قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثمانون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثمانون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثمانون

تصلب في مكانه محاوطًا إياها بذراعيه لبرهة غير مصدق أنها اعترفت له توًا بحبها له، سيل رهيب من المشاعر المتأججة تدفق في عروقه ليزيد من تمسكه بها، كبح بصعوبة مهلكة تلك الرغبة التي سيطرت عليه لأخذها معه، وباستياء كبير تنازل عن ذلك المطلب الجامح حتى يحين الموعد، تحسس ظهرها برفق، وتنهد بحرارة كبيرة محتفظًا بالصمت الذي بدا مناسبًا في ذلك الموقف الأسر.

شعرت بما يختلج صدره من أحاسيس متنوعة، أهمها خفقان قلبه المتواصل الذي أكد لها حبه الشغوف بها، ابتسمت بارتياح مطمئن، حان الوقت لتترك العنان لفؤادها ليحلق في سماء الحب متحررًا وبلا قيود، أرخى منذر ساعديه عنها لتبتعد برأسها عن صدره محدقة فيها بأعينها المتوهجة بوميض الحب، رمقها بنظرة متيمة مليئة بالكثير قبل أن يحرك شفتيه ناطقًا:
-ربنا يقدرني وأسعدك!

حرك ذراعيه برفق ليلامس كتفيها ثم وضع قبضتيه عليهما ليخفضهما حتى أمسك بكفيها، رفعهما إلى فمه، وانحنى برأسه عليهما ليقبلهما قبلة طويلة متعمقة بث فيها أشواقه، ارتجفت أوصالها من فعلته تلك، مشاعر غريبة انتابتها أحدثت فيها ارتباكًا محببًا إليها، أسبل عيناه نحوها متابعًا بصوت العشاق الهامس:
-بأحبك يا بنت رياض!

اصطبغ وجهها بحمرة عظيمة جعلتها تستشعر تلك السخونة المتدفقة من وجنتيها، ابتسم أكثر لتأثرها بكلماته، وأضاف بنبرة جادة نوعًا ما:
-ودلوقتي لازم تاخدي مهرك!
قطبت جبينها مدهوشة من جملته الغامضة تلك، ورددت متسائلة بنبرة مرتابة: -مهري؟ بس أنا مطلبتش حاجة و..
قاطعها قائلاً بإصرار وهو يعتدل في وقفته: -ده حقك الشرعي.

أرخى قبضتيه عن يديها ليدس يده في جيب سترته مخرجًا منه مظروفًا صغيرًا مغلفًا، تعقدت تعبيرات وجهها باستغراب حينما ناولها إياه، وبحيرة واضحة عليها قامت بفتحه لتقرأ ما فيه بتأنٍ، انفرجت شفتاها للأسفل معلنة عن دهشة عظيمة، كما ارتفع حاجباها للأعلى في صدمة بيّنة، حدقت فيه متسائلة بعدم تصديق:
-ده ايه ده؟
أجابها بهدوء واثق وقد تقوس فمه للجانب لتبرز ابتسامة مغترة عليه: -ده حقك يا أسيف!

زاد بريق عيناها وهي تسأله: -انت. ازاي عملت كده؟
أجابها بثبات: -طبيعي أردلك اللي ضاع منك
تلعثمت الحروف في جوفها، وخرجت الكلمات من بين شفتيها بارتعاش وهي ترد
-بس. ده كتير و..
قاطعها قائلاً بهدوءٍ حانٍ: -مافيش حاجة تغلى عليكي، المهم إنك معايا، ده كفاية عندي!
أدمعت عيناها تأثرًا، لقد وهبها بصدق ما عجزت عن استرجاعه، انهارت مقاومتها سريعًا وبكت عفويًا، فانزعج من ذلك قائلاً:
-ليه بس بتعيطي؟

أجابته بصوت متهدج: -مش. قادرة أصدق إن ده بجد!
حاوط وجهها براحتيه، ومسح بإبهاميه دمعاتها المنهمرة على وجنتيها قائلاً: -لأ صدقي، أحلامك أوامر!
قرب رأسها إليه منحنيًا عليه ليطبع قبلة على جبينها شعرت فيها بأنفاسها الحارة المتلهفة إليها، هي ظفرت بعد عنان وقسوة بما سيعوضها عن تلك الفترة التعيسة في حياتها.

راقبتهما عواطف بنظرات حنونة شاكرة نعم الله على ابنة أخيها اليتيمة، كانت تخشى من مصيرها المجهول إن حدث لها شيء وبقيت هي بمفردها، تنهدت بارتياك كبير فقد رزقها الله بزوج محب سيحميها من تلك الشوكة التي يمكن أن تؤذيها، وعلى النقيض تمامًا كانت أعينها المحتقنة تكاد تحرقها كليًا لمجرد التطلع إليهما، كظمت غضبها في نفسها منتظرة رحيله لتثور في وجهها متيقنة أنها السارقة التي سلبته منها بقناع براءتها المزيف.

مسح منذر على وجهها برفق مضيفًا بجدية لطيفة: -بيتهيألي الوقت كده اتأخر، ومايصحش أفضل هنا
هزت رأسها هامسة بخجل: -أها
تابع قائلاً بابتسامة عذبة: -إن شاء الله نظبط الأمور كلها، ونتجمع في بيت واحد قريب!
خجلت أكثر من عبارته تلك، فأخفضت نظراتها متحرجة منه، فرك مؤخرة عنقه بتوتر طفيف، ثم مال عليها برأسه هامسًا:
-تصبحي على خير
عضت على شفتها السفلى قائلة بصوت خافت: -وانت من أهله يا أستاذ منذر!

عقد ما بين حاجبيه مستنكرًا ردها الرسمي وهو يقول: -أستاذ منذر! بعد ده كله أستاذ، ينفع كده
ارتكبت أكثر من عتابه اللطيف، وتعللت قائلة بتوتر عجيب: -ماهو أصل. يعني..
رد عليها بهدوء جاد: -مايصحش، شلي التكليف، احنا خلاص مرتبطين ببعض، يعني ينفع أناديكي آنسة أسيف؟
حركت رأسها بالنفي هامسة: -لأ
غمز لها مرددًا بمرح: -اشمعنى أنا بقى
همست بخجل وهي ترمش بعينيها: -ماشي
سألها عابثًا باستمتاع: -ماشي ايه؟

أخفضت نبرتها على الأخير وهي تجيبه: -ماشي يا منذر
فرك مقدمة رأسه مازحًا: -ماسمعتش حاجة، جايز الدوشة ملغوشة شويتين!
ابتسمت له وهي تبادله نظرات دافئة، فتابع مؤكداً: -عاوزك تحافظي على الفستان ده لحد ليلة دخلتنا ماشي؟
خجلت كثيرًا من تلميحه الصريح، ونكست رأسها بحياء من مجرد التفكير في أمر كهذا، تفهم موقفها قائلاً بابتسامة عذبة:
-أشوفك على خير يا حبيبتي، سلامو عليكم!

أمسك بكف يدها مجددًا، ورفعه إلى فمه ليودعها بقبلة صغيرة عليه، ثم أولاها ظهره منصرفًا من الغرفة، بقيت أعينها متعلقة به، مستشعرة تلك الدقات العنيفة التي تكاد تخرج قلبها من موضعه، تحرك في اتجاه عمتها متنحنحًا بخشونة وهو يقول:
-متشكر يا ست عواطف، تصبحوا على خير!
حانت منه التفاتة سريعة على وجه نيرمين المتشنج، فرأى عبوسًا واضحًا عليه، ورغم ذلك تجاهلها متحركًا نحو باب المنزل، اصطحبته عواطف مودعة إياه بود:.

-نورتنا يا ابني، مع السلامة!
أغلقت الباب برفق خلفه واستدارت باحثة بعينيها عن ابنتها فلم تجدها، لكن صوتها الحاد المنفعل اخترق أذنيها لينقبض قلبها توجسًا مما سيحدث من شجار متوقع مع ابنة أخيها، أسرعت في خطواتها لتجدها قد اقتحمت غرفة الضيوف هادرة بصراخ متعصب:
-عرفتي تلعبيها صح، ووقعتيه، طلعتي داهية!
اغتاظت أسيف من أسلوبها الهجومي الغير مبرر عليها، فدافعت عن نفسها صائحة: -احترمي نفسك، ومتكلميش كده عني!

لوحت نيرمين بذراعها في الهواء صارخة بتهكم: -الشويتين دول تقدري تضحكي بيهم على أي حد إلا أنا!
تدخلت عواطف بينهما قائلة بتوسل: -خلاص يا بنات، اهدوا كده!
صرخت فيها نيرمين بتشنج حاد: -لأ مش خلاص!
دفعت والدتها بذراعها لتصبح في مواجهة أسيف مواصلة صراخها العنيف: -اشمعنى هي تاخد كل حاجة وأنا لأ؟!
تحدتها أسيف بعصبية مدافعة عن نفسها: -وأنا خدت منك ايه؟
استجمعت قوتها لتضيف عن عمد: -أنا بأحبه! سمعاني يا نيرمين!

كركرت نيرمين ضاحكة بطريقة مستفزة لتتوقف فجأة عن الضحك هاتفة باستنكار ساخط: -بتحبيه؟ وده من امتى؟
نظرت لها شزرًا قبل أن تكمل بوضاعة: -تلاقيكي بس بعتي نفسك بالرخيص، ماهو دفع فيكي كتير!
لم تتحمل أسيف المزيد من عباراتها اللاذعة المسيئة إلى شخصها، فصرخت بها بانفعال كبير:
-اخرسي!
وضعت عواطف يديها على أذنيها صائحة بنفاذ صبر: -بس كفاية انتو الاتنين!

هجمت نيرمين عليها محاولة انتزاع ثوب عرسها منها جبرًا وهي تصرخ بجنون: -الفستان ده كان لازم أنا اللي ألبسه مش انتي!
تفاجأت من فعلتها المباغتة ومن هجومها الضاري عليها ورغبتها العارمة في تمزيقه عنوة، فجاهدت لإبعاد يديها عنها مرددة بصراخ:
-سبيه، شيلي ايدك من عليه!
تشبثت أكثر به منتوية نزعه غارزة أظافرها فيه وهي تقول بجموح: -انتي سرقتيه مني، ده بتاعي يا خطافة الرجالة!

دفعتها أسيف بكل قوتها بعيدًا عنها صارخة فيها: -لمي نفسك!
لكن لم تتركها الأخيرة بسهولة، بل استمرت في هجومها الضاري عليها، اقتحمت بسمة الغرفة على إثر صراخهما العنيف، فاندهشت من تلاحمهما الجسدي الشرس، فاندفعت بلا وعي نحوهما محاولة بيأس التفريق بينهما هادرة:
-نيرمين كفاية كده!
توجست أسيف من تلك الشراسة المنبعثة منها، وخافت كثيرًا من التمزق الوشيك لثوبها من شدة جذبه، فصاحت بهلع:
-الفستان هيتقطع!

انهالت نيرمين بسباب لاذع عليها مواصلة انتزاع أطرافه منها: -انتي حرامية، زبالة..!
التفت عواطف حول ابنتها واضعة يديها على كتفيها محاولة إبعادها عنها وهي تتوسلها: -كفاية يا نيرمين، مايصحش كده!
لم يصمد الثوب كثيرًا أمام تلك الشراسة العنيفة فتمزقت بعض أجزائه وتشوهت معالمه الرقيقة، صرخت أسيف بهلع مصدوم مما حدث له، وهوى قلبها في قدميها صارخة ببكاء:
-فستاني.

قبضت نيرمين على البقايا المقطعة بأناملها مرددة بحنق مغلول وهي تحدجها بنظراتها العدائية:
-ربنا يحرق قلبك زي ما حرقتي قلبي ووجعتيني!
انهارت قدمي أسيف، فجثت على ركبتيها مجهشة ببكاء مرير وهي تهتف بلا وعي: -أنا معملتش حاجة، معملتش حاجة!
احتضنتها بسمة بذراعيها محاولة تهدئتها، ورمقت أختها بنظرات حقودة مستنكرة فعلتها الهوجاء معها غير عابئة بما خلفته من أثار نفسية سيئة عليها،.

تقطعت أنفاس أسيف وهي تردد متسائلة بحسرة متأملة ثوبها الممزق: -ليه مستكترة عليا أفرح؟ ليه؟
أسندت بسمة رأسها عليها وهي تضمها أكثر مضيفة برجاء مستعطف: -اهدي يا حبيبتي، كله هايتصلح!
قبلتها من رأسها متابعة بتبرير مزعوج: -هي كده أنانية! بتكره تلاقي حد غيرها فرحان!

لم تعلق عليها أسيف وواصلت بكائها المحترق على ثوبها الذي فسدت، لم يكن بتلك الأهمية إلا عندما أوصاها منذر عليه وكأنه كنزه الغالي، ها قد خذلته في أول وعد طلبه منها، فبماذا ستبرر له تمزيقه؟ زاد بكائها المتحسر، وتحول وجهها من الإشراق للقهر والانكسار.

اندفعت كالثور الهائج إلى داخل غرفتها واضعة يديها بقوة على رأسها الذي كاد ينفجر من شدة الألم المسيطر عليه بفعل ثورتها المهتاجة، أرادت أن تفتك بها، أن تنبش بلحمها كي تمزقها إربًا، كزت على أسنانها صارخة:
-اشمعنى هي؟ نافوخي هاينفجر منها؟!
أخرجت صرخة عنيفة من صدرها متابعة بصوتها الهادر: -اشمعنى أنا اللي أفضل طول عمري في القرف ومحدش يحبني؟ ليه هو حبها وأنا لأ؟

فزعت الرضيعة من صراخها المتواصل، فبكت عفويًا من خوفها لكنها لم تكترث بها، أهملتها، وتحركت بانفعال في أرجاء غرفتها، تبعتها والدتها معنفة إياها بنبرة محتدة:
-ايه اللي عملتيه ده؟
التفتت ناحيتها صارخة باهتياج: -محدش يكلمني السعادي! سبوني في حالي!
نظرت عواطف إليها باشمئزاز منفر، ثم تحركت أعينها نحو الرضيعة التي انفطر قلبها من البكاء الخائف، فخطت نحوها تضمها إلى صدرها وهي تقول بعتاب:.

-منك لله يا شيخة، عكننتي علينا كلنا!
قذفت نيرمين بكل ماهو موضوع على تسريحتها الخاصة ليتحطم أغلبه وهي تردد: -سيبوني لوحدي، سيبوني!
نظرت لها عواطف بازدراء متمتمة: -حسبي الله ونعم الوكيل!

خرجت من الغرفة تهدهد الرضيعة بعيدًا عن صياحها المرعب لها، فاندفعت نيرمين خلفها صافقة الباب بعنف لتستند بظهرها عليه لاطمة على صدغيها ووجهها بتحسر أكبر، فقدت أعصابها كليًا، فلتت زمام الأمور من يديها، ولم يعد باستطاعتها السيطرة على حالها، تحولت للشراسة والهياج، وبدا وجود الرضيعة معها منذرًا بخطر كبير، فكان تصرف والدتها هو الأسلم حاليًا.

قضت أهم ليلة في حياتها تبكي على ذنب لم تقترفه كما اتهمتها علنًا، تسرب حبه إليها رويدًا رويدًا حتى تشبع قلبها به، ولم تجرؤ على الاعتراف به إلا حينما تأكدت من مشاعرها نحوه وبعد أن بات ارتباطهما رسميًا، فأصبح له مذاقه الخاص، لكن تلك المقيتة الجاحدة أفسدت يومها بكم الشتائم والافتراءات الباطلة متهمة إياها بجرم لم ترتكبه لتتحول ذكراها الحلوة إلى ليلة تعيسة تضاف إلى قاموس حزنها.

حاولت بسمة التهوين عليها معللة أسباب تهورها المتعصب، لكنها رفضت الإصغاء لها، فأكثر ما قهرها هو تمزيق ثوب زفافها الذي أهداها إياه، لملمت بقاياه المقطعة معًا ووضعتهم في حقيبة بلاستيكية أسندتها في حضنها رافضة تركه، أشفقت عليها ابنة عمتها قائلة برجاء:
-إن شاء الله هايرجع زي الأول وأحسن، احنا هاندويه عند الخياط و..
قاطعتها أسيف بصوت متهدج باكٍ: -مش هايتصلح خلاص! ممكن تسيبني لو سمحتي!

زاد نحيبها المتحسر عليه، أتعب قلبها شعورها بالخذلان لتفريطها في وعدها الأول له، بينما اعتقدت بسمة أنه نذير شؤوم حدوث ذلك الأمر عمدًا، لم يكن بيدها أي حيلة، فاكتفت بالصمت علها تهدأ وتستكين لحالها، رفعت عينيها المتورمتين من كثرة البكاء نحوها متسائلة بعجز:
-ليه تكسر قلبي؟ أنا عملتلها ايه؟

ضغطت بسمة على شفتيها غير قادرة على الرد بشفافية عليها، فأختها مخطئة بكل المقاييس، وتجاوزت حدود المقبول بكثير، هي وضعت الجميع في موقف محرج بدون داعٍ، وغلفت الأجواء الاحتفالية السعيدة بسحب الحزن الكثيفة.

ضمت أسيف الحقيبة أكثر إلى صدرها، وأغمضت عينيها رافضة تركها من أحضانها، دثرتها ابنة عمتها بالغطاء محاولة التفكير في حل ما لتلك المسألة، أضاء عقلها بفكرة ما، ترددت للحظة في تنفيذها فعليًا لكونها شبه جريئة، لكنها ستساعدها لو قليلاً في التهوين عليها.

خرجت من الغرفة بهدوء حذر موصدة الباب خلفها بعد أن رمقتها بنظرة أخيرة أسفة عليها، اتجهت إلى المطبخ ومعها هاتفها المحمول، ثم تلفتت حولها لتتأكد من هدوء الأجواء المحيطة بها، أخفضت نظراتها نحو شاشة هاتفها عابثة بأزراره، ووضعته على أذنها منتظرة بترقب الرد عليها، همست بصوت خفيض حذر:
-ألو. دياب..!
انتظروا رواية كلارا ورواية ذئاب لا تعرف الحب في معرض القاهرة الدولي للكتاب من 27 يناير.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة