قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

استغربت أسيف من ترديد تلك السيدة الغامضة لتلك العبارة بإندهاش كبير، وسريعاً استطاعت أن تخمن هويتها، وتأكدت ظنونها حينما تابعت عواطف قائلة بصوت شبه مرتبك:
-أعذريني يا بنتي، أنا. أنا أبقى عمتك عواطف!
همست أسيف بنبرة خفيضة وقد تشكلت علامات الذهول على محياها: -عمتي!
تابعت عواطف موضحة بنبرة متريثة: -ايوه شقيقة أبوكي الله يرحمه!
ابتسمت أسيف قائلة بهدوء: -أهلا يا عمتي!

تنفست عواطف الصعداء لإسترسال ابنة أخيها في الحديث الودي معها، ولم تكن كوالدتها حذرة في ردودها.
أكملت تعارفها متساءلة بفضول: -أهلا بيكي يا بنتي، قوليلي انتي عندك اخوات تانيين؟
أجابتها أسيف بنبرة رقيقة: -لأ، مافيش إلا أنا
هتفت عواطف مرددة: -ربنا يحفظك، ويباركلك في عمرك
-شكراً
سألتها مجدداً بإهتمام: -وإزي أمك حنان؟
ردت أسيف قائلة بصوت هاديء: -الحمدلله بخير.

تساءلت عواطف بفضول بائن في نبرتها: -هي لسه حالتها زي ما هي؟
استغربت أسيف من سؤالها هذا، فقد بدا مريباً نوعاً ما بالنسبة لها، وردت عليها بتوجس قليل:
-حضرتك تقصدي ايه؟
ارتبكت عواطف من زلة لسانها، وردت بتلعثم ظاهر: -هه. آآ. ولا حاجة! أنا بس بأطمن عليها!
أجابتها أسيف بحرص: -الحمدلله في نعمة!
أضافت عواطف قائلة بأسف: -أنا. أنا يا بنتي معرفتش باللي حصل وموت المرحوم إلا لما آآ..

هتفت أسيف قائلة بتفهم: -اها. ماما قالتلي!
تابعت عواطف مضيفة بنبرة مواسية: -ربنا يرحمه ويغفرله ويصبركم على فراقه
ابتلعت أسيف غصة مريرة في جوفها، فقد كانت تشتاق لأبيها كثيراً، وتنهدت بعمق و بصوت مسموع وهي تردد بحزن:
-يا رب أمين!
أكملت عواطف قائلة: -حقيقي كان زي أبونا راجل طيب وفي حاله
-أها.

حاولت هي على قدر الإمكان الإطالة في الحديث معها حتى لا تنهي المكالمة في أي لحظة، وبررت موقفها في عدم القيام بواجباتها نحو أخيها الراحل معللة:
-والله لو كنت عرفت من بدري يعني كنت جيت عزيت وأخدت بخاطركم!
ردت عليها أسيف مجاملة: -شكراً، سعيكم مشكور!
هتفت عمتها قائلة بحماس قليل: -أنا نفسي أشوف شكلك، وأتعرف على بنت رياض الغالي وأوصل صلة الرحم مع لحمه!
ابتسمت أسيف بخجل وهي تجيبها: -أكيد إن شاء الله.

أضافت عمتها بإصرار أكبر: -مش كلام والله يا بنتي، القطيعة اللي حصلت زمان مكانتش بخطري ولا بخطره، بس في ايدنا دلوقتي نصلح اللي فات ونرجع حبال الود بينا!
-ربنا ييسر
صمتت عواطف للحظات تفكر في أمر ما، فهي بحاجة للتمهيد لمسألة بيع الدكان القديم، ولكنها لا تعرف كيف تبدأ بالحديث عنه. لذلك جاب ببالها أن تسألها:
-مابتفكروش آآ. تنزلوا من البلد وآآ، وتيجوا مرة عندنا؟
ردت أسيف بنبرة دبلوماسية: -يمكن نيجي قريب!

استشفت عواطف من نبرتها نيتها للقدوم، فهتفت بإلحاح لتؤكد على ترحيبها بهما: -لو عرفتوا، تعالوا عندي، العنوان سهل مايتوهش!
شعرت أسيف أنها ربما تورطت في أمر ما دون الرجوع إلى والدتها، فحاولت إصلاح ما قالته سريعاً مرددة:
-ربنا يسهل، بس أشوف ماما رأيها إيه الأول لأن حركتها قليلة وصحتها على أدها!
وافقتها عمتها الرأي قائلة: -اه يا حبيبتي، وماله، وصدقيني يمكن كمان تلاقي دكاترة كويسين هنا!

عضت ابنة أخيها على شفتها السفلى متمتمة: -هانشوف إن شاء الله!
تساءلت عواطف بإهتمام: -طيب أمك صاحية أكلمها؟
ردت أسيف نافية: -مش عارفة، لحظة اشوفهالك
-خدي راحتك!
وبالفعل تركت أسيف سماعة الهاتف، وتحركت في اتجاه غرفة والدتها.
تسللت بخفوت إليها، وإشرأبت بعنقها للأعلى لتتفقدها.

كانت أمها غافية، فرفضت إيقاظها قبل أن تحصل على قسطاً من الراحة، لذا عاودت أدراجها مجدداً لغرفة المكتب، وأمسكت بالسماعة لترد قائلة بجدية قليلة:
-للأسف ماما نايمة، وأنا مش هاينفع أصحيها!
ردت عليها عواطف بتفهم واضح: -خليها، ابقي بس سلميلي عليها أما تصحى
-الله يسلمك!
أرادت عواطف ألا تنهي المكالمة دون التلميح إلى مسألة بيع الدكان، أو على القليل الإشارة إلى وجوده، فمهدت إليه قائلة بجدية:.

-اه قبل ما أنسى بلغيها إن حقها وحقك في دكان المرحوم محفوظ!
استغربت أسيف من تلك العبارة، وغمغمت بتعجب بعد أن زاد انعقاد حاجبيها: -دكان!
أضافت عواطف قائلة بغموض: -ايوه، هي عارفاه، دكان جدك الله يرحمه
أثارت تلك الكلمات المقتضبة ريبتها، وأشعلت روح الفضول فيها لمعرفة المزيد عن ذلك الدكان القديم.
ومع ذلك لم تجرؤ على سؤالها دون العودة لوالدتها قبل أي شيء.
ولهذا ردت بإيجاز: -تمام، هاوصلها رسالتك!

شكرتها عواطف على أسلوبها الرقيق في التعامل قائلة: -تسلمي يا بنتي، أشوفك على خير إن شاء الله!
تشكلت بسمة لطيفة على ثغرها وهي ترد: -مع السلامة يا عمتي!
وضعت أسيف السماعة في مكانها، وفركت طرف ذقنها بكفها وهي تفكر بتعمق فيما يكمن وراء ذلك الدكان..
على الجانب الأخر، تنفست عواطف بإرتياح وهي تعيد إسناد سماعة الهاتف. وتمتمت مع نفسها بكلمات شاكرة للمولى.

انتبهت هي لصوت بسمة وهي تسألها بفضول: -مين دي اللي بترغي معاها من الصبح؟
التفتت عواطف نحوها، وأجابتها بنبرة عادية: -بنت خالك!
رفعت بسمة حاجبها الأيسر للأعلى، وردت بتهكم: -بنت خالي، نكتة دي؟
هزت عواطف رأسها نافية، وهتفت مدافعة بعبوس: -لأ، خالك رياض الله يرحمه طلع مخلف وعنده بنت!
لوت بسمة ثغرها للجانب مرددة بسخط: -اها، قولتلي خالي اللي طلع من البخت عنده عيال، طيب!

نهرتها والدتها على أسلوبها الساخر في الحديث قائلة بحدة: -يا بت بطلي نأرزة على خلق الله!
حدقت بسمة في أمها بضيق قليل، واحتجت بتذمر: -هو أنا عملت حاجة!
ثم انتبهت كلتاهما لصوت دقات عنيفة متتالية على باب المنزل، فصاحت عواطف بصوت آمر:
-شوفي مين بيرزع الباب كده!
تحركت بسمة نحو باب المنزل مبررة بعدم اكتراث: -من غير ما أشوف، هو في غيرها، ست نيرمين!

أمسكت بالمقبض وأدارته لتجد أختها الكبرى تقف أمامها ووجهها منتفخ للغاية، وعينيها حمراوتان بدرجة ملحوظة، وبالطبع رضيعتها تصرخ ببكاء حاد على كتفها.
تنحت للجانب قائلة بتبرم: -مش بأقولك يا ماما!
دفعتها نيرمين من كتفها وهي تمرق للداخل قائلة بصوت متشنج وهي تقاوم بشراسة رغبتها في البكاء:
-اوعي من سكتي يا بسمة السعادي، أنا عفاريت الدنيا بتتنطط قدام وشي ومش طايقة حد!

تابعت بسمة قائلة بسخط وهي تضع يدها على منتصف خصرها: -بنتك جاية بزعابيبعها!
توجست عواطف خيفة من هيئة ابنتها المزرية، فقد كانت ثيابها غير مهندمة، وأعينها متورمة، بالإضافة إلى عصبيتها الزائدة.
حدقت في حقيبة السفر التي تحملها في يدها الأخرى، وسألتها بخوف وهي تتفرسها: -مالك يا نيرمين؟ ايه اللي حصل؟!

ألقت نيرمين بجسدها على الأريكة بعد أن تركت حقيبتها، وأسندت الرضيعة إلى جوارها، ثم حلت حجاب رأسها عنها ليبرز شعرها الهائج من أسفله، وألقت به دون اهتمام على المسند، ثم نفخت بصوت مكظوم مجيبة إياها:
-اه، ابن ال، طلقني ورماني في الشارع!
لطمت عواطف على صدرها بهلع، وشهقت مرددة بصدمة كبيرة: -يا نصيبتي.

تابعت نيرمين قائلة بصراخ مهدد بعد أن اصطبغ وجهها كلياً بحمرة منفعلة: -وربنا ما سيباه، وحياة ولادي لهدفعه التمن هو وأهله!
لم تستطع عواطف تحمل هول ذلك الخبر الكارثي، فجلست على الأريكة المجاورة لها، ثم هزت جسدها للجانبين مستنكرة ما حدث.
ضربت فخذيها بكفي يدها وهي تردد بتحسر بائن عليها: -لا حول ولا قوة إلا بالله، دي التالتة يا بنتي!

استشاطت نظرات نيرمين للغاية، فقد كانت والدتها محقة في تلك المسألة، فهي بالفعل قد تطلقت للمرة الثالثة، وأصبح محرم عليها شرعاً الرجوع إلى زوجها.
برزت عروقها الغاضبة من عنقها، وكزت على أسنانها قائلة بغل: -أهوو اللي حصل، كأنه مصدق يعملها!
حدقت عواطف في ابنتها بنظرات نارية متساءلة: -طب ايه خلاه يرمي عليكي اليمين؟!
أجابتها نيرمين بنبرة تحمل الحقد والضغينة: -هو في غيرها! العقربة أمه!

أضافت بسمة قائلة بإزدراء: -أعوذو بالله منها، ولية استغفر الله العظيم، انتي الكسبانة والله!
صاحت نيرمين بنبرة عدائية وهي تشيح بيدها في الهواء: -بس ورب الكعبة ما سيباه، هاطلع عينه هو وأهله، وهاخد حقوقي كاملة منه، مش هو طلقني، يشرب بقى!
سألتها عواطف بنزق: -طب وهدومك وعفشك وآآ..؟
قاطعتها نيرمين قائلة بحنق: -أنا جبت الدهب بس، وهدومي اللي عرفت ألمه وجيت!

ضربت عواطف فخذيها مرددة بعويل: -أنا مش عارفة هلاحق من مين ولا من مين!
تمتمت نيرمين بسبات لاذعة وهي تنزع عنها كنزتها. بينما ظلت الرضيعة تصرخ بصورة هيسترية وأمها تتجاهلها إلى أن يئست من صمتها، فحملتها مجبرة على كتفها، وظلت تهدهدها بإنفعال.
نظرت لها عواطف بأسف، وصاحت فيها بحدة: -قومي خشي على أوضتك وسكتي البت اللي على كتفك
ردت عليها نيرمين بتذمر: -هي على صريخة من صباحية ربنا.

مصمصت عواطف شفتيها مرددة بإستياء: -اه يا كبدي، مفطورة من العياط من اللي حصلها، قومي انتي، وسيبنا نشوف هانعمل ايه في النصيبة دي!
-طيب
قالتها نيرمين وهي تنهض بتثاقل من على الأريكة حاملة رضيعتها على كتفها، وظلت أنظار أمها معلقة بها وهي تفكر بشرود في الكوارث المتتالية التي حلت بإبنتها البكرية.
ولجت جليلة إلى غرفة ابنها دياب لتطمئن على أحواله بعد أن لاحظت عبوسه على مدار الأيام الفائتة.

بحثت عنه سريعاً بعينيها فلم تجده، دققت النظر في الشرفة، فلمحت أدخنة متصاعدة، فتأكدت من وجوده بها.
تحركت بخطوات متمهلة نحو باب الشرفة، ثم وقفت على عتبتها، وابتسمت متساءلة: -قاعد لوحدك ليه؟
كان دياب جالساً بإسترخاء على المقعد، ومسنداً لساقيه على حافة السور، فأنزلهما برفق، واعتدل في جلسته مردداً بصوت شبه متحشرج:
-تعالي يا ست الكل!
ولجت للداخل، وجلست على المقعد الجانبي، ثم حدقت فيه بنظرات متأملة لوجهه.

تعجب هو من نظراتها المسلطة عليه، وسألها بإستغراب: -بتبصلي كده ليه؟
أجابته بضيق: -مش عاجبني أحوالك يا ضنايا
رد عليها بفتور: -ما أنا زي الفل أهوو!
تابعت مرددة بضجر: -أومال مسهم كده ليه، وأديلك كام يوم مش زي عوايدك!
رد عليها بنبرة غير مبالية: -عادي!
تساءلت بفضول قليل لعلها تسبر أغوار عقل ابنها وتعرف فيما يفكر: -هو. حد قالك حاجة ضايقتك؟
حدجها بنظرات قوية متساءلاً بجمود: -حد مين؟ مش فاهم!

ابتلعت ريقها وهي تجيبه بحذر: -أقصد يعني. ولاء!
تجهمت قسمات وجهه، وتحولت نظراته للعدائية وهو يجيبها بإقتضاب: -لأ
سألته مجدداً بإلحاح: -طب في ايه مالك؟
تنهد بصوت مرتفع وهو يرد: -عادي يا أمي، ماتشغليش بالك!
ترددت هي في اخباره بإتصال طليقته السابقة لأكثر من مرة، ولكن لا مفر من إبلاغه، لذا بحرص شديد همست متلعثمة:
-طب. طب هي كانت اتصلت تقولي عن آآ..
احتدت نظراته للغاية، وقاطعها مردداً بإمتعاض: -فلوس، صح؟

أوضحت له قائلة بتريث: -ايوه، بتقولي محتاجة تجيب كام حاجة ليحيى وآآ..
لم يرغب هو في استمرار والدته في الحديث عنها، فمازال القلب يضمر لها كل الكراهية، لذلك قاطعها بتجهم:
-خلاص يا أمي، قفلي على سيرتها الله يكرمك!
ردت عليه جليلة مبررة حديثها بعد أن رأت بوادر العصبية في ابنها: -أنا مابطقهاش أصلاً، وانت عارف ده كويس، بس هانعمل ايه، ماهو كله عشان ابنك وخاطره!

تقوس فمه بتأفف وهو يضيف: -طيب خلاص! هابقى اسيبلك فلوس تبعتيهالها معاه
ابتسم والدته له قائلة بود: -ماشي يا حبيبي، ربنا يكرمك ويراضيك عشانه
-إن شاء الله!
تنحنحت جليلة بصوت خفيض، ثم همست بتردد: -وفي حاجة تانية كمان!
زفر دياب مردداً بنفاذ صبر: -خير؟
أجابته بهدوء مرتبك: -بتقول إن. إن مذاكرة الواد صعبة ومحتاجة تديله درس!

حدج دياب والدته بنظرات قوية، وهتف مستنكراً بإنفعال ظاهر: -نعم! درس، في السن ده، هي بتستهبل ولا ايه، تكونش عاوزة تسوق فيها معايا!
هزت رأسها نافية وهي تجيبه: -لا يا بني، ده هي بتشتكي من مستواه الضعيف، و دروسه مش عارفة تشرحها لانها بالانجليزي، والواد ممكن يسقط في الامتحان!
أضاف دياب قائلاً بسخط وهو يشير بيده في الهواء: -اها، وهي بقى هتاخدها حلوانة في سلوانة، وتجر فلوس على حس الدروس والهجص ده!

نكست جليلة رأسها قائلة بتوجس: -والله ما عارفة أقولك ايه
ضرب دياب بقبضة يده على حافة سور الشرفة بعد أن هب واقفاً من مقعده، وأكمل بغلظة:
-أنا مايكلش معايا كلامها من أوله لأخره، ولو هي عاوزة تدي للواد درس يبقى بمعرفتنا احنا، مش عن طريقها!
رفعت هي أنظارها نحوه، ووافقته الرأي هاتفة: -وماله يا بني، اللي تشوفه!

تابع دياب قائلاً بصوت آمر: -انتي دوري على مُدرسة كده تكون بتفهم، تشرحله كله هنا عندنا، وبلاها خوتة دماغ!
أومأت برأسها بالإيجاب متمتمة: -حاضر!
دس دياب ولاعته في جيبه، وكذلك علبة سجائره – ثم تحرك إلى خارج الشرفة. لاحقته والدته بأنظارها متساءلة بقلق:
-الله! رايح فين؟
التفت برأسه نحوها ليجيبها بصوت جاد: -نازل أشوف الشغل اللي ورايا!
هتفت قائلة بإهتمام: -طيب استنى أعملك شاي ولا آآ..

رفع كفه أمام وجهها مقاطعاً بصلابة: -هابقي أشرب في الوكالة!
ضغطت جليلة على شفتيها لتضيف بهدوء: -براحتك يا بني
انتظرت أسيف استيقاظ والدتها من نومها حتى تبلغها بإتصال عمتها عواطف.
تعجبت الأخيرة من تلك المكالمة الغريبة، وعاتبت على ابنتها عدم إفاقتها. وبدا الإنزعاج ظاهراً على تعابير وجهها.
بررت لها أسيف ما فعلته قائلة بإبتسامة مهذبة: -كنتي حضرتك نايمة لما اتصلت!
ردت عليها حنان بضيق قليل: -برضوه كنتي صحيني.

هتفت أسيف مرددة بهدوء: -مرضتش أزعجك والله يا ماما
تنهدت حنان بعمق لتسيطر على عصبيتها الغير مبررة، وصمتت للحظة، فابنتها إلى حد كبير لما تخطيء في تصرفها، فقد كان منطقياً وطبيعياً لذلك لا حاجة بها لكل هذا الانفعال.
سألتها هي بهدوء مصطنع وهي مسلطة أنظارها عليها: -قالتلك حاجة مهمة؟
هزت أسيف رأسها نافية وهي تجيبها: -لأ، بتسأل علينا وبس!
ضغطت حنان على شفتيها بتقول على مضض: -طيب!

ثم حركت جسدها ببطء على جانب الفراش، ومدت يدها لتجذب مقعدها المتحرك نحوها، وألقت بجسدها المتعب عليه كما إعتادت أن تفعل منذ سنوات.
نهضت ابنتها من جوارها لتعيد ترتيب الفراش، ولم يخلْ وجهها من تلك الإبتسامة الرقيقة، ولكنها توقفت عما تفعل لتضيف بنزق:
-اه، بالحق كانت قالتلي أبلغك رسالة كده!
أدارت حنان رأسها في اتجاهها، وتجمدت أنظارها عليها، ورددت بغرابة شديدة: -رسالة!

حركت أسيف رأسها بالإيجاب قائلة: -ايوه، بتقول إن حقنا محفوظ في دكان بابا
اتسعت حدقتي حنان في إندهاش عجيب، وانفرج فمها قائلاً: -هاه!
تساءلت أسيف بفضول وهي تعدل من وضعية الوسائد: -ايه حكاية الدكان ده؟
صمتت حنان ولم تجبها، وشردت لوهلة في ذكرى ماضية تخص ذلك المكان القديم. تساءلت أسيف بإهتمام أكبر بعد أن لاحظت وجوم أمها:
-هو بابا أصلاً عنده دكان؟!

انتبهت والدتها لها، وردت بحذر: -ده كان محل قديم بتاع جدك خورشيد الله يرحمه
أضافت أسيف بفضول: -اها، وبابا ورثه منه يعني؟
أجابتها حنان بحرص: -ايوه، التفاصيل كلها اللي تخص الدكان ده كانت مع رياض الله يرحمه!
همست أسيف بصوت حزين: -الله يرحمه!
ثم أضافت متساءلة بجدية قليلة وهي تدنو من والدتها: -طب واحنا هنعمل ايه؟

أولتها حنان ظهرها وهي تتحرك بالمقعد إلى خارج غرفتها، وردت عليها بإقتضاب: -ولا حاجة، هاشوف الورق بتاعه الأول متعان فين، وبعد كده نفكر في اللي جاي!
لحقت بها أسيف قائلة: -ماشي يا ماما!
كانت بسمة في طريقها لعملها الإضافي والخاص بإعطاء دروس خصوصية لمجموعة من الصغار في منزل أحدهم يقطن على مقربة منها.
سارت بخطوات متهادية وهي تمر بجوار محل الجزارة الموجود بمنطقتها السكنية.

وبالطبع تربصت بها زوجة صاحبه، فقد كانت تتحايل عليه للحصول على فرصة للاشتباك مع تلك الوقحة كطريقة لإذلالها بعد أن تطاولت على زوجها، ولبى هو غرضها، وأعطاها الفرصة، وهي لم تفوتها.
حدجتها السيدة البدينة بنظرات مستشاطة وهي تصيح بإزدراء: -مش ملاحقة يا أبلة على الرجل اللي طالعة ولا اللي نازلة من عندك، والعة على الأخر!

التفتت بسمة برأسها نحوها، وحدقت فيها بنظرات دونية بعد أن عرفت هويتها، وردت عليها بتعالٍ وهي تشير بسبابتها:
-نعم! انتي بتكلميني أنا؟
نهضت السيدة ببطء من على المقعد الخشبي الموضوع عند مقدمة الرصيف، وضربت على فخذيها بقوة قائلة بسخط:
-ايوه انتي!

استشعرت بسمة وجود خطب ما فيها، وخاصة حينما وقعت أنظارها على زوجها الذي كان يمسح صدره بتشفٍ. حافظت على ثابتها رغم شعورها بالتوجس من النية الشرسة المبيتة أمامها، وهتفت بنبرة تحمل الكبرياء وهي ترمق السيدة بنظرات احتقارية:
-بقى انتي شايلة التكليف وبتكلميني عادي كده!
اقتربت منها السيدة البدينة، وكزت على أسنانها قائلة بصوت قاتم: -اه يا حلوة، ولا ماكونش أد المقام لا سمح الله.

صاحت بها بسمة بحدة: -انتي ازاي أصلاً تفكري تكلميني من الأساس، تكونيش مفكرة نفسك من مستوايا ولا حاجة
وقفت السيدة قبالتها، واحتدت نظراتها أكثر بعد عباراتها المسيئة إليها، وهتفت بسخرية مهينة إياها:
-ليه يا ختي؟ على رجلك نقش الحنة، ولا بنت بارم ديله؟!
احمرت وجنتي بسمة بشدة، وضاقت نظراتها للغاية، وأصبحت ملامحها منذرة بوجود عراك وشيك.

لم تهتم هي بفارق الحجم مع تلك السيدة، وصاحت مهددة إياها بقوة: -احترمي نفسك أحسنلك بدل ما أجيبك من شعرك!
تجمهر المارة حولهما، وتشكلت دائرة ما لتتابع الموقف عن كثب.
صرخت السيدة بعنف وهي تضرب بكفيها في الهواء: -مين دي اللي تجبيها من شعرها، لأ بقى، ده أنا أجيب كرشك وأنا واقفة!
ألقت بسمة بحقيبة يدها من على كتفها، وكذلك دفترها الخاص، على الأرضية الإسفلتية، وشمرت عن ساعديها لتهتف بشجاعة عجيبة:.

-ايوه، انتي وجوزك عاملين الحركات دي عليا، وماله! أربيكم انتو الجوز، تعاليلي بقى!
ثم انقضت على تلك السيدة، وسددت في وجهها لكمة مباغتة، وأعقبتها بأخرى في صدرها، وركلتها بقسوة في ركبتها. فصرخت الأخيرة متأوهة من الآلم الشديد:
-يالهوي
تابعت بسمة ضربها بكل ما أوتيت من قوة وهي تصرخ فيها لاعنة إياها: -خدي يا بنت ال..!
صاحت فيها السيدة البدينة مهددة: -وربنا ما سيباكي إلا لما أخد حقي منك!

علت الصيحات والتهليلات في المنطقة، والكل يتابع عن كثب تطورات الموقف الهجومي بين الاثنتين.
في تلك اللحظة تدخل زوجها ليدافع عنها بعد أن خاف من تمكن بسمة منها، وأمسك بقبضتها دافعاً إياها بقوة كبيرة للخلف قائلاً بشراسة:
-ابعدي عنها!
كادت هي أن تفقد توازنها من إثر الدفعة، ولكنها تمالكت نفسها.
تحولت نظراتها للشراسة بسبب تطاوله عليها، وصرخت فيه بعدائية: -شيل ايدك! ولم مراتك أحسنلك بدل ما أبهدلهالك وأمرمطها!

حدجها بنظرات مشتعلة للغاية، وصاح فيها بحدة وهو يعاون زوجته على الجلوس: -تمرمطني مين يا بت انتي!
ردت عليه بنزق غير مهتمة بتهديداته الصريحة: -اه، وأمسح بيها الأسفلت!
احتقنت نظراته أكثر وهو يصرخ بعنف: -ده أنا أجيبك تحت رجلي قبل ما تعملي فيها كده يا بنت عواطف!
هتفت فيه بصوت مرتفع محذرة إياه وهي تشير بإصبعها: -لم لسانك الزفر ده!

تحولت مقلتيه لجمرتين من النيران، وكز على أسنانه قائلاً بتهديد خطير: -انتي هتتشرحي النهاردة!
ابتلعت بسمة ريقها بخوف شديد، وتسارعت دقات قلبها بفزع، فبرغم كل شيء هي مازالت فتاة شابة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتقاتل مع الرجال خاصة إن كانوا من نوعية ذلك الهمجي.
سحب صاحب محل الجزارة ( ساطوره ) الحاد من على خشبة تقطيع اللحم، ورفعه في الهواء مهدداً بنحر عنقها.

اتسعت عيني بسمة بهلع كبير، وتجمدت أنظارها على نصله الملطخ ببقايا الدماء وقطع اللحم الصغيرة.
تسمرت في مكانها مذهولة عاجزة عن الحركة، وقبل أن يقدم هو على حركة تودي بحياتها كان دياب يقف أمامها حائلاً بجسده ومانعاً الرجل من الإقتراب منها.
قبض هو على معصمه، فارتجف صاحب الجزارة من وجوده المهيب، وفشل في تحريره يده.

حدق دياب فيه بنظرات نارية للغاية منذرة بوجود شر مستطر، ثم هتف من بين أسنانه بشراسة مخيفة دبت في قلبه الرعب:
-عندك، كده انت غلطت، وتعديت حدود الأدب..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة