قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثالث عشر

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثالث عشر

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثالث عشر

رغبته في تجنيد فئة جديدة، تنضم للعمل معه، وفق شروطه الصارمة، قد أصبح أمرًا مؤجلاً حاليًا، بعد تدهور الأعمال مؤخرًا، وتعليق بث الجديد من المحتوى المثير على موقعه. فرك آسر رأسه بيده، محاولاً البحث عن وسيلة لتعويض الخسائر المتزايدة، خاصة بعد أن رأى انخفاض الأرباح، والمشاهدات عليه؛ لكن تعذر عليه الوصول للحل السحري، في وقت قياسي. تلفظ بسبةٍ لعينة، وأغلق الحاسوب النقال في عصبيةٍ، ليريح ظهره للخلف، على الأريكة الجالس عليها. تحرك بؤبؤاه نحو بقعة الدماء الجافة، التي ما زالت آثارها باقية على السجادة، ليعود بذاكرته لأيامٍ مضت، حينما تهورت فيروزة وسكبت القهوة الساخنة على لوحة مفاتيح حاسوبه القديم، في لحظة هوجاء منها.

آنذاك خرج عن شعوره، واختطف الفنجان من يدها، ليقبض عليه، ثم رفعه للأعلى، وانهال به على جانب رأسها في ضربة عنيفة مباغتة، جعلت نظراتها تبرق، وجسدها يتصلب. كرر الضربة بقساوةٍ أشد، فترنحت على أثرها، وتفجرت الدماء من رأسها، طُرحت أرضًا، وسكنت أطرافها، ركلها بقدمه في جانبها وهو يصرخ بها بوعيدٍ مُهلك:
-أنا هوريكي أيام سودة!

لكزها بعنفٍ مرة أخرى، على أمل أن تنتفض بألمٍ؛ لكنها بقيت ساكنة، تأملها بنظراتٍ محتقنة، مليئة بالغضب والغيظ، سريعًا ما تبدلت للقلق والارتعاب، مع ظهور بركة من الدماء أسفل رأسها، خشي أن تكون ضرباته العنيفة قد أحدثت الأسوأ، جف حلقه، وانحنى جاثيًا إلى جوارها، ناداها بصوتٍ أظهر خوفه على نفسه:
- فيروزة! بلاش الحركات دي!

وضع يده على كتفها يهزها منه، بقيت كما هي، لا حراك في جسدها، شحب وجهه، وحملق فيها بنظراتٍ مذعورة، دقق النظر في جرح رأسها، كان غائرًا، مخيفًا، الدماء تتدفق منه، تراجع في ذعرٍ، ومد إصبعيه نحو عنقها، ألصقه به متفقدًا نبض قلبها، شعر بوجوده، فتنفس الصعداء، وتساءل بأنفاسٍ مضطربة:
-العمل إيه دلوقتي؟
شعر بتلاحق دقاته، وقد تدارك حجم الكارثة التي زج بنفسه فيها، غمغم في هلعٍ:.

-أنا كده هاروح في داهية! والناس في البلد دي مابترحمش.

أعمل عقله بكامل طاقاته، محاولاً إخراج نفسه من تلك الورطة المهلكة، توهجت نظراته حينما طرأ بباله أن يحول المسألة برمتها لحادثة عرضية غير مقصودة، لا دخل له بها، ومُلقيًا باللوم عليها، لإهمالها في الانتباه لنفسها، لهذا قام آسر بتعديل وضعية جسدها، فأمسك بها من كتفيها، وقلبها على بطنها، لتبدو كما لو أنها تعرقلت في خطواتها، دون وعيٍ، فانكفأت على وجهها. نهض من جوارها، واتجه بخطوات شبه راكضة نحو الحمام، جال بنظراتٍ سريعة باحثًا عن الدلو الفارغ، وجده في الزاوية، فأمسك به، وملأه بالمياه، ثم أضاف مقدرًا كبيرًا من مسحوق الغسيل، ليحمله بعد ذلك نحو الخارج.

وقف بجوار جسدها المستكين، نظرة أخرى ألقاها عليها، قبل أن يشرع في تنفيذ باقي خطته، حيث ألقى بكميةٍ لا بأس بها على الأرضية، لتصبح زلقة للغاية، وبحذرٍ انحنى مجددًا عليها، قاصدًا نزع ثيابها الفوقية عنها. تعمد آسر أن يخفف من ثيابها المحتشمة، لتظهر نوعًا ما على أريحيتها، بقميصٍ منزلي قصير، شبه عاري، وكأنها كانت منهمكة في تنظيفها للمنزل بحريةٍ كبيرة، غير مكترثٍ بما يظهر من جسدها للغرباء حينما ينظرون إليها، لتكون تلك وسيلته الرخيصة لتشتيت الأنظار عنه. لم ينسَ كذلك إحضار الممسحة، ورفع بعض الأثاث، ليظهر المشهد منطقيًا. انتبه كذلك لفنجان القهوة الملوث بدمائها، أخذه إلى حوض المطبخ ليغسل الآثار من عليه، ثم نزع ثيابه عنه، وولج إلى الحمام مجددًا ليبلل كامل جسده بالمياه، فيبدو كمن انتهى لتوه من الاستحمام.

وما إن تأكد من إنجاز خطواته بالترتيب، حتى لف جسده بمنشفة قماشية، ثم سحب نفسًا عميقًا استعاد به انضباط أعصابه المرتبكة، وبدأ يهلل في فزعٍ؛ وكأنه قد تفاجأ بما أصابها:
- فيروزة حبيبتي، إيه اللي حصلك؟
تعمد أن يجثو إلى جوارها لتبتل المنشفة مكان ركبتيه، ثم نهض من مكانه، وهرول نحو باب المنزل مكملاً صراخه المستنجد باللغة الانجليزية:
-النجدة! أريد المساعدة هنا، زوجتي فاقدة للوعي.

في أقل من دقيقة نجح في إحداث جلبة بالمكان، وتجمع في منزله بعض الجيران، ينظرون في فضولٍ للجسد الساكن على الأرضية؛ لكن لم يجرؤ أحدهم على لمسها أو تحريكها، انضم إليهم الحارس الأمني كاران، اخترق الكتل البشرية، ليجد جسدها مستلقيًا في وضعٍ أقل ما يمكن وصفه بأنه مخيف. اعترته صدمة مرتاعة عليها، متوقعًا ألا تكون تلك الحادثة عابرة أو بمحض الصدفة، عكست نظراته المسلطة على وجه آسر شكوكه الكبيرة نحوه. لم يضيع الوقت، وهاتف الإسعاف على الفور، آملاً ألا يكون قد تأخر كثيرًا على إنقاذها.

استفاق آسر من شروده على رنين هاتفه المحمول، التفت برأسه نحو الجانب، والتقطه من جيبه، لينظر إلى شاشته، تجهمٌ عظيم استبد بكامل وجهه، دمدم بلفظة مزعوجة، قبل أن يجيب على الاتصـال:
-مرحبًا سيدي.
تلقى توبيخًا من الطرف الآخر، جراء الخسائر المتوالية، فقال بنوعٍ من التعهد:
-سأعوض كل شيء، فقط أمهلني بعض الوقت.
اخترق الصوت الغاضب أذنه قائلاً له:
-إن لم تصلح الأمر سريعًا، ستكون نهايتك!

وقبل أن يستجدي رب عمله أنهى المكالمة معه، لتزداد تعابيره إظلامًا، قذف بالهاتف في عصبيةٍ على الأرضية، وهتف في غضبٍ:
-هو أنا ناقص! هلاحق على إيه ولا إيه؟!

-كيف حالك الآن؟
تساءل كاران بتلك الكلمات المهتمة، بعد أن أخبره الطبيب هاني باستعادة فيروزة لوعيها، ليأتي على الفور لزيارتها، محتفظًا لنفسه بتلك الأخبار السارة، وملتزمًا بالتعليمات المشددة حول التكتم على خبر إفاقتها. نظرت في اتجاهه بعينين تعكسان حملاً ثقيلاً من الهموم، قبل أن تتقوس شفتاها لتظهر بسمة امتنانٍ له وهي ترد:
-بخير.
حاول أن تكون جملته التالية بلغتها الأم، عندما تعهد لها:.

-سينال الحقير عقابه.
أطبقت على جفنيها في ألمٍ، مقاومة انجرافها وراء ذكريات إهدار حريتها مع شبيه البشر المسمى بزوجها. فتحت فيروزة عينيها، ونظرت ناحيته، لتردد بقليلٍ من التفاؤل:
-أتمنى.
قاطع حديثهما دخول الطبيب هاني لغرفتها، أبصرت ابتسامته البشوش المحتلة وجهه، في حين ألقى الأخير نظرة مهتمة عليها وهو يسألها:
-إيه أخبارك يا مدام فيروزة؟ حاسة بإيه النهاردة؟
ردت بتنهيدة بطيئة:
-الحمدلله.

لثوانٍ تفقد الأوراق المثبتة في الحامل المعدني على حافة فراشها، وقال بهدوءٍ:
-التقارير بتقول إنك في تحسن..
لم تنطق بشيء، فاستأنف قائلاً، وعيناه تتطلعان إليها:
-قريب هتخرجي من هنا.
عكست تعبيراتها وجومًا مغلفًا بالألم، فأكد عليها بلهجةٍ غير ممازحة:
-بس مش هترجعي عند الحيوان اللي متجوزاه.
قالت بانهزامٍ، وهي تطرق رأسها للأسفل:
-أنا عايزة أرجع بلدي.
-هايحصل يا فيروزة!

رفعت رأسها فجأة للأعلى، بعد سماعها لتلك الجملة، من صوتٍ كان مألوفًا كليًا لها، ارتسم الارتياح على ملامحها الذابلة، وقد رأت الضابط ماهر يلج إلى الغرفة، رفرفت بعينيها لتتأكد أنها لا تتوهم وجوده، اضطربت أنفاسها، وهتفت تناديه غير مصدقة أنه هو:
- ماهر بيه!
قال هاني بابتسامة عريضة، بما يشبه التساؤل:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟

شعرت بوخزٍ في عينيها مصحوبًا بحرقةٍ بسيطة نظرًا لتجمع العبرات فيهما، لم تخجل من هذا، فبعد معاناتها المتواترة، كانت بحاجة للبكاء والتنفيس عن مشاعرها المكبوتة، كذلك تلقيها لكل تلك المساعدات، من هؤلاء الغرباء عنها، جعلها أكثر حساسية عن ذي قبل. تحرك ماهر نحو فراشها، ليبدو قريبًا منها، دارت نظراته على آثار الكدمات الظاهرة على ذراعيها، فلم تشفَ بعد كامل تورماتها القديمة، استنشق الهواء، ونطق بهدوءٍ أخفى خلفه ضيقه الشديد:.

-سلامتك يا فيروزة.
افتقرت للشجاعة لتشكو له جريرة سوء اختيارها، لزوج لم يعاشرها بالمعروف، ولم يمنحها سوى الألم والقسوة؛ لكنه بادر بإزالة حاجز الصمت الواضح، ليتطرق لهذا الموضوع الحرج، بإخبارها:
- آسر خدعنا كلنا زي ما خدعك يا فيروزة، مش إنتي بس اللي ضحيته.
بجهدٍ لا بأس به كبحت رغبة غريزية في البكاء، وسحبت نفسًا عميقًا تُحجم به مشاعر ضعفها. استقام ماهر في وقفته، ووعدها مرة أخرى:.

-وقريب هتاخدي حقك منه، بس...
بتر جملته قبل اكتمالها مما أصابها بالقلق، رفعت عينيها إليه، وسألته بقلبٍ يدق في خوفٍ:
-بس إيه؟
لم يكن من السهل عليه إطلاعها على القادم؛ لكن لا مفر، حتى تسير خطته على ما يرام، بدت ملامحه مزعوجة، واكتسب صوته لمحة من الضيق وهو يجيب عليها:
-لازم ترجعيله مؤقتًا.
هتفت رافضة دون منح نفسها أي فرصةٍ للتفكير:
-مش هايحصل!
تفهم عزوفها المنطقي عن العودة إليه، ومع هذا تمسك بطلبه قائلاً:.

-عشان يتحاسب على كل جرايمه معاكي ومع غيرك، أنا محتاج إنك تتعاوني معايا، ورجوعك ليه هيسهل علينا نوصل لأدلة تدينه في جرايم تانية، توصله لحبل المشنقة.
تشبثت برفضها الشديد، لتصيح بتشنجٍ:
-أنا مش هارجعله تاني، ده كان هيقتلني.
رد بتريثٍ:
-عارف ومقدر...
اِربدت بشرتها بحمرةٍ محتقنة، بينما اكتسب صوته إيقاعًا جادًا وهو يتابع:.

-إنتي مش لوحدك، كلنا معاكي، في تعاون كامل بين الجهات الرسمية لحمايتك، وفي نفس الوقت تكليف بالقبض على آسر واللي وراه.
ضغطت على شفتيها بقوةٍ؛ لكن نهج صدرها في انفعالٍ. راقب هاني اضطراباتها باهتمامٍ، وتحولت أنظاره نحو ماهر الذي واصل حديثه:
-واحد زيه مش هايكون شغال لوحده، في رؤوس كبيرة بتحركه.
تمسكت برفضها، وهتفت بصوتٍ متألم:.

-يا ماهر بيه أنا غلطت مرة لما سكت عن اللي عمله فيا، و كاران شاف أذيته ليا، مش هاضيع حقي تاني.
رد كاران مؤمنًا على أقوالها:
-نعم، لقد تآذت بشدة، لا يمكن عودتها إليه.
رمقه ماهر بنظرة ضائقة، قبل أن يبعد عينيه عنه، لينظر إليها برجاءٍ، فامتناعها عن التعاون معه، سيزيد الموقف صعوبة، طرد الهواء من رئتيه، وقال على مهلٍ:
-صدقيني مش هايلمس شعرة منك.
علقت عليه بتهكمٍ ساخط:
-إزاي إن شاءالله؟
قال بغموضٍ مثير للفضول:.

-بالخدعة يا فيروزة.
لم تبدُ مهتمة بمعرفة التفاصيل، وصاحت معلنة تمسكها برغبتها في الرحيل:
-أنا مش عايزة غير إني أرجع لأهلي.
تعهد لها بجديةٍ تامة:
-والله كل ده هيتم، بس لما نقبض عليه.
حملت نبرتها طابعًا من السخرية وهي تعقب عليه:
-إذا كان الشرطة مش عارفة تمسكه، أنا اللي هاعرف؟!
تغاضى عن استهجانها قائلاً:
-أيوه، وبدون أي مجهود.
تساءلت بتبرمٍ:
-فزورة دي؟
أجابها نافيًا:
-لأ، حاجة بسيطة جدًا.

قطبت جبينها بعبوسٍ، واستدارت برأسها في اتجاه هاني الذي أردف مسترسلاً في شرح معالم الخطة الغامضة:
-مدام فيروزة احنا هندعي إنك فقدتي الذاكرة مؤقتًا، مش فاكرة أي حاجة سوى إن جوزك بيحبك.
استنكار ممتزج بالنفور اعتلى تعبيراتها، احتدت نظراتها نحوه، وهتفت في دهشةٍ لازمها الازدراء:
-نعم؟!

على الرغم من توفير ما يلزمها من احتياجات أساسية، مع معاملة لائقة، تهون عليها لياليها القاسية، إلا أن بقائها في مكانٍ يعج بأمثال معتادي الإجرام كان لا يليق بسيدة مثلها، لم تجابه شيئًا مذلاً كهذا طوال حياتها. وضعت همسة يدها على كف والدتها المسنود على حجرها، مسحت عليه بحنوٍ، وخنقت دموعها التي تنازع للتحرر من حدقتيها، قبل أن تنطق بتفاؤلٍ لم يكن مقنعًا:
-هانت يا ماما، هتخرجي قريب.

سحبت يدها من أسفلها، وقالت بنبرتها البائسة:
-مش باينلها يا همسة خروج.
بلعت الغصة العالقة في حلقها، ورسمت بسمة لطيفة على محياها، لتضيف بعدها:
-متخافيش يا ماما، المحامي قالنا إن دي إجراءات لازم تتعمل في القضايا اللي من النوع ده.
ردت عليها بتحسرٍ لا يخلو من الاستهجان:
-شوفتي مرات خالك؟ عمالة تقول إيه للكل؟
هتفت في حنقٍ مغلولٍ ضدها:
-تقول اللي هي عايزاه، المهم النتيجة في الآخر.
أكدت عليها آمنة من جديد:.

-اقسم بالله يا بنتي ما أعرف حاجة عن مراته التانية، ولا عمري حتى شوفتها.
تعقدت تعبيراتها، وصاحت بضيقٍ:
-هو أنا مش عارفاكي يا ماما،؟ ده مافيش أغلب منك...
تضاعف الحزن على وجهها، فأضافت مهونة عليها الأمر:
-إن شاءالله ربنا هيظهر براءتك قريب.
تنهدت قائلة بإحباطٍ بائن عليها:
-يا رب، عشمي فيه كبير...
للحظة صمتت آمنة عن الكلام، لتتساءل بعدها بقلبها الملتاع:
- فيروزة كلمتك؟
أجابتها همسة نافية:
-لأ لسه.

أخبرتها بهاجسٍ ما زال يراودها إلى الآن:
-والله أنا حاسة إنه جرالها حاجة، مكانتش بتغيب عنا المدة دي كلها.
أخفت ابنتها قلقها هي الأخرى عليها أيضًا، لتقول بوجهٍ عابس؛ وإن كانت نبرتها تُظهر العكس:
-إنتي في إيه ولا إيه يا ماما؟ خلينا نطلعك من هنا، وبعد كده نشوف أحوالها.

اكتفت بهز رأسها، وأخفضتها محدقة في علب الطعام الموضوعة أمامها، لم تتناول سوى لقيماتٍ معدودة مما أحضرته لها، فمن لديه الشهية ليأكل في مكانٍ كهذا؟!

أعطى إشارته للمعاون الجالس إلى مسافة قريبة منه، ليبدأ في تسجيل أقواله، بعد سماح الطبيب له باستجوابه؛ وإن تعذر الحصول منه على ردود واضحة. تطلع المحقق إلى خليل المستلقي على ظهره، بقيت أنظاره عليه عندما استطرد يسأله بلهجة جادة:
-أستاذ خليل بتشك في حد معين يكون ورا قتل المرحومة سماح
نحيبٌ خافت صدر منه لسماعه لهذا اللقب الموجع، ففراقها ما زال يؤثر به كثيرًا. أعاد المحقق كلامه:.

-عايزك تهدى كده، وتركز، عشان تقدر ترد على أسئلتي..
بالكاد سيطر على نوبة بكائه، والمحقق يكمل بهدوءٍ:
-خلينا نوصل للي عمل فيها كده، ويتعاقب على جريمته.
منحه خليل إشارة من عينيه، كتعبير عن تجاوبه معه. لفظ المحقق الهواء من صدره، وسأله بصيغة أخرى:
-تفتكر مين ممكن يأذي مراتك؟
أظهر صعوبة في الرد عليه، عندما حرك شفتيه ليقول:
-مـ، عرفـ، ش.
هز رأسه بإيماءة روتينية، وتابع أسئلته له:.

-الجيران بيقولوا إن في واحدة زارت مراتك قبل وفاتها بحاجة بسيطة، عندك خبر عن الموضوع ده
انعكست علامات الاستغراب على محياه، فنادرًا ما كانت تستقبل زوجته الراحلة أحدًا في منزلهما، لعق شفتيه، ورد نافيًا:
-لأ
أكمل المحقق استجوابه الرسمي، وقال بنظراتٍ ثاقبة؛ وكأنه يتعمد بهذا أن يراقب ردة فعله:
-في كلام تاني إن أختك هي اللي كانت عندها.
تمتم خليل مرددًا اسمها بدهشة عظيمة، كما لو أنه يتساءل:
- آمنة؟

أكد عليه المحقق بصوته الجاد:
-أيوه، واحدة من الجيران شافتها عندها.
نفى خليل بكلماتٍ متقطعة، آمل أن تسعفه في إيضاح الحقيقة:
-أختـ، ي ما، تعـ، رفش سـ، ماح، أنا، مقولتـ، ش، لحد، عنها.
رد عليه المحقق بنظراته الذكية:
-بس بنتك قالت إن عمتها كانت هي اللي عندها.
ظل خليل يؤكد عليه بجهدٍ شديد:
- آمنة ما، تعــ، ملش كده.
-طيب هل بتشك في مراتك الأولى إنها تكون ليها صلة بالموضوع؟
نطق بإرهاقٍ مضاعف:
- حمـ، دية!

استأنف المحقق توضيحه:
-وخصوصًا إن أولادك الله يرحمهم ماتوا بنفس الطريقة اللي اتسممت بيها بنتك، ده بعد ما حصلنا على التقارير الطبية اللي بتؤكد ده.
بهتت ملامحه، وتقلصت عضلات وجهه، فبدا وكأنه ينازع للنطق بما يعجز اللســان عنه، استجمع بمجهودٍ زائد نفسه ليخبره:
- حــ، مدية تـ، عملها.
سأله بهدوءٍ شديد، رغم الوهج الظاهر في عينيه:
-إيه دليلك على إنها ممكن ترتكب جريمة بشعة زي دي؟
جاوبه بملامحٍ تحولت للاحتقان:.

-هـ، ي قـ، ادرة، معندهــ، اش قلب، ولا بتـ، حب حد.
علق المحقق بمنطقية:
-بس ده مش كلام يتاخد بيه في المحكمة.
ظل خليل يكرر رغم صعوبة نطقه، بانفعالٍ شديد:
- حمـ، دية تـ، عملها.
حاول المحقق استخراج المعلومات منه، وفهم أسبابه؛ لكن دون جدوى، فقد بقي يردد بألمٍ وحرقة:
-هي، حمــ، دية!

سعى المحقق لتهدئته، ومع هذا فشل، تشنجت أطرافه، وزاد احمرار وجهه، لذا طلب الطبيب المتابع لحالته التوقف عن استكمال التحقيق، بعد ملاحظته للضرر الذي لحق بجسده، جراء انفعالاته المتعصبة، استجاب له الأول، وأنهى استجوابه له، واضعًا المزيد من النقاط الهامة في الاعتبار.

تنهد كأنه خرج من مهمة شاقة، بعد انتظاره لأيامٍ، ليحصل على تفريغ كاميرات محال المنطقة، حيث أظهرت في محتواها، دخول امرأة ما، مختبأة في نقابٍ أسود، لا يُبين معالم وجهها، إلى البناية القديمة، لتمكث بالداخل لبعض الوقت، قبل أن تخرج بعد برهةٍ. هيئتها الجسمانية أشارت لتطابقها الكبير مع حمدية، على عكس آمنة التي بدت مكتنزة إلى جوارها، وأقصر في القامة. حامت الشكوك حول الأولى، وتأكد من صحتها بعد إطلاع الجارة أم دعاء على صورة فوتغرافية تم التقاطها لها بالقسم، لتؤكد أنها من رأتها بالداخل، قبيل إعطائها لمفتاح منزلها لجارتها الفقيدة. تبقى أمام المحقق مهمة أخيرة، تحتاج للتعامل فيها بأبوة أكثر عن مهنيته المعتادة.

رهبة التواجد في مكانٍ كهذا لا يمكن تخيلها على صغيرة مثلها؛ لكن لا مفر من استدعائها لسؤالها شخصيًا، فربما بشاهدتها تظهر الحقيقة كاملة، وبكل ودٍ وألفة، أجلس المحقق الطفلة على الأريكة الجلدية، في حضور ابنة عمتها وزوجها، لإشعارها بالأمان، وكذلك لسؤالها بعد تبديد مشاعر الخوف في نفسها، قدم إليها لوحًا من الشيكولاته، وسألها بلطفٍ:
-بتحبيها يا رقية ولا لأ؟
أجابته بتلقائية:.

-ماما قالتلي ناكل حتة صغيرة عشان ماتوجعش أسناني.
مسد على رأسها، وقال بنفس الوجه المبتسم:
-برافو، إنتي كده شطورة.
تركها تعبث بالورقة المغلفة للوح الشيكولاته، ثم ناداها بصوتٍ كان خافتًا:
- رقية!
نظرت إليه، فتابع بابتسامةٍ ظهرت مقتضبة:
-لو سألتك على حاجة ممكن تجاوبي عليا؟
اكتفت بالإيماء برأسها، فواصل حديثه في هدوءٍ:
-يا ترى خالتو اللي زارت ماما ولا عمتو؟
ببساطةٍ منحته جوابًا مباشرًا:
-أنا معنديش خالتو.

في نفس الأثناء تحفزت همسة في جلستها، وتطلعت بنظراتٍ مترقبة مليئة بالخوف إلى وجه الطفلة، خاصة مع سؤال المحقق الواضح:
-يعني عمتو هي اللي جت عندها؟
أتاه ردها قاطعًا:
-آه.
انعكست علامات الجدية على تعابيره، وبرزانةٍ أكمل أسئلته:
-كانت بتيجي كتير؟
أجابت الصغيرة نافية:
-لأ
تنفس بعمقٍ، ولاحقها بسؤاله التالي:
-طب وعرفتي منين إنها عمتو؟
جوابها لم يحمل أي مراوغة عندما أخبرته:
-ماما قالت كده.

نظرة مطولة منحها للطفلة، قبل أن تضيف ببراءة:
-بس الكيكة بتاعتها وجعت بطني، أنا مش عايزة أكلها تاني.
شهقت همسة في ارتعابٍ، فتشتت نظرات المحقق عن الطفلة، ليتأمل قسماتها المذعورة، عاود التحديق في وجه الصغيرة، وسألها على مهلٍ:
-وإنتي عرفتي منين إنها بتاعتها؟
تلكأت في إجابتها قبل أن تغمغم أخيرًا:
-ماما قالتلي دي من عمتو.

تضاعفت مخاوف همسة مع اعتقادها الشديد بأن الطفلة بعفويتها تلك، تزيد من توريط والدتها في هذه القضية الشائكة، لهذا تدخلت دون تفكيرٍ في الحوار، ونطقت بصوتٍ خرج مهتزًا، محاولة بهذا الدفاع عنها؛ وإن لم تملك الدليل المادي الملموس:.

-يا فندم أنا عايزة أقول لحضرتك إن ماما كانت بتعامل رقية أكتر من بنتها من وقت ما عرفنا بوجودها، استحالة تأذيها، وهي فضلت أعدة معانا كام يوم، يبقى إزاي هتضرها؟ في حاجة غلط والله، ده احنا معرفناش عنها إلا من خالي.
رمقها المحقق بنظرة غامضة قبل أن يقول:
-أنا فاهم شغلي كويس يا مدام.
هتفت مُصرة على البوح بما يعتري صدرها من هواجس مخيفة:.

-والله العظيم ما بأكدب، ماما متعرفش عنها حاجة، وأنا اللي جبتها من المستشفى ليها، استحالة تكون شافتها قبل كده، وآ...
قاطعها محذرًا:
-يا مدام أنا عارف بأعمل إيه، فلو سمحتي ماتدخليش.
وضع هيثم قبضته على ذراع زوجته، وأخبرها بصوتٍ خافت؛ لكنه صارم:
-خلاص يا همسة.
التفتت نحوه تقول بنواحٍ:
-يا هيثم والله ماما بريئة.
أخبرها مشددًا قبل أن تتلقى توبيخًا مزعجًا من المحقق:
-سيبي الباشا يشوف شغله يا همسة.

لم تستوعب وسط مخاوفها الزائدة، أن المحقق يستخلص الحقائق الكاملة من فم الصغيرة، لربطها بما جمعه من معلومات أخرى موثقة، وذات الصلة بالمرأة التي زارت والدتها القتيلة، ليكتمل المشهد الناقص، وتصبح الأدلة واقعية، غير قابلة للتشكيك...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة