لم أفعل شيء بعد، ونصيحتي لك حاولي أن تتجنبي الاحتكاك المباشر به، إن استفزك في أمرٍ ما، أظهري له أنكِ ضعيفة، مستسلمة لأمرك، حتمًا سينجح هذا في خداعه.
هزت رأسها مؤكدة:
-سأفعل هذا.
أخبرها كاران وهو يتحرك في اتجاه باب المنزل:
-وسأكون على تواصل دائم معكِ.
تبعته بتؤدةٍ، وصوتها الممتن يقول له:
-شكرًا لك مرة أخرى.

استدار ليواجهها، قبل أن يشير لقفل الباب وهو يضيف:
-ساضطر لأوصده كما كان، حتى لا يرتاب زوجك.
تيقنت من تصرفه البديهي، أنه يتعامل مع وضعها الحرج، بذكاءٍ لا محل للتشكيك فيه، حركت رأسها وهي ترد عليه:
-طيب.
نظر لها بعدمِ فهمٍ، فصححت له:
-أقصد حسنًا
ودعها بتهذيبٍ كبير:
-مسرور لرؤيتك سيدتي.
أخبرته باسمها بعد أن أدركت أنها لم تفعل سابقًا:
-أنا أدعى فيروزة.
حاول نطقه، فقال بتلعثمٍ طفيف:
- فـ، فاروزا؟

رددته مجددًا ببطءٍ، ليستوعب نطقه الصحيح:
- فيروزة.
هز رأسه، ووعدها بنبرةٍ، أدركت منها أنه جاد في نواياه:
-اعتذر، سأحاول أن أنطقه بصورة صحيحة في المرة القادمة، حين أحضر لكِ ما تريدين.
لم تعلق عليه، وتراجعت للخلف، ليتمكن من إغلاق الباب، لتغدو وحيدة في غربتها الموحشة، مع اختلاف كبير، أنها لن تستمر طويلاً!
...

فحصٌ شامل أجراه الطبيب، ومن معه من طاقم طبي، ليتم الوقوف على التطور الطارئ في حالة المريض، والتي شهدت سابقة نادرة قليلاً ما تحدث، في محيطه العلمي، وما إن انتهى من كتابة ملحوظاته، في التقرير المعلق على حافة فراشه، حتى عاد إلى مريضه، أرجأ إخباره بكافة الأخبار غير السارة، إلى أن تكتمل النتائج بين يديه؛ لكن لم يمنعه هذا من إعطائه تلميحًا موجزًا عما مر به، حتى يدرك طبيعة حالته، وبنبرة عملية لم تخلُ من لمحة من التضرع، استطرد الطبيب قائلاً بصوته الهادئ:.

-إنت راجل مؤمن بقضاء الله وقدره، اللي حصل في حالتك دي ممكن نعتبره معجزة، يعني لا قدر الله كان ممكن تطول في الغيبوبة، وخصوصًا إن الإصابات اللي اتعرضلتها مش بسيطة ولا سهلة.
زفير مصحوب بآلام لا طاقة لبشر بها، تحرر من رئتيه، تبعه بآخرٍ، ليقول له تميم بعدها:
-الحمدلله، أنا حاسس بنفسي، وعارف إن اللي أنا فيه مش هيّن.
أضاف الطبيب بهدوئه المعتاد:.

-حاليًا احنا لسه مش قادرين نحدد بالظبط تطور حالتك هايكون إزاي؛ لكن مافيش حاجة بعيدة عن ربنا، كل شيء وارد يحصل.
عقب في رضا:
-ونعمة بالله.
ظهر صوت الطبيب مترددًا بعض الشيء، عندما تحدث معه بغموضٍ ما:
-هي في حاجة فقط اللي أنا قلقان منها.
نظراته الجادة أوحت أن الخطب كبير، فسأله بترقبٍ:
-إيه هي؟
تنحنح في حرجٍ، وهو يجيبه:
-احم، هو يخص قدرتك الإنجابية.

جملة عادية، بدت موترة للأعصاب، عنها مفسرة لطبيعة حالته الطبية. لعق شفتيه الجافتين، وتساءل بوجهٍ شاحب:
-قصدك إيه؟
حاول أن يبحث عن الكلمات المناسبة لتوضيح الأمر له، فقال بتريثٍ، آملاً أن يكون قد نجح في إيصال رسالته له بتلميحاته المبطنة:
-للأسف المكان ده اتعرض لإصابة مباشرة، واحتمال يكون في أثر سيء عليك كزوج عايز يخلف، أو حتى تكون مع مراتك في وضع آ...

لاحظ تميم تعرقه الزائد مع محاولته إكمال جملته؛ وكأنه يخشى انفجاره الأهوج فيه، غضبًا لخسارة ما يميز أمثاله من الذكور الشداد، حيث اختتمها بإضافة:
-لأنه زي ما إنت عارف إنه مكان حساس للغاية، وأي ضرر فيه بـ...

فهم مقصده الحذر، دون الحاجة لمزيدٍ من التفاسير العلمية المنمقة، لإخباره أنه أصبح عاجزًا عن الإنجاب، بسبب ما مر به، فلا يأمل مستقبلاً في الحصول على طفلٍ، يحمل لقب عائلته، ويرثه، الأسوأ من هذا أنه ربما لن يتمكن من إقامة علاقة حميمية بشكلٍ يدعو للتفاخر؛ إن فكر في الزواج مجددًا، بعد أن ارتضت إحداهن بوضعه المؤسف، إذًا ملخص ما قاله؛ أنه حُكم عليه بالبقاء هكذا للأبد، لم يكن حانقًا رغم قساوة الحقيقة، فأي امرأة تستحق قلبه غيرها؟ أشاح بوجهه المتبلد بعيدًا عنه، وقال بهدوءٍ مريب:.

-كله خير من عند الله.
حاول الطبيب أن يهون عليه الأمر، فتابع:
-إنت راجل مؤمن يا معلم تميم، والعلم النهاردة بقى آ...
قاطعه بصوتٍ واجم، وعيناه لا تنظران في اتجاهه:
-أنا عايز أشوف أهلي، هما فين؟
أجابه مشيرًا بيده:
-كلهم موجودين برا
التفت نحوه، وطلب منه بصوتٍ آمل ألا يبدو مختنقًا:
-معلش يا دكتور، عايزهم جمبي.
أراد الاعتذار عن تلبية طلبه، فأخبره:.

-مش هاينفع، وجودهم معاك وكلامهم فيه إجهاد عليك، وده مش في مصلحتك دلوقتي، وأنا أفضل آ...
ارتفعت نبرته المنزعجة وهو يلح عليه:
-خليهم يشوفوني، ويطمنوا إني بقيت بخير، ده هيريحني أنا.
كان على وشك رفضه؛ لكن رجائه الصارم أوقفه عن الاعتراض عليه:
-أنا متعودتش أسترجي حد، فممكن يا دكتور تدخلهم عندي.
أومأ برأسه موافقًا وهو يرد محذرًا:
-حاضر، بس يا ريت ماتتعبش نفسك.

أطبق على جفنيه، وتنهد قائلاً بإرهاقٍ غلفه اليأس:
-ماشي.

احتضنت كفه بين راحتيها، وألصقت الثلاثة بوجنتها، رافضة إبعاد يده عن وجهها، لتتخلل رطوبة دموعها الحزينة أصابعهم، ظلت أنظارها الحنون مثبتة على وجهه المتعب، فتعابيره الواهنة ما زالت تنطق بآلام مرضه. لم تستطع ونيسة ضبط نفسها، وظلت تبقي طوال الوقت، رغم رجاوات ابنها بالتوقف عن هذا، كررت اعتذارها منه، عن جفائها القاسي معه، بصوتها الباكي:
- تميم، حقك عليا يا غالي.
رد عليها بتزمتٍ:.

-خلاص يامه، متوجعيش قلبي.
هتفت في ندمٍ، وصوت نهنهات بكائها يزداد:
-يا ريتني كنت أنا.
قال بمرارةٍ طغت على لسانه؛ وإن لم تظهر على ملامحه:
-بعد الشر عنك، أنا الحمد لله أهوو بخير قصادك.
هتف بدير يوبخ زوجته بضيقٍ، حينما لم تعد قادرة على التحكم في بكائها المزعج:
-يا ولية كفاية نواح عليه، الضاكتور قال كلمتين وبس، مش نقلبها نكد وغم.
حرك تميم عينيه في اتجاه والده، وبرر حزنها بابتسامةٍ فاترة:.

-سيبها يابا، ماتزعقلهاش، هي كانت قلقانة عليا.
ردت عليه والدته بنظراتٍ عطوف:
-ربنا يباركلي فيك يا ضنايا.
ثم قبلت يده التي تحتضنها، بينما أردفت هاجر قائلة باعتذارٍ نادم للغاية:
-سامحني ياخويا، أنا ظلمتك، وجيت عليك جامد.
ركز أنظاره عليها، وأخبرها بنبرة متفهمة:
-إنتي أختي يا هاجر، محدش يزعل منك.
صاحت في لوعةٍ، تاركة عبراتها تنطلق على وجنتيها، كما لو كانت في سباقٍ للعدو:.

-منه لله الظالم اللي عمل فيك كده.
رمقها تميم بنظرة غامضة، على ما يبدو لم تعلم بعد بتورط زوجها الحقير في محاولة قتله، ولم يرغب في إخبارها بهذا الآن، ليترك الأمر معلقًا ريثما يستعيد عافيته، انتبه لصوت جده الذي نطق من جانبه، واستدار ناحيته:
-شيد حيلك يا تميم.
ظلت ابتسامته الراضية تحتل وجهه، وغمغم بأنفاسٍ متعبة:
-كله على الله يا جدي.
تكلم والده مجددًا، ليقول له:.

-كل اللي بيحبوك هنا، و منذر و دياب واقفين برا، ماسبوناش للحظة، حتى سراج فضل معاهم.
المقطع الأخير من حديثه كان مدعاة للحيرة والفضول؛ فرغم العداوات الشرسة بينهما، إلا أنه في وقت أزمته الخطيرة، كان الأسبق لنجدته، دونًا عن أي شخصٍ آخر، ليظهر معدنه الأصيل، ولم ينكر أنه كان ممتنًا لوجوده، وإلا لهلك عن بكرة أبيه. تحركت يد تميم لتشير مع آمره الجاد:
-ناديهملي يابا.

تعقدت ملامح بدير، وانعكس الاستغراب على نظراته وهو يسأله:
-ليه يا ابني؟
جاوبه على مهلٍ:
-يطمنوا عليا بردك، كتر خيرهم تعبوا أكيد.
هز رأسه وهو يعقب عليه:
-أه والله...
ثم رفع عكازه ليشير به نحو زوجته، وأمرها بلهجته الصارمة:
-تعالي يا ونيسة، سيبي ابنك ياخد نفسه.
أطلت من عينيها نظراتٍ حانية، مليئة بلهفةٍ ملتاعة، لتنطق في اعتراضٍ بسيط:
-هاين عليا أفضل هنا تحت رجليه.
-أخبرها ابنها بهدوئه الإجباري:.

-معلش يامه، شوية وهترجعي تاني.
رغمًا عنها أزعنت لطلبه، وانسحبت مجرجرة ساقيها، خلف زوجها وابنتها من الغرفة، ليكون الجد الوحيد الباقي معه، تحدث الأخير من زاوية فمه ليخبره بلهجته المتشددة؛ وكأنه يقرأ ما يدور في رأسه:
-ماتسبش حقك يا تميم.
لم يضلله في قوله الصريح، والمليء بوعودٍ نافذة:
-هايحصل يا جدي.

دفعته نزعته الرجولية، للتصرف بشهامةٍ، مع والدته سليطة اللسان، وشقيقته المزعجة، رغم رغبته في الذهاب مع باقي العائلة لرؤية تميم، والاطمئنان عليه. تقدم هيثم نحو مخرج المشفى الأمامي، وصاح قائلاً بإشارة من سبابته نحو موقف السيارات المتواجدة على مسافة بضعة أمتارٍ من البوابة الرئيسية للصرح الطبي:
-تعالوا اركبوا معايا أما أوصلكم البيت.
زجرته بثينة تنعته بتهكمٍ غير مقبول:
-ماشي يا دلدول المحروسة.

ضرب كفًا بالآخر هاتفًا بتذمرٍ مستنكر لوقاحتها:
-استغفر الله العظيم، ولازمته إيه الغلط يامه؟ دي أخرت المعروف معاكو؟ بدل ما تقوليلي شكرًا، وكتر خيرك يا ابني.
رمقته بنظرة احتقارية ساخطة، قبل أن تواصل تعنيفها الفظ:
-بناقص منها ركوبة، وقفلنا تاكسي يا معدول.

كان يومه مشحونًا بالكثير من الأعباء، ولم ينقصه اكتمال يومه الشاق بتلك السخافات الوقحة، لهذا لم يتحمل هيثم إساءتها، ورد عليها بانعدامِ ذوقٍ؛ وكأن اقتراحها قد لاقى ترحيبًا واسعًا منه:
-يكون أحسن يامه...
وقبل أن توبخه هلل عاليًا ليوقف أحد سائقي سيارات الأجرة:
-ياســــــطا!
تبعته بثينة بنظراتٍ مغتاظة، وغمغمت من خلفه قاصدة إهانته، وهي تتفل كذلك:
-تربية ناقصة، اتفوو.

لم يكلف نفسه عناء الرد عليها، فقط أعطى للسائق أجرته كاملة، وأخبرها وهو يتحرك بعيدًا:
-ماتدفعيش يامه، سلام.
همهمة غير مفهومة خرجت من جوفها؛ لكنها بدت لعنًا لشخصه على الأغلب، استقرت في المقعد الخلفي، وإلى جوارها جلست خلود، لتشير بعدها للسائق بالتحرك، وبمجرد ابتعاد السيارة عن المشفى، نطقت ابنتها بحرقةٍ انعكست حتى في عينيها الملتهبتين:.

-كان عندك حق يامه في كل كلمة قولتيها، وكل حاجة عملتيها عشان تنتقمي منهم.
تطلعت إليها والدتها في اندهاشٍ، قبل أن ترد بتبرمٍ:
-أخيرًا عقلتي، وشيلتي أمور الجنان دي من مخك.
لم تنظر نحوها، بل حملقت في الطريق بنظراتٍ مليئة بكراهية مضاعفة، لتخبرها بوعيدٍ حانق:
-عقلت بس؟ ده بحق كل لحظة استنيته فيها، وكل دمعة عيطتها عشانه، لأخليه يندم على اليوم اللي سابني فيه.

تهللت أسارير بثينة لسماعها مثل تلك العبارات الناقمة، أدركت حينها أن ابنتها قد عادت لرشدها، وتخلت عن تصرفاتها الصبيانية الخرقاء، ربتت على فخذها، ومدحت إظهارها للجانب الشرس فيها:
-أيوه كده فرحيني، الحمدلله طمرت فيكي اللقمة اللي أكلتهالك.
على الأغلب لم تكن خلود منصتة لوالدتها، فلسانها تكلم بنفس اللهجة العدائية، مستجمعة في قلبها كل بُغضها المقيت، لرفضه قربها:.

-الأيام بينا يا تميم، وبنت خالتك اللي حرمتها عليك موجودة بس عشان تخرب حياتك، وتحرق قلبك على كل حاجة غالية عندك، لحد ما تجيلي راكع، وساعتها هدوس عليك.

بدأ مفعول السم -المختلط بالمخدر الطبي- يسري في عروق الاثنتين، بعد أن دفعتهما بالحيلة، لتناول الكعكة التي أعدتها خصيصًا لهما، حتى تتمكن من التخلص منهما معًا، دون أن تريق ذرة دماءٍ واحدة. وصفة شيطانية ظلت تختبر فاعليتها على القطط الشاردة، حينما كانت تعطيها لهم كإحسانٍ مقنع، بينما غرضها الأساسي ضمان تجربتها. راقبت حمدية بنظرات استمتاعٍ مميتة، تراخي جسد سماح على الأريكة رويدًا رويدًا، إلى أن سكنت كليًا. انخفضت عيناها نحو يدها المتدلية إلى جوارها، قبل أن تسقط من بين أصابعها، بقايا قطعة لاكت جزءًا منها، وحتمًا مازال البعض عالقًا في حنكها.

نهضت واقفة على قدميها، تحدجها بنظراتٍ استطالت عليها باحتقارٍ أكبر، بعد أن أزاحت طبقها الذي لم تمسه عن حجرها، أسندته على الطاولة، وتقدمت في اتجاهها إلى أن باتت قبالتها. ركلت بقدمها ساقها المرتخية، فاستجابت لدفعتها الغليظة، وتحركت من مكانها، لتؤكد لها فقدانها للوعي. ابتسامة انتصارٍ اعتلت ثغرها، قبل أن تبددها بتحريك فكها لتلعنها:
-بالسم الهاري.

تفلت فوقها باشمئزازٍ، قبل أن تتركها، وتتجول في أرجاء المنزل، لتفتش عن الطفلة الصغيرة، وجدتها في غرفتها مستلقية على الأرضية، رمقتها بنظرة حقودة، مليئة بالغل، وهي تهسهس متسائلة مع نفسها:
-إنتي أحسن من ولادي في إيه؟
اعتلى زاوية فمها ابتسامة انتصارٍ؛ كما لو أنها ظفرت بمعركتها الحاسمة، وهي تواصل قولها:
-أديكي غورتي في داهية إنتي وأمك.

نظرة أخرى شامتة ألقتها على الطفلة، قبل أن تخرج من غرفتها مكملة حديثها المتباهي:
-وريني بقى يا خليل هاتعمل إيه لما تعرف بموتهم، لأ، وماتبقاش حتى قادر تزعل عليهم!

كانت مستمتعة –حد المرض- بلذة انتقامها المدمر، وبتؤدةٍ اتجهت إلى المطبخ، ووجهها يبدو وكأنه يفح بشرورٍ لا نهاية لها. بحثت بعينيها عن الموقد، وجدته عند النافذة الوحيدة التي تنير المكان، تحركت صوبه، لتفتش عن الأنبوب الموصول به، تأكدت من عدم غلق صمام أمانه، قبل أن تدير مفاتيحه كلها دون إشعالها، ليتسرب الغاز الخانق منه، فتضمن بهذا الهلاك الحتمي لكلتيهما. خرجت منه عائدة إلى الصالة، لملمت بتعجلٍ أشيائها، ونظرت إلى جسد سماح لمرة أخيرة، لتملي عينيها الحاقدتين بجثمانها الفاني، ثم غطت وجهها ببرقع نقابها الأسود، قبل أن تخطو خارج المنزل، وابتسامة شيطانية متسعة تسود على وجهها القاتل.

محبةٌ لا تحتاج إلى تزييفٍ، كانت السمة المشتركة بين ثلاثتهم، حينما وطأوا غرفته، ليكونوا إلى جواره، بعد استعادته لوعيه، أملين أن يكتمل شفائه على خير، فالرجال معادن، ومثله يصعب تعويضه! نظرة مليئة بالتفاؤل أطلت من عيني منذر، نحو رفيقه المقرب إلى قلبه، يتبعها جملته الغبطة:
-حمدلله على السلامة يا صاحبي.
التفت ناظرًا إليه وهو يرد:
-الله يسلمك يا منذر..
داعبه دياب بطرافته المهونة من صِعاب الأمور:.

-إيه يا عم، هما غفلوك ولا إيه؟ ده إنت معلم على أجدعها شنب.
كان رده متمهلاً -ومبررًا- عندما تكلم:
-أنا كفيل بيهم، بس الكترة تغلب الشجاعة.
هز رأسه مؤمنًا عليه:
-في دي معاك حق.
بينما أردف سراج قائلاً، وهو يتحسس مؤخرة عنقه:
-ياما دقت على الراس طبول، واسأل مجرب.
لم يستطع دياب منع ضحكة مرحة من الانطلاق، ومازحه بتسليةٍ، وأنظاره مسلطة عليه:
-طبعًا يا سراج.

ضحك تميم لطرفته المقصودة، فتألم صدره، وتأوه بأنينٍ جاهد لكتمه. حدج منذر شقيقه بنظرة صارمة، ليكف عن سخافاته فلا يؤذيه بثقل دمه، ثم عاد ليحدق في وجه رفيقه الذابل، ودخل في صلب الموضوع مباشرة، متسائلاً دون تمهيد:
-من غير ما نتعبك في الكلام، الليلة دي وراها محرز، مظبوط؟
بإيجازٍ أجابه تميم:
-أيوه.
هتف دياب في جديةٍ، ونظراته تؤكد سعيه الدؤوب للوصول إليه:.

-احنا قالبين الدنيا عليه، ولو تحت الأرض، هانجيبه مرمي عند رجليك.
رد عليه مبديًا ثقته في وعده:
-أنا مطمن...
سعل قليلاً، وتابع بصوتٍ بعيد كل البعد عن الهزل:
-عايزكم لحد ما أقدر أقف على رجلي، تاخدوا بالكم من أهلي.
أخبره منذر بلهجةٍ جادة للغاية:
-إنت بتوصينا على ما بين، ده أبوك أبويا، وجدك يعتبر مربيني معاك.
وأيده دياب في قوله؛ وكأنه يجدد وعده له:
-كلهم في عنينا.

حاول أن يرفع يده ليؤكد عليه بحنقٍ غلف نبرته المتعبة:
-الكلب محرز ما يقربش من أختي.
هنا نطق سراج بصرامةٍ غريبة:
-متقلقش عليها، وراك رجالة.
شردت نظراته عن ثلاثتهم، ليحملق بعينين فارغتين في سقفية الغرفة، وهو يحادثهم بتوجسٍ قلق:
-الله أعلم بيفكر في إيه، بس ماتستبعدوش يخطف ابنه منها ويساومنا، وخصوصًا لما يعرف إني قومت منها.
علق عليه دياب بشفاه مقلوبة:.

-طبعًا ابن حرام مصفي ويعملها، بس اطمن، احنا سدادين.
تساءل منذر في اهتمامٍ:
-البوليس زمانه خد خبر كمان، هاتقولهم إيه؟
انخفضت نظرات تميم في اتجاهه، وبقيت لبرهة مثبتة على ملامحه الحائرة، قبل أن ينطق بما لا يدع مجالاً للشكِ، أن رده سيكون عنيفًا، ورادعًا:
-حقي بأخده بدراعي.

لهثت أنفاسها، وهي تعدو في خطواتها السريعة، لتصل إلى ناصية الشارع، بعد يومٍ طويل استنزف كامل قواها، وصوت والدتها الحاد ينطلق من هاتفها المحمول، ليخترق أذنها، ويوصيها بالالتزام بالبقاء في المنزل، إلى أن تعود لاحقًا إليها. بمجرد أن توقفت دعاء عند مدخل عمارتها، أخبرتها بصوتٍ مُجهد:
-خلاص يا ماما أنا وصلت، حاضر هاطلع عند أبلة سماح أخد منها المفتاح، وآ..

توقفت عن إكمال جملتها، وفقدت تركيزها معها، بسبب رؤيتها لحشدٍ من سكان البناية مجتمعين أسفل الدرج، اقتربت منهم، وتساءلت في فضولٍ:
-في إيه يا جماعة؟
استدارت واحدة من الجارات نحوها، وأجابتها بانزعاجٍ:
-في ريحة غاز في العمارة، ومش عارفين جاية منين.
علقت أخرى في ضيقٍ:
-الظاهر حد نسى يقفل مفتاح الأنبوبة، وكلنا هنتخنق.
ظهر السخط على وجه أحدهم وهو يضيف:
-لازمته إيه الاستهتار ده؟

حاورته إحدى الجارات مبررة الأمر:
-ما جايز اللي التسريب عنده مايعرفش
اقترحت عليهم دعاء
-اطلبوا النجدة تيجي آ...
دوي انفجار عنيف، دون إنذارٍ مسبق، جعل الأصوات كلها تخبت بغتةً، وكأنه ابتلعها بقوته العظيمة، ليحل بعدها أصوات طقطقات أشد وطأة في عنفها، اختلطت بأدخنة وحرائق مهلكة، حولت المكان في طرفة عين، لفوهة مستعرة من الجحيم...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة