قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثمانون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثمانون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثمانون

صر على استضافته - مع أغلب رجال عائلته - في داره الكبير ليرتدي ثيابه هناك، وأظهر ترحيبًا لائقًا به وبكرمه المعروف كعمدة لتلك البلدة، فأثنى الحاج طه على أخلاقه الكيّسة وطبائعه الخلوقة، انتهى منذر من ارتداء بدلته الداكنة، واستعان بأخيه ليعقد له رابطة العنق، فبدا – رغم صلابته – مهيبًا وجاذبًا للأنظار.
هتف دياب متحمسًا وهو يضبط ياقته: -مبروك يا عريس!
رد عليه منذر بهدوء: -عقبالك يا دياب!

تنهد مضيفًا بإحباط طفيف: -كثف دعا وحياة أبوك، لأحسن العملية ناشفة على الأخر معايا، معقدة وكلها كلاكيع
ربت على كتفه بقوة مرددًا بثقة: -بتيجي على أهون سبب!
رفع دياب كفيه للأعلى هاتفًا: -يا ميسر يا رب!
صاح طه قائلاً بجدية ليثير انتباههما: -يالا يا شباب، كده احنا هنتأخر
التفت منذر ناحيته ليرد مبتسمًا: -على طول يا حاج!

تحرك بخطوات ثابتة نحوه، ثم انحنى على كفه الممسك برأس عكازه ليقبله بامتنان كبير، فمسح والده على رأسه وظهره قائلاً:
-مبروك يا ابني، وربنا يجعلها جوازة دايمة إن شاء الله
اعتدل في وقفته مرددًا: -يا رب أمين
-عرفت تختار، هي بنت كويسة ومتربية، وتعتبر يعني من العيلة
-طالما انت راضي عني يا حاج فأنا مبسوط
-ربنا يراضيك دايمًا.

سبقهما دياب ليشير بيده للسائق الذي استأجر حافلته لإحضار بعض الأقارب والمعارف لحضور الحفل بتتبعه كي يصل إلى وجهته دون أن يضل طريقه في تلك البلدة الغريبة عليه، فامتثل الأخير له واستعد للتحرك خلفه،
سار منذر بجوار والده يتبادلان عبارات خافتة حتى ركبا السيارة، لحق بهما الحاج إسماعيل وبصحبته العمدة، وعدد من رجال القرية، وبدأ الجميع بالتحرك نحو السرادق كل على حسب وسيلة مواصلاته.

تعالت أصوات الزغاريد فخفق قلبها بقوة معتقدة أنه قد جاء بالخارج، توترت أنفاسها وازدردت ريقها بارتباك كبير، اشرأبت بعنقها للأعلى محاولة رؤيته، لكنها مجرد تعبيرات عادية عن فرحة النساء بالعروس المتواجدة بالمنزل، خبا حماسها، وهدأ توترها لتصبح كما كانت شبه ساكنة.
اقتربت منها بسمة بخطوات متهادية هاتفة بانفعال متحمس: -ها يا سوفي، ايه رأيك في فستاني؟

رفعت أسيف عينيها نحوها لتمعن النظر في ثوبها اللامع الذي ارتدته من اللون البترولي، كان متماشيًا مع نحافتها وحجابها الزاهي، ضيقًا من خصره ومتسعًا من الأسفل، وأكمامه فضفاضة وتضيق عند الرسغين، ابتسمت لها مبدية إعجابها به وهي تقول:
-شكله حلو عليكي
ردت عليها بسمة بلهو: -بس مش يجي حاجة جمبك يا عروسة!

اكتفت بالابتسام الخجل لها، لكن سريعًا ما اختفت من على محياها حينما رأت نيرمين تقترب منها لترمقها بنظراتها الساخطة، أدارت وجهها للجانب متحاشية التشاجر معها، فهي متيقنة أنها ستفتعل شيء ما لتثير أعصابها المشدودة، وهي لن تتحمل المزيد من التهكمات خاصة في ليلة متوترة كهذه.
انتفض قلبها بين ضلوعها حينما سمعت أبواق السيارات، أحست بدقاته العنيفة تخترق أذانها فارتكبت بشدة، واضطربت حواسها، هتفت بسمة متحمسة:.

-الظاهر العريس وصل!
صدحت أصوات الزغاريد الممزوجة بأصوات المزامير لتؤكد صدق حدسها، فتلاحقت ضربات فؤادها من تلك الحماسة المتدفقة في الأدرينالين المندفع في شرايينها، لا تعرف إن كان اضطرابها دليلاً على الفرح أم ماذا، لكنها حتمًا لم تكن مزعوجة بما يحدث لها.

سدت بسمة الطريق بجسدها لتمنعه من المرور ومن رؤية عروسه، رأها دياب أولاً فتوهجت عيناه بوميض غريب، امتعضت ملامحه إلى حد ما لكونها ستظهر أمام الغرباء بصورة جميلة لافتة للأنظار، فربما تثير في نفس شاب ما خيالات متهورة أو أفكارًا حمقاء مخجلة نحوها، سيطر عليه شعور الغيرة فجاهد كثيرًا ليبدو طبيعيًا، لكن عبرات تعبيراته عن حاله
تعمدت فرد ذراعيها هاتفة بمرح: -عروستنا لسه قدامها شوية.

عقد منذر ما بين حاجبيه قائلاً باستغراب كبير: -مش معقول ماتكونش خلصت!
لوت ثغرها قائلة بمكر وهي توميء برأسها: -اها، لسه!
تساءل بغرابة وهو يدير رأسه نحو أخيه: -ازاي؟ ده المأذون جه!
جمد دياب أنظاره على بسمة قائلاً بتجهم مزعوج: -شكلها بتهزر، يا أبلة جرس الفسحة ضرب من زمان! خلي العريس يشوف عروسته!
نظرت له بضيق مبدية عدم تقبلها من طريقته في الحديث، وردت باقتضاب: -ظريف!

أبعد نظراته المحتقنة عنها مطلقًا زفيرًا حادًا من صدره باذلاً مجهودًا مضنيًا في ضبط هدوئه، تنحت للجانب لتفسح الطريق لمنذر ليلج إلى الداخل فقابلته والدته صائحة بسعادة:
-مبروك يا حبيبي، ربنا يسعدك يا رب
احتضنها بذراعيه للحظات، ثم تراجع مبتعدًا عنها، وانحنى على رأسها مقبلاً إياها قائلاً:
-الله يبارك فيكي يا أمي!

مسحت على وجهه بكفها المجعد، فأمسك به وطبع قبلة صغيرة عليه قبل أن يتركها ليكمل خطاه نحو الداخل متلهفًا لرؤيتها، اشتاقت إليها عيناه، خفق قلبه بقوة حينما لمح تلك الهالة البيضاء التي تغلفها، أهذا سحر الحب الذي يجعلنا نرى ما نحب كالملائكة؟
ردد بإعجاب كبير: -بسم الله تبارك الخلاق!

خجلت من نظراته المتطلعة بعشق إليها، شعرت بسخونة شديدة تجتاحها من لا شيء، بتوتر رهيب يعصف بخلاياها الساكنة، أتلك هي بوصلة الحب التي تدل قلوبنا على نصفنا الأخر، فنضطرب خجلاً من اكتشاف أمرنا؟ أخفضت رأسها حرجًا منه رامشة بعينيها بحياء كبير، اقترب منها ممررًا عيناه ببطء على كل جزء فيها، أصبحت لهفته مضاعفة نحوها، لم يصدق أنها ستصبح زوجته، سيكتب اسمها إلى جوار اسمه وتقترن به.

تقوس فمه بابتسامة عذبة وهو يقول: -مبروك!
همست بنبرة غير مسموعة: -الله يبارك فيك!
تحسس رأسه الممشط جيدًا مداعبًا: -ولو إني مش سامع حاجة من الدوشة، بس أكيد مبسوطة؟ صح؟
عضت على شفتها السفلى بخجل أكبر، واكتفت بإظهار ابتسامة صغيرة على ثغرها.
سحب منذر نفسًا مطولاً حرره دفعة واحدة وهو يقول بجدية: -أسيف!
انتبهت لصوته الذي تحول للجدية، وحدقت فيه بارتباك قليل، عمق نظراته نحوها متابعًا بثبات:.

-أوعدك قبل ما نكتب الكتاب إني مش هاخلي حاجة تضايقك أو تزعلك طول ما إنتي معايا، ولو حبتي لما نرجع ن..
استشعرت من طريقته التلميح إلى رغبته في الانفصال عنها حينما تنتهي الأمور هنا، ليس أمرًا مشوقًا على الإطلاق، خفق قلبها خوفًا، وقبل أن يضيف كلمة أخرى قاطعته بتوتر:
-ماتكملش!
استغرب كثيرًا مما قالته، فسألها بعدم تصديق: -ايه؟

حركت شفتيها لتجيبه لكن منعها من الكلام هتاف والدته الصائح: -يالا يا ابني، الناس مستنينا!
التفت برأسه للخلف مبديًا انزعاجه من مجيئها في تلك اللحظة تحديدًا، ورد بعبوس: -ماشي جايين، مش تدونا فرصة نتكلم!
عاود النظر إليها متسائلاً بفضول: -كنتي هاتقولي ايه؟
ابتسمت بخجل وهي ترد: -يالا بينا!

زفر مستاءً من ضياع فرصة ثمينة لسماع ما تريد قوله، لكن استشعر قلبه شيئًا مطمئنًا منها، نظراتها نحوه، ابتساماتها، حتى عيونها، كل شيء يوحي بأمر محمود، تمنى في نفسه أن يَصدُق حدسه، ويحمل قلبها مشاعرًا ما إليه حتى وإن كانت قليلة، ثنى ذراعه لتتأبط هي فيه، ارتجفت أطرافها من شدة الحماسة وهي تعلق رسغها به، تحركت بحذر متمهل معه، وسار للأمام محدقًا بها بنظرات متيمة.

تعالت الزغاريد مجددًا طوال سيرهما حتى السيارة، واعتلت أصوات المزامير والدفوف المصحوبة بالأغاني المهنئة بالأفراح، سبقها منذر بخطوة ليفتح لها الباب، وتحركت بحذر لتجلس بالمقعد الخلفي ساحبة ذيل ثوبها معها، وما إن تأكد من جلوسها حتى صفق الباب برفق ليدور حول السيارة لكي يحتل مكانه إلى جوارها.

تفاجأت بتلك الأضواء البارقة التي زينت الطريق الزراعي وصولاً إلى ذلك المكان الذي حبست أنفاسها حينما خمنت وجهتها التالية، حدقت بجمود فيه، لم يطرأ ببالها مطلقًا أن تعود إلى أرض والدها، بل أن ترى سرادق الحفل مقامًا عليه وبالقرب من تلك الشجرة التي ضمت الكثير من ذكريات طفولتها وصباها، تهدجت أنفاسها متأثرة، ولمعت عيناها ببريق واضح، أحس منذر بما يختلج صدرها من مشاعر مختلطة، فمال عليها برأسه قائلاً:.

-مكانش ينفع الفرح يتعمل إلا هنا!
التفتت ناحيته برأسها لتحدق مباشرة في عينيه العاشقتين لها، خانتها العبرات التي تجمعت بكثافة عند طرفي مقلتيها، وانهمرت سريعًا على وجنتيها مبللة كلتاهما بغزارة غير مكترثة بمساحيق التجميل التي يمكن أن تفسد من بكائها، مد منذر أنامله بحذر ماسحًا بعضهم برفق وهو يضيف مبتسمًا:
-أحلامك أوامر بالنسبالي!

عجزت عن إيجاد الكلمات المناسبة لشكره، لقد حقق لها حلمًا تمنته في حياة أبويها، وظنت أنه ذهب مع رحيلهما، لكنه صار واقعًا بوجوده معها، التفتت برأسها لتحدق في النافذة من جديد، وارتسم على ثغرها ابتسامة أكثر اتساعًا امتزجت بعبراتها الفرحة، لم يرغب سوى في رؤيتها سعيدة تضحك، لا تلقي بالاً لهموم الحياة، يكفيه أن تبتسم فتشرق الحياة من حوله، وتتحول متاعبها إلى أمور هينة يمكن تحملها.

توقفت السيارة عند مقدمة السرادق، وصدحت أكثر أصوات الدفوف والطبول المتراصة على الجانبين، لم تستطع منع نفسها من البكاء فرحًا، هي تعيش يومًا مميزًا في حياتها، ذكرى جديدة ستحفر في عقلها للأبد، ترجلت منها حينما فتح بابها لها، وحدقت فيه بنظرات ممتنة، ابتسم لها ابتسامة عذبة، واصطحبها بتمهل إلى الداخل.

ركض الصغيران يحيى وأروى أمامهما قاذفين الورود على وجهيهما وهما يلهوان لتتسارع أنفاسها من فرط السعادة، استدارت للجانب لتنظر إلى ذلك الذي سلب قلبها رغمًا عنها بفرحة جلية، قبض بأنامله على كفها ضاغطًا عليه برفق قائلاً بصوت خفيض:
-مبروك!

واصلا سيرهما حتى بلغا الكوشة الموضوعة في أحد الأركان ليجلس كلاً منهما على مقعد منفصل، تجمع حولهما الأحبة والمقربين فيما عدا نيرمين التي جلست على المقعد المواجه لهما تحدجهما بنظراتها الغاضبة، نيران غيرتها تآكلها، كم تمنت أن تحظى به زوجًا يحبها وتحبه، يلاطفها بمعسول الكلام فتغدق عليه من حبها الفطري، لكن بقي لها فقط أحلام مؤودة.

هتف الحاج إسماعيل قائلاً بصوت جهوري: -يالا يا أستاذ منذر، شرفنا مع الرجالة عشان نكتب الكتاب
لوح له بيده قبل أن ينهض من مقعده متوجهًا نحوه، وقبل أن يبتعد عنها رمقها بنظرة أخيرة عاشقة شعرت بها تخترقها ببساطة لتصيب قلبها وتحمسه.
بدأت مراسم عقد القران بهدوء تام، وقبل أن يشرع المأذون في إتمام باقي الإجراءات المعروفة قاطعه منذر قائلاً بجدية:
-لازم الحاج فتحي يكون وكيل العروسة!

اندهش الجميع من مطلبه الغريب، واستدار برأسه مسلطًا أنظاره على قريبها المتجهم الوجه متسائلاً بنبرة موحية:
-ولا ايه رأيك يا حاج، مش إنت برضوه وكيلها؟!
أشار له بحاجبيه مؤكدًا مغزى عبارته الخفي، فامتعض وجه فتحي على الأخير، ولم يجد بدًا من الاعتراض، ضغط على فمه هاتفًا بصوت متحشرج:
-طبعًا، ده أنا خالها!

شهقت أسيف مصدومة مما سمعته توًا، لم تكن أوهامًا أو تخيلات اختلقها عقلها، لقد أعلن قريبها صراحةً أمام الجميع أنه وكيلها الشرعي في عقد القران ليقضي بهذا الحديث الجاد على أخر ذرة نزاع بينهما مؤكدًا على عودة علاقات الود معها، حركت عينيها نحو منذر لترمقه بنظرات مذهولة غير مصدقة ما يفعله من أجلها، كل لحظة يثبت لها أنه جدير بها، أنه يستحقها ويحبها حبًا جمًا، بل يثبت لها أيضًا أنها كانت مخطئة في حقه منذ البداية، لم يكن بالبشاعة أو الطمع الذي تخيلته عليه، بل هو أكثر الرجال شهامة ورجولة..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة