قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل السادس والعشرون

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل السادس والعشرون

أنهت جزءًا كبيرًا من المقرمشات والتسالي التي كانت تحتفظ بها شقيقة زوجها في المنزل وهي تتابع بنهمٍ الأحاديث الجانبية التي تلت الخطبة حتى تستأثر بكامل الأخبار، لم تصعد إلى منزلها وأخبرت زوجها بقضائها لباقي السهرة في منزل "آمنة" التي لم تمانع من وجودها وتعاملت معها بكل ودٍ ومحبة. افترشت "حمدية" الأريكة العريضة بجسدها تاركة أطفالها يلهون حتى أصابهم النعاس وغفلوا على السجاد غير مكترثة بحالتهم المحزنة..،

فضولها كان يدفعها لمعرفة المزيد، كانت نظراتها كالأفعى تتربص بالتوأمتين وتتابع ما يصدر منهما من كلمات أو تلميحات، حتى عندما غابت الاثنتان بالداخل ليبدلا ثيابهما بعد عودتهما من الخارج لوقت لا بأس به على أمل أن ترحل، كانت في انتظارهما بأعصاب جليدية. لم تمنحها "فيروزة" أي معلوماتٍ وتركتها تتخبط في حيرتها، و"همسة" لم تملك سوى القليل من الحديث لتقوله، وذلك لم يكن كافيًا لإرضائها ..

تثاءبت "فيروزة" بصوتٍ مسموع وهي تنظر إلى ساعة الحائط التي تخطى عقربها الثانية والنصف بعد منتصف الليل عل الضيفة السمجة ترحل، لكنها كانت مُصرة على البقاء، أفرغت زوجة خالها ما في يدها من قشرٍ وقالت وهي تنفض راحتيها:
-قومي يا "هموس" هاتيلي بؤ مياه، لأحسن اللب الأبيض نشف ريقي
ردت عليها "همسة" بنبرة مرهقة وهي تحاول تحريك جسدها المتعب لتنهض:
-مش كفاية كده يا مرات خالي؟ الفجر قرب يأذن.

استرخت "حمدية" أكثر في الأريكة، وقالت وهي تسحب الوسادة الصغيرة خلف ظهرها:
-ياختي ورانا إيه، أدينا سهرانين.
هتفت فيها "فيروزة" بامتعاضٍ ونظراتها المزعوجة مسلطة عليها:
-بس احنا تعبانين وعاوزين ننام، دماغنا مصدعة.
نهرتها والدتها لانعدام ذوقها معها فأردفت قائلة:
-عيب كده يا "فيروزة"، ما يصحش!

ردت عليها "حمدية" وذلك العبوس يجتاح ملامحها:
-قوليليها يا "آمنة"، هو أنا غريبة؟
ثم وجهت حديثها لها مهاجمة إياها بوقاحةٍ:
-أهي طولة لسانك دي اللي هاتطفش العرسان منك، وتخليكي زي البيت الواقف محدش راضي يبصلك، ما تخليكي كده زي أختك حلوة وفي حالها.
هبت واقفة، وزجرتها بعصبيةٍ:
-أنا مبسوطة كده، ومش عاوزة أتجوز.

مطت "حمدية" شفتيها لتهمس بتنمرٍ:
-يا ساتر على تقل دمك، ابقي تفي على وشي لو جالك حد أصلاً!
نظرت لها شزرًا، والتفتت تقول لوالدتها:
-أنا داخلة أنام، تصبحي على خير يا ماما.
ردت "آمنة" مبتسمة:
-وإنتي من أهله يا حبيبتي، اقفلي الإزاز كويس عشان الهوا جامد برا.
هزت رأسها قائلة بتثاؤبٍ:
-حاضر.. على الله الناس اللي عندها دم تحس!

كزت "حمدية" على أسنانها في غيظٍ وهي تدرك أنها المقصودة من ذلك التلميح الفظ، حاولت إخفاء حنقها الذي انعكس سريعًا على تعبيراتها ونظراتها، وضحكت مستطردة بسماجةٍ:
-لما تروحوا تنقوا الشبكة ابقيي قوليلي يا "آمنة"، أنا خبرة عنك في الحاجات دي، وعشان محدش يضحك على بنتك، ويجيبولها حاجة أي كلام، برضوه حماتها مش سهلة، واسم الله عليها "همسة" تتاقل بالدهب، وإنتي عارفاني في الحق زي السيف.

تنهدت معلقة عليها:
-ربنا يسهل
احتقنت نظرات "فيروزة" من تدخلها المستفز في شئون العائلة وفرض سطوتها بطريقة مبالغ فيها، فمالت على أختها لتقول لها بتذمرٍ:
-شايفة الفشر؟
ردت عليها "همسة" مبدية انزعاجها:
-أنا معرفش هي حاشرة نفسها ليه؟ الموضوع ميخصهاش من الأساس.
عقبت عليها بنبرة اكتسبت العصبية:
-لأ إزاي، ده مش بعيد تذلنا طول عمرنا، وأمك مش هاتقولها لأ طبعًا، رِجلها هتسبق رجلنا، ومرات خالكم والكلام اللي لا يودي ولا يجيب.

أمسكت "همسة" بها من ذراعها ودفعتها برفقٍ نحو الردهة وهي تتابع:
-خلينا نبعد عن وشها، أنا مش هاجيبلها حاجة، على الله تحس على دمها وتمشي
ردت باستنكارٍ:
-دي لازقة بغرا، مش هاتمشي بالساهل!

ظلت الاثنتان تتهامسان حتى دخلتا الغرفة، توقفت "همسة" عن السير لتغلق الباب من ورائها، بينما تقدمت "فيروزة" نحو الدولاب لتفتح ضلفته، أخرجت منامتها المريحة من على الرف العلوي، وبدأت في خلع ثيابها، لمحت الأولى تلك التحززات الحمراء التي أصابت الندبة الموجودة على كتف توأمتها الأيمن لارتدائها حمالة الصدر الجديدة ذات الأربطة الحادة لفترة طويلة، فقالت على الفور لتثير انتباهها:
-العلامة اللي عند كتفك شكلها ملتهب خالص.

تحركت الأخيرة نحو التسريحة مديرة كتفها للجانب حتى تتمكن من رؤيته تاركة منامتها على الرف، نظرت إلى الالتهاب الذي أصاب الندبة الباقية لها من آثار حريق الماضي، وقالت على مضضٍ وهي تتحسس جلدها بحذرٍ:
-منها لله "حمدية"، هو أنا كنت ناقصة!
وقفت توأمتها خلفها، وعرضت عليها بودٍ:
-خليني أدهنهالك، أنا عندي كريم ملطف.
هزت رأسها موافقة:
-ماشي يا "هموس".

قامت "همسة" بفتح الدرج الجانبي للتسريحة لتخرج منه علبة كريم مرطب تستخدمها كل فترة، نزعت الغطاء، ووضعت كمية معقولة بين أناملها، ثم لامست بحرصٍ جلدها المشتعل بحمرته الملتهبة لتدهنه حتى تسكن آلامه، ومع كل لمسة عليه كانت "فيروزة" تتصلب وتتوتر، ما زالت آثار تلك الليلة المحزنة مختومة على جسدها ومحفورة في ذاكرتها، يتنشط عقلها بين الحين والآخر بلمحات منه ليزداد هلعها وانقباض قلبها، لكنها تناضل لإغراق ما يطفو على السطح في ظلمات عقلها علها تنسى ما رأته آنذاك، اقشعر بدنها وهتفت فجأة وهي تزيح يدها:
-كفاية يا "همسة"، أنا بقيت كويسة.

لم تترك لها الفرصة للاعتراض عليها، تحركت من أمامها وعادت إلى الدولاب لتسحب منامتها وترتديها، تأملتها شقيقتها في حزنٍ وإشفاق، كانت تعلم مدى قساوة تلك التجربة عليها وإن لم تفصح عن ذلك.

استلقت على ظهرها على الفراش عاقدة يديها خلف رأسها، حملقت في سقفية الغرفة بعينين متسعتين بالرغم من الظلام الذي احتل الغرفة مستعيدة تفاصيل خطبتها وما دار فيها من شد وجذب، ومحاولات التودد وخلق العلاقات الأسرية الطيبة، أدارت رأسها للجانب لتتأمل "فيروزة"، كانت تعلم أنها لم تنم بعد؛ بسبب تقلباتها المتعاقبة على الفراش، تنهدت ببطءٍ، وهتفت تسألها:
-إنتي لسه صاحية؟

أجابتها بصوتٍ شبه متحشرج:
-بأحاول أنام
عضت على شفتها السفلى في ترددٍ واضح، ثم سألتها بربكةٍ محسوسة:
-عاوزة اسألك في حاجة؟
لم تتطلع إليها أو تتحرك من مكانها وهي ترد:
-خير؟
سحبت شهيقًا عميقًا طردته من صدرها على مهلٍ قبل أن تتابع:
-إيه رأيك في "هيثم"؟
أجابتها دون تفكيرٍ:
-مش مستريحاله لا هو، ولا أخته، ولا جوزها!

ابتسمت "همسة" في تهكمٍ، كان ردها واضحًا ومفهوم الأسباب، اعتدلت "فيروزة" في نومتها بعد أن استدارت نحوه شقيقتها، مدت يدها لتضيء المصباح الجانبي الصغير الموضوع على الكومود إلى جوارها، وسألتها دون مراوغة ونظراتها مثبتة على وجهها:
-إنتي عاوزة تكملي الخطوبة دي ولا لأ؟
جاوبتها "همسة" في حيرة وهي تفرك أصابعها لتخفي حرجها:
-مش عارفة لسه؟

قالت بلمحة تعبر عن السخرية:
-ما أكيد ملحقتيش تحبي عريس الغفلة
ردت مستنكرة:
-لأ طبعًا
أضافت "فيروزة" بجديةٍ وهي تشير بيدها:
-بصي يا "همسة"، ساعات الواحد في لحظة تسرع بياخد قرارات غلط، مش عيب إننا نرجع فيها طالما ...

لم تكن توأمتها راغبة في إنهاء الخطبة أو التراجع عن ذلك الارتباط غير المتوافق، فقاطعتها دون ربكةٍ:
-أنا مش ندمانة على فكرة، وعايزة أقولك إن "هيثم" اعتذرلي عن الموقف البايخ اللي عمله مع ماما!
رفعت "فيروزة" حاجبها للأعلى في اندهاشٍ:
-بجد؟ حصل امتى ده؟ ولا ده دفاع منك عنه.

هزت رأسها بالنفي:
-أه والله، واحنا واقفين لوحدنا، اعتذرلي..
قالت في استحسانٍ:
-كويس!
أضافت "همسة" بابتسامة صغيرة وهي تلمح للحلوى التي اشتراها لكتليهما:
-وبعدين إنتي شوفتيه جابلنا إيه قبل ما نطلع البيت
علقت ساخرة منها وقد أولتها ظهرها:
-اه .. والظاهر إنه هياكل بعقلك شيكولاته.

التفتت "همسة" بجسدها للجانب الآخر من الفراش لتولي ظهرها لشقيقتها، وتابعت هامسة بتنهيدةٍ:
-مظنش.. بس بأحاول استبشر خير.
ثم أغمضت عينيها لتستعيد في مخيلتها مشهد بقائها مع خطيبها بمفردها على الشرفة المتسعة بالمطعم، حينها كانت في حالة لا تُحسد عليها من الخجل، والارتباك، والتلعثم، والارتجاف. مد "هيثم" يده ليمسك بكفها المستند على الحافة، لكنها سحبته في سرعة وقلبها يدق بعنفٍ، استاء مما ظنه نفورها، وعاتبها بضيقٍ:
-لعلمك أنا بأتنرفز من اللي يطنشني.

اعتذرت منه باستحياءٍ وكامل نظراتها مرتكز على الأمواج المتلاطمة:
-أنا أسفة.. بس مش متعودة حد غريب يقرب مني.
نفخ بصوتٍ مسموعٍ كتعبير عن ضجره من حذرها قبل أن يستأنف قائلاً:
-ماشي، هاسيبك لحد ما تتعودي عليا، بس كنت عاوز أقولك حاجة؟
ابتلعت ريقها وردت:
-اتفضل.

تنحنح بخشونةٍ، وتابع بترددٍ بائن في صوته، وكأنه يحاول استدعاء الكلمات لتنصفه:
-فاكرة اليوم إياه.. ساعة لما وقعت أمك على وشها
ورغم استيائها من ألفاظه الفظة في محاولته للإشارة للموقف السابق -والذي دفع فيه والدتها بعنفٍ وطرحها أرضًا خلال فرح أخته- إلا أنها ردت بهدوءٍ:
-أها، ماله؟
اخشوشنت نبرته وبدت خافتة حين بادر معتذرًا:
-أنا محقوقلها، مكنش قصدي.

هزت رأسها مبتسمة في رضا:
-تمام.
أكمل مفسرًا بتشنجٍ طفيف:
-أصلي يومها كنت مضايق شوية من كام حاجة حصلت، ويعني دخلت فيكم زي القطر، ومكنش ليكم ذنب
اتسعت بسمتها أكثر، والتفتت ناظرة نحوه وهي تقول:
-كويس إنك بتعترف بغلطك، دي حاجة بأحترمها.

تأمل ابتسامتها بعينين تعبران عن اهتمامه بها، للمرة الأولى تمتدحه فيها، لم ينكر أن تصرفه ذلك -وإن كان متأخرًا- قد أتى بنتائج طيبة معها، ورأى ذلك يظهر بوضوح في تعبيرات وجهها لوح بيده مكملاً حديثه معها:
-يعني مش عايز نبدأ مع بعض وكل واحد فينا شايل من التاني.
لعقت شفتيها، وقالت:
-أها، كده أحسن.

استرسل "هيثم" مضيفًا بابتسامة متسعة معبرًا بصراحة مطلقة عن مكنونات صدره:
-تعرفي، أنا حمدت ربنا إنك طلعتي من بختي، مش أختك!
قست نظراتها وحل الوجوم على ملامحها عقب جملته تلك، ووبخته بانزعاجٍ بائن:
-لو سمحت ممكن ماتكلمش عنها، أنا بأزعل من الأسلوب ده
برر لها مقصده بوصفها بتلقائية:
-يا ستي هو أنا قولت حاجة وحشة، بس هي عاملة فيها فتوة الحتة، وإنتي شكلك غيرها.

استاءت من طريقته غير المستساغة في اكتساب ودها بتلك الصورة الفظة، وهتفت محتجة:
-برضوه هتغلط فيها؟
قال ملطفًا وهو يغازلها:
-خلاص فكك منها، وقوليلي إنتي حلوة كده إزاي؟ الصراحة قمر واقف قدامي.
تورد وجهها في خجلٍ، أخفضت نظراتها الساهمة، وردت تشكره:
-ميرسي.

تأمل تلك الحمرة التي اكتسحت بشرتها وزادت من إشراقة ملامحها، فواصل تغزله بشكلٍ أكثر جراءة:
-إنتي بتكسفي، يا لهوي يا جدعان، طب أوعى الجاز ليولع في الغاز!
أبعدت وجهها عن نظراته التي تخترقها وهي تخفي ضحكة عابثة تسخر فيها من كلماته التي تعبر عن فطرته الشعبية البحتة .. عادت "همسة" لواقعها المحيط وتلك الابتسامة لا تزال مرسومة على محياها، ربما فشل بشكلٍ ذريع في التعبير عن إعجابه بها واستمالتها نحوه، لكنه بطريقة ما استحوذ على قدر بسيط من تفكيرها.

برقت حدقتاها واتسعتا في نشوةٍ حين وضع الحقيبة الجلدية على الطاولة الرخامية أمامها وفتحها لتظهر رزم النقود بوهجها المحفز للنفوس، أحست "بثينة" بعنف نبضاتها المتحمسة، فلم ترَ مثل ذلك المبلغ الضخم في حياتها مطلقًا، سال لعابها، وظهرت بوادر الطمع على محياها، ادعت جمودها وتساءلت بعدم اكتراثٍ:
-إيه ده يا حاج "بدير"؟

أجابها بهدوئه وهو يجوب بنظراته على وجهها ذي الملامح الزائفة:
-ده عشان جوازة ابنك يا "بثينة".
ازدردت ريقها وتساءلت بحماسة جاهدت لإخفائها:
-مش فهماك؟
عبث برأس عكازه براحة يده، وقال موضحًا:
-زي ما اتفقنا قصاد نسايبك الجداد، فلوس تجهيز البيت وعفش جديد والشبكة للعروسة.

ابتسمت في رضا، وردت بامتنانٍ:
-الصراحة عداك العيب يا حاج، كده ابني يقدر يخش ومافيش حاجة نقصاه.
هز رأسه يؤيدها:
-مظبوط
ولكن تحولت نبرته للجدية حين تابع منذرًا إياها:
-وخدي بالك يا "بثينة" لو عاوزة ابنك يفلح!
زوت ما بين حاجبيها متسائلة بقسماتٍ متجهمة:
-قصدك إيه؟

أوضح ببساطة وتلك النظرة المحذرة تنطلق من حدقتيه:
-ماتفحيش في ودانه زي تملي وتشقلبي كيانه.
اِربد وجهها بالحنق، وصاحت تنفي ما قاله:
-هو أنا بأحرضه ضدك لا سمح الله؟ مش حق أبوه اللي راح وآ...
قاطعها رافعًا يده أمام وجهها لتصمت:
-احنا قفلنا على السيرة دي خلاص، وكل واحد خد حقه من زمان، وأنا رميت ورا ضهري اللي عمله "هيثم"، قومي بدورك إنتي كأم معاه، وخليه يستقر عشان حاله يتصلح، وإياكي تظلمي بنات الناس.

مصمصت شفتيها قائلة بتذمرٍ:
-أنا زي البلسم يا حاج، بأتحط على الجرح يطيب
رد عليها وهو يستعد للنهوض:
-هنشوف.
نهضت بتكاسلٍ من مقعدها، وقالت مجاملة:
-ما تقعد شوية يا حاج، ده إنت منورني
نظر لها بجمودٍ من طرف عينه قبل أن يرد:
-ورايا مصالح، سلامو عليكم
سار متجهًا نحو باب المنزل، وتبعته في سكونٍ حتى خرج وأغلقت الباب، التفتت لتلصق ظهرها به، وحملقت بعينين تتوهجان بخبثٍ ماكر على حقيبة النقود محدثة نفسها:
-أل أنا اللي هاخربها على ابني، يا حسرة عليه من يوم ما أبوه مات واحنا متلطمين، ده أقل من حقه بكتير!

-اعدل الرصة يا ابني، ده مال ناس!
هتف "محرز" بتلك العبارة عاليًا محذرًا إياه بلهجة صارمة وهو يلوح بيده لأحد العمال الواقفين أعلى تلك الشاحنة، تابعه بنظراته أثناء رصه للأقفاص البلاستيكية التي تم ملؤها بثمار الفاكهة الطازجة بعد وزنها ليتأكد من أداء عمله على أكمل وجه، التفت برأسه يمينًا ويسارًا ليتابع حركة المارة، لمح "هيثم" وهو يركن سيارة الربع نقل عند ناصية الشارع، ابتسم في مكرٍ وهو يمسح على صدره بحركة دائرية متكررة، تحرك صوبه قاصدًا الحديث معه، ترجل الأخير من سيارته ليتفاجئ به أمام ناظريه، سأله بوجهٍ جاد التعبيرات:
-خير يا صاحبي؟

غمز له قائلاً بلؤمٍ وهو يلكزه بخفةٍ في كتفه:
-هنيالك يا عريس، أنا شايف الحاج من صباحية ربنا فاتح الخزنة الكبيرة وبيعبي الشنطة فلوس بالأكوام، زمانته راح عند الست الوالدة
سأله بنبرة ساخطة وقد توحشت نظراته:
-وإنت عاوز نصيبك من الفلوس دي ولا حاجة؟
رد نافيًا ووجهه يكسوه مسحة من الغموض المخيف:
-لأ، دول حلال عليك، وبعدين مش أنا اللي يملى عيني شوية الملاليم دي، أنا عاوزك في حاجة أكبر.
تطلع إليه في استغرابٍ وهو يسأله:
-حاجة إيه دي؟

جاوبه "محرز" بمزيد من الغموض:
-بعدين هاقولك لما أظبط كل حاجة..
وزاد من ابتسامته اللزجة وهو يتابع ليتوه عن تلك المسألة المثيرة للريبة:
-ركز إنت في الجوازة اللي جاية على كفوف الراحة دي
منحه نظرة ناقمة قبل أن يعقب عليه بامتعاضٍ:
-ما هي شورتك يا أبو نسب.
افتعل الضحك وتساءل بعدها:
-أومال فين "تميم"؟ مش شايفه يعني
حك "هيثم" أذنه وهو يجيبه:
-أبوه بعته مشوار، أنا طالع على القهوة شوية، جاي ولا؟
رحب باقتراحه قائلاً ببسمة غير مريحة:
-معاك.. هو احنا لينا إلا بعض!

ألزمه "بدير" بالذهاب في المرة الأولى مع ذلك العامل ليدله على منزل العروس الجديد باعتباره حديث العهد بالعمل في تلك المنطقة التي تعد جديدة عليه، وعلى مضضٍ اضطر أن يوافق حتى لا يرد أمر والده، وبضغطة بسيطة على المكابح أوقف "تميم" السيارة بجوار الرصيف الملاصق لمدخل البيت. سدد نظرة متأملة متأنية لنوافذه الموصدة عله يلمحها واقفة، لا يعرف لماذا تبحث عيناه عنها تحديدًا؟

لم يكن ليهتم هكذا برؤية زوجته التي تغدق عليه بالمشاعر الشغوفة، ناوشته تلك الأحاسيس الحماسية العجيبة واجتاحت وجدانه، أحس بدبيب قلبه يرتفع، تنحنح بخشونة مقاومًا ما يعتريه من أوهام استنكرها ونفضها عن عقله، ثم ترجل وساعد العامل في إنزال الأقفاص المليئة بالفواكه من المقعد الخلفي، اعتدل في وقفته، ومسح بيده العرق الذي تجمع عند جبينه متسائلاً:
-عرفت الدور ولا هتبوظ الدنيا؟

لم يكن العامل ممن يفهون سريعًا، قدراته الاستيعابية إلى حد ما محدودة، فأجابه بترددٍ:
-هاشوف يا معلم.
توتر "تميم" من إفساده للأمر، وقال مرغمًا:
-أنا جاي معاك، إياكش تفهم.

ثم انحنى ليحمل واحدًا من تلك الأقفاص الثقيلة، وتقدم في خطواته المتعجلة نسبيًا ليسبقه في الصعود على الدرج، يكاد يجزم في نفسه أنه لم يكن متحمسًا هكذا في بادئ الأمر، ولكن حين بات على مقربة من منزلها نشبت بداخله رغبة مُلحة للتحجج بأي سبب ورؤيتها وإن كان ذلك على سبيل المصادفة، أيعقل أن يصل به الأمر ليتصرف كالمراهقين؟ لام نفسه بشدة على سذاجته وتصرفاته الطفولية، وردد بصوتٍ خفيض وهو يزفر:
-مش هاتحصل تاني! أنا هاسيب الحاجة وأمشي.

أنزل القفص على أعتاب باب المنزل، وانتظر صعود العامل حتى يملي عليه أوامره. همَّ بالتحرك نحو الدرابزون لينظر إليه من خلاله، ولكن صوت صرير فتح الباب جمد قدميه، التفت عفويًا برأسه نحو من أطلت عليه من الداخل، ببساطةٍ مربكة فَسد ما خطط له حين رأى "فيروزة" تتطلع إليه بنظراتها المدهوشة ورائحة عطرها الأنثوي قد فاحت في المكان واقتحمت أنفه لتملأ صدره بها، جف حلقه كليًا، وشعر بتلك الخفقة العنيفة تضرب أوتار قلبه وهو كالأبله ينظر لها مصدومًا، بدا وكأنه قد فقد القدرة على النطق أو التحرك، تخشب في مكانه لحظيًا وصوتها الناعم يردد بابتسامة لا يعرف إن كانت ساخرة أم مرحبة:
-إيه المفاجأة دي... ؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة