قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل التاسع

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل التاسع

تأنقت كلتاهما بثيابٍ أنيقة شبه رسمية مع احتفاظها بالذوق الشبابي لكنها ليست كأثواب الأفراح، فهناك عمل ينتظرهما عند الكورنيش، حيث تتواجد عربة الطعام والتي وضعت هناك قبل وقت سابق، وبمجرد إنهاء تلك الزيارة غير الضرورية ستتوجهان إليها، ذهابهما فقط جاء بناءً على رغبة والدتهما. وقفت "همسة" أمام توأمتها تعقد لها أنشوطة بلوزتها النبيذية اللون والمصنوعة من قماش الستان التي ارتدتها أسفل الجاكيت الثقيل، تأكدت من إحكامها حتى لا تنحل عقدتها، في حين تذمرت "فيروزة" من ذهابها لذلك العرس قائلة:
-مش فاهمة لازمتها إيه نروح؟ عندنا شغل والنهاردة الويك إند، ده غير إن في حاجات كتير لازم تتعمل.

تنهدت مبررة ذهاب ثلاثتهن:
-ما إنتي عارفة ماما محكمة رأيها، بتقولك جيرانها وعِشرة زمان و...
توقفت للحظة عن متابعة جملتها لتقلد نبرتها، ثم استطردت قائلة محاكية إياها في حركة جسدها وإشارات حاجبها:
-لازمًا وحتمًا نعمل الواجب، إنتو عاوزين الناس تاكل وشي؟
ضحكة صغيرة ارتسمت على شفتي "فيروزة" من طرفة أختها .. التفتت الاثنتان نحو والدتهما حينما صاحت من الخارج:
-أنا جهزت خلاص يا بنات، إنتو خلصتوا؟

-أيوه يا ماما
قالتها "همسة" أولا وهي تتحرك إلى الخارج بعد أن نفضت شعرها خلف ظهرها لينسدل عليه كنوع من تغيير مظهرها، في حين عقصته فيروزة كعكة وزينته بمنديل رأس قرمزي اللون غير ذاك الذي فقدته لكنه يحمل ذات النقوش مما منحها رونقًا آخاذًا، تبعتهما في هدوءٍ .. أدارت "آمنة" رأسها نحو ابنتيها تسألهما:
-قفلتوا الشبابيك كويس؟ ومحبس الغاز فصلتوه و...

قاطعتها "همسة" مؤكدة:
-عملنا كل حاجة يا ماما، متقلقيش
ردت مبتسمة:
-خير .. يالا بينا، توكلنا عليك يا رب
جلست "فيروزة" على المقعد المجاور لباب المنزل لترتدي حذائها ذو الرقبة العالية، رفعت رأسها نحو والدتها تسألها في فضولٍ وعيناها مرتكزتان عليها:
-هو خالي جاي؟
أجابت "آمنة" بوجه به مسحة ضيق:
-معرفش، ومسألتوش.

عقبت عليها بنظرات متنمرة:
-يا رب ما يجي، مش ناقصين عكننة..
وما لبث أن انخفض صوتها وهي تكمل:
-وخصوصًا الحرباية مراته!
ردت عليها "همسة" تؤيدها:
-معاكي في ده!
حدجتهما "آمنة" بنظرات محذرة وهي تعاتبهما:
-عيب يا بنات، مايصحش تتكلموا عنها وحش، مهما كان دي بردك مرات خالكم.

انزعجت "فيروزة" من طيبتها العفوية نحوها، فنعتتها قائلة بنبرة غاضبة:
-دي كتلة شر ماشية على الأرض!
ردت غير مبالية:
-هي حرة، واحنا مالناش دعوة بيها، ربنا وحده قادر يهديها.
أطبقت على شفتيها غيظًا وحاولت ألا تنفعل حتى لا تعكر الأجواء بسبب تلك المرأة الحقود، انتظرت حتى خرجت والدتها من البيت ومالت على أختها تهمس لها:
-أمك دي سهل أي حد ياكل بعقلها حلاوة، مصدقة إن الحرباية دي ملاك! دي شيطان اقسم بالله.

ردت "همسة" بصوت خفيض:
-أنا مصدقاكي، بس هنعمل إيه، خلينا بعيد عنها أحسن.
-وتفتكري هي هتسيبنا في حالنا؟ ماتبقاش العقربة "حمدية"!
توقفت كلتاهما عن الهمس حينما صاحت والدتهما متسائلة:
-بترغوا في إيه يا بنات؟ هنتأخر.
ردت عليها "همسة" بارتباكٍ طفيف:
-ولا حاجة يا ماما، احنا نازلين وراكي أهوو.

تأكدت "فيروزة" من غلق باب المنزل بالمفتاح وخطت نحو الدرج ونظراتها تتجول على الطابق العلوي، حدسها ينبئها أن تلك الأفعى تحيك أمرًا في الخفاء، فكما عاهدتها هي ليست من أولئك الذين يتنازلون بسهولة عن الانتقام، ولكونها قد فازت عليها بالجولة الأولى في معركتها معها، لذا لن تتوانى "حمدية" عن الرد وبقسوة، تنهدت محدثة نفسها بنبرة عازمة:
-هتلاقيني وقفالك بالمرصاد!

اقتطع جزء من الشارع الرئيسي ليُقام فيه العرس الكبير، وتولى أحد محال (الفِراشة) تجهيز المكان ليصلح لتلك المناسبة في مثل ذلك الطقس البارد، حيث وُضعت السجاجيد بالطرقات ورُصت فوقها المقاعد الخشبية وبعض الطاولات الدائرية، وأقيم عند المقدمة مسرحًا صغيرًا لتجلس عليه الفرقة الموسيقية التي ستشدوا بالأغاني الطربية والشعبية، كما تم تجهيز (كوشة) لافتة للأنظار مُزدانة بالإنارات البراقة عند أقصى يمين المسرح، ولم يغفل منظمو الحفل عن الاستعانة بمتخصصين في خدمة الضيوف وتوزيع الطعام والمشروبات عليهم.

ومع حلول المساء بدأ المدعوون في الحضور واتخاذ مقاعدهم في الصفوف الأولى إلى أن امتلأ المكان تقريبًا، والموسيقى الصاخبة تشدو حولهم .. بعد برهة ارتفعت أصوات الزغاريد والتهليلات الذكورية كإعلان عن اعتلاء العروسين للكوشة واستقرارهما به، وبحركة مجاملة لوح "تميم" بيده لضيوفه يشكرهم على حضورهم، بينما وزعت "خلود" ابتسامات سعيدة مشرقة على من تعرفهم، لا تصدق أنها اليوم ترتدي ثوب عرسها وستزف إلى فارس أحلامها الوحيد، بدأت الفقرات الغنائية، والكل يتسابق في إظهار فرحته، بدا وكأن كل شيء يسير على ما يرامٍ إلى أن ظهر "محرز" ومعه ضيفٍ غير مرحب به، هنا تبدلت ملامح "تميم" للوجوم، كان كمن أُجبر على ابتلاع شيئًا يمقته بشدة، تقدم الأول نحوه وابتسامته اللزجة تعلو محياه مهللاً وكأنه أحرز انتصارًا لا مثيل له:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟

رمقه بنظرة عبرت عن انزعاجه -بالإضافة لرفضه- لتصرفه غير المقبول تحت أي ظرف، كانت قسمات وجهه تنطق عنه، بذل الكثير من الجهد ليسيطر على انفعالاته وهدوئه بالرغم من عروقه المشدودة ونظراته القاتلة، خاصة وأن "سراج" الذي أتى بصحبة "محرز" كان يبدو متحفزًا، مستعدًا لافتعال أي مشاجرة، أخرجه من تحديقه الناري به صوت الحاج "لطفي" القائل:
-السلامو عليكم يا حاج "بدير".

تحولت نظراته نحو والده الذي جاء ليرحب بالضيوف، بادله التحية وهو يصافحه بحرارةٍ:
-وعليكم السلام، إزيك يا حاج "لطفي"؟
أجابه ببسمة هادئة:
-في نعمة والحمدلله.
رد مجاملاً بودٍ زائد:
-شرفتنا النهاردة، المكان نور.
قال له بنبرة عميقة:
-بأصحابه يا حاج.

تقدم "محرز" خطوتين للأمام وهو يتصنع الضحك ليقف في المنتصف بينهما، ثم أضاف بعدها، وكأنه يفرض نفسه على المتواجدين:
-أنا قولت ماينفعش في الليلة الحلوة دي النفوس تكون شايلة من بعض، وإلا إيه معلم "سراج"؟
تنحنح الأخير معقبًا بخشونةٍ وبوجهٍ مقلوب:
-مظبوط.

احتدت نظرات "تميم" بشدة، كانت كراهيته ل "سراج" قد بلغت منتهاها، لكن الظرف لا يسمح لإتخاذ أي قرارٍ طارئ.. مد الحاج "لطفي" يده لمصافحة العريس الذي نهض لاستقباله يهنئه:
-مبروك يا "تميم"، بالرفاء والبنين إن شاءالله.
حاول أن يضبط إيقاع نبرته وهو يرد مبادلاً إياه المصافحة، لكن نظراته اتجهت ناحية غريمه:
-الله يبارك فيك يا حاج.

استطرد الحاج "لطفي" ممهدًا بأسلوبه الجاد الذي يمزج بين الوقار والاحترام:
-احنا كلنا أخوات، ومش عاوزين المشاكل ترجع تفرق بينا، مصالحنا كلنا واحدة، ولا إيه؟
رد عليه "تميم" بضيقٍ بائن وعيناه لا تحيدان عن "سراج":
-كلامك على عيني وراسي، بس ...
تدخل "محرز" في الحوار مقاطعًا بسماجة ثقيلة:
-خلاص بقى يا "تميم"، ده الرجالة جايين لحد عندك، هاتكسفهم ولا إيه؟

رمقه بنظرة ضيقة تعبر عن رفضه القاطع لفرض الأمور عليه هكذا، علق والده ليقول بدبلوماسية محنكة راجعة لسنوات خبرته الطويلة حتى ينهي ذلك النزاع:
-جيتكم فوق دماغنا، وأكيد كلنا بنسعى للخير، بس لا ده وقته ولا ده مكانه، وبعدين مايصحش الحاج "سلطان" يبقى موجود ومحدش يسلم عليه، ولا إيه؟
هتف "محرز" قائلاً وضحكته السمجة تلازمه:
-ده أبونا كلنا قبل ما يكون كبير السوق كله، بينا يا رجالة تاخدوا واجبكم هناك.

تطلع إليه "تميم" بنظرات مطولة مغتاظة، فقد استفزته طريقته المهترئة لإظهار أنه صاحب القول الأخير، إنه ينتمي لذلك النوع من البشر الذي يحاول تسلق الآخرين ليظهر وجوده، تحامل على نفسه كي يتغاضى عن الأمر ويتجاوزه، احترامًا فقط لرجاء والده الذي ظهر من خلال نظراته وإيماءات وجهه فاعتبرها إشارة ضمنية لإنهاء الجدل، ولولا ذلك لفعل ما يستوجب لإيقاف كل شخص عند حده، خاصة السمج "محرز".

مررت "فيروزة" عينيها على المكان باحثة بتمعنٍ ودقة عن مقاعد شاغرة لتجلس عليها مع أختها ووالدتها بعد أن ازدحم المكان بمئات البشر، وقعت نظراتها على تلك المقاعد الموجودة بالزاوية المنزوية والتي تبدو إلى حد ما مترامية الأطراف عن الصخب الدائر، اعتقدت أنها بقعة جيدة للجلوس فيها لتكون ثلاثتهن بُعاد عن الزحام والأعين الفضولية المتلصصة، أشارت لهما لتتبعاها، وبتأنٍ وتؤدة اجتزن أجساد البشر المتمايلة ليصلن إلى وجهتهن، وقبل أن تجلس "آمنة" انحنت على ابنتيها تخبرهما:
-هاروح أسلم على الحاجة "ونيسة" والجماعة قدام ورجعالكم!

هزت "همسة" رأسها ترد عليها:
-خدي راحتك يا ماما.
ابتعدت عنهما لتتجه صوب الطاولات الأمامية حتى تلقي التحية على أهل العريس، في حين حركت "فيروزة" جسدها نحو أختها لتبدو قريبة منها وهي تتحدث إليها .. كانت الرؤية محجوبة عنهما لينظرا إلى العروسين بسبب تكتل الأجساد أمامهما، تساءلت بفضولٍ وهي ترى مظاهر الثراء والبذخ من خلال الإعلان عن أسماء مانحي (النقوط) عبر الميكروفون:
-الصرف باين يا أختي.

ردت عليها "همسة" مبتسمة:
-كلها مجاملات، الفرح النهاردة عندي، بكرة عندك، والفلوس رايحة جاية بينهم.
-تحسي إنها تجارة مش جوازة!
-أكيد
-بس يا ترى النوع ده من الجوازات بيستمر؟!
-الله أعلم
خف الزحام قليلاً فأصبحت الرؤية متاحة، اشرأبت "فيروزة" بعنقها لتتطلع إلى وجه العريس، تعقد حاجباها بشكلٍ ملحوظ، لم تكن ملامحه بالغريبة عليها، خُيل إليها أنها رأته من قبل، لكنها لا تذكر أين ومتى، تابعت قائلة ونظراتها مرتكزة على وجهه:
-حاسة إن العريس وشه مش غريب عليا، زي ما يكون شوفته قبل كده أو اتكلمت معاه!

ما لبثت أن تحولت عيناها نحو العروس لتضيف:
-والعروسة كمان، برضوه مش غريبة.
لم تكن زاوية الرؤية واضحة من جهة "همسة"، فقالت غير مبالية وهي تحيد بنظراتها عنهما لتتطلع إلى عموم المدعوين:
-طبيعي يكونوا معروفين، ما إحنا كلنا عايشين في منطقة واحدة وبنتقابل مع أغلب الناس كل يوم حتى لو مش بنتكلم.
عادت "فيروزة" لتسألها بابتسامة سطحية فاترة:
-بس إيه رأيك في الفستان؟

أجابت بتلقائية:
-حلو وبسيط، وحتى الميك آب بتاعها رقيق وهادي.
وافقتها الرأي قائلة:
-على رأيك.. أول مرة نلاقي عروسة مش حاطة طن بوهية على وشها
علقت ساخرة:
-تتحسد والله، لازم تبخر نفسها.
-أنا هاعمل كده في فرحي، مش هاحط ميك آب أوفر.
-وأنا زيك يا "فيروزة".
استمرت كلتاهما في ثرثرتهما عما يحدث في الفرح، خاصة بعد أن أشعل أحد المطربين الشعبيين الحفل بأغانيه الصاخبة فهلل عليها الحاضرون ورددوا بسعادة ما يحفظونه من كلماتٍ عن ظهر قلب ..

هب "حمص" واقفًا من مكانه، ثم صعد على المسرح ممسكًا بعصاه الخشبية ليرقص باحترافية مُزيدًا من حماس المتواجدين كنوع من مجاملة سيده الجديد الذي كان كريمًا معه مؤخرًا، شاركه رفيقه "شيكاغو" التمايل بالطريقة الذكورية المستعرضة في رقص المهرجانات ليعلو التصفيق أكثر، نجح كلاهما في لفت الأنظار بالصياح العالي:
-مبرووووك يا كبيرنا، عقبال البكاري يا ريس.

نالا نظرات الرضا من "تميم" الذي أشار بعينيه لأحد أتباعه ليهتم بهما بعد أن ينهيا حركاتهما الراقصة فابتهجا على الأخير .. في تلك الأثناء كان "هيثم" يجلس بهدوءٍ لا يتفق مع شخصيته الهوجاء يميل بين الحين والآخر بجسده نحو رفيقه "نوح" الجالس في المقعد الخشبي الملاصق له، لم يتواقفا عن الحديث الهامس وكأن هناك خطب ما، حتى أنه لم يشارك في أي فقرة تضم الشباب المتحمس، بدت ملامحه جادة للغاية، ونظراته قلقة مُرتابة، حتى صوته كان أقرب للفحيح حينما همس يحث صديقه:
-عاوزك تراقبلي الجو كويس وتفتح عينيك.

أومأ "نوح" برأسه معلقًا عليه ودخان سيجارته المشتعلة يتطاير في الهواء:
-ماشي هاقفلك ناضورجي ...
ثم غمز له بطرف عينه يؤكد عليه بنبرة ذات مغزى حتى لا يغفل عنه لاحقًا:
-بس ماتنسانيش لما الدنيا تزهزه معاك.
رد عليه بامتعاضٍ:
-ماتقلقش، المهم تركز
-عينيا.

مرر "هيثم" نظراته على الأوجه لمرة أخيرة، وخاصة على زوج خالته المشغول مع ضيوفه، قبل أن يتسلل خلسة منسحبًا من الحفل للقيام بما خطط له؛ فالفرصة مواتية للإقدام على السرقة دون أن تحوم الشكوك حوله اعتقادًا منه أنه يفعل ذلك ليأخذ حقه المسلوب والذي ضاع بمقتل والده في ذاك الحادث المشؤوم، حيث تُرك يتيمًا يعاني من مرارة البؤس،وألم الحرمان، والعوزة والشقاء.

تصبب عرقًا غزيرًا باردًا وهو يدور بتوترٍ حول البناية ليضمن عدم اكتشاف أمره حينما يصعد للأعلى لينفذ سرقته، رفع عينيه للأعلى يجوب ببطءٍ على الشرفات، كانت أغلب النوافذ مغلقة، والإضاءة معتمة، مما بعث القليل من الطمأنينة على نفسه المتوترة، سحب نفسًا عميقًا يثبط به الأدرينالين المتدفق بقوةٍ في عروقه، كان كل شيءٍ هادئًا ومشجعًا للقيام بالأمر، اتجه "هيثم" إلى مدخل البناية وهو يتلفت حوله، صعد الدرجات عدوًا لكنه تجمد في مكانه حينما سمع تلك الخرفشات الخافتة، أحس بالدماء تهرب من عروقه، انزوى في بقعة معتمة ملصقًا جسده بالحائط.

حبس أنفاسه مترقبًا وقد ظن أن أحدهم سيراه، عاد السكون ليغلف المكان فهدأت دقاته المتلاحقة كقرع الطبول، وبحذرٍ شديد تقدم خطوة للأمام رافعًا رأسه للأعلى، أحس بالهدوء يتسرب إلى صدره الناهج مع استمرار السكون، انخفضت عيناه تدور على نوافذ المنور الجانبية، نظر مليًا بتمعنٍ مسلطًا نظراته على شرفات المطبخ الصغيرة قليلة الاستخدام التي تطل على ذلك المنور تحديدًا، فتلك الموجودة بالطابق الأول ستسهل عليه المسألة كثيرًا لكونها الأقرب لوجهته، حيث ستساعده على الصعود للأعلى، ومن ثَمَ الولوج للشقة من خلال دفع باب الشرفة بقليلٍ من الجهد فيصبح فعليًا بالداخل.

سار كل شيءٍ بسلاسة وفق خطته الجهنمية وكما رسم في عقله الشيطاني، تحرك بخفة ودقة على حافة الشرفة الخاصة بالطابق الأول، ثم شحذ كامل قواه ليدفع جسده للأعلى ممسكًا ب (منشر) الغسيل، تمايل جسده في الهواء ووجد صعوبة في الاحتفاظ بتوازنه، كادت أصابعه تنزلق لولا تلك الدفعة الأخيرة التي استنزف معها ما تبقى من قوته فمكنته من الصعود .. أصبح "هيثم" بداخل الشرفة الضيقة.

كانت مزدحمة بالكراكيب القديمة وأدوات الطهي غير المستخدمة، وضع يديه أمام عينيه ليحصل على قليلٍ من الظلمة حتى تتمكن نظراته من اختراق المكان بالتطلع عبر الزجاج المغبر بالأتربة وبواقي زيت الطهي، شعر بالانتشاء لكون المكان ساكنًا، تحرك في اتجاه الباب الجانبي، وبدفعة قوية نسبيًا من كتفه تمكن من فتح الباب الصدئ في مفاصله واقتحم المنزل.

رغبة عارمة بالسعادة المنتشية سيطرت على أوصاله، حلمه بالثراء السريع على وشك التحقق، خطا "هيثم" على أطراف أصابعه نحو الردهة، كان يحفظ المكان جيدًا، وبالتالي لم يشعر بالتخبط وهو يتجول في أرجاء المنزل الخالي من قاطنيه .. انتفض فزعًا واتسعت عيناه في ذعر حينما رن هاتفه فجأة، شعر بأن قلبه على وشك التوقف من فرط الارتعاد، التقط أنفاسه اللاهثة، ثم نظر إلى المتصل وسباب نابي يتردد بين شفتيه، وضع الهاتف على أذنه بعد أن ضغط على زر الإيجاب هامسًا بنبرةٍ تحولت للحنق:
-في إيه؟ في حاجة جدت؟

أجابه رفيقه ببرود:
-لأ!
صاح به بغضبٍ رغم همسه:
-أومال بتتصل ليه دلوقت؟
رد عليه "نوح":
-بأطمن عليك.
كز "هيثم" على أسنانه يوبخه:
-مش أنا قايلك ما تكلمنيش إلا لو حاجة حصلت؟ هو إنت مابتفهمش؟!
حذره الأخير:
-بلاش الغلط يا عمنا!
برر حنقه بعد أن تنفس بعمق ليكبح غضبه:
-ما هو مش وقته بصراحة.

استطاع أن يسمع زفيره قبل أن يعقب عليه:
-ماشي يا سيدنا، على العموم كله في التمام..
قال موجزًا معه المكالمة:
-طيب.. كويس، وخليك مركز.. سلام
ثم ردد بوجهه الممتقع وقد أنهى اتصاله معه:
-هو أنا كنت ناقصك!

سحب شهيقًا عميقًا يهدئ به صدره المضطرب، لحظاتٍ واستعاد ثباته، ثم واصل سيره متجهًا إلى غرفة زوج خالته، فتحها ووطأ بقدميه داخلها مستخدمًا إضاءة هاتفه المحمول .. كانت عيناه تعرفان إلى أين تنظر تحديدًا، ابتسامة زهو وانتصار تشكلت على ثغره وقد بات قاب قوسين أو أدنى من الظفر بسرقته، على الفور تحرك في اتجاه (الشُوفنيرة) ينظر لها بعينين تبرقان بقوة، مد يده ليفتح الدرج لكنه كان موصدًا، غمغم بسبةٍ بذيئة محدثًا نفسه بحسمٍ:
-والعمل إيه دلوقتي؟ ما هو أنا مش هامشي من هنا إلا والفلوس معايا!

تلفت برأسه يبحث بالإضاءة الضعيفة للهاتف عما يمكن أن يستخدمه في فتح الدرج، سلط هاتفه على أرجاء الغرفة وهو يفكر في عجالة وبتوترٍ، فالثواني تشكل فارقًا كبيرًا معه، لمح المقص الموضوع على التسريحة فاعتقد أنها وسيلة مناسبة، لذا التقطه واستدار عائدًا إلى الشُوفنيرة، حاول بنصل المقص الحاد تحريك القفل، ونجح بعد عناءٍ عضلي في إزاحته من مكانه في ذلك، لهث هامسًا بصدر ينهج:
-أخيرًا..

قام "هيثم" بفتح الدرج، اتسعت نظراته في حبور عظيم وقد أبصر رزم النقود المرصوصة بعناية بداخله، هلل رغم همسه:
-يا دين النبي، كل دي فلوس!
توهجت عيناه على الأخير واكتست بلمعانها الجهنمي، وعلى الفور -ودون تراجعٍ أو ندم- سرق كل ما يحويه الدرج، ثم دسهم في جيوب سترته ومسح بكمه البصمات من على قفل الدرج والمقص، فإن فكر زوج خالته في اللجوء للشرطة لا يجد أفرادها من التحقيق الجنائي ما قد يدينه. ومثلما تسلل خلسة انسحب بخفة من المكان ومن حيث جاء مُعيدًا كل شيء لطبيعته، لكن تلك المرة جيوبه ممتلئة بما ليس له.

ضجرت "فيروزة" من إضاعة وقتها دون أدنى فائدة تعود عليها لمجرد الالتزام بما أسمته والدتها (واجب الجيرة) والجلوس للنهاية، أي حتى انتهاء مظاهر الاحتفال وانطفاء الأضواء، بل والبدء في جمع المقاعد، أرادت أن تنهض وتعود إلى عملها لتستفيد بالحركة الرائجة للأهالي في منطقة الكورنيش وما حولها من محال قبل أن يسرقهم الوقت ويقل الزحام.

أرجأت مفاتحتها في الأمر لبضعة دقائق حتى تنتهي من حديثها مع إحدى المدعوات بالرغم من التوتر البادي على ملامحها، إلى أن لمحت "حمدية" وخالها وأطفالهما قادمون من على بعدٍ، هنا زادت تعابيرها انزعاجًا وظهرت تكشيرة صريحة عليها، رأت البغض جليًا في نظرات الأولى نحوها، حقدها يكاد يكون مرئيًا للعيان، حتى وجهها عكس مقتها، بادلتها نظرات كارهة لها عاقدة العزم في نفسها أنها لن تجلس في مكان يجمعها بها، حتى لو فيه إزهاق روحها، هكذا حدثت نفسها، لذا أحنت رأسها نحو والدتها تقول لها بنبرة عازمة وهي تلملم أشيائها:
-بيتهيألي كفاية كده، عاوزين نشوف اللي ورانا يا ماما.

زوت "آمنة" حاجبيها محتجة في اندهاش متعجب:
-ده لسه بدري، الحاجة "ونيسة" قالتلي في عشا و...
قاطعتها بإصرارٍ متذمر وقد تقلص وجهها:
-هو احنا ناقصين أكل يا ماما؟
طالعتها أمها باستغرابٍ، حاولت "فيروزة" أن تبدو هادئة فتصنعت الابتسام لتضيف ساخرة حتى لا تثير الريبة فيها:
-دي آخر حاجة نفكر فيها ولا إيه رأيك يا "همسة"؟
بدت "آمنة" غير راضية عن تصرفها فعاجلتها قائلة:
-بس يا "فيروزة" الناس هتزعل مني، وأنا محبش حد يشيل مني أو...

قاطعتها في تهكمٍ:
-صدقيني وجودنا مش هيفرق معاهم، هما ملبوخين بالبشر اللي مالي الفرح.
عفويًا أدارت والدتها عينيها في المكان وقد ظهر التردد عليها، في حين همَّت "همسة" بالنهوض وأيدت أختها في رغبتها قائلة بابتسامتها الرقيقة علها تقتنع بالأسباب:
-خلاص يا ماما، برضوه عشان مانضيعش وقتنا، والحاجة اللي معمولة ماتبوظش، وكمان مانتأخرش.
أضافت "فيروزة" مُمازحة لتبدو مرحة معها:
-ودي ساعة رزق كمان!

علقت عليها والدتها بجدية:
-بقيتي بتتكلمي زي بتوع السوق!
قالت لها مبتسمة وكأن ما تفعله وسام يزين صدرها:
-ما احنا بقينا منهم، والشغل مش عيب.
تحركت "آمنة" ببطءٍ وقد استسلمت أمام إلحاح ابنتيها، لكنها اشترطت عليها بتنهيدة مرهقة:
-أمري لله، بس هانروح نسلم على الجماعة قدام!
استاءت من ذاك الاهتمام الزائد بجيرانها الذين لا تعرف عنهم شيئًا، ضغطت على شفتيها متسائلة بتذمرٍ:
-هو لازم يعني؟

ردت عليها بحسمٍ ونظراتها الجادة تملأ وجهها:
-اللي يعمل حاجة بيكملها للآخر، وبعدين ماضمنش الحاجة "ونيسة" ولا جوزها الحاج "بدير" يسألوا عليا، مش هاسيبهم يشغلوا بالهم بيا.
نفذت كل محاولاتها للتملص من تلك المجاملة المبالغ فيها والتي تعدها أقرب للنفاق عن أداء الواجب، حاولت "فيروزة" أن تبدو هادئة لتقلل من أمارات الاعتراض البائنة على خلجاتها، تلمست منديل رأسها بلزمة لا إرادية لتتأكد من وجوده في مكانه، نفخت أولاً، ثم تهدل كتفاها في يأس لتقول لها بعدها في ضيقٍ عبر عن كون الفكرة غير مستساغة بالنسبة لها:
-حاضر، اللي يريحك ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة