قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل مئة واثنا عشر والأخير

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل مئة واثنا عشر والأخير

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل مئة واثنا عشر والأخير

عادت لتجلس بالسيارة مع عمتها وابنتها الكبرى ورضيعتها النائمة، احتلت المقعد الأمامي وبقيت أنظارها مثبتة على المدخل، لم تتوقف الاثنتان من خلفها عن الثرثرة الخاصة بأجواء الحفل، وظلت هي صامتة أغلب الوقت ترد بكلمات مقتضبة إن وجه إليها أي سؤال، لمحت منذر وهو يخرج منه بوجهه الخالي من التعبيرات، تأهبت في جلستها وتسارعت دقات قلبها، وعمدت إلى التطلع إلى وجهه بأعين متلألأة وكأنها تناديه بنداءٍ خفي، لكن خيب أملها بعدم النظر نحوها، استطرد هو حديثه قائلاً بصوت رخيم:.

-معلش أخرتكم
ردت عليه عواطف بود وهي تهز رأسها: -ولا يهمك يا ابني
نظرت له أسيف مجددًا برجاء لكنه تجاهلها وتطلع أمامه بنظرات جامدة، شعرت بوخزة أخرى في قلبها من ذلك الجفاء القاسي الذي يمارسه معها، ابتلعت غصة مريرة عالقة في حلقها مقاومة رغبتها في البكاء، أخرجها من تأملها الشارد فيه صوته الجاد حينما تابع:
-هاوصلكم ونروح على طول!
ردت عليه عواطف بابتسامة محببة: -بأمر الله، ربنا يسلم طريقك، هانتعبك معانا.

ابتسم مجاملاً: -على ايه بس، ده واجبي!
أضافت مادحة بعفوية: -ابن حلال الضاكتور نبيل!
تحفزت حواس منذر بضيق ملحوظ لمجرد ذكرها اسمه، لم يستطع إخفاء انزعاجه من الحديث عنه، فقد تسبب ذلك في حدوث جدال حاد مع زوجته والتي رأت بوضوح تلك التغييرات البائنة على قسماته المشدودة بعد تطرقها لشخصه، ضغط بأصابعه على المقود مانعًا نفسه من التفوه بحماقات أو حتى إظهار ضيقه، تابعت عواطف مسترسلة:.

-ده فضل قاعد لأخر الفرح، كان مبسوط لبسمة ودياب و..
أغمض عينيه ليضبط انفعالاته ويحافظ على هدوئه الزائف طوال حديثها المزعج عنه، لكن وجهه تشنج أكثر عندما هتفت:
-ده حتى سأل عليكم
التفت عقب تلك الجملة إلى وجه أسيف التي كانت تطالعه بأعين لامعة، ورد بجمود مريب:
-اه واضح!

استشعرت تهديد خفي من كلماته المقتضبة، عمدت إلى تغيير مسار الحوار إلى شيء أخر كي لا يثير هذا الموضوع حنقه أكثر من ذلك، تنحنحت قائلة بنبرة شبه مهتزة:
-احم. عمتي، حاولي تاخدي الدوا المسكن بتاعك عشان ضهرك، انتي تعبتي جامد النهاردة
ردت عليها عواطف مبتسمة: -كله يهون يا بنتي عشانكم
استدارت أسيف برأسها نحوها لتقول بابتسامة باهتة: -ربنا يخليكي لينا.

آمالت عواطف رأسها للأمام قليلاً لتحدق عاليًا في الشرفات العلوية، ثم أخرجت تنهيدة مطولة من صدرها وهي تتابع برجاء:
-إن شاء الله تكون ليلة هنا على العرسان، أنا وضبتلهم الأكل و..
قاطعها منذر بجدية: -اطمني يا ست عواطف، مافيش حاجة ناقصة عندهم
ربتت على كتفه قائلة بامتنان: -ربنا يسعدهم ويسعدك!
-يارب.

قالها وهو يدير المحرك لينطلق بالسيارة في اتجاه البناية التي تقطن بها عمة زوجته، ظل ملازمًا للصمت لم ينبس بكلمة رغم محاولة الجميع اجترار الحديث معه، تفهمت أسيف سبب صمته المزعج، وتعهدت لنفسها ألا تجعل الجفاء يستمر طويلاً، هي تعشقه ولن تقبل مُطلقًا بتلك المعاملة الجافة منه، فحيل النساء لا تنضب أبدًا، وحتمًا ستجد وسيلة لإذابة الجمود المؤقت بينهما.
-أخيرًا.

قالها دياب بتنهيدة تحمل الكثير وهو يوصد الباب خلفه ليتمكن من الاختلاء بزوجته التي أذاقته الكثير كي يصل لهذه اللحظة، راقبها وهي تلج للداخل متأملة المكان من حولها بنظرات شمولية، اعتلى ثغره ابتسامة عابثة لم يبذل مجهودًا في إخفائها، أدارت بسمة رأسها في اتجاهه قائلة بأنين وهي تجاهد لنزع حذائها عن قدميها:
-رجلي ورمت من الجزمة، يا ساتر يارب.

رد قائلاً بابتسامة متسعة: -معلش، اليوم كان طويل، احنا نصلي ركعتين كده عشان ربنا يبعد عنا الشيطان ونتوكل على الله في اللي جاي!
وافقته الرأي، فالأمر مستحب كل من هم مقبلين على الزواج لكي يرزقهم الله المودة والرحمة ويجنبهم الشيطان، استعد الاثنان لأداء الركعتين، وما إن فرغا منها حتى فرك دياب كفي يده معًا هاتفًا بحماس:
-ايه يا عروسة؟!

طالعته بنظرات قلقة، هي تعلم نواياه نحوها خاصة أنها الليلة المنشودة، شعرت بجفاف كبير في حلقها، بدقات قلبها تتصارع داخلها، تهدجت أنفاسها نوعًا ما وهي تحذره برجاء غريب:
-بأقولك ايه، بلاش البصات دي
اتسعت ابتسامته حتى برزت نواجذه، وردت عليها بتسلية: -يعني مش أمتع عيني بالجمال؟
تعمدت الظهور بمظهر خشن أمامه، فصاحت بنبرة متصلبة: -بص أنا دماغي وجعاني ومصدعة جامد، وجسمي مكسر ومش قادرة و..

قاطعها مازحًا وهو يشير بذراعيه في الهواء: -فيكي ايه سليم يا أبلة عشان أفهم بس؟!
ردت عليه بإباء وهي ترفع رأسها للأعلى في شموخ: -أنا بأفهمك من الأول عشان تكون على نور، مش قادرة أعمل حاجة النهاردة خالص
فغر فمه مدهوشًا من تصريحها المستتر وفهم سريعًا المقصد من ورائه، ردد مستنكرًا: -نعم، هو أنا بأقولك اكنسي واغسلي! ده احنا هانقول كلمتين على الهادي كده.

كتفت ساعديها أمام صدرها قائلة بجمود: -وحتى الكلام تعبانة منه.

ضاق ذرعًا من طريقتها المتنافرة معه، ومع ذلك كانت نظراته نحوها تعكس غيظه، زفر بصوت مسموعًا مزيحًا عن صدره أي انزعاج، وحافظ على هدوء انفعالاته معها، لاحظ حالة الارتباك التي تظهر في نظراتها المترددة نحوه، كذلك تلك الارتعاشة الخفيفة في ثوبها، فخمن أنها تهز ساقها بعصبية، ربما هي متحرجة منه، متخوفة من بقائها معه، فالأمر جديد عليها، كما أنها لا تزال عديمة الخبرة فيما يتعلق بالزواج، بالإضافة إلى تمرسه عنها بحكم زيجته السابقة، أظهر ابتسامة مشرقة وهو يدنو منها قائلاً بإعجاب:.

-بس ايه الحلاوة دي، الفستان جامد عليكي
ردت بحذر وهي ترخي ساعديها: -ميرسي
تابع مازحًا كطريقة لجذبها للحديث معه وتخفيف حدة التوتر الظاهرة عليها: -بس كده، مافيش كلمتين زيادة
هتفت ضاغطة على شفتيها: -ايوه!
قام دياب بنزع سترته عنه فاتسعت مقلتاها إلى حد ما وهي تهتف بصوت شبه مصدوم: -إنت بتعمل ايه؟
رد باستغراب: -هاغير هدومي
غطت سريعًا عينيها بكفي يدها وهي تقول باستنكار: -مش قدامي عيب كده!

أخفض دياب عينيه لينظر إلى قميصه مرددًا باستغراب: -ده أنا لسه لابس! بتداري وشك ليه؟
اعتلى ثغره ابتسامة عريضة وهو يضيف ساخرًا: -أومال لو شوفتيني بالفانلة هاتعملي ايه؟!
رفعت كفها أمام وجهه محذرة بصرامة: -إياك
حرك كفيه في الهواء قائلاً بإحباط: -خلاص هافضل بهدومي!

أخرجت بسمة تنهيدة قوية من جوفها، ثم وضعت يديها أعلى رأسها محاولة نزع الطرحة التي تزينها، استصعبت الأمر في البداية، وضجرت سريعًا من نجاحها في إزالتها بمفردها، صاحت مزمجرة:
-أعوذو بالله من دي تهمة على دماغي!
تحرك صوبها ليقف قبالتها، تساءل بحذر: -تحبي أساعدك؟!
ردت مستسلمة: -يا ريت! بس خد بالك!
-حاضر.

مرر دياب أنظاره على الطرحة باحثًا عن بدايتها لكي ينزعها عنها دون أن يتسبب في إيلامها، لكنها كانت كاللغز بالنسبة له، حدق مدهوشًا في عدد المشابك المعدنية المثبتة بها مرددًا بتعجب:
-ايه كمية الدبابيس دي؟
أجابته بسمة مبررة ببساطة: -عشان الطرحة ماتقعش!
رد عليها بسخرية: -ده لو بيثبتوها مش هاتكون كده!

بعد محاولات حذرة نجح الاثنان في إزاحتها عن رأسها، تنفست بسمة الصعداء لكونها قد ارتاحت من ذلك الثقل الذي أصابعها بصداع مستمر طوال الحفل وتسبب في إيذاء أذنيها، نزعت المشبك الذي يربط شعرها لتحرره في الهواء وهي ترد:
-متشكرة.

تجمدت أنظار دياب عليها بعد حركتها تلك، حدق فيها كالصنم لبضعة لحظات، لم تعرف أنها قد ألهبت مشاعره دون قصد وحفزت أعصابه للتودد إليها، باغتها بلف ذراعيه حول خصرها، فانتفضت مصعوقة من حركته تلك، دفعته بيدها صائحة باضطراب:
-أنا قولت ايه
رفض إفلاتها قائلاً بتنهيدة حارة بعد أن ضمها إليه أكثر: -ده أنا جوزك!
استجمعت كل قوتها لتدفعه بقبضتيها من صدره، ونجحت في الانسياب من أحضانه، نظرت له بحدة وهي تصيح بانفعال:.

-ده مش يديك الحق تقرب مني بدون رضايا
نظر لها مستنكرًا ردها الفظ، ثم هتف بضيق: -يعني المفروض أخد إذن الأول؟
أومأت برأسها قائلة: -أيوه!
تراجعت مبتعدة عنه عدة خطوات تاركة مسافة فاصلة بينهما، وتابعت بامتعاض: -أنا يدوب أغير الفستان وأنام، ولوحدي!
لوى ثغره هاتفًا باستهجان صريح: -لا والله! كمان!
لوحت بذراعها من بعيد وهي تصيح بحدة: -قولتلك تعبانة، قدرني شوية!

تفاجأ من حالة العصبية التي سيطرت عليها دون سابق إنذار، تنهد مستاءً وهو يفرك مؤخرة رأسه في حيرة، تمتم مع نفسه بإحباط:
-شكلها ليلة طويلة!
هزت بسمة جسدها بعصبية، لا تعرف ما الذي أصابها، لكن فاق التوتر لديها حد المسموح به، لذلك اندفعت بخطوات شبه متعثرة وهي تجرجر ثوبها نحو غرفة النوم، وقبل أن تلج للداخل أوقفها صوت دياب المهلل بجدية:
-لالالا، أنا ماينفعش معايا كده، أنا هانزل أقضي السهرة مع أمي تحت!

فغرت فمها مشدوهة من جملته، ارتفع حاجبها للأعلى وهي تطالعه بنظرات حادة، أكمل ببرود:
-ولا أقولك أنا هاتصل بأم يحيى ارغي معاها و..
مجرد الحديث عن طليقته السابقة أصابها بحالة من الفوران السريع، احتقنت دمائها بالأدرينالين، واهتاجت خلايها، اتجهت بتمهل مقلق ناحيته ووجهها مصطبغ بحمرة جلية، استشعر دياب غضبها المتأجج بها، هتفت متسائلة بغيظ:
-تكلم مين؟

ابتسم لنجاح كلماته في إثارة حفيظتها، ارتدى قناع الجمود على وجهه، ورد بعدم مبالاة ليستفزها أكثر:
-أم يحيى، وهي ما هتصدق، صحيح هاتستغرب إني بأكلمها السعادي وكمان في يوم زي ده و..
لم يكمل عبارته للنهاية فقد تحركت بسمة صوبه تنتوي لكزه بعنف في صدره للحديث عنها هكذا غير مكترث لمشاعرها، صرخت بلا وعي:
-مين دي اللي هاتكلمها؟

تراجع متحاشيًا هجومها الوشيك عليه ومحاولاً إخفاء ضحكاته المتسلية، لحقت به متابعة بصوت متشنج:
-رد عليا!
كركر ضاحكًا من عصبيتها الواضحة، فتوقف في مكانه ينظر لها بأعين لامعة، تمكنت من الوصول إليه، وبدأت في ضربه بعصبية بقبضتيها في صدره وكتفيه، تفادى ضرباتها المتلاحقة قدر المستطاع وهو يهدئها قائلاً:
-بأهزر والله!
كزت على أسنانها صائحة بصوت محتد: -ماتجبليش سيرتها، سامع!

أمسك بها دياب من معصميها قابضًا عليهما بقوته فمنعها من الاستمرار في التطاول باليد عليه، عجزت عن تحرير رسغيها فصرخت به:
-سيب ايدي
رد قائلاً بتريث: -اهدي بس!
لم تنجح في إفلات رسغيها المقيدين بيديه، نظرت له بأعين مشتعلة وهي تأمره: -دياب، أنا قولت ايه
غمز لها قائلاً بابتسامة ماكرة: -مش المرادي يا أبلة!

استشعرت من نبرته وجود خطب ما، خاصة أن نظراته كانت موحية للغاية، ازدردت ريقها بتوتر، ارتجفت نبرتها قليلاً وهي تسأله بتوجس:
-قصدك ايه؟
رد بغموض أجفل جسدها: -هو دخول الحمام زي خروجه؟!

تصلبت عروقها من طريقته تلك، فهمت على الفور مقصده، واستخدمت قوتها لتتحرر منه، شدد من قبضتيه عليها وهو يفصل بين رسغيها ليتمكن من إدارتهما خلف ظهرها، قربها أكثر إليه فألصق جسدها بصدره، شهقت مصدومة، وتوترت أنفاسها، نظرت إليه بأعين قلقة للغاية، حاولت أن تظهر له رفضها لما ينتوي فعله، فصاحت بتشنج:
-انت بتعمل ايه؟

نظر لها بأعين لامعة محافظًا على ابتسامته الهادئة، زادت رهبتها من صمته المريب، وتوترت نظراتها نحوه، تلوت بسمة أكثر برسغيها –وكذلك بجسدها- مجاهدة للتحرر منه، لكن زاده هذا إصرارًا على التشبث بها وعدم تركها، همس لها بحرارة لفحت وجهها:
-نشفتي ريقي ودوختيني وراكي عشان أتجوزك!

تحاشت النظر إليه مركزة تفكيرها على تخليص معصميها منه وإبقاء مسافة آمنة لها، تعمد الضغط بأصابعه عليهما لتنتبه له، رفعت رأسها في وجهه هاتفة بصوت متألم:
-انت بتوجعني!

لم يعطها فرصة للشكوى أو حتى الأنين، أحنى رأسه عليها ليطبق على شفتيها بشفتيه مقبلاً إياها بشوق قوي، فحبست أنفاسها رغمًا عنها، تخشب جسدها من فعلته المباغتة وتحفزت حواسها، اتسعت حدقتاها مصدومة وعاجزة عن ردعه، أبعد رأسه لمسافة محدودة ليتمكن من الهمس لها:
-بأحبك!

التقطت بسمة أنفاسها لثوانٍ معدودة قبل أن يعاود هو تكرار القبلة ولكن بعمق أكبر، بث لها فيها كامل أشواقه ومشاعره الفياضة، شعرت بخدر قوي يسري في جسدها، بارتخاء تدريجي يصيب عضلاتها المتشنجة، للحظة بدأت تتراجع عن مقاومتها وتستسلم لتأثير أحاسيسه التي تخترقها بلا أي مقدمات، فأغمضت عينيها واندمجت مع تأثير قبلاته الحارة التي نقلتها إلى عالم أخر.

أرخى قبضتيه عنها ليحاوط خصرها ويلصقها أكثر به، ظل محنيًا عليها يضاعف لها من قبلاته الرومانسية حتى انهارت مقاومتها له، تراجعت برأسها للخلف وصدرها يعلو ويهبط متأثرًا من فرط الحماس، واستندت بيديها على كتفيه محاولة التقاط أنفاسها، نظر لها متأملاً حمرة وجنتيها المغرية، وضع يده على طرف ذقنها متحسسًا إياه بأنامله ورافعًا وجهها إلى عينيه:
-ياه، كنت مستني اللحظة دي من زمان!

مال برأسه نحوها ليقبلها مرة أخرى، لكنها وضعت إصبعها على فمه، وهمست بصوت خفيض يحمل الخجل:
-استنى لوسمحت!
لهث صوته وهو يسألها: -ايه؟
ردت هامسة: -ه. هاغير فستاني
التوى ثغره بابتسامة عابثة وهو يقول لها: -أساعدك!
هزت رأسها نافية: -لأ، استنى هنا
حذرها بلطف وهو يمرر يده على ذراعها: -ماتطوليش عليا
أومأت بالإيجاب قائلة: -حاضر.

انسلت من أحضانه متجهة نحو غرفة النوم لتبدل ثوبها، اختلج قلبها مشاعرًا قوية حفزتها بدرجة عجيبة لم تتخيلها وهيأتها لما هي مقبلة عليه معها، أغلقت الباب خلفها بهدوء، واستدارت باحثة بعينيها عن ردائها الأبيض لترتديه في تلك الليلة، كانت ترتجف وهي تبدل ثوب الزفاف، لا تعرف إن كانت تلك الرجفة بسبب الخوف أم الحب.

صعدت خلفه على الدرج محدقة في ظهره بأعين تحبس العبرات بداخلها، فتح باب المنزل متوجهًا نحو الصالة متجنبًا حتى النظر إليها، أحزنها ذلك كثيرًا ومع ذلك قاومت رغبتها بالبكاء أمامه، هتف بجمود:
-أنا هاقعد هنا شوية!

لم ترد عليه، واكتفت بالإيماء الخفيف برأسها، ظلت متسمرة في مكانها عدة ثوان آملة أن يرمقها بأي نظرة لكنه لم يستدر نحوها، تحركت بتمهل نحو غرفة النوم وهي تكتم شهقة تحاول الخروج من جوفها مصحوبة ببكاء حزين، أغلقت الباب خلفها، ونكست رأسها باكية، وضعت يديها على عينيها تاركة لعبراتها الحرية للانسياب بغزارة على وجنتيها، تذكرت كلمات والدته المشجعة لها بالمبادرة بالمصالحة حتى وإن كان هو المخطيء، رفعت وجهها للأعلى ماسحة بظهر كفها الدمعات الساخنة عنها، حدثت نفسها قائلة بصوت شبه مختنق:.

-ماشي يا منذر!

اتجهت نحو خزانة الملابس لتنتقي منها ما سترتديه، لفت انتباهها ذلك القميص الحريري القصير المنزوي على الشماعة الأخيرة، حدقت فيه مطولاً متأملة لونه الزهري، تحسسته بأناملها شاعرة بملمسه الناعم، ابتسمت لنفسها معتقدة أنها ستجذب أنظاره بلونه المغري على جسدها، لم تتردد في اختياره، وبدأت في ضبط مظهرها، وعدلت من وضعية مساحيق التجميل بعد أن تلطخت بفعل بكائها، نفضت شعرها خلف ظهرها، ووضعت شريطًا من الستان على مقدمته تاركة بعض الخصلات تغطي جبينها، نثرت من عطرها على عنقها وكتفيها، استعدت للخروج إليه بعد أن ألقت نظرة أخيرة على مفاتنها التي تسلب العقول، ابتسمت لنفسها برضا وسارت نحو الخارج متشوقة لاستعادته في أحضانها.

تغنجت بجسدها بدلال مثير وهي تتجه نحوه، استنشق أنفه عبيرها الذي غزاه بكل قوة فتصلبت حواسه من اقترابها، تحركت عيناه تلقائيًا نحوها فرأها على تلك الوضعية المغرية، جمد أعصابه قبل أن تفلت منه وتنهار حصونه أمام جمالها المهلك، دارت حوله لتطوق كتفيه بذراعيها، ثم أسندت رأسها على كتفه هامسة له بتنهيدة تذيب القلوب:
-احضرلك العشا يا حبيبي؟!

طبعت على صدغه قبلة مطولة متوقعة أن يتجاوب معها لكنه بدا أكثر صلابة مما ظنت، حدق منذر أمامه مرددًا بجمود:
-مش عاوز!
أصرت على عرضها قائلة بدلال: -إنت مكالتش حاجة في الفرح، مش معقول هتنام جعان، ثواني ويكون العشا عندك
قبلته في نفس المكان مجددًا قبل أن تعتدل في وقفتها لتسير بخيلاء أمامه علها تحدث في نفسه تأثير ما، فضلت ألا تنظر خلفها تاركة لخيالها تخيل أعينه وهي تتفحص جسدها بدقة متناهية.

اتجهت أسيف نحو المطبخ لتعد له عشاءً خفيفًا، قامت برص الصحون واضعة بها قطعًا من الجبن واللانشون والمربى وغيرها مما يصلح لتناوله في صينية معدنية كبيرة، سارت بتمهل نحوه راسمة على شفتيها ابتسامة ناعمة، اقتربت منه قائلة برقة:
-أنا جهزتلك العشا يا حبيبي!
صاح بقوة أرعبتها وجعلت يديها ترتعشان بقوة: -قولتلك مش عاوز!
شحوب مريب حل على بشرتها حينما رأت تلك القسوة تنبعث من نظراته، سألته بقلب منقبض:.

-ليه بس؟ دي حاجات خفيفة و..
زفر مهددًا بعصبية: -يووه، يعني أسيب البيت وأمشي عشان ترتاحي!
خفق قلبها أكثر من تهديده المخيف، وتلألأت عيناها بعبرات قوية، سألته بصوت مختنق: -للدرجادي زعلان مني؟
أشاح بوجهه للجانب مبرطمًا بكلمات متشنجة لم تفهمها بوضوح، ظلت تلك الرجفة القوية تعتريها، خشيت أن تسقط الصينية من يديها فتحدث فوضى بالمكان، حاولت أن تتوقف عن الاهتزاز، وردت بحذر وهي تبتلع ريقها:.

-طب. حقك عليا، أنا مقصدش!
أشار لها بكفه آمرًا: -قفلي على السيرة دي خالص، سامعة
هزت رأسها قائلة: -حاضر!
ساد صمت ثقيل بينهما للحظات عجزت فيها عن إيجاد الكلمات المناسبة لإخراجه من حالة الضيق المتمكنة منه، سألته بتردد:
-يعني مش هتاكل معايا و..
قاطعها بحدة ألجمتها وهو يرمقها بنظراته القوية: -ابعدي عني السعادي يا بنت رياض!

أخافها صوته المتشنج ونظراته المحتقنة نحوها، لا يحتاج الأمر لكل هذه العصبية والانفعال الغير مبرر، مجرد عناد ميؤوس منه مسيطر عليه جعله رافضًا الاستماع إليها، انسابت عبراتها أمامه بعد صده لها، هي حزنت كثيرًا لطريقته الجافة معها، وأصابها جفاؤه المؤلم بإحباط قوي، أولته ظهرها لتتحرك بخطوات متخاذلة عائدة نحو المطبخ، شعر منذر بالضيق لحدته معها رغم اجتهاده لضبط أعصابه، لكنه بحاجة لبعض الوقت ليتجاوز فقط المسألة، ربما في الصباح سيصفو قلبه لها، اعتصر قلبه ألمًا لرؤيتها تبكي، وما زاد من تأنيب ضميره أنه المتسبب في ذلك، زفر لاعنًا عناده الأحمق الذي يهلكه قبلها.

لم تستطع إيقاف تلك الرجفة التي حلت بساقيها وهي تسير نحو المطبخ، شعرت بالبرودة تجتاح جسدها وتزيد من رعشتها، ظلت يداها تهتز بقوة مهددة بإيقاع الصينية بين لحظة وأخرى، غلف عيناها عبرات كثيفة فلم تعد ترى بوضوح، لكن الأمر المقلق حقًا هو ذلك الدوار الذي أصاب رأسها بقوة، أصبحت غير قادرة على التحكم في خطواتها أو حتى في اتزانها، ترنح جسدها بصورة مقلقة، شعرت أن الأرض تميد بها، فقدت السيطرة على كل شيء من حولها، وفجأة ظلام دامس سيطر على أعينها لتسقط بعدها فاقدة للوعي.

هب من مكانه مذعورًا حينما سمع صوت الارتطام القوي للصحون الذي بدا كأنه انفجار كبير، ركض بلا تردد نحو المطبخ ليجد زوجته تفترش الأرضية الصلبة بجسدها، والزجاج المهشم متناثر من حولها، جثى على ركبتيه أمامها هاتفًا:
-أسيف، حصل ايه؟

ظن في البداية أنها تعمدت فعل ذلك لتسرعي انتباهه وترقق قلبه نحوها، لكنه أدرك أنها مغشية عليها، هوى قلبه في قدميه حينما لم تستجب لأي محاولات لإفاقتها، مرر ذراعيه خلف ظهرها وأسفل ركبتيها ليحملها، نهض بها متجهًا نحو غرفة نومهما، أسندها بحذر على الفراش ثم مسح بكفه على وجنتها صائحًا بخوف كبير:
-أسيف، ردي عليا، سمعاني، أسيف.

ظل يضرب على وجنتها برفق علها تفيق لكن دون جدوى، كانت مغيبة تمامًا عما حولها، استدار نحو التسريحة باحثًا عن زجاجة العطر، انتزع غطائها بقوة ووضع بعضه على كفه ثم قربه من أنفها لتشمه، لم يظهر أي مؤشر حيوي على تأثرها به، زاد هلعه عليها حينما رأى تلك الجروح في ساقها وذراعها، لقد تسبب قطع الزجاج الحادة في جرحها، ركض نحو المرحاض ليحضر عدة الإسعافات الأولية وبدأ في وقف معالجة جروحها قبل أن تزداد سوءًا، عاتب نفسه وبقسوة شديدة لكونه لم يرفق بها ولا لتوسلاتها البريئة، سب نفسه بشراسة وهو يضمدها.

انحنى على جبينها ليقبلها معتذرًا: -حقك عليا! أنا مسامحك، فوقي بس وكلميني، أسيف سمعاني، أنا معاكي!
انتظرها مترقبًا خروجها في أي لحظة بعد أن طال بقاؤها بالداخل، أنهى ثلاثة سجائر واضعًا بقاياهم في المنفضة الزجاجية وهو يذرع الصالة جيئة وذهابًا، حدث نفسه بتبرم:
-هي بتعمل ايه كل ده؟
تحرك بخطوات متوترة نحو باب الغرفة، ثم طرق عليه برفق وهو يتساءل بنبرة عالية: -ها يا حبيبتي خلصتي؟

خشى أن تكون قد غافلته ونامت كما ادعت من قبل، تبدلت تعبيراته للشدة وزادت دقاته على الباب هاتفًا بنبرة عالية:
-بسمة! اوعي تكوني نمتي؟
أتاه صوتها قائلاً: -ثواني
تنفس الصعداء لأنها مازالت مستيقظة، واتسعت ابتسامته اللاهية وهو يرد: -ماشي يا حبيبتي، بس ماتطوليش الله يكرمك!
ردت عليه: -أنا طالعة!

وكأن كلماتها تلك قد أوقدت نيران الحب بداخله، فاستعد جسديًا ونفسيًا لرؤيتها، فتحت الباب لتطل عليه بشكلها المثير، حدق فيها متأملاً ردائها الأبيض الذي تحاول جاهدة أن تخفي ما يبرزه من مفاتن جسدها من خلف قماشه الشفاف، عضت على شفتها السفلى قائلة بخجل:
-أنا ه..

لم يعطها الفرصة لإكمال جملتها، طوق خصرها بذراعيه وهو ينحني عليها ليقبلها بشغف، لم تبدِ أي مقاومة معه، بل تجاوبت مع كل ما يقدمه لها من أحاسيس فياضة جعلت جسدها يندمج أكثر مع حبه الجارف، لم تفارقها شفتيه، جرفها سريعًا إلى عواصف عشقه اللا محدود، شعر بتأثيره القوي عليها، باستجابة خلاياها لفيض المشاعر، تراجع برأسه عنها ليتمكن من حملها، سار بها بتمهل نحو الداخل، ثم أجلسها على الفراش نازعًا قميصه عنه، طالعته بنظرات شقية ألهبت حواسه بقوة، همس بها برغبة:.

-الليلة مافيش نوم يا مزة!
ضحكت بدلال وهي تعبث بخصلات شعرها، أومأت له بحاجبها قائلة بتحدٍ مثير: -بجد؟
طقطق دياب فقرات عنقه وهو يحركه للجانبين، ثم تمط بذراعيه أمامها ليظهر لها قوته الجسمانية وعضلاته المشدودة، نظرت له بإعجاب وهي تعض على شفتها السفلى، رد عليها بعبث:
-طبعًا، ده مش هزار، في ضرب نار!

كركرت ضاحكة بميوعة بعد استعانته بكلمات لأغنية شعبية دارجة فأثارت رغبته فيها، وبالطبع لم تمر الثانية التالية إلا وكان في أحضانها يدفعها بخبرة محنكة نحو سعادة لا توصف.

انتصبت بجسدها واقفة أمام المرآة مغمضة لعينيها ومكورة لأصابع قبضة يدها اليمنى، كانت بحاجة إلى شجاعة عظيمة لتحدق في وجهها من جديد، فقد تجنبت في الأونة الأخيرة التحديق في هيئتها بعد تأثيرات جرعات الكيماوي عليها، واليوم هي أرادت وبشدة التحديق في قسمات وجهها الذابلة، وضعت يدها المرتعشة أعلى رأسها لتنزع حجابها الذي بات رفيقها الذي لا يفارقها أبدًا، ابتلعت ريقها وهي تتطلع بأعين حزينة إلى بقايا شعرها بعد أن قصته ونال منه المرض، تجمعت العبرات سريعًا في مقلتيها، لم تمانع في سقوطهم على وجهها، هزت رأسها مستنكرة تفكيره فيها، كيف لشخص مثله أن يتودد لمريضة مثلها لا تملك أي شيء لتقدمه له؟

أغمضت جفنيها مكملة بكائها المرير في صمت، ومع ذلك ظل صدى صوته العذب يرن في أذنيها كالطنين، انتبهت حواسها فجأة لرنين هاتفها، فتحت نيرمين عينيها وهي تدير رأسها تجاه الكومود، تحركت أعينها الباكية نحو رضيعتها النائمة، وفي أقل من لحظات كانت ممسكة به محاولة إيقاف صوته المزعج قبل أن يوقظ ابنتها، فغرت شفتيها مصدومة حينما قرأت اسمه على الشاشة، للحظة ظنت أنها تتخيل ذلك لكن حينما تكرر الرنين انتفضت في مكانها مفزوعة، نقلت الهاتف على وضعية الصامت، ثم ردت عليه بصوت هامس:.

-ألو
أتاها صوته الرخيم متسائلاً بهدوء عذب: -صحيتك؟
أجابته بصوت خفيض: -لأ، أنا لسه مانمتش
أضاف متحمسًا: -ده من حظي
تعجبت من اتصاله المتأخر، فسألته دون تفكير: -في حاجة؟
صمت للحظات قبل أن يجيبها بحذر: -كنت محتاج أسمع صوتك قبل ما أنام
شعرت بدقات قلبها تتسابق بقوة من جملته تلك رغم بساطتها، لم ترد الانخراط في أحلام لن تتحقق مطلقًا لذلك سألته بحدة رغم خفوت صوتها:.

-دكتور نبيل إنت بتعمل كل ده ليه معايا؟ اشمعنى أنا؟ أفتكر إن حالتي..
قاطعها بهدوء أصابها بالارتباك: -صدقيني معنديش تفسير لده
توهمت أنه نوع من التعاطف معها، إحسانًا خفيًا يتبعه مع مرضاه، لذلك ردت بكرامة: -لو كنت بتعمل ده شفقة فمافيش داعي منه، أنا متقبلة مصيري وعارفة نهايتي
هتف موضحًا سوء الفهم لديها: -أبدًا والله، مش كده خالص يا مدام نيرمين! إنتي كده بتظلميني!

تركت صوته ينساب إلى داخل خلايا عقلها وهو يتابع بتمهل: -بس اللي أقدر أقوله وأنا واثق فيه إنك بقيتي حد مهم عندي
ارتجف بدنها من قوة كلماته العذبة، كان يروي عطش قلبها بعباراته، توترت أنفاسها فبدا صوتها واضحًا إليه، تابع برجاء غريب:
-وأتمنى ميكونش ده بيزعجك!
لم تعلق عليه واكتفت بالصمت الذي أصابه بالقلق، سألها بتلهف: -مدام نيرمين، إنتي معايا؟
أجابته بخفوت: -أيوه.

همس لها برجاء أكبر: -أنا. حابب تكون قريبين أكتر من بعض
أربكها تصريحه فعجزت عن الرد عليه، شعرت كما لو كانت مراهقة صغيرة تعيش مشاعرًا غريبة عليها، هربت من تأثيره الذي يُحيي بداخلها أحاسيسها المفقودة قائلة بخجل:
-تصبح على خير
سألها متعجبًا: -بتهربي مني؟
أجابته بصوت متردد: -أنا. تعبانة!
سمعت صوت ضحكته الخافتة يرن في أذنها وهو يقول: -تمام، وإنتي من أهله!

ضغطت على زر إنهاء المكالمة سريعًا لتجلس على طرف الفراش وهي لا تصدق نفسها، وضعت يدها على وجنتها تتحسس بشرتها التي زادت سخونة بعد مكالمته تلك، شعرت بالحيوية، بالطاقة، بالقوة والنشاط، خجلت من نفسها لتفكيرها كالفتيات الصغار في أمور لم تعد تصلح لها، وقبل أن تفيق من حلمها الوردي انتبهت لرنين الهاتف الذي أعلن عن وصول رسالة نصية، قرأت ما دون فيها بصوت هامس:
-على فكرة كنتي حلوة أوي النهاردة، تتخطفي!

اشتعل وجهها كليًا، وكتمت بكف يدها صوت ضحكتها التي كادت تفضح أمرها، رددت مع نفسها بسعادة:
-ده دكتور مجانين!
تلفتت حولها بنظرات قلقة محاولة اكتشاف ذلك المكان الذي ظهرت فيه فجأة، اتضحت لها الرؤية تدريجيًا، إنها في منزلها القديم ببلدتها الريفية، رائحة المخبوزات تخترق أنفها، تلاحقت دقات قلبها بقوة وهي ترى والدها أمامها، هتفت بصوتٍ باكٍ:
-بابا!

فتح لها ذراعيه راغبًا في احتضانها فركضت بلا تفكير نحوه لترتمي بجسدها داخل أحضانه التي تشتاقها، بكت بفرحة أكبر وهي تقول:
-وحشتني أوي يا بابا، كل الغيبة دي!
رد عليها بصوته الحنون: -المهم إنك بخير يا أسيف! شوفتي مين جه معايا
التفتت حيث أشار بيده، لم تكد تفيق من صدمتها السعيدة حتى رأت والدتها تقترب منها بمقعدها المتحرك، اتسعت ابتسامتها رغم بكائها وهي تقول:
-إنتي هنا كمان يا ماما.

ردت عليها حنان بصوتها الدافيء: -ايوه
هتف رياض قائلاً بهدوء: -شايفة مامتك معاها ايه!
دققت النظر فيما تحمله والدتها بيديها، لم تتبينه بوضوح، كان ملفوفًا بغطاء ما، تحركت نحوها متسائلة:
-ايه ده؟
رفعت والدتها اللفة للأعلى قائلة بابتسامة صافية: -زين!

أمعنت أسيف النظر في تلك الهدية التي أعطتها لها والدتها، كان رضيعًا صغيرًا يتأوه بصوت آسر وهو غافٍ، أمسكت به بعناية فائقة متأملة وجهه البشوش، تشكل على ثغرها ابتسامة عذبة وهي تقول:
-الله! ده حلو أوي!
رفعت رأسها لتحدق في والديها متابعة بسعادة: -هو..
قطمت عبارتها مجبرة حينما لم تجدهما حولها، اختفيا كما ظهرا من العدم، شعرت بالخوف وهتفت بهلع وهي تدور حول نفسها:
-ماما، بابا! إنتو رحتوا فين؟ بابا، ماما!

تمسكت بالرضيع الذي بحوزتها أكثر وظلت تنادي على أبويها ببكاء كبير، اشتاقت لأحضانهما التي احتوت أحزانها وفرحتها كثيرًا، عاودت النظر إلى الرضيع مرددة بنحيب:
-ملحقتش أشبع منكم!

لمح تلك العبرات وهي تسقط من طرفي جفنيها المغمضين، فانقبض قلبه بخوف أكبر، لقد راها على تلك الحالة مسبقًا تبكي وهي غائبة عن الوعي، ألمه ذكل كثيرًا، شعرت بتأنيب الضمير لتعنيفه لها بقسوة، والأمر لم يكن بحاجة إلى كل ذلك التعصب والانفعال، رفعها إلى صدره، وضمها إليه، ثم مد يده على بشرتها ماسحًا دمعاتها برفق، همس لها وهو ينحني على جبينها:
-أنا أسف يا حبيبتي، حقك عليا!

ضمها أكثر وهو يضيف: -ردي عليا يا أسيف، أنا جمبك!
أخرجت تأوهات خافتة مصحوبة بأنين مكتوم لكنها كانت مؤشرات قوية على قرب استعادتها للوعي، هزها برفق وهو يقول:
-أسيف، سمعاني
ردت وهي في حالة ما بين الغفلة واليقظة: -ملحقتش أقعد معاكو، استنوا شوية!
ضرب منذر على وجنتها برفق كي تفيق هاتفًا: -أسيف، اصحي!

تنبهت حواسها بدرجة كبيرة إلى صوته الذي وصل إلى مسامعها بقوة، فتحت عينيها ببطء محدقة في وجهه بأعينها الدامعة، همست له بأنين:
-أنا مش عاوزاك تزعل مني
ضمها إليه قائلاً بتنهيدة حارة: -وهو أنا أقدر، يا ستي غيراني عليكي لازم تفهمي ده كويس، مرضاش أبدًا أشوفك بتحكي عن غيري كده واسكت،.

أرجع رأسها للخلف ليحدق في وجهها بنظرات عاشقة، طبع قبلات متتالية على وجنتيها فابتسمت له، لمحت بطرف عينها تلك الضمادات التي تغطي ذراعها وساقها، انعقد ما بين حاجبيها باستغراب وهي تسأله:
-هو حصل ايه؟
أجابها مبتسمًا: -باين عليكي هفأ واتزحلقتي، حتة صينية مش عارفة تشيليها؟
نظرت له بعبوس وهي تعاتبه: -على فكرة أنا..

قاطعها قائلاً بود وهو يضع إصبعيه على طرف ذقنها: -انسي، المرادي أنا اللي هاحضر العشا، مش انتي لسه جعانة؟
أومأت برأسها دون أن تجيبه، فطبع قبلة عميقة على جبينها متابعًا بمرح أذاب أي حواجز بينهما:
-خلاص نطلب دليفري بقى!
زادت ابتسامتها إشراقًا ولمعت عيناها بوميض الحب الصادق الذي دومًا يخترق القلوب.

مضى عدت أيام حتى أتى يوم الافتتاح الكبير لدكانها وفرع الأدوات الصحية الجديد، افترشت الطرقات بباقات الورد الكبيرة وكذلك بالرمال الملونة، زينت البنايات ومدخل المنطقة الشعبية بشرائط الإنارة الكهربائية الحديثة، وصدحت أصوات الموسيقى طوال اليوم، وقفت أسيف بين عائلتها تنظر إلى دكانها الذي ازدان بما فيه من ورود صناعية وهدايا شبابية بسعادة غامرة، تحقق حلمها، وباتت لافتة دكان والدها الراحل مضيئة بكلمة خورشيد، رقص قلبها طربًا وهي تقص شريط الافتتاح لتعلو الزغاريد من خلفها، انهالت عليها التهنئات من أهالي المنطقة وكذلك من المحيطين بها، دنا منها زوجها قائلاً:.

-وفيت بوعدي معاكي، صح؟
ردت وهي تهز رأسها بالإيجاب: -ايوه
مدت يدها لتمسك بكفه متابعة بامتنان: -ربنا يخليك ليا يا حبيبي، بأحبك
ضغط بأصابعه على راحتها هامسًا: -مش قصاد الناس!
ابتسمت له بخجل وتابعت التلفت حولها بنظرات متحمسة، لمحت بسمة وهي تتجادل مع دياب بجوار أحد الرفوف فسحبت كفها من راحة زوجها لتتجه نحوهما، تساءلت باهتمام:
-خير
ردت بسمة بعصبية طفيفة: -مش عاوز يجيبلي دبدوب أحمر.

رد دياب مبررًا بامتعاض وهو يشير بيديه إلى نفسه: -طب أنا راضي ذمتك، ده شكل واحد بتاع دباديب؟ ده حتى وحش في حقي، هيبتي قصاد أهل الحتة تروح!
أشارت بسمة بسبابتها نحوه قائلة بغيظ: -شايفة!
تقوس ثغر أسيف بابتسامة لطيفة وهي تقول: -خلاص أنا هاديهولك هدية
تهللت أسارير بسمة بشدة، وأقبلت عليها تحتضنها بود كبير ماسحة على ظهرها بكفيها، هتفت بامتنان:
-حبيبتي يا أسيف، اتعلم الذوق منها.

حك دياب مؤخرة رأسه مرددًا بمرح: -الله يكرمك، دايمًا كده تشكري فيا قصاد الناس!
ابتعدت عنها بسمة لتضيف بتذمر: -اهوو، احنا على الحال ده مع بعض!
ضحكت أسيف قائلة: -ربنا يخليكم لبعض دايمًا
استمرت ثلاثتهم في الحديث الودي حتى انضم إليها منذر قائلاً بلهجة شبه صارمة: -عاوز المدام شوية
التفتت برأسها نحوه مرددة: -ايوه يا منذر.

أشار لها بعينيه لتتبعه في زاوية الدكان حيث الأجواء أهدأ قليلاً، سحب نفسًا عميقًا لفظه دفعة واحدة ليقول بعدها بجدية:
-بصي يا ستي أنا كان عندي شغل في راس البر، هانشطب أرضيات كام فيلا هناك عشان المصايف، فعاوز أخدك معايا تغيري جو
ارتفع حاجباها للأعلى وهي تهتف بعدم تصديق: -بجد؟!
أومأ برأسه مؤكدًا بهدوء: -ايوه، جهزي نفسك!
استدارت برأسها للجانب قائلة باعتراض صغير: -بس الدكان، أنا ملحقتش آآ..

قاطعها هاتفًا بهدوء جاد: -خلي بسمة تتابعه لحد ما نرجع، ولو مانفعش اقفليه!
ضغطت على شفتيها مرددة: -خلاص هارتب أنا معاها ونسافر سوا يا حبيبي
-ماشي، أسيبك لزباينك وأروح أشوف شغلي
-اوكي يا حبيبي
ودعها بلطف قبل أن يتجه عائدًا نحو أخيه ليصيح فيه بلهجة آمرة: -يالا يا باشا، ورانا مصالح
لوح له دياب قائلاً: -حاضر، جاي في ديلك يا منذر!

انتظر ابتعاد أخيه عن الدكان ليقترب من أسيف، توسلها برجاء مرح: -أمانة عليكي يا مرات أخويا متعصيش الأبلة عليا، لأحسن بيردم عليا في الأخر، وأنا مش ناقص!
ضحكت على أسلوبه التهكمي في استجدائها، ثم ردت قائلة: -طيب، إنت بس تؤمر
هلل متحمسًا: -حبيبة قلب أخويا وأم عياله إن شاء الله!
أخفت ابتسامتها بكف يدها وهي ترد بخجل: -يا رب!

رغم انشغاله بالأعمال في مدينة رأس البر الساحلية إلا أنه خصص لها وقتًا ليمضيه معها ومع عائلتهما التي أصرت على قدومهم معهما ليحظى الجميع بأوقات طيبة، استأجر لهم منزلاً واسعًا بالقرب من الشاطئ، ومكثت كل أسرة في غرفة خاصة بهم، كانوا يتجمعون في أوقات الطعام وبعد الظهيرة ليتسامروا ويستعيدوا ذكرياتهم، غلف لحظاتهم السعادة والهناء، أوشكت العطلة القصيرة على الانتهاء، فقرر منذر اصطحاب زوجته للسباحة سويًا في وقت مبكر من الصباح كي يتجنبا الزحام والأعين المتلصصة، كانت في قمة سعادتها معه، ظل الاثنان يلهوان وسط الأمواج ويتقاذفان المياه على بعضهما البعض بمرح واضح، شعرت أسيف بدوار شديد يصيب رأسها، بإنهاك غير مبرر يخدر خلايا جسدها، ضعفت قدرتها على الوقوف في المياه، فانهارت فجأة وسط الأمواج، نظر لها منذر بهلع، أسرع ناحيتها محاولاً الإمساك بها قبل أن تغرق صائحًا بفزع:.

-أسيف! في ايه؟
أجابته بنبرة واهنة: -مش عارفة مالي، تعبانة أوي
حاوطها من خصرها قائلاً: -تعالي احنا هنرجع
ردت بصوت خفيض وهي تحاول التشبث به: -ماشي!
ساعدها على السير حتى بلغا الشاطئ، بدا صوتها لاهثًا وهي تقول بصعوبة: -مش قادرة، دماغي بتلف جامد!

لم ينتظر أكثر من ذلك، انحنى قليلاً بجذعه وحملها مكملاً سيره نحو منزل الشاطئ، هبت جليلة واقفة في مكانها حينما رأتهما على تلك الحالة، سارت بخطى سريعة نحوهما وهي تهتف بتوجس:
-ايه اللي حصل يا ابني؟
أجابها منذر بحيرة: -مش عارفة يا أمي، داخت جامد مني!
تنحنت للجانب لتسمح له بالمرور والصعود على الدرجات التي تؤدي للشرفة الواسعة بذلك المنزل، التقى بعواطف في طريقه نحو الداخل، لطمت على صدرها وهي تشهق مفزوعة:.

-أسيف، يالهوي، مالها؟
رد بضجر: -معرفش، تعبانة
لحقت به مرددة بقلق: -نشوفلها ضاكتور بسرعة، بس قابلة تغير هدومها لأحسن تاخد برد
-ماشي
قالها منذر وهو يلج إلى الغرفة الخاصه به وبزوجته، اقترب من الفراش ليسندها برفق عليه، ثم اعتدل في وقفته ممررًا أنظاره عليها، زفر بضيق مبديًا انزعاجه مما يحدث معها من حالات دوار وإغماء متعاقب.

لم تتوقف جليلة ولا عواطف عن إطلاق الزغاريد فور تأكيد الطبيب الذي فحص زوجة ابنها البكري لخبر حملها، كانت ما تمر به هي العوارض الأولية للحمل، ولكونها كانت مشغولة بالكثير من الأحداث التي دارت مؤخرًا، لم تنتبه للتغيرات التي طرأت عليها، لم يصدق منذر أذنيه، سيرزقه الله بعد فترة انتظار طويلة بنعمة عظيمة من نعمه، بكى متأثرًا لسماعه ذلك الخبر المفرح، احتضنه أخاه قائلاً:.

-مبروك يا منذر، إنت بتعيط يا جدع، وده كلام؟!
كفكف منذر عبراته بظهر كفه هاتفًا بتضرع شاكر: -اللهم لك الحمد والشكر، يا ما انت كريم يا رب!
رد عليه دياب وهو يهز رأسه: -ربنا يراضيك دايمًا، أيوه بقى عاوزين الواد يحيى يلعب مع ولاد عمه!
-ربنا معاها ويكملها على خير
-إن شاء الله
وضع طه يده على كتف ابنه قائلاً بصوته الخشن: -رزق ربنا مالوش ميعاد ولا حدود يا منذر.

رد عليه ابنه مؤكدًا بثقة: -فعلاً، يرزق من يشاء بغير حساب!
تابع طه مضيفًا وهو يعيد ضم يديه معًا على رأس عكازه: -ربنا يكرمك ويقوم مراتك بالسلامة، المهم تطلع حاجة لله عشان ربنا يفتحها أكثر في وشك
-ده لازم.

ولج إليها راسمًا على ثغره ابتسامة لا توصف، تأملها بأعين ممتنة وكأنها قد أهدته كنزًا لا يقدر بثمن، رأت في عمق نظراته حبًا أكبر وأصدق، حبًا انتشلها من حزن قاسٍ وأتى بها إلى أرض الأحلام، تلون وجهها بحمرة لطيفة وهي تطالعه بنظراتها الوالهة، همست له بخجل:
-أنا طلعت حامل!
دنا منذر من فراشها ليجلس إلى جوارها، ثم مد يده ليلتقط كفها، احتضنه بين راحتيه ماسحًا عليه بقوة، رفعه إلى فمه ليقبله قائلاً:.

-بأحبك اكتر من الأول، والحمدلله إن ربنا هيرزقني منك بعيل
رمشت أسيف بعينيها قائلة بصوت خفيض شبه متردد: -منذر لو رنا كرمنا بولد، أنا عاوزة أسميه زين
قطب جبينه متسائلاً باستغراب: -اشمعنى؟

سحبت نفسًا كبيرًا أخرجته على تمهل وهي تسرد له ذلك الحلم الغريب الذي رأته من قبل، نعم كان يحمل لها البشارة بمولود سيملأ حياتها سعادة لكنها لم تفهم الرسالة، ابتسم لها منذر بعذوبة، ثم رفع يده ليضعها على وجنتها، داعب بشرتها بلطف وهو يقول:
-بأمر الله، ولو بنت يبقى زينة!
زاد لمعان حدقتيها وهي تنظر إليه، كما تشكل على محياها ابتسامة صافية وهو يضمها إليه لتشعر بدفء أحضانه التي أدمنتها.

مرت الشهور ورزقها الله بمولود أسماه زوجها ب زين تيمنًا برؤياها السابقة، أقيم له حفل سبوع شعبي في دكان خورشيد، ذلك المكان الذي شهد على الكثير وكان السبب الرئيسي في قدومها إلى هنا لتلتقي بنصفها الأخر، جمعهما التحدي والقوة، التحدي والعناد، الحب والتضحية، الصدق والمشاعر العميقة، هنا ولدت بذرة حبهما، وهنا حصدا ثمار عشقهما.

أعد منذر لرضيعه مهدًا وضعه في زاوية الدكان أسفل الصورة الفوتغرافية الخاصة بعائلة أسيف ليكون إلى جوار والدته وهي متواجدة به، كذلك كي يتمكن من رؤيته حينما يعرج عليهما من فرعه.

ألقى نظرة أخيرة عليه قبل أن يسير نحو الخارج مطفئًا الأنوار، أوصد الدكان خلفه واضعًا مفاتيحه في جيب بنطاله، ثم توجه بعدها إلى منزل أبيه حيث اللقاء الأسبوعي لتجمع أفراد العائلة معًا، وجد ابن أخيه يلهو مع الصغار عند مدخل البناية، فاقترب منه عابثًا بخصلات شعره وهو يقول بصيغة آمرة:
-اطلع يا يحيى، الغدا اتحط
رد عليه الصغير ببراءة: -مس بسمة عملتلي الأكل، أنا هالعب شوية مع ثحابي (أصحابي).

ابتسم له منذر قائلاً بهدوء: -ماشي يا سيدي، الأبلة اللي مدلعاك على حِسنا.

أكمل صعوده على الدرج حتى بلغ باب المنزل فدس المفتاح في قفله، ولج إلى الداخل مستنشقًا رائحة الطعام الشهية التي تعبق الأجواء، تحركت معدته متأثرة بالراحة، بالطبع لم يخلو المنزل من الأصوات المتداخلة للحديث النسائي، هز رأسه متعجبًا من قدرتهم العجيبة على الثرثرة وأداء العديد من الأعمال في آن واحد، هتف بنبرة عالية ليلفت الأنظار إلى وجوده:
-سلامو عليكم يا أهل الدار.

ردت عليه جليلة بنبرتها الحانية: -وعليكم السلام يا ابني، 5 دقايق والأكل هايكون جاهز، الشوربة بتغلي على النار و..
قاطعها مشيرًا بكفه: -براحتكم، أومال فين زين؟
ردت عليه تلك المرة عواطف وهي تحمل الصحون الفارغة بيديها: -مع عمته والبت رنا يا سي منذر!
رد عليها مازحًا: -من دلوقتي قاعد وسط البنات، أنا عاوز عضمه ينشف، ومايبقاش عيل طري!
اعترضت عليه جليلة قائلة بجدية: -ده راجل ابن راجل ومن ضهر راجل.

هتفت أسيف بمرح وهي تدنو من زوجها: -ده أبو الرجالة كلهم!
حدق منذر في وجه زوجته البشوش غامزًا لها: -مين يشهد ليه زيكم؟
ابتسمت له بنعومة محببة لقلبه، طوق كتفيها بذراعه متبادلاً معها غزلاً متواريًا جعل وجهها يلتهب بسخونة واضحة، عضت على شفتها السفلى بحياء جلي، فاستمر في مداعبة أذنها بكلماته الساحرة، لكن أخرجتهما جليلة من لحظتهما الخاصة صائحة بجدية:
-يالا أوام زمانت خطيب نيرمين جاي!

عبس وجهها نوعًا ما من ذكر اسمه، شعرت أسيف بتبدل تعابيره، وحاولت ألا تظهر تأثرها بذلك، أضافت عواطف بابتسامة متسعة:
-أول مرة يشرفنا الضاكتور نبيل
ضاقت نظرات منذر نحو زوجته وهو يسألها بتجهم: -انتو عازمتوا السمج ده هنا؟
ردت عليه بصوت خفيض وهي تشير بحاجبيها مستنكرة نفوره الغير مبرر منه: -مش هايبقى جوزها، وبعدين هو..
قاطعها محذرًا بصرامة: -ها، هانعيدوه تاني.

ردت بدلال وهي تطالعه بنظراتها العاشقة: -لأ توبة من دي النوبة!
ضمها أكثر إلى صدره مبديًا إعجابه بطاعتها له، ثم سار معها نحو طاولة الطعام، في حين دست بسمة الطعام في فمها وتناولته بشراهة عجيبة، هتفت من بين أسنانها وهي تلوك الطعام في جوفها:
-مش قادرة! طعمه يجنن
تبعها دياب حاملاً صينية البطاطس الساخنة ناظرًا لها بتأفف وهي تتلذذ باستمتاع بقطع الطعام الشهية، أخفض نظراته نحو بطنها المنتفخ قائلاً بسخرية:.

-ارحمي كرشك شوية، هاتبلعينا بعد كده!
نظرت بسمة إلى حيث يشير فتعقدت تعبيراتها بضيق، تلاشت ابتسامتها ليحل التبرم على ثغرها، صاحت فيه بحدة طفيفة:
-الله، مش عيالك هما اللي جعانين جوا بطني، ده أنا بأكل بتلات أرواح!
لكزها برفق من كتفها قائلاً: -ده زي 3 دقات كده!
نظرت له شزرًا وهي ترد: -ماتبقاش رخم.

أضافت جليلة بنبرة ودودة وهي تربت على ظهر زوجة ابنها الأصغر: -حقها تاكل وتتبسط، دي حبلى وفيها روحين بتكبر، ماشاء الله ربنا معاها ويعينها
رد عليها دياب بعبوس زائف: -ادعيلي أنا يامه، أنا مش ملاحق!
كركرت ضاحكة وهي تقول: -العيال بيجوا برزقهم، وإنت ماشاء الله عليك، ربنا فتحها في وشك وبزيادة
رد بصوت خفيض وهو يفرك مؤخرة عنقه: -ماهو واضح، جوز من أول مرة، أومال لو طولت شوية، هاجيب كام؟!

انتبه الجميع لوقع دقات عكاز الحاج طه المصحوبة بصوته الخشن وهو يقول: -احم، يالا يا جماعة
ردت عليه جليلة: -حاضر يا حاج
هتفت عواطف بنبرة متحمسة: -نيرمين طالعة مع خطيبها على السلم، هاروح أفتحلهم.

وما هي إلا لحظات وتجمع حول مائدة الطعام جميع أفراد العائلتين، ترأس الطاولة الحاج طه، وجلست على يمينه زوجته جليلة التي ظلت واقفة على قدميها تقدم ما أعدته من مأكولات شهية للجميع، وعاونتها عواطف التي جلست إلى جوارها، في حين جلس منذر في الجهة المقابلة لأبيه وإلى يساره زوجته أسيف التي كانت تختلس النظرات إليه بين حين وأخر حينما يداعب ساقها بقدمه فتبتسم له بحياء محذرة إياه من كشف أمرهما، لكنه كان مستمتعًا بغزلهما الصبياني، جلس دياب على يسار والده وإلى جواره نبيل وخطيبته، وبالطبع لم تكف عواطف عن تحفيز زوج ابنتها المستقبلي لتناول ما لذ وطاب من الأطعمة المنزلية المعدة بالسمن البلدي، في حين فضلت بسمة الجلوس على الأريكة لتشعر بالاسترخاء وتمد ساقيها المتورمتين دون حرج، مررت أسيف أنظارها ببطء على أوجه المحيطين بها شاعرة بفرحة لا توصف، لقد منحها الله عائلة كبيرة تفخر بها، وعوضها بزوج محب ومخلص بذل ما في وسعه ليمحو آثار ما عانته من مآسٍ موجعة، ورزقها طفلاً زين حياتها ببراءته وضحكاته التي تنسي أي هموم وأحزان، تنهدت بارتياح متمنية في نفسها أن تدوم تلك السعادة للأبد.

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة