قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الأربعون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الأربعون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الأربعون

استمر التردد يمسك بخطواته وهو يتجول في الردهة الطويلة، كمتنفسٍ متاح لإفراغ انفعالاته المتوترة المكتوبة بداخله، ريثما يخرج أحد الأطباء لطمأنته عليها. أحس تميم بمطرقة تهوي على رأسه كلما تذكر رؤية وجهها المخضب بالدماء بعد فُقدانها للوعي، أين اختفت الضحكات النضرة؟ أين ذهبت الأحلام والتطلعات؟ تحول البهاء إلى شحوبٍ وقهر. اعتصر الألم صدره، وضغط على قلبه فبات على وشك البكاء حسرةً عليها. تتبع والده حركاته العصبية بعينين متفرستين، ثم ناداه عاليًا:.

-تعالى يا تميم جمبي، ارتاح شوية، بلاش الخايلة الكدابة دي.
اعترض عليه وهو يستدير ناحيته ليخاطبه:
-مش قادر يابا.
رد بدير بهدوءٍ محاولاً تخفيف حدة التوتر المعكوس عليه:
-إن شاءالله الدكتور يطلع ويطمنا.
أخبره ابنه بما يدور في رأسه من هواجس جعلت معدته تتقلص وهو يفرك كفيه معًا:
-خايف يجرالها حاجة، ولا ت، تروح مني..
بنفس النبرة المطمئنة قال له عن يقين عظيم:
-إن شاءالله هتعدي منها، حط أملك في ربنا.

رفع تميم أنظاره إلى السماء، والدموع تنفر من عينيه، ثم تنهد هامسًا بخشوع:
-يا رب احفظها ليا.
اضطربت كامل حواسه، واضطرم في فؤاده الخوف عندما رأى الطبيب مقبلاً عليهما، تحرك في اتجاهه، كما نهض والده أيضًا من على المقعد المعدني، وقبل أن يبادر تميم بسؤاله عنها؛ كان الطبيب الأسبق في الاستفسار:
-إنتو قرايب المريضة؟
أكد عليه دون تفكير:
-أيوه...
ثم غلف التلهف صوته وهو يسأله:
-هي مالها يا دكتور؟

دار الطبيب بنظراته بين وجهيي الاثنين، وخاطبهما بتمهلٍ، محاولاً شرح طبيعة حالتها:
-من الناحية العضوية مافيش حاجة مقلقة، يعني الجرح اللي في رأسها بسيط، ومع الوقت هيخف...
استشعر تميم بقلبه أن القادم في حديثه يحمل سوءًا، وصدق حدسه عندما تابع مسترسلاً في إيضاحه:
-للأسف هي في حالة انهيار عصبي شديد، ولازم تفضل تحت الملاحظة لكام يوم.
سأله بدير مستفهمًا:
-وده خطير يا دكتور؟
أومأ برأسه إيجابًا وهو يجيبه:.

-أيوه، ممكن يحصل مضاعفات، ويوصلها لحالة أسوأ، ده لو مافيش خطوة جدية للمتابعة والعلاج النفسي، وعشان كده الزيارة ممنوعة عنها اليومين دول.
بقلبٍ يدق في جزع رجاه تميم، وبؤبؤاه يتحركان بشكلٍ مرتعد:
-طب قولنا نعمل إيه عشان تفوق وترجع زي الأول، واحنا مش هنتأخر عليها، اللي هتأمر بيه هيتنفذ في الحال.
تحولت أنظار الطبيب نحوه، وبلهجته العملية حادثه:.

-الأفضل طبعًا ليها إنها تتابع مع دكتور نفسي، هو المتخصص في النوعية دي من الحالات وآ...
لحظة صمت فيها عن الكلام، ليضمن استحواذه على كامل انتباههما، قبل أن يضيف بما يشبه النصيحة، فشدد عليهما:
-ويا ريت الفترة الجاية تبعد عن أي ضغوطات نفسية، لأن مانضمنش ردة فعلها هاتكون إيه، وخصوصًا وهي في الحالة دي.

انخلع قلب تميم في رهبةٍ، وشعر برجفة باردة تسري في عروقه رغم ارتفاع حرارة جسده؛ لكنه خوفه عليها فاق حد احتماله، بينما هز بدير رأسه معقبًا:
-ماشي كلامك يا دكتور.
استأذن بالانصراف وهو يرسم على ثغره ابتسامة عملية منمقة:
-عن إذنكم.

لم ينبس تميم بكلمة، انفصل كليًا بوجدانه وعقله، ليفكر فيها متوقعًا تدهور حالتها، حدق في الفراغ بنظراتٍ ذائغة، تائهة، تحمل من الهموم أثقالاً، بدا وكأن أحدهم هشم رأسه بحجرٍ صلب فجعل كالعاجز، لا يقوى على شيء. وضع بدير قبضته على كتفه، استعاد الأول القليل من انتباهه مع ضغطه القوي عليه، والتفت محملقًا فيه بوجومٍ تعس، استطرد والده قائلاً بنبرته الهادئة:
-احنا معاها يا ابني، مش هانسيبها لوحدها.

بصوتٍ لم تخيبه أذنه، نطق تميم منتحبًا، وكأن البكاء قد شق طريقه إلى نبرته:
-خايف تروح مني يابا بعد ده كله.
شدَّ عليه كنوعٍ من العتاب الرقيق:
-كله مقدر ومكتوب يا ابني، خليك مؤمن بقضاء الله، وحكمته في كل حاجة بتحصل، وأنا بأقولك إنه مش هاسيبها، وهيعوضها ويجازيها خير عن كل أذى شافته...
لمعت عينا ابنه بعبراتٍ كثيفة، فأضاف أباه مرددًا:.

-واحنا معاها وواقفين جمبها، وفي ضهرها، مش هنقصر معاها في حاجة، كل اللي هتحتاجه هنوفره ليها، ولو حكمت هنسفرها برا هنعمل كده.
انزلق تميم يحتضن والده في حبورٍ، وعيناه تنفران الدمعات الساخنة منهما، سحب نفسًا عميقًا يهدئ به من حالة التأثر الحزينة المسيطرة عليه، ثم تراجع عنه ليشكره:
-ربنا يخليك لينا يابا.
حمحم والده مكملاً بلهجته الجادة:.

-المفروض نكلم أمها نعرفها، مش معقول لحد دلوقتي متاخدش خبر باللي حصلها.
هز رأسه متفهمًا ذلك، فتابع موجهًا إياه:
-كلم الواد هيثم، وعرفه اللي حصل بالهداوة، وقوله يروح لعند أمها يحكيلها بالمختصر المفيد من غير ما يخضها، ويجيبها ويجي.
-ماشي يا حاج.

قال تميم عبارته وهو يخرج هاتفه المحمول من جيبه، لينفذ ما أمره والده كما أشار حرفيًا، احتاج إلى شجاعته الآن ليقف ثابتًا أمام ما تجابهه؛ لكن الروح خانته فافتقر إلى بسالته، وظل قلبه يدعو الله لها طمعًا في أن يزيح عنها همومها.

جاءت على وجه السرعة، وفي عينيها خوف شديد، تلفتت آمنة بنظرات تائهة متوترة حول نفسها باحثة عن رقم غرفة ابنتها بعد أن تم نقلها إليها، قابلت في الردهة بدير ومعه ابنه، يقفان خارج حجرتها، تسابقت في خطواتها مع الصغيرة المتعلقة في كفها، تاركة هيثم يلحق بها في تباطؤ. توقفت عن الهرولة، وتساءلت بصوتٍ لاهث لا يخلو من الجزع:
-بنتي فين؟ حاجزينها ليه هنا؟

اعتدل تميم في وقفته المرتكنة إلى الحائط، لينظر نحوها بترقبٍ، خاصة لتسلط نظراتها عليه تحديدًا، بينما أجاب عنه بدير بوجهه غير مشدود:
-اطمني عليها هي كويسة.
ما زالت تعبيراتها محتفظة بخوفها الأمومي وهي تخبره تلقائيًا:
-دي كانت نازلة من البيت زي الفل.
رد مؤكدًا عليها:
-متقلقيش، هاتبقى أحسن.
هتفت في إلحاحٍ محاولة الولوج لغرفتها:
-أنا عايزة أشوفها حالاً.
اعترض تميم طريقها قائلاً بوجوم:
-مش هاينفع يا حاجة.

انقبض صدرها بخوفٍ أكبر، ورددت بعويلٍ وبنظراتٍ شاخصة:
-يبقى بنتي جرالها حاجة وإنتو مخبين عليا.
هدأها بدير مصححًا سوء فهمها:
-لأ يا حاجة، دي أوامر الدكتور، محدش يخشلها إلا لما تفوق ويشوفوها الأول.
زمت شفتيها تشكوه في أسى:
-هي يا حبة عيني بقالها كام يوم عمالة تكتم في نفسها، أما خلاص مابقتش مستحملة.

غصة آلمت قلبه لمعرفته بمعاناتها المستمرة، وهو الذي ظن أنها تخطت ذلك الصدام؛ لكنها بقيت محتجزة بين قضبانه القاسية. أدار تميم رأسه في اتجاه والده الذي استمر في طمأنتها:
-كل حاجة هتبقى بخير، ارمي حمولك على الله.
هتفت في حزنٍ:
-ونعم بالله، خد بإيدها يا رب وزيح عنها.

تبادل تميم مع هيثم نظرات تحية صامتة، ووقف الأخير إلى الجانب منتظرًا معرفة التطورات اللاحقة، فاتجه إليه الأول ليطلعه على التطورات بعبارات موجزة، لينطق بعدها هيثم بصوتٍ خفيض:
-على فكرة أنا مقولتش لمراتي حاجة.
استحسن إرجائه لذلك بترديده الخافت:
-بعدين، بلاش تقلقها، كفاية الست أمها.
بنفس الصوت الهامس علق أيضًا:
-ما أنا قولت كده، هتعملي شوشرة، والحكاية مش باين معالمها لسه.

في هذه الأثناء، وقعت عينا بدير على الطفلة المبتسمة، بدا غير مرحبٍ بوجودها، وتساءل بتعابيرٍ مقتضبة:
-جايبة البت الصغيرة معاكي ليه؟
أجابته آمنة بعد تنهيدة مهمومة، وهي تجفف العبرات عن صدغيها:
-هاسيبها لمين بس؟ ما إنت عارف الظروف يا حاج.
قال، وفي عينيه نظرة غير راضية:
-ماينفعش البهدلة ليها في المستشفيات.
ضمت شفتيها في ترددٍ، قبل أن تخبره:
-هي هتفضل تحت نظري.
احتج على إبقاء الطفلة بقوله الصارم:.

-لأ كده تلبخك...
ثم أدار رأسه نحو ابنه يناديه بعد أن انزوى إلى جوار ابن خالته عند الحائط:
-يا تميم!
دنا منه هاتفًا في طاعة:
-أيوه يا حاج.
حادثه وهو يشير بيده الممسكة برأس عكازه:
-خد الكتكوتة دي معاك وديها عندنا في البيت، وخليهم ياخدوا بالهم منها.
تحرجت آمنة منه، وقالت بشيءٍ من العشم:
-يادي الكسوف والله، على طول مشيلينك همنا يا حاج بدير.
رد في هدوءٍ:
-احنا عيلة...
ثم خاطب تميم من جديد:
-يالا يا ابني.

هز رأسه ممتثلاً له وهو يرد:
-على طول يابا.
وقبل أن يتحرك بالصغيرة نحو الخارج طلب من ابن خالته:
-خليك يا هيثم هنا عشان لو احتاجوا حاجة، وأنا هابقى معاك على تليفون.
أطاعه دون جدالٍ:
-ماشي.
ذهب تميم بخطواتٍ شبه زاحفة؛ كأنما يستصعب الرحيل، وظل الحزن معششًا في صدره؛ لكن لم ينقطع الرجاء في شفائها عما قريب.

انتُزعت آخر ذرات الصبر منه بمرور يومين على بقائها بالمشفى، وهو غير قادر على الذهاب لزيارتها هناك، أو حتى رؤيتها، التعليمات كانت صريحة وواضحة؛ تُمنع عنها الزيارات إلى أن تصبح في حالٍ أفضل، يسمح لها بالتفاعل الإيجابي مع غيرها. انتشى تميم سماع ما يشبع توقه، وكانت المكالمات العابرة بين الفنية والأخرى من والدته لأمها كقبسٍ من نور في ظلمة حالكة، هداه عقله بعد استغراق طويل في التفكير للاستعانة بشقيقته، ربما إن زارتها بدلاً منه تطفئ عنه لهيب القلب المشتاق إليها.

دق باب غرفتها مستأذنًا بالدخول:
هاجر فاضية شوية؟
جاءه صوتها مرحبًا:
-أه يا خويا.
ولج إلى الداخل وهو يفرك رأسه بيده، بدا كأنما يقدم قدمًا ويؤخر الأخرى خلال اقترابه من فراشها، لاحظت هاجر تردده، فسألته بنبرة مهتمة:
-خير في حاجة؟
تنحنح قائلاً بلعثمةٍ طفيفة، بعد لحظة من السكوت:
-كنت عايز، منك طلب كده.
أبدت استعدادها لتنفيذ رغبته قائلة:
-اتفضل، قولي عايز إيه؟
بلع ريقه، وسألها برفرفة متوترة من جفنيه:.

-ينفع تبقي تعدي تزوري الأبلة؟
سألته في تعجب يشوبه الفضول:
-أبلة مين؟
حمحم من جديد، وأخبرها متحاشيًا النظر في عينيها:
-أخت مرات هيثم.
للتأكد من مقصده نطقت اسمها في صيغة سؤالٍ مختصر:
- فيروزة؟
ازدرد ريقه بربكةٍ محسوسة، وتابع معللاً طلبه:
-أه هي، يعني زيارة المريض واجب وآ، يعني، حاجة ضرورية.
ارتسمت ابتسامة ماكرة على شفتيها وهي تعقب عليه:
-من غير ما تطلب، من عينيا حاضر.
تصنع الجدية وهو يشكرها:
-تسلمي.

همَّ بمغادرة الغرفة؛ لكنها استوقفته بسؤاله العابث:
-بس مقولتيش إنت شاغل بالك ليه بيها؟
اشتدت قسماته، وساد التوتر على محياه، لم يلتفت نحوها وهو يدعي نافيًا:
-لأ، عادي، ده بس عشان غلبانة، ومالهاش حد، فأهوو نهون عليها اللي حصلها.
ردت ضاحكة في تسلية:
-أه وماله، وهي بنت حلال وتستاهل كل خير.
حاول ضبط انفعالاته ليبدو غير متأثر بتلميحاتها المراوغة؛ لكنها استمرت في إغاظته عندما سألته:.

-صح ولا أنا غلطانة؟ مش هي كده؟
اكتسب صوته طابعًا جادًا، وكذلك ملامحه، وهو يخبرها:
-شوفي سلطان يا هاجر، عمال يعيط.
تابعت الضحك المتقطع، وأومأت برأسها قائلة:
-هاشوفه، متقلقش يا تميم.
خرج من حجرتها مسرعًا في خطاه، وتلك الابتسامة المتلهفة تتراقص على شفتيه، التقطتها والدته، فسألته في فضولٍ:
-خير يا تميم، عرفت حاجة تبسطك؟
أجلى أحباله الصوتية، ونفى بتعابيرٍ شبه جادة:
-لأ يامه...

حاول اختلاق كذبة لحظية، فاستطرد مستخدمًا يده في الإشارة:
-ده الواد سلطان بيلاغيني.
ربتت ونيسة على كتف ابنها، وشاركته الابتسام داعية لكليهما:
-ربنا يخليك ليه يا ضنايا، ده إنت أبوه.
اكتفى بالابتسام وهو يهرب من نظراتها المتفرسة فيه، حتى لا تكشف كذبته الهزيلة، وتدرك أن وراء ابتسامته امرأة واحدة، أسماها طاووسه البريء!

أزاحت الستارة قليلاً، لتسمح لضوء النهار الساطع بالتسلل إلى غرفتها عبر الزجاج، ثم استدارت لتتطلع إلى توأمتها المستلقية على الفراش في سكونٍ حز في قلبها بشدة. أخفت همسة ضيقها لرؤياها هكذا بابتسامة مبتهجة، جاهدت خلالها ألا تبدو مُخادعة، تقدمت نحو فراشها، وفتحت علبة حلوى الشيكولاته التي أحضرتها لها لتعطيها واحدة منها، هزت فيروزة رأسها رافضة أخذها، وأخفضت نظراتها لتحدق في الإبرة الطبية الموصولة إلى كفها، فمنذ سقوطها الأخير، وقد عزفت عن تناول الطعام، فقدت الشهية والرغبة في التمتع بملذات الحياة البسيطة؛ كانت تدعو الموت لزيارتها، تتعجل اقترابه ليريحها مما تقاسيه؛ لكن حالت بينها وبينه مشيئة المولى.

سحبت همسة المقعد إلى جوار فراشها بعد أن أعادت الحلوى لمكانها، ومدت ذراعها نحو جسدها المسترخي لتمسح عليه بحنوٍ، ثم عاتبتها بصوتٍ شبه مختنق:
-كده تخضينا عليكي يا فيرو؟ قلبي اتوجع أوي..
حاولت أن تواري ضيقها، فابتسمت مضيفة بمرحٍ مفتعل:
-ده أنا بقالي يومين معسكرة عند أمك مش عايزة أسيبها، عشان ماتجلكيش من غيري، ما هو احنا روحين في زكيبة واحدة.
اختفت رنة السرور من صوتها مع سؤالها التالي:
-قوليلي حاسة بإيه؟

نظرة شاردة، فارغة، غير مبالية، والأكيد أنها خالية من الحياة منحتها فيروزة لشقيقتها، قبل أن تبعد عينيها عنها، لتحدق كالعادة في الفراغ، ورغم ذلك استمرت همسة في الكلام مجبرة نفسها على الابتسام:
-مش عايزاكي تقلقي من حاجة، كلنا معاكي يا حبيبتي.
عادت لتضيف بحماسٍ لم يكن كافيًا لإقناعها:
-وبعدين لازم تشدي حيلك، وتوقفي تاني على رجلك، مش ده اللي يكسرك يا فيرو.

لم تنظر في اتجاهها، وظلت جامدة بلا حراك؛ كأنها قطعة من الأثاث، ملقاة بإهمالٍ في أحد أركان الغرفة، لا مكسب من وجودها، ولا خسارة من فقدها. واصلت همسة الحديث معها، وسألتها بنفس النبرة المتحمسة:
-أومال مين هينقي معايا حاجات النونو؟
سرحت بنظراتها كأنما تتطلع إلى شيء وهمي غير موجودٍ إلا في خيالها، ثم تنهدت وهي تقول:
-نفسي أعرف نوعه إيه، بس الدكتور قال المفروض نستنى للشهر الخامس عشان نتأكد.

رمشت بعينيها وهي تركز بصرها على توأمتها عندما خاطبتها:
-و هيثم مش فارق معاه أجيب إيه، كل اللي قلقه إنه مايعرفش يكون أب كويس، بس أنا عارفة إنه هايكون حنين وطيب.
ربتت على ذراعها من جديد، ثم خفضت من يدها لتحتضن راحتها بين أناملها، واستحثتها برجاءٍ شديد، والعاطفة تنبعث من عينيها:
-يالا بقى يا خالتو، بلاش الرقدة دي، أنا مش متعودة منك على كده.

انتظر وصول المصعد إلى الطابق الكائن به حجرتها بأعصابٍ مشدودة، ظهر تأثير ترقبه على ملامحه، وإن جاهد لإظهار عدم اكتراثه، فضحته نظراته، واضطرابات أنفاسه. بمجرد فتح بابه المعدني، انزلق تميم خارجًا منه، ليسبق شقيقته بخطوةٍ حتى يرشدها إلى مكانها. توقف قبل بلوغه وجهته، واستدار نحوها ليوصيها وهو يبلع ريقه:
-طمنيني لما تطلعي يا هاجر.
هزت رأسها قائلة:
-حاضر ياخويا...
ثم سألته في استغرابٍ:.

-بس مش كنت تيجي معايا؟
تنحنح مبديًا أسباب تحرجه من فعل ذلك، رغم الشوق الحارق لصدره:
-لأ مايصحش، عشان تبقوا على راحتكم.
قالت ببسمةٍ ذات مغزى:
-حاضر يا عين أختك.
شيعها بنظراته وهي تواصل سيرها، حبس أنفاسه عندما طرقت على الباب قبل أن تفتحه، وتختفي بالداخل، لم يحالفه الحظ في رؤيتها، فأصاب وجهه العبوس، جلس بالخارج على المقعد المعدني، وفرك أصابع يديه معًا، استنشق الهواء بعمقٍ، ولفظه هامسًا:
-يا رب تكوني بخير.

توزعت نظراته القلقة بين الباب المغلق تارة، وبين الردهة الطويلة تارة أخرى. لفت أنظاره شخصًا بدا مألوفًا من بعيد، ضاقت عيناه نحوه حينما فطن إلى هويته، إنه الضابط ماهر، ذاك الذي يظهر كندٍ عتيد في كل فرصة تتهيأ له للتواجد معها، اكفهرت قسماته، وانعكس الانزعاج في مقلتيه، كز على أسنانه مغمغمًا:
-وده إيه اللي جابه هنا؟
نفخ بصوتٍ مسموعٍ، واستكمل بنبرته المتبرمة:
-الحكاية مش نقصاه.

نهض من مكانه مجبرًا ليتجه إليه، لم ينكر أن وجوده في محيطها لم يكن من اليسير عليه، خاصة مع معرفته الكاملة للفارق بينهما. لاحظ تواجد شابة معه، تقاربه في الملامح؛ لكنها أقصر منه في الطول، نطقت الأخيرة وهي تشير بيدها:
-الأوضة في نهاية الطُرقة دي يا ماهر.
بلهجته الآمرة قال:
-طيب اسبقيني يا علا، وأنا هاحصلك بعد شوية، عاوز أتكلم مع الدكتور المتابع معاها، هو قال هيقابلني هنا.

ضغطت على شفتيها للحظةٍ، لتخبره بعدها بحاجبين معقودين:
-أوكي، متتأخرش يا ماهر.
رد موجزًا:
-على طول.
كان تميم على وشك الوصول إليه لولا لمحه للطبيب الذي توقف للحديث معه، فأرجأ خطواته ليسترق السمع إليهما، بدا نقاشهما جادًا للغاية، أوحت تعابير وجه الطبيب بهذا، تقدم بحذرٍ منهما لتلتقط أذناه سؤال ماهر الجاد:
-يعني تقترح إيه يا دكتور؟
تكلم الطبيب قائلاً بأسلوبه العلمي:.

-رأيي تتابع مع دكتور نفسي متخصص، وخصوصًا إن حضرتك بتقول إنها مش أول مرة، حصلت لما كانت مسافرة، يعني احتمال كبير تكون في انتكاسة تانية.
فرك طرف ذقنه معقبًا عليه:
-معاك حق، وأنا بصراحة كمان مسألتش، وأهملت في المتابعة معاها.

انقبض قلب تميم بقوةٍ وقد استمع إلى ما يدور بينهما، أحس بانسحابٍ مؤلم لروحه وهو يتخيل مدى معاناتها في غُربة لا تمنح لاجئها سوى الوحشة والقسوة، ومض عقله بأفكارٍ غير محمودة بشأنها، وزاد ذلك من حيرته الموجعة. بصيصٌ من التفاؤل تسرب إليه مع إضافة الطبيب المبشرة:
-كل شيء ممكن يتلحق، المهم ناخد خطوة جدية وإيجابية في العلاج.
سألها ماهر كنوعٍ من الاستعلام:
-في عندك ترشيحات لحد معين؟

أجابه بعد لحظات من الصمت؛ كأنما يعصر خلالها ذهنه عصرًا، ليصل إلى مراده في عجالةٍ:
-أيوه، معايا اسم زميلة متفوقة في مجالها، إديني دقيقة أجيبلك الكارت بتاعها.
علق ماهر في استحسانٍ:
-ماشي.
تعمد تميم الظهور أمامه بعد انصراف الطبيب مباشرة، تفاجأ ماهر بوجوده، وردد بلمحةٍ من التعالي:
-إنت؟
قرأ تميم في وجهه استخفافًا هازئًا به، وإن لم يصرح بهذا علنًا، حافظ على ثبات انفعالاته، ولوى ثغره مرحبًا به:.

-أهلاً يا باشا.
بنفس الطريقة التهكمية الساخرة تساءل ماهر، وهو يسدد له نظرة دونية:
-مش شايف إنها غريبة كل شوية نتقابل؟
انتصب تميم في وقفته، واستعرض كتفيه العريضين بهيبةٍ عكست تهديدًا خفيًا، لم يكن الخوف ما يستبد به بقدر شعوره المتعاظم بالغيرة، لكون آخرًا يوليها الاهتمام، اخشوشنت نبرته وهو يرد عليه بازدراءٍ متبادل:.

-يا باشا احنا مناسبين عيلة الأبلة، يعني بقت من عيلتنا، فلما حد يتعب من عندنا كلنا بنبقى واقفين معاه، مابنسبوش...
قبل أن يلاحقه ماهر برده التالي، سبقه في القول:
-وبعدين الزيارات الكتير مش حلوة ليها.
اغتاظ من أسلوبه المستفز، وزجره في تزمتٍ:
-وإنت هتعرفي إيه اللي ينفعلها واللي ماينفعش؟
رفع تميم كفه أمام وجهه قائلاً ببرود:
-لأ يا باشا، بس كلنا سامعين الدكتور بيقول إيه وآ...

قاطع الطبيب ما كان بينهما من نقاشٍ محتدم عندما هتف وهو يمد يده بورقة صغيرة:
-اتفضل يا فندم، ده الكارت.
التقطه من إصبعيه، وقال مجاملاً:
-شكرًا، تعبتك.
ثم التفت إلى تميم ليخاطبه بأسلوبه العنجهي:
-هنبقى نتكلم تاني.
تحدث من زاوية فمه قائلاً ببسمة ساخطة:
-طبعًا.
أخمد نشوب الشجار كذلك ظهور هاجر في الردهة، تحرك شقيقها في اتجاهها، وأمرها بتعابيرٍ غائمة:
-يالا يا هاجر.
اندهشت من تبدل أحواله، وسألته:
-مالك؟

كأنما صمَّ كل أذنيه عمن حوله، فلم يبقَ سوى وجه ماهر في عقله، ببرطمةٍ مبهمة ردد مع نفسه:
-ربنا يستر ومايبقاش صداع في دماغي.
تبعت هاجر خطوات شقيقها، والدهشة ما تزال ظاهرة عليها، انتظرت ركوبهما المصعد لتكرر عليه السؤال:
-هو حصل حاجة يا تميم؟
أجاب نافيًا:
-لأ...
طرد كتلة غاضبة من الهواء من رئتيه محاولاً تصفية ذهنه عما يكدره، وسألها:
-قوليلي أخبارها إيه؟
ضغطت على شفتيها للحظةٍ، وأخبرته:.

-هي فايقة، بس مابتكلمش...
نظر إليها بنظرة متسائلة، فتابعت موضحة:
-يدوب بتبص على كل واحد شوية، وترجع تتوه عننا، زي ما تكون مش حابة حد يبقى معاها.
غامت ملامحه أكثر وهو يزفر عاليًا، ناداته برقةٍ:
- تميم!
أدار رأسه قائلاً:
-أيوه.
سألته بنظراتٍ متفرسة في وجهه:
-قولي بصراحة وماتخبيش، هو إنت في بينك وبينها حاجة؟
قست ملامحه محتجًا بتشنجٍ:
-إنتي تعرفي عني كده يا هاجر؟ هو أنا بتاع الحاجات دي؟

ظلت نبرتها لينة لطيفة وهي توضح له مقصدها:
-لأ، وعشان أنا عارفاك كويس، أنا متأكدة إن اهتمامك الزايد بيها مش من فراغ.
خرج من المصعد وهو شبه متحفز، لم ينظر ناحيتها وهو يأمرها:
-تعالي أروحك عشان ما نتأخرش.
لحقت بخطاه مسترسلة بودٍ:.

-براحتك، مش هاضغط عليك في الكلام، بس خليك واثق إني أتمنالك الخير مع اللي تستاهلك، صحيح أنا حبيت خلود -الله يرحمها- زي أختي وزيادة، وزعلت أوي على طلاقكم، واللي حصل بينكم، واتقهرت على موتها، بس ده مايمنعش إني أفرح لفرحتك.

بينهما كانت أخوة عميقة، وتفاهمًا كبيرًا، لم تفسده الأيام الصعاب، ولا الخلافات العابرة، كانت قادرة على قراءته في معظم الأحيان، وكان مستعدًا للتضحية من أجلها إن احتاجت إليه دون تردد، ظل النسيج قويًا مترابطًا يزداد صلابة بمرور الوقت. حاول المناص من أسئلتها التحقيقية بتهربه:
-إنتي رغاية أوي يا هاجر، هو احنا في إيه ولا إيه؟ يالا عشان الطريق مايزحمش.

مرة أخرى أنار ثغرها بسمة عبثية ضاعفت من حدسها الأنثوي بشأن بزوغ بذرة عاطفة حقيقية في قلب شقيقها، وإن لم يصارحها بهذا بعد، كل الشواهد توحي بذلك. ارتكزت عينا هاجر عليه، وأكدت لنفسها:
-والله أنا شاكة فيك، وإحساسي مايكدبش أبدًا!

لم يتخلص عقلها بعد من الشوائب التي تسحبها إلى دوامة الذكريات الموجعة، تلك المآسي التي تستهلك طاقتها، وتجعل روحها المنكسرة تتآكل أكثر فأكثر.

استسلمت لهزيمة أخرى، ولم تقاوم الخروج منها بإرادتها، يئست من المحاولة، وأثرت الانسحاب إلى ما قبل الموت؛ الاحتضار. زيارته غير المتوقعة لها كانت كالصدمة، تطلعت فيروزة إلى الجد سلطان الذي فاجأها بقدومه، نظرت إليه بغرابةٍ، وبوجهها الذابل، ألقى عليها التحية وهو يخطو بتمهلٍ نحوها:
-السلام عليكم.
لم ترد عليه، واكتفت بالنظر إليه، كانت والدتها في إثره، فاستطردت تخبرها بتقديرٍ كبير:.

-الحاج الكبير بنفسه جاي عشانك، شوفتي بقى يا فيروزة؟
تساءل سلطان وهو يستلقي جالسًا على المقعد:
-إزيك يا بنتي؟ عاملة إيه النهاردة؟
ردت عليه آمنة في حزنٍ:
-أهي زي ما إنت شايف يا حاج، على الحال ده من يوم ما فاقت.
استدار برأسه لينظر إليها، وقال في رضا:
-يبقى نقول الحمدلله.
ردت بتنهيدة:
-الحمدلله.
استأذنها بهدوءٍ:
-ينفع تسبيني معاها شوية؟
قالت على الفور:
-يادي العيبة؟ من غير استئذان يا حاج، ده إنت تؤمر تُطاع.

رد يشكرها في ودٍ:
-الأمر لله وحده، كتر خيرك.
انسحبت بعدها مغادرة الغرفة، لتترك الاثنان معًا، والفضول يساورها لمعرفة عما سيتحدثان. أراح سلطان ظهره للخلف، ومنحها نظرة محبة قبل أن يستهل كلامه قائلاً كنوعٍ من التمهيد:
-تعرفي...
انتبهت له، فتابع بإيماءة بسيطة متكررة من رأسه:
-قليل أوي لما أروح أزور حد، ما أنا مابروحش غير للغاليين وبس.

كان وجهها جامدًا، إلى حدٍ ما مشدودًا؛ لكن لا يظهر على قسماتها الذابلة شيء. أطلق سلطان زفرة بطيئة، وقال:
-أنا جاي أتكلم معاكي شوية النهاردة، بس مش عنك، عني.
عاد برأسه للخلف، وتابع بقليلٍ من المزاح المقبول:
-زمان، وأنا صغير، ما هو أنا مكونتش بالشيبة دي دلوقتي، لأ كنت أعجب أتخنها حد.
لم يتوقع أن تتجاوب معه بالابتسام المجامل، وواصل قوله بنبرته الرخيمة:.

-كنت راجل من وأنا عيل، دمي حامي، عصبي، ومتهور حبتين...
تعمد التوقف عن الكلام كل فترة ليضمن تركيزها معه، وأضاف بعدها وعيناه مسلطتان عليها:
-زي الواد تميم حفيدي، بس هو مايجيش واحد على عشرة من اللي كنت عليه.
ضاقت حدقتاها في غرابةٍ، ومع هذا بدا سلطان مرتخيًا في تعبيراته. حرك عكازه باهتزازة بسيطة عندما أخبرها:.

-تقريبًا كنت معظم وقتي لوحدي، ماليش سند، ولا حد، أصلي أصغر إخواتي البنات، وأمي ماتت وأنا مكملتش 4 سنين، وأبويا شوية وحصلها، فإخواتي سابوني عند أعمامي يربوني، ماهو كان فيهم اللي اتجوزت، واللي سافرت حتة تانية، واللي ملبوخة بكوم العيال اللي عندها، يعني زي ما بيقولوا كده اترميت في السوق ومعمعته بدري بدري، فعضمي اتشد، وبقيت عصب وناشف أوي، الكل بيعملي حساب من وأنا صغير، كلمتي مسموعة عند الكبير قبل الصغير.

بزهوٍ لا يمكن إنكاره شرد وهو يُحادثها؛ كأنما استحضر طيفها في عقله:
-كنت مفكر هافضل كده عايش لوحدي، ماليش لا عزوة ولا سند، بس ربك رضاني بالحاجة أم بدير، حاجة كده في عينيا زي البدر في تمامه، تتحط على الجرح يطيب، تنسي معاها أي هم وتعب..
خفض من رأسه قليلاً، وتابع بشجنٍ طفيف لامسته في صوته:.

-عافرت معايا عشان أحس بيها، مكانتش بتشتكي ولا تلوم، كانت راضية بأي حاجة مني، على طول تقولي وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان..
لمحت من السخرية شابت نبرته حينما نطق:
-وأنا الصراحة كنت بتريق عليها، هي مفكراني شيخ جامع، ولا درويش؟ ده أنا راجل ابن سوق، حقي بأخده بدراعي.
تنهد مليًا قبل أن يكمل:
-طنشتها، ومدتهاش اهتمام نُهائي، دايمًا معاها عصبي، بخانق دبان وشي عمال على بطال، وهي صابرة، راضية بعيشتي معاها.

غصة نادمة عصفت بصوته وهو يقول:
-اعتبرتها في الأول مجرد واحدة تخلف وتجيبلي عيال، وبالمرة تشوف طلباتي آخر النهار، ومعترضتش، كانت على طول تحت رجلي..
أطبق على جفنيه مقاومًا الذكرى، ونكس رأسه قليلاً، كما ظهر التأثر في صوته وهو يتابع:
-لحد ما رقدت في البيت في عاركة من بتوع السوق، كانت الرقدة طويلة، والحمل شديد أوي، يهد جبال، زي ما بيتقال مالهاش قومة...
عاد التفاخر يسطع في صوته وهو يخبرها:.

-ساعتها شوفت الضهر اللي اتسند عليه، الحُرمة اللي فكرتها عويلة ومكسورة الجناح، كانت ب 100 راجل، ست يعتمد عليها، بيتعملها مليون حساب، دي مشت رجالة بشنبات بكلمة واحدة منها، وفت بكل الالتزامات اللي عليا، وحافظت على اسمي بين معلمين السوق، ومقصرتش في رعايتها ليا، وقتها عرفت أد إيه كنت ظالمها، كنت متجني عليها، مادتهاش حقها..
احتاج لهنيهة ليحافظ على ثبات نبرته التي تأثرت حينما استكمل حديثه:.

-ويعلم ربنا من ساعتها مقصرتش معاها في حاجة، راعيت ربنا فيها، عرفت إني من غيرها ولا حاجة، حبيتها وفضلت محافظ على الحب ده حتى بعد ما المولى استرد أمانته، ومانكرش إني اتكسرت من بعدها، مافيش واحدة ملت عيني غيرها، كانت الله يرحمها النفس اللي بتنفسه، الحلو من بؤها شهد، والضحكة منها تهون عليا أي حاجة.

مسَّ حديثه المسترسل قلبها، أحست بكلماته المتجسدة في اعترافات صادقة بنفاذها إليها، فبرقت عيناها بلمعانٍ متأثر؛ وكأن ما بها من جمود قد لان بشكلٍ عجيب. بحركة خاطفة من سبابته، مسح سلطان عبرة متسللة إلى طرفه، ثم تنفس بعمقٍ، وخاطبها بصوتٍ ما زال هادئًا:.

-اللي عايز أقولهولك يا بنتي، إن السند مش لازم يكون من دمك ولحمك، في ناس كتير حواليكي يتمنوا يبقوا سندك، ضهرك اللي يحميكي، من غير أي حاجة، وتلاقيهم وقت الشدة أول حد يدافع عنك..
تلقائيًا اقتحم انعكاسًا لوجه تميم فضاء عقلها، مصحوبًا بشهامته المتكررة في كل موقف تطلب منه هذا، تداخلت المواقف، وتزاحم به رأسها، فحاولت إجبار عقلها على تجاوزه، تبخر الطيف بالتدريج وصوت سلطان يُذكرها:.

-مش كل الناس زي راس العجل اللي ما يستحقش يكون قريبك!
تعقدت ملامحها، وظهر الألم على وجهها؛ لكن الجد عاد ليشدد عليها بما يشبه النصيحة، مستعينًا بيده في الإشارة:
-إنتي بس محتاجة الأول تشيلي الغشاوة من على عينيكي، وتبصي حواليكي تشوف مين اللي يتمنالك الرضا، وكلمة حلوة منك تكفيه.

للغرابة تجدد الطيف بقوةٍ، كأنما ضغطت في عقلها على زر استدعاء صورته، كسا وجهها حمرة طفيفة، متحرجة من تفكيرها الغريب فيه، وخاصة في حضرة جده. استنكرت ما شطح فيه خيالها، وزادت من عبوس تعابيرها. نهض سلطان من مقعده، ووقف أمام فراشها ينصحها برفقٍ:
-يا بنتي إدي فرصة لنفسك تنسي فيها اللي فات، ومش عيب لما تبدأي من جديد لو وقعتي، ده إنتي لسه شباب، أومال اللي زيي يعملوا إيه؟!
همَّ بالذهاب وهو يقول:.

-مش هتعبك أكتر من كده، أنا خلاص قولت اللي عندي.
كان على وشك الاستدارة عندما قال فجأة؛ كأنما لم يكن ليغفل عنه:
-أه، قبل ما أنسى، ده مفتاح الدكان بتاعك.
أخرجه من جيبه، وأسنده على الوسادة إلى جوارها، وكرر عليها بصرامةٍ:
-مش هيرجع، عايز أشوفك واقفة فيه.
أدخل سلطان يده في جيب جلبابه مجددًا، وبسط راحته بميدالية مصنوعة من الفضة، تم تشكيلها على هيئة طاووس معتد بنفسه، قربها منها قائلاً بسخرية لطيفة:.

-ودي من الواد تميم، معرفش إيه حكايته مع الطاووس!
اتسعت ابتسامته نسبيًا وهو يتم جملته:
-بس موصيني أديهالك لما أشوفك.

فاجأته فيروزة عندما التقطتها من راحته، لترفعها إلى عينيها، وتنظر إليها عن قربٍ، وبإمعانٍ واضح. ظل وجهه محتفظًا ببشاشته عندما نطق دون تردد، وعن عمدٍ صريح:
-الواد ده عامل زيي، لما بيحب، بيحب بجد، مايعرفش يحوَّر.
حادت فيروزة بنظراتها عن الميدالية لتحملق في وجهه باستغرابٍ محير، منحها ابتسامة مطمئنة، ليوصيها بعدها:
-خدي بالك من نفسك...

ضم قبضتيه معًا فوق رأس عكازه، ونظر إليها بثباتٍ قبل أن يكرر من جديد على مسامعها بكلماتٍ موحية، كان واثقًا أنها ستدرك حتمًا مغزاها، فقط إن نفضت عن عقلها ما يعيق صفاء ذهنها:
-وزي ما قولتلك، السند هنا جمبك، ودايمًا قريب منك..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة