قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

استندت بوجهها على كفها وهي تتطلع بشرودٍ حزين إلى حركة الجيران بمنطقتها الشعبية من خلال نافذتها، وعلى الرغم من الصخب المزعج المنتشر في وقت الظهيرة إلا أنها كانت معزولة عنه بانخراطها في همومها، تركت لدمعاتها المختنقة العنان لتنساب على وجنتيها، كان صدرها مختنقًا على الأخير، ما زال طيف لقائها معه بعد تلك الغيبة يؤلمها، قدم لها الخيال هاجسًا مخيفًا بأنها باتت مفروضة عليه، وحبها له من طرف واحد، بالرغم من كونها لا تعرف سواه، ولم تعشق غيره، لكنه كان منذ الوهلة الأولى بعد ذلك البُعد القاسي غامضًا معها .. نادت عليها والدتها عدة مرات فلم تنتبه لها مما حث الأخيرة على الاقتراب منها وهزها بضيقٍ، اعتدلت "خلود" في وقفتها المنحنية قليلاً لتنظر إلى والدتها باستغرابٍ، مسحت ما علق في أهدابها من عبراتٍ لتسألها:
-في إيه يا ماما؟

أجابتها بوجهٍ مكفهر وصوت يعكس ضيقها:
-بنادي عليكي وإنتي ولا سمعاني!
ردت بزفيرٍ بطيء:
-معلش.. مخدتش بالي.
دققت "بثينة" النظر في وجه ابنتها الذابل، لم تكن بالساذجة لتفهم وجود خطب ما، سألتها بجديةٍ تنم عن قوة وحاجباها معقودان:
-"خلود"، بقالك يومين مش زي تملي، في حد ضايقك؟ قوليلي وأنا أتصرف.
ظهر ترددها وهي تجيبها باقتضابٍ:
-لأ .. مافيش.

سألتها مباشرة وكامل نظراتها مثبتة عليها:
-"تميم" عملك حاجة؟
للحظة توترت من سؤالها الملبك لحواسها، أجابت دون أن تنظر في عينيها حتى لا تلاحظ كذبها:
-لأ.
كانت غير مقتنعة بردها، ومع ذلك قالت لها:
-طب جهزي نفسك عشان تروحي من بدري لخالتك تساعديها في عزومة العشا بتاعة النهاردة.

عبثت "خلود" بأصابع يدها في ارتباكٍ، فكيف ستخبرها أنها غير راغبة في الذهاب إلى هناك وجرح كبريائها أكثر من ذلك بتلقي المزيد من قساوة "تميم"، ما زالت مستاءة منه، ولم يخف حزنها، ضغطت على شفتيها تعتذر بصوتٍ مهتز وعيناها تتحركان في توترٍ:
-أنا أصلي.. مش.. رايحة
علقت مصدومة مما نطقت به:
-نعم؟ بتقولي إيه؟

تعللت مدعية كذبًا:
-جسمي واجعني و.. مش هاقدر أقف كتير، خايفة أدوخ وأتعب.. خليني أروح مرة تانية.
زمت والدتها شفتيها في عدم اقتناعٍ وهي تعقب عليها:
-غريبة! مع إنك كنتي بتزني عليا عشان تروحي.
غامت عيناها وهي ترد:
-مكونتش أعرف إني هاتعب
استدارت "بثينة" برأسها للخلف حينما سمعت صوت الجرس، عادت لتنظر إلى ابنتها وهي تهم بالتحرك:
-أنا هاروح أشوف مين بيخبط.

أومأت برأسها بهزة بسيطة والتفتت تتطلع من نافذتها للزحام المتواجد بالأسفل، سحبت "خلود" أنفاسًا عميقة تخفف بها تلك الغصة المؤلمة الموجودة بصدرها، أتاها صوت والدتها من خلفها وهي تقول لها بابتسامة ماكرة وعيناها تبرقان بوميضٍ غريب:
-في ضيف جايلك برا يا حلوة.
أدارت رأسها ببطءٍ نحوها لتسألها:
-ضيف؟ مين ده؟

هزت "بثينة" كتفيها في دلال مصطنع قبل أن تجيبها بابتسامتها اللئيمة:
-"تميم" يا عين أمك!
خفق قلب "خلود" بقوة لمجرد سماعها اسمه، في لحظة واحدة تلاشت جميع أحزانها ومُحيت كل همومها، أشرقت ملامحها وتوهجت نظراتها بوهج الحب. اضطربت أنفاسها حينما رددت:
-"ت..تميم"!
قالت في خبث:
-أه ياختي "تميم".

تملكتها حالة من الارتباك والحيرة، دارت حول نفسها غير مصدقة أنه قد جاء إليها، وقفت أمام المرآة لتضبط هيئتها سريعًا وتمسح ما تبقى من دمعاتها، قرصت خديها بأناملها وهي تتساءل في تلهفٍ مضاعف:
-شكلي مظبوط يا ماما؟
علقت عليها ساخرة:
-عجايب! اللي يشوفك من شوية مايشوفكيش دلوقتي!

نثرت "خلود" عطرها على بلوزتها الخضراء، وهندمت ياقتها ثم أرخت طرفي حجابها الأبيض وراء ظهرها، سحبت شهيقًا عميقًا تهدئ به دقات قلبها المتسارعة، وقفت قبالة والدتها ترجوها:
-ادعيلي ياماما.
قالت لها بوجهٍ عابس غير راضٍ عن تصرفاتها:
-بأدعيلك، بس إنتي اركزي كده.

وكأنها لم تصغِ لها حيث خرجت من غرفتها مهرولة نحو الصالة، لمحته جالسًا عند الزاوية يحرق صدره بسجائره، رمشت بعينيها غير مصدقة أنه جاء لرؤيتها، أحست بالسعادة تغمرها من جديد فتذيب الأوجاع التي أثقلت قلبها، لكنها أرادت معاتبته على خشونته معها، لذا تباطأت عن عمدٍ في خطواتها وهي تقترب منه. أطفأ "تميم" سيجارته وقد لمحها مقبلة نحوه، نهض لمصافحتها فرفضت مد يدها نحوه وكتفت ساعديها أمام صدرها لترد له ما فعله معها حينما قدمت له باقة الورد، رمقها بنظرة حادة أربكتها، ثم سألها لها:
-دي حمدلله على السلامة بتاعتك؟

على الفور تخلت عن قناع الجمود الزائف الذي ارتدته لتعتذر منه في ندمٍ وقد تهدل كتفاها وارتخى ذراعاها:
-حقك عليا يا "تميم"، أنا مقصدش.
ثم لعقت شفتيها بطرف لسانها قبل أن تضيف بمرارة:
-بس إنت وجعتني باللي عملته معايا قصاد أهلك!
رد عليها دون مراوغةٍ:
-عشان الورد؟

أدمعت عيناها وقد تجسد المشهد في مخيلتها، رأى "تميم" عبراتها تتجمع فشعر بوخزة تؤلم حلقه، لم يحبذ أبدًا تلك النوعية من الرومانسيات العلنية، هو غيرها لا يستطيع التعبير عن مشاعره أمام الآخرين، يحتاج لنوعٍ من الخصوصية ليبوح بمكنونات قلبه، أخرج زفيرًا عميقًا من جوفه ثم جلس على الأريكة ليقول لها:
-بصي يا بنت الناس، خليني أكون واضح معاكي..

قضم باقي حديثه ريثما تجلس، ثم استأنف قائلاً بنفس اللهجة الجادة:
-الأيام السودة اللي أنا عيشتها في السجن غيرتني كتير، طول اليوم مع مجرمين وأشكال بنت...، فمش بالساهل تلاقيني "تميم" بتاع زمان، أنا محتاج وقت عشان أعرف أتعامل مع الناس عادي، وخصوصًا خطيبتي، تصرفاتي شوية ممكن متعجبكيش، بس اديني وقتي!

امتدت يداها نحوه لتمسك بكفيه، مسحت عليهما برفقٍ وقد حدقت في عينيه بنظرات هائمة، خرج صوتها محملا بتنهيدات العشق وهي تقول:
-حبيبي، خد كل الوقت اللي إنت عاوزه، أنا مش مستعجلة، بس ماتقساش عليا، أنا بأحبك، وبأموت في التراب اللي بتمشي عليه.
تنحنح بصوتٍ خافت قبل أن يسحب كفيه من بين أناملها الناعمة، استقام في جلسته مرددًا:
-أنا جاي بنفسي أخدك للعزومة.

هللت غير مصدقة وهالة سحرية من الحب تحاوط وجهها:
-بجد يا "تميم"؟
رد بغلظةٍ طفيفة:
-أكيد مش بأهزر يعني! قومي جهزي نفسك، مش عاوز أتأخر.
نهضت واقفة وهي ترد في انصياع كامل:
-على طول يا حبيبي..
همَّت بالتحرك لكنها التفتت برأسها نحوه لتضيف في رقةٍ وقد ضج وجهها بتوردٍ دافئ:
-تعرف أنا كنت لسه بأقول لماما إني لازم أروح لخالتي من بدري عشان أساعدها، وهي و"هيثم" يروحوا براحتهم، برضوه هي محتاجة حد يقف معاها.

تقوست شفتاه عن ابتسامة صغيرة ممتنة وهو يدس بينهما سيجارة أخرى يوشك على إشعالها، رمقته "خلود" بنظرات أكثر عشقًا قبل أن توليه ظهرها لتسرع في خطواتها عائدة إلى غرفتها حتى تكمل ارتداء ثيابها. استوقفتها والدتها متسائلة بتهكمٍ:
-التعب راح خلاص؟
انفرج ثغرها عن بسمة متسعة مليئة بالفرحة، مالت نحو والدتها تحتضنها وتقبلها من وجنتيها وهي تهتف في ابتهاج:
-أنا بأحبك أوي يا ماما.
علقت عليها بنبرة ساخرة:
-خلي الحب لناسه ياختي!

لا تعرف كيف وافقت ببساطة على جنونها المُسبب للفت الأنظار وجلست على مقعد بلاستيكي إلى جوار عربة الطعام الجاهز لتراقب بقلقٍ غريزي ما تفعله ابنتاها مع الزبائن. في البداية كان الوضع هادئًا بالرغم من اختيار الأختين ليوم الخميس لافتتاح مشروعهما حيث بداية العطلة الأسبوعية وخروج المواطنين للاستمتاع بالأجواء الشتوية، انزعجت قليلاً من شرائط الأنوار الجاذبة للأنظار التي حاوطت مقدمة العربة لتجذب الأعين نحوها، أشاحت ببصرها عن إضاءتها لتضم شالها الصوفي على عنقها حتى تستعيد إحساس الدفء المفقود في ذلك المكان الفسيح..

أعدت "همسة" السندوتشات الخفيفة وأضافت لها نكهات مميزة لتعطيها مذاقًا مختلفًا وأيضًا حريفًا إن طلب أحدهم طعمًا لاذعًا وحارًا، في حين تولت "فيروزة" تلقي الطلبات وتغليف الطعام فور الانتهاء منه. نهضت "آمنة" من مكانها لتذهب إلى ابنتيها بعد أن ضجرت من المكوث مطولاً بمفردها دون أن تقوم بشيءٍ مفيد، ناهيك عن تيار الهواء البارد الذي أرهق جسدها.

وقفت تتطلع إلى الاثنتين الواقفتين خلف نافذة موجودة في العربة، كلتاهما ترتدي كنزة سوداء ثقيلة مطبوعٌ عليها نقوشات شتوية، ويرفعان شعرهما للأعلى ويلفان حوله منديلاً للرأس من اللون الأسود يزينه ورودًا ملونة حتى لا تتساقط أيًا من خصلاته في الطعام أثناء إعداده، تأملتهما بابتسامةٍ لطيفة سرعان ما تلاشت لتسألهما بنفاذ صبرٍ:
-هو احنا هنفضل أعدين كده لحد امتى؟

ردت عليها "فيروزة" بملامح جادة:
-لسه بدري يا ماما، الناس بتسهر للصبح.
قالت والدتها بتذمرٍ وهي تسحب شالها على كتفيها المرتعشين:
-بس أنا البرد نخر في عضمي وتعبني.
اقترحت عليها "همسة" بلطفٍ وهي تبتسم لها:
-تقدري يا ماما تطلعي تريحي، كتر خيرك واقفة معانا من بدري، واحنا كمان شوية هنقفل ونرجع البيت.
اعترضت عليها بشدة:
-وأسيبكم لوحدكم في الطل؟

صححت لها "فيروزة" عبارتها مستخدمة يدها وعينيها في الإشارة:
-طل إيه بس، ده الدنيا زحمة أهي.
انكمشت "آمنة" على نفسها من التيارات الهوائية الباردة التي تضرب وجهها، وقالت في ضيقٍ:
-أنا مش مرتاحة.
استندت "فيروزة" بكفيها على حافة النافذة لتتمكن من الانحناء نحوها، ثم ردت عليها بهدوءٍ علها تخفف من وطأة خوفها الزائد:
-يا ماما متخافيش، أديكي موجودة معانا من بدري ومافيش حاجة حصلت، الناس رايحة جاية وكل حاجة تمام التمام.

حركت رأسها للجانب قبل أن ترد عليها:
-قلبي متوغوش، وبعدين كل فين وفين لما حد يجي ناحيتكم
بررت لها عزوف الزبائن عن القدوم قائلة بمنطقية:
-ما هما لسه ميعرفوناش، بكرة لما الكل يدوق أكلنا هنبقى مش ملاحقين على الطلبات ولا الزباين.
-أما نشوف
قالتها وهي تجرجر ساقيها نحو مقعدها الموضوع بجوار العربة، في حين تساءلت "همسة" في اهتمامٍ وهي تحاول أن تطل برأسها من النافذة لتنظر إليها أكثر:
-هاتعملي إيه يا ماما؟

ألقت بثقل جسدها المنهك على المقعد لتجيبها بعدها:
-هاقعد في مكاني، ما أنا مش هاسيبكم لوحدكم.
سألتها مبتسمة:
-طيب أعملك سندوتش؟
ردت بوجهٍ متقلص ونظراتٍ متنمرة:
-لأ مش عاوزة.. ربنا يسهل وتفضوا المولد ده خلينا نرجع بيتنا.

كظمت "فيروزة" غيظها من أسلوبها المنفر والمثبط للعزائم لتقول بصوتٍ خفيض وهي تكز على أسنانها:
-شايفة الإحباط؟
همست لها أختها وهي تسحب السكين من موضعه:
-احمدي ربنا إنها وافقت أصلاً، مش أحسن ما كانت حطتلنا العقدة في المنشار ولا عرفنا نعمل حاجة.
قالت بتكشيرة جانبية على شفتيها:
-على رأيك، الحكاية مش ناقصة عكوسات!

أمرتها "همسة" بجديةٍ وهي ترص قطع اللحم في المقلاة المليئة بالزيت المتأجج على النيران:
-قطعي يالا الطماطم والخس، عشان لو حد جه طلب أوردر ما يقفش كتير.
رفعت "فيروزة" يديها للأعلى مرددة بنبرة عالية:
-ارزقنا من عندك يا رب!

شمر عن ساعديه وقام بثني كمي جلبابه ليتحرر ذراعاه ويستطيع مدهما بأريحية أثناء تناوله للطعام خلال المأدبة التي دعا إليها أفراد عائلته احتفاءً بخروج حفيده الغالي من محبسه. شطر "سلطان" الدجاجة المطهية أمامه إلى نصفين؛ وضع إحداهما في صحنه واستطال ذراعه ليصل إلى حفيده الجالس على ميمنته بجوار ابنه، أسندها في طبقه قائلاً له بصيغة آمرة:
-عاوزك تخلص الأكل ده كله.

رد عليه "تميم" مازحًا:
-أوامرك يا جدي، هنسفهالك
بادله جده ابتسامة راضية قبل أن تتحول أنظاره نحو "ونيسة" التي أمسكت بالمعلقة الكبيرة لتسكب بها الحساء الذي تُجيد إعداده بوصفة خاصة بها في طبقه وهي تقول:
-دوق يابا الحاج وقولي رأيك.
مد معلقته به وسحب القليل منه ليرتشفه ثم أردف في استحسانٍ:
-تسلم إيدك.

انتفخت عروقها تباهيًا برأيه الذي يضاعف من فخرها بمهاراتها في الطهي، وشرعت توزع على باقي الجالسين مستعينة بابنة أختها لتساعدها في تقديم الطعام لضيوفها، خاصة وأن ابنتها "هاجر" تعاني من آلام الحمل المعتادة في تلك الأشهر المتقدمة منه. استهلت "بثينة" حديثها مادحة عن عمدٍ لتوجه الأنظار نحو ابنتها:
-طول عمرك ست بيت شاطرة يا "ونيسة"، و"خلود" طالعة زيك، مخدتش حاجة مني.

ردت شقيقتها مجاملة:
-تسلمي ياختي، بس بنتك أشطر مني.
قالت لها بابتسامة متسعة بعد ضحكة مفتعلة:
-والله دي أخدة أصول الصنعة كلها منك.
وقفت "خلود" بجوار خطيبها تقدم له الطعام، شكرها بنظراته دون أن ينبس بكلمةٍ، وفهمت هي إشاراته غير المنطوقة واحمرت وجنتاها خجلاً. هتفت "بثينة" فجأة عاليًا وصوت المعالق يضرب في الصحون:
-ما تاكل يا "تميم"، ده إنت هفتان يا حبيبي، هما مكانوش بيأكلوك في السجن؟

بدت جملتها فظة إلى حد ما وأثارت حفيظة ابنتها التي اتسعت عيناها في لومٍ من أسلوبها غير المقبول لطرح مثل تلك الكلمات الصادمة، خشيت من توتر الأجواء لكن فاجأها "تميم" بالرد بسخافةٍ قاصدًا إحراجها وربما مضايقتها:
-كنت بأكل يا خالتي بدل الطقة عشرة، بس أكل أمي لا يُعلى عليه!
اكتسى وجهها بعبوسٍ ملحوظٍ، بينما ضحكت "ونيسة" بنبرة فرحة وهي تقول:
-حبيبي يا ابني، دايمًا كده ناصف أمك.

ثم غمزت له بمكرٍ لتتحول الأنظار من جديد نحو خطيبته المرتبكة:
-بس النهاردة "خلود" اللي عاملة كل حاجة بإيدها، صح يا "هاجر"؟
أيدتها ابنتها "هاجر" في الرأي فقالت بلؤمٍ:
-طبعًا، وكله على يدي.
ردت عليها "بثينة" متسائلة بابتسامتها العريضة:
-إنتي صحتك عاملة إيه دلوقت؟
أشارت "هاجر" إلى بطنها المنتفخ وأجابت بتنهيدة متعبة:
-الحمدلله، مطلع عيني، بس كله يهون عشانه.

قالت لها مجاملة:
-طبعًا، ده الحفيد المنتظر، ربنا يتمملك على خير، ها الضاكتور قالك النوع إيه؟
همَّت تجيبها:
-هو قالنا ...
لم يرغب "محرز" -زوج "هاجر" وأحد أهم معاوني "بدير"- في اقتحام تلك المرأة الفضولية لشئونه الخاصة، لذا بحزمٍ قاطع حديث النساء ليردد بطريقته اللزجة وبقايا الطعام الممضوغ يتناثر من فمه:
-كل اللي يجيبه ربنا خير، خلونا نشوف الشغل والتوريدات اللي ورانا، جايلنا كام طلبية و...

ظنت "بثينة" أن الفرصة مواتية لتقحم ما تريده مستغلة جملة "محرز" الأخيرة فهتفت متدخلة في الحديث بفظاظة ونظراتها بالكامل تركزت على وجه "بدير" لكونه المسئول عن إدارة الأعمال:
-بمناسبة الشغل يا حاج "بدير"، ما تاخد "هيثم" معاك، أهوو يقف معاكو ويقضيلكم مصالحكم.
رد عليها "بدير" بطريقة سمجة تليق بأسلوبها:
-جربته قبل كده ومانفعش!

احتج "هيثم" على اتهامه بالتقصير فدافع عن نفسه قائلاً وقد توقف عن بلع لقيمات الطعام:
-لا يا جوز خالتي، أنا بأفهم في الشغل.
نظر له بنظرة نفاذة تشير إلى خبرته وسطوته قبل أن يكتسي صوته بطابع رسمي وهو يرد:
-شغلنا مش عاوز فهلوة ولا لوي دراع، دي مصالح ناس بألوفات، وسمعتنا قبل كل ده فوق أي اعتبار.
علق الطعام في حلق "هيثم" فسعل بشدةٍ، ناولت "بثينة" كوب الماء لابنها وربتت على ظهره حتى يلفظ ما سد مجرى الهواء، التفتت لتعاتب زوج أختها:
-وأنا ابني قصر في حاجة؟

أجابها ببساطةٍ وهو يلوك الطعام:
-ابنك معندوش مخ.
اشتعل وجهها بحمرة غاضبة من إهانته غير المقبولة لابنها فصاحت تدافع عنه باستماتةٍ:
-نعم، أنا ابني مخه يوزن بلد باللي فيها، إنتو بس اللي مش مقدرين قيمته ولا مدينه حقه هنا.
تدخل "سلطان" قائلاً بلهجة الآمر الناهي:
-خلاص يا "بثينة"، قفلوا على السيرة دي، مش وقته الكلام ده، نبقى نشوف موضوع ابنك بعدين
ردت على مضضٍ وعيناها تشعان شررًا مغتاظًا:
-ماشي يا حاج "سلطان".

رن هاتف "تميم" فأخرجه من جيب بنطاله الجينز الخلفي لينظر إلى شاشته، فمنذ أن علم رفاقه بعودته وهاتفه لم يتوقف، نهض دافعًا مقعده للخلف وهو يستأذن بلباقةٍ احترامًا لضيوفه:
-لا مؤاخذة، هرد على التليفون وأرجعلكم
قالت له "ونيسة" بابتسامة عريضة وبكلمات موحية:
-بسرعة يا ابني، لأحسن الشوربة اللي عملاها بنت خالتك تبرد.. طعمها مابيبقاش حلو إلا وهي سخنة موهوجة.
تلقائيًا تحركت حدقتاه نحو وجه "خلود" المتشرب بحمرته الخجلة، بدت أكثر توترًا من نظرات المحدقين بها، رمقها "تميم" بنظرة غير مفهومة التقطتها خلسة، ثم عاد ليحدق في والدته قائلاً باقتضاب:
-إن شاءالله..

انسحب من مائدة الطعام ليتحدث مع المتصل وصوته المرح كان نوعًا ما مسموعًا وهو يقول:
-حبيبي يا "ناجي"، أهوو بنتعلم منك الأدب والأخلاق!
لم يدرك أن عينا "خلود" ما زالت تتبعه أينما ذهب وقلبها يدق بسرعة فائقة، وبالرغم من تحرجها من الأسلوب غير المستساغ في التحدث عنها بسبب أو بدونه إلا أنها كانت سعيدة بكونها محط اهتمامه. لاحقًا عاد "تميم" إلى الطاولة ووقف مستندًا بذراعه على مقعده ليعتذر بجدية:
-معلش يا جماعة، أنا مضطر استأذن وأنزل أشوف أصحابي، كلهم متجمعين ومستنيني على القهوة.

سقطت كلماته على رأس "خلود" كالصدمة، وهي التي كانت تمني نفسها بسهرة لطيفة تتمتع فيها بالتطلع إلى وجهه وتغرق في نظراته الساهمة، وربما يتجرأ ويداعب مشاعرها بتغزله فيها، تبخرت أحلامها كليًا وامتعضت ملامحها كتعبيرٍ عن ضيقها، في حين رد عليه "بدير" بصوتٍ هادئ:
-وماله اخرج يا "تميم"، بس بلاش مشاكل.
قال ممازحًا بابتسامةٍ ساخرة:
-اطمن يا حاج، أنا مبطل شقاوة بقالي يومين.
ودَّع الجالسين ملوحًا بيده.. حانت منه التفاتة سريعة نحو "خلود" رمقها بنظرةٍ ذات مغزى ابتسمت لها وأسبلت عينيها نحوه قبل أن تثبت نظراتها على صحن طعامها محاولة تهدئة قلبها الراقص طربًا لاهتمامه بها وإن كان صغيرًا ومتواريًا.

أوشك زيت القلية المستخدم في طهي قطع (الهامبورجر) على النفاذ بعد أن تكاثرت الطلبات الخاصة بتجهيز السندوتشات، حاولت "همسة" التعامل مع ما هو متاح حتى يتسنى لها توفير بعض الوقت للذهاب إلى المنزل لإحضار واحدة جديدة والعودة إلى عربة الطعام. أوكلت مهمة مراقبة تحمير وجهه ل "فيروزة"، لكن خشيت الأخيرة من إفساد مجهود أختها المبذول لقلة خبرتها فقالت حاسمة رأيها:
-أنا اللي هاروح أجيب الزيت، وخليكي إنتي تابعي الأكل
ردت عليها رافضة:
-يا "فيرو" أنا مش هتأخر، والموضوع بسيط مش مستاهل، إنتي بس ...

قاطعتها بعنادٍ:
-خلاص يا "همسة"، أنا عارفة مكان الحاجة، وبالمرة هاجيب لماما شال تقيل بدل اللي لبساه عشان البرد.
ابتسمت تشكرها:
-تسلميلي، خدي بالك من نفسك.
ردت ساخرة:
-هو أنا ههاجر، ده البيت آخر الشارع!
ثم انتزعت مريلتها عن خصرها لتتركها على الجانب وتهبط عن العربة، سألتها "آمنة" مستفهمة:
-رايحة فين يا "فيروزة"؟
أجابتها على الفور:
-هاجيب زيت من البيت وراجعة على طول.
أمرتها بنبرتها الجادة:
-متتأخريش.
-حاضر.

قالتها وهي تسير على عجالة بخطواتٍ أقرب للركض لتعبر النصف الأول من الطريق، وقفت عند المنتصف على الرصيف الفاصل بين الجهتين تنتظر تباطؤ حركة السيارات حتى تتمكن من العبور. كان الهواء عاصف نسبيًا فضرب وجنتيها وتسبب في بعثرة خصلات شعرها بشكلٍ شبه فوضوي على وجهها مما اضطرها لإعادة ما تناثر منه أسفل منديل رأسها دون أن تكترث أنها حررت مشبك الشعر الفضي المصمم على هيئة زهرة الأوركيد والذي كان ممسكًا به. فركت "فيروزة" كفي يدها معًا عل الدفء يتسرب إلى أطرافها التي ارتعشت كليًا، لم تتخيل أن يكون الطقس باردًا بسبب حرارة الموقد بداخل العربة فبدا الجو بها على النقيض من الحقيقي.

في تلك الأثناء، كان "تميم" في خضم اتصالٍ هاتفي مع رفيقه، كامل حواسه مركزة مع حواره الشيق فيما عدا بصره المنتبه للحركة المرورية، قال لرفيقه "ناجي" عاليًا بصوته الأجش:
-هاشوف فين القهوة دي وأجيلك عندها.
مر بجوار "فيروزة" ولم ينتبه لها لكونها شخص عابر بالنسبة له متابعًا حديثه ببسمة جانبية شبه متهكمة وعيناه تجوبان بفضولٍ على عربة الطعام الوحيدة المرابطة بجوار الكورنيش:
-ده الدنيا اتغيرت خالص، وشايف حاجات غريبة هنا.

لفتت أنظاره فتوقف عن السير ليتأملها بنظرات أكثر تدقيقًا وتفحصًا. هدأت سرعة السيارات نوعًا ما فهرولت "فيروزة" عدوًا للناحية الأخرى مقاومة قدر استطاعتها تيار الهواء الشديد، لم تشعر بمنديلها الذي حرره الهواء وطار في اتجاه الريح ليصطدم بذاك الشخص الغريب عنها، أحس "تميم" بألم طفيف يضرب مؤخرة عنقه وكأن أحدهم قذفه بطوبة صغيرة، تحسسه بيده وهو يلتفت برأسه للخلف باحثًا عمن ارتكب تلك الفعلة الحمقاء التي حتمًا لن يمررها مرور الكرام، لم يجد أحدهم في الجوار، لكن أصابعه التقطت المنديل والمشبك. حملق فيهما باستغرابٍ حائر متسائلاً مع نفسه:
-بتوع مين دول...؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة