قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والثلاثون

حزمة من المشاعر اليائسة غزت وجدانه بعد أن أحصى عقليًا وبحسبة سريعة ما يدخره من مال، لم يملك من كده اليومي حين التزم طريق الحلال سوى القليل الضئيل الذي لا يذكر أو حتى يصلح لشراء باقة من الورد لمعايدتها بعد تماثلها للشفاء، فماذا عن دفع تكاليف العلاج بالمشفى؟ لعن "هيثم" استهتاره الدائم الذي أوصله لتلك الحالة من العوز والاحتياج، عبث بشعر رأسه، وتابع مكالمته مع "تميم" قائلاً له على عجالةٍ:
-أنا محتاج منك قرشين ضروري، وهردهوملك أما ربنا يفرجها معايا.

بدا على صوت "تميم" الضيق حين سأله مستفهمًا:
-خير يا "هيثم"؟ عملت مصيبة إيه المرادي؟
أجابه بأنفاسٍ غير منتظمة وهو يتحرك في حركة شبه دائرية خارج المشفى:
-دول مش ليا.
استطاع أن يسمع صوت أنفاسه البطيئة عندما تساءل مجددًا بما يشبه الاستنكار:
-قول إنك رجعت تاني للسكة الشمال، والحكاية فيها عوأ (مشكلة) مع حد؟!

هتف نافيًا بصوتٍ مختنق:
-اقسم بالله أبدًا، أنا وعدتك ووعدتها.. ولحد النهاردة ملتزم بكلمتي...
انقطع صوته للحظة قبل أن يتابع بتوسلٍ:
-بس البت هتموت لو ملحقتهاش
على الفور سأله "تميم" وقد تبدلت نبرته:
-بت مين؟
أجابه بتلعثمٍ وتلك النهنهة تختلط بصوته:
-"همسة".. خطيبتي!

رد عليه "تميم" يستحثه على تمالك نفسه:
-اهدى كده، وفهمني في إيه، ومستشفى إيه اللي بتحكي عنها، ومتقلقش هاجيبلك كل اللي إنت عاوزه، وبزيادة.
تنفس "هيثم" الصعداء لدعمه الذي هبط عليه كنجدةٍ من السماء، ومسح بيده الدمعات التي فرت من طرفيه، ثم قال وهو يسحب نفسًا عميقًا:
-حاضر، بس بالله عليك ما تتأخر.
اخترقت نبرته أذنيه وهو يرد عليه:
-أنا جايلك في الطريق.
تنهيدة ثقيلة خرجت من جوف "هيثم" أزاحت معها همًا قابضًا للأرواح جثم على أنفاسه طوال تلك الدقائق الماضية، بدأ يستعيد انضباطه، وسرد له تفاصيل ما حدث في المطعم منذ لحظة انهيار "همسة" وذهابه بها إلى المشفى بصحبة أفراد العائلتين.

لم تمهل نفسها الفرصة لالتقاط الأنفاس، بمجرد أن دست المفتاح في قفل الباب ووطأت داخل منزلها، ركضت "فيروزة" نحو غرفة نوم والدتها، اتجهت إلى دولاب الملابس حيث تحتفظ والدتها في الرف الأوسط بصندوقٍ صغير تضع فيه مدخرات الفتاتين من أجل تجهيزهما حين تحين لحظة زواجهما، كانت تعرف هدفها جيدًا، فلم تضع الوقت في البحث والتفتيش، أزاحت الثياب التي يختبئ الصندوق أسفلها، وفتح الصندوق بالمفتاح الصغير المعلق به، أخرجت جميع النقود الموجودة به، وطوتهم بإحكامٍ قبل أن تحشرهم في جيب حقيبتها، كانت على وشك غلق الدولاب حين لمحت علبة القطيفة الحمراء، رددت لنفسها:
-إيه دي؟

مدت يدها للرف العلوي لتسحبها نحوها، ثم فتحتها لتعلو الدهشة المستنكرة كامل ملامحها، كزت على أسنانها متسائلة في ضيقٍ:
-الدهب ده بيعمل هنا إيه؟ المفروض يكون رجع لأصحابه!
أعادت العلبة في مكانها بالرف العلوي، وتابعت حديث نفسها:
-عمومًا ده مش وقته، هتكلم مع ماما في حكايته بعدين، المهم دلوقتي "همسة" وبس.
أوصدت الدولاب وتحركت بخطوات متعجلة إلى خارج الغرفة، أغلقت الباب خلفها، ومنه تابعت سيرها السريع نحو باب المنزل، وهي تأمل في نفسها ألا تكون قد تأخرت على توأمتها.

كل ما شغل حيز تفكيره في تلك الأثناء هو كيفية إحضار النقود المطلوبة دون إضاعة المزيد من الوقت، فالدقائق تكلف كثيرًا في حالة مريض تتوقف حياته على الثمن الذي يدفعه لتلقي العلاج الفعال، كان "تميم" متواجدًا بالدكان أثناء تلقيه للمكالمة الهاتفية، لهذا اتجه إلى الخزانة القديمة الضخمة الموضوعة عند الزاوية ليسحب منها ما يريده من أموال، ركض نحو سيارته، وقادها بتعجلٍ نحو المشفى الذي لم يكن ببعيدٍ عنه، وظل على تواصلٍ مع "هيثم" ليعرف منه آخر المستجدات، وعندما بات أمام مدخل المشفى قال له بصيغة آمرة:
-اطلع استناني عند الحسابات، أنا هاركن العربية في الجراج وجاي
رد بتعجلٍ:
-ماشي.

وفي المكان المخصص لركن السيارات، صف "تميم" خاصته به، ثم ترجل منها وهرول نحو الدرجات يصعدها دفعات، التقط أنفاسه عند الاستقبال وهو يجوب بعينيه القلقتين على الأوجه المتواجدة، أوقف إحدى الممرضات يسألها:
-الحسابات هنا فين؟
أرشدته وهي تشير بيدها:
-هتطلع من السلم اللي هناك ده، الدور الأول، آخر الطرقة يمين.
-متشكر
قالها وقد شرع يهرول في اتجاه السلم ليكمل صعوده الراكض عليه، وقبل أن يصل إلى الغرفة المنشودة كان "هيثم" ينتظره في الردهة، هلل الأخير فور أن رأه:
-"تميم"! أنا أهوو..

ثم ركض نحوه متسائلاً بتوترٍ:
-جبت الفلوس؟
أجابه وهو يخرج من جيبه مظروفًا أبيض اللون وضع به النقود:
-أيوه، شوف دول يكفوا ولا محتاج بزيادة
تناول منه المظروف وألقى نظرة خاطفة على المبلغ الكبير قبل أن يغلقه لينظر إليه قائلاً بامتنانٍ:
-كده تمام أوي، الله يكرمك يا "تميم"، مش عارف أقولك إيه، إنت أنقذتني وآ...
لم يكمل جملته الشاكرة له بسبب صوت "فيروزة" المقاطع بحسمٍ:
-محدش يتدخل!

التفت كلاهما نحوها لينظرا باندهاشٍ لتلك التي تركض وعرقها الغزير ينساب على جبينها، حتى خصلاتها تنافرت وتبعثرت بشكلٍ فوضوي، بالطبع ظهر تأثير رؤيتها المفاجئ على "تميم"، إنها نفس الخفقة العجيبة التي تضرب فؤاده وتصيبه بربكة موترة، حَجم من مشاعره التي تضاربت في حضرتها ليسألها بلهجته الصارمة وهو ينظر إلى عينيها المنزعجتين:
-مندخلش في إيه بالظبط؟ الموضوع عندنا!

رمقته بنظرة حادة، ثم انخفضت نظراتها نحو المظروف، خمنت دون سؤال عما يحتويه، وردت بشموخٍ وهي تتطلع إليهما رافضة إقحام أيًا منهما في شئون عائلتها سواء المادية أو المعنوية:
-لأ معلش دي أختي أنا، مالهاش لازمة تتحشروا في أي حاجة تخصنا
هدر بها "هيثم" وقد استفذت طاقته على الاحتمال:
-بأقولك إيه أنا آ...

قاطعه "تميم" بصوته القوي، ومشيرًا بيده دون أن تبتعد نظراته المتأملة عن وجه "فيروزة":
-خلاص، اهدى يا "هيثم"!
رد عليه بنرفزةٍ واضحة:
-إنت مش شايفها يا "تميم"؟ كلامها يفور الدم!
أدار رأسه نحوه يأمره بصوته الآمر دون أن تخبو صرامته:
-روح يا "هيثم" اعمل المطلوب وخلص الإجراءات!
هز رأسه ممتثلاً له، فصرخت به "فيروزة" محتجة:
-استنى عندك!

وكأنها تُحادث الفراغ حيث تابع "تميم" إلقاء أوامره عليه:
-نفذ الكلام، ماتقفش!
تراقصت في عينيه نظرة انتصار وهو يرد:
-حاضر.
أوشكت "فيروزة" على اللحاق به وإيقافه، لكن اعترض "تميم" طريقها بجسده، توقفت عنوة حتى لا ترطم بصدره بسبب اندفاعها المتعجل، نظرت له شزرًا ثم تحركت في الاتجاه الآخر لتتجاوزه، لكنه سده عليها وقد فرد ذراعيه في الهواء، منحته نظرة نارية من عينيها قبل أن تصرخ به بعصبيةٍ:
-ممكن أفهم إنت بتتحشر ليه؟

رد مبتسمًا، وكأنه يستفزها بهدوئه:
-مش في رجالة موجودين؟ هما اللي بيخلصوا الحاجات دي، فماتتعبيش نفسك.
غمغمت مع نفسها في حنقٍ، وقد شردت تفكر في جملته الأخيرة ذات الدلالة الواضحة:
-الله يسامحك يا خالي، إنت السبب، المفروض تكون بتجري مكاني!

تأمل "تميم" سكونها اللحظي بنظرات متفحصة، كانت كشعلة من النار الملتهبة ألسنتها، والتي يزداد أوجها بشكلٍ مثير حين تغضب، ورغم هذا كانت تجعل كامل حواسه في حالة استنفارٍ عجيبة، وكأنها تحثه بكل ما تملكه من وسائل هجومية على عدم الاستسلام والخوض معها في معركة طويلة الأجل، طالعته بنظرة غريبة حين رأت نظراته الساهمة نحوها، ثم هتفت بتنهيدة محبطة وذلك التقوس المستنكر يعلو زواية شفتيها:
-يعني مش معقول، كده كتير بجد.

حافظ على ثبات نبرته وهو يرد:
-معلش استحمليني.
ابتسمت في سخرية وقد عاد إلى ذهنها مشهدًا ليس ببعيدٍ عنها، حين أخبرتها زوجته بأنه لا يتقبلها مطلقًا، ويكن لها كراهية مفهومة، لم تتحمل سخافة الموقف، وسألته بما يشبه الإهانة:
-للدرجادي إنت منافق كمان؟!
صدمه وصفها الأخير له والمرفوض كليًا، وقال محذرًا وقد اشتدت تعابيره عبوسًا:
-منافق! حاسبي على كلامك.

استرسلت موضحة بكبرياءٍ وقد تصلبت عروقها:
-ما هو مالوش تفسير اللي بتعمله غير كده، أكيد واحد مش طايق يبص في خلقتي، ولا أنا أصلاً بأقبلهن فجأة بقدرة قادر جاي يعمل معروف معايا، لأ شكرًا مش عاوزين حاجة من حد، الحمدلله ربنا ساترها معانا، وموصلش الأمر إننا نشحت على أختي، لأ ومنك!

تطلع إليها في اندهاشٍ متعجب من الأقاويل التي تملي بها أذنيه، وسيطر على غضبه الذي اندلع كردة فعل طبيعية بداخله، سحب شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة، ثم قال بتمهلٍ:
-طيب .. أنا مش هسألك على اللي قولتيه ده دلوقتي، أنا مقدر الظروف!
صاحت بنفس النبرة المنفعلة وهي تشيح بيدها أمام وجهه:
-وتسألني ليه أصلاً؟ بصفتك مين؟ ما كفاية مراتك قايمة بالواجب وزيادة
تساءل مندهشًا:
-مراتي؟ وهي مالها بيكي؟!

نظرت له باحتقارٍ وهي معتقدة أنه يتلاعب بها، ثم قالت بما يشبه السخرية:
-إنت بتهزر صح؟ قالولك عني غبية وبرمي بلايا، إنتو الكلام معاكو خسارة
حاولت تخطيه لكنه احتل الطريق بجسده ومنعها من المرور فلم تجد إلا صدره العريض أمامها، وكأنه بذلك يتحداها، رفعت عينيها إليه فوجدت نظراته المحتقنة مسلطة عليها، وبصوتٍ بدا مشدودًا سألها:
-أنا مش فاهم منك حاجة، قصدك إيه بكلامك ده؟

ضجرت من لغوه الفارغ معها، ومن تلاعبه المستهلك بعقلها، وكأنه بذلك يضيع الوقت عليها، إذًا لتوقفه عند حده إن كان لا يفهم إلا بلغة العنف، ودون أن يتوقع ردة فعلها شحذت "فيروزة" قواها المنفعلة ودفعته من صدره بكلتا قبضتيها لتتمكن من تحريكه من مكانه خطوة للخلف وهي تصرخ به:
-ابعدوا عننا بقى، شيلونا من دماغكم!

تفاجأ من قساوتها العنيفة التي حفزته، أصبحت تعابيره متقلصة للغاية، كانت على وشك تكرار نفس الفعلة الجنونية، لكن امتدت يداه لتمسك برسغيها، ثبتهما للأسفل مستخدمًا قوته الذكورية الكامنة فيه، وشدَّ بأصابعه وعيناه تنظران مباشرة في حدقتيها المحتدتين، استجمع هدوئه، وضبط غضبه، ثم قال لها بصوته الخفيض:
-لو قصدك على خطوبة "هيثم" بأختك، فده اختيارهم، أنا ماليش فيه.
حاولت تحرير يديها من قبضتيه الجامدتين، وهتفت بحنقها:
-واحنا مش عايزين نرتبط بيكم، افهموا بقى!

أرخى أصابعه عنها فسحبت على الفور يديها للخلف، وبدأت تفركهما، تنهد من جديد ثم رفع كفيه أمام وجهها متابعًا كلامه:
-ده مش موضوعنا، المهم دلوقتي نطمن على أختك، مشاكلك مع "هيثم" أو غيره تحليها بعدين.
فتحت "فيروزة" شفتيها لترد عليه بلهجة قاسية شديدة لتلزمه بحدوده معها فلا يتجاوز مطلقًا تحت أي مسمى، لكن الصوت المألوف المنادي باسمها جعلها تدير رأسها للخلف في اتجاه مصدره غير متوقعة ما أبصرته عيناها... !

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة