قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثمانون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثمانون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثمانون

جلست منزوية في أحد الأركان بمنزلها محدقة بنظرات خاوية في تلك الورقة التي لم يعد لها أي قيمة، اعتقدت أنها ملكت الدنيا باستحواذها على مبلغ كهذا، لكن تحولت أحلامها إلى سرابٍ حينما اكتشفت الخدعة، كان الشيك بدون رصيد، خدعها بسذاجة ليضمن عدم تقدمها بأي شكوى ضد أخيه، وانطليت عليها الأكذوبة بسهولة، هربت من عينيها عبرات خائنة، فمسحتها سريعًا قبل أن تراها ابنتها وتكتشف الأمر.

دنت منها ولاء متفرسة في تعبيراتها الحزينة، ومتأملة بفضول حالتها الشاردة، وقفت أمامها لبرهة منتظرة أن تشعر بوجودها، لكنها كانت كمن في عالم آخر، فصاحت باستغراب:
-ماما! مالك في ايه؟
انتبهت شادية لوجودها، فاضطربت بدرجة ملحوظة، وازدردت ريقها بتوتر وهي تطوي الورقة لتدسها في جيبها دون أن تنتبه لها ابنتها، سريعًا عمدت إلى إخفاء حزنها، وقوست فمها لتظهر ابتسامة باهتة وهي ترد:
-مافيش يا بنتي.

لم تقتنع الأخيرة بما قالته، فسألتها بفضول: -شكلك مش طبيعي، هو في حاجة حصلت؟
أسندت رأسها على مرفقها قائلة بتبرم: -لأ، بس يحيى واحشني وكده!
جلست ولاء إلى جوارها مخرجة تنهيدة عميقة من صدرها وهي تضيف: -أنا هاحاول أرتب مع جليلة ميعاد نشوفه فيه!
انعقد ما بين حاجبيها باستغراب من جملتها الأخيرة، واستدارت برأسها نحوها لتنظر في عينيها قائلة بجدية:
-احنا مش معانا الحضانة، يعني من حقنا..

قاطعتها ولاء بحدة: -ماما، أنا مش عاوزة مشاكل تاني مع دياب، خليني أحاول أرجع المياه لمجاريها معاه!
توقفت لتسحب نفسًا أخرًا وهي ترجع رأسها للخلف متابعة بيأس: -ولو إن ده صعب يحصل دلوقتي!
بدت جملتها مريبة لوالدتها فسألتها مهتمة: -هو انتي كلمتيه تاني؟
ردت باقتضاب غامض: -يعني!
انتصبت أكثر في جلستها، وسألتها بتلهف علها تروي فضولها الثائر: -وعرف إنك هاتخلعي مازن؟
-اه
سألتها باهتمام أكبر: -ها ورأيه ايه؟

أغمضت ولاء عينيها حسرة، ابتلعت غصة عالقة في حلقها لترد بمرارة: -ولا فرق معاه!
لامتها شادية على تهورها قائلة بانزعاج: -انتي اتسرعتي، كنتي اصبري مع مازن شوية و..
ملت من طريقتها التي تستثير أعصابها، فهبت واقفة من مكانها، والتفت برأسها ناحيتها لتصيح مقاطعة بانفعال:
-ماما! كفاية تحكمات في حياتي، أنا خدت القرار وانتهيت!

زفرت بعدها بصوت مسموع قبل أن تسرع في خطواتها وتتركها بمفردها، تابعتها شادية بأعين منكسرة وهي تختفي من أنظارها متمتمة بتحسر كبير:
-مش انتي بس اللي انتهيتي!

لوهلة شعرت بانفصال تام عما يحيط بها، وكأن العالم قد بات خاليًا إلا من كليهما، حدقت فيه بأعين لامعة، وأحست بتلك الدقات العنيفة التي حمست قلبها وزاته نشاطًا وعنفوانًا، هو صرح بعشقه لها دون سابق إنذار، بلا زيف أو تجميل، أحبها كما هي، استشعرت تلك السخونة الشديدة التي انبعثت من وجهها، فخمنت أنه صار كثمرة البنادورة من فرط الخجل.

ابتسم منذر لحيائها، وأسبل عينيه نحوها متأملاً خجلها المحبب إليه، واصل حديثه المسترسل قائلاً بتريث جاذب للأسماع:
-عارفة لما الواحد يحس فجأة إنه قلب دق كده من غير ميعاد!
أخفضت نظراتها مطرقة رأسها بحرج أكبر عاجزة عن الرد عليه رغم استمتاعها بما يقول، شعرت بدفء كلماته، بصدق إحساسه حينما قال:
-وده اللي حصل معاكي!
تنهد بعمق، ثم وضع يده على قلبه مضيفًا باشتياق ومشيرًا إليه: -نفسي تحسي بده أوي!

رفعت أنظارها لتحدق في كفه الموضوع على صدره، زاد ارتباكها الخجل منه، ولم تعترض أبدًا على ما يبوح به، أو حتى على ما يفعله، وكأنها مخدرة تحت تأثير سحره الآسر للعقول قبل الأفئدة، كان على وشك إضافة المزيد لكن قاطع خلوتها الحاج إسماعيل الذي هتف بصياح مرتفع:
-أستاذ منذر، كويس إني لاقيتك هنا!

استدارت أسيف برأسها نحوه متحرجة باضطراب ملحوظ على تعابيرها من رؤيتها لها معه حتى وإن كان الأمر مقبولاً له، سارع منذر بالرد عليه ليجذب انتباهه إليه:
-اتفضل يا حاج إسماعيل، لسه كنا بنتكلم عن كرمك مع المرحوم رياض!
هز الأخير رأسه متأسفًا وهو يرد: -ربنا يغفرله، كان راجل طيب فعلاً
أمن منذر على جملته قائلاً: -يارب!
كورت أسيف قبضتها بقوة ضاغطة على أناملها المتوترة، وأشارت بالأخرى هامسة بصوت شبه متحشرج:.

-أنا رايحة أشوف عمتي إن كانت محتاجة حاجة!
رد عليها الحاج إسماعيل مرددًا: -وماله يا بنتي، واطمني الحريم كلهم مجهزينلك كل اللي يلزمك!
هتف منذر قائلاً بجدية: -كتر خيرك يا حاج إسماعيل، هي مش هتحتاج حاجة، أنا متكفل بكل طلباتها
أصر عليه بشدة: -دي عوايدنا يا ابني!
لم يجد بدًا من المجادلة معه، فمثل تلك الأمور تعد من الأعراف السائدة لديهم، وتجاهلها يعد نوعًا من الإهانة، أضاف الحاج إسماعيل باهتمام:.

-أنا رتبتلك ميعاد مع المأمور، أعدة ودية كده تاخد وتدي معاه في الحوار، بعد صلاة العشا في دوار العمدة على اعتبار إنك هاتعزمه على كتب الكتاب!
ابتسم منذر قائلاً: -حلو أوي!
حدق الحاج إسماعيل أمامه متابعًا بعزم وهو يشير بيده موضحًا: -احنا إن شاء الله هانعمل الصوان قصاد المضيفة عندي، في حتة فاضية و..
قاطعه منذر قائلاً بصرامة: -سامحني إن كنت هاقاطعك، بس أنا عاوز منك خدمة
-أؤمرني
-الأمر لله وحده!

زفر منذر بعمق، ثم دس يديه في جيبي بنطاله ليحدق مباشرة في عينيه، تابع بثبات مشيرًا بحاجبه:
-أنا كنت حابب ننصب الصوان في أرض المرحوم رياض، عند الشجرة اللي كان بيقعد عندها!

اجتهد لينهي الكثير من الأعمال العالقة بالوكالة قبل أن يسافر مع عائلته للترتيب لحفل عقد القران، وقف على مقربة من مكتبه اثنان من عمالته مترددين في إخباره بما حدث من مشادات كلامية بين زوجة الجزار وابنة عواطف، فقد تابع كلاهما ما حدث، ولكنهما لم يتدخلا لأنها انتهت بتجاهل الأخيرة لها مما اضطر الزوجة في النهاية للانصراف،
عقد العزم أحدهما على إبلاغه، فتحرك بخطى ثابته نحوه هاتفًا بحذر: -ريس دياب!

لم يلتفت نحوه، وسأله باقتضاب وهو يعيد ترتيب الأوراق على مكتبه: -خير؟
حك العامل مؤخرة رأسه مجيبًا إياه بتردد: -في حاجة حصلت كده، وكنت عاوز أعرفك بيها
نفذ صبر دياب من مماطلته، فصاح به بعصبية طفيفة: -قول على طول أنا مش فايقلك!
-احم. بنت الست عواطف!
انتبهت حواسه كليًا فور سماعه لتلك الجملة، وتوقف عما يفعل ليستدير نحوه متسائلاً بتوجس:
-مين؟
ابتلع العامل ريقه قائلاً بتخوف: -الأستاذة!

ارتفع حاجبي دياب للأعلى، واتسعت حدقتيه بخوف كبير، وبلا وعي اقترب منه ليصيح فيه بشراسة:
-مالها؟ في حاجة حصلتلها؟ قول!
زادت سرعة حركة بؤبؤيه وهو يجيبه بتلعثم: -أصل. مرات الجزار جت و. وكانت..
لكزه دياب بعنف في كتفه هادرًا بنفاذ صبر: -انطق بسرعة، في ايه؟

سرد له على عجالة ما حدث بينهما، فاستشاط الأخير غضبًا من تلك الإساءات الجارحة في شخصها، والتشهير بها علنًا على مسمع ومرأى من الجيران، برزت عروقه بدمائه الفائرة، واحتدت نظراته على الأخير، توجس العامل خيفة من تهوره، فأضاف بقلق:
-بس اطمن يا ريس، الأستاذة طنشتها و..
صرخ به مقاطعًا: -وأنا مش هاعدي اللي حصل ده على خير!

اندفع كالثور الهائج خارج الوكالة منحيًا العامل بقوة للجانب، فتوجس الأخير أن يتصرف رب عمله بطيش كعهده في مثل تلك الأمور.

ذرعت غرفتها ذهابًا وإيابًا بخطوات متعرجة وبانفعال ظاهر عليها بعد نجاح أختها في منعها من الخروج من المنزل للاشتباك مع تلك اللعينة التي تفوهت عنها بالأكاذيب، ضربت بقبضتها المتكورة ضلفة خزانة ثيابها عدة مرات لتفرغ شحنتها المكتومة بداخلها محدقة أمامها بأعينها المشتعلة، كزت على أسنانها محدثة نفسها بغضب:
-بقى واحدة زي دي تبهدلني كده!

لم تشعر بنيرمين وهي تقتحم عليها الغرفة هاتفة بحماس والذي يتنافى كليًا مع حالة النقم المسيطرة عليها قبل برهة:
-بت يا بسمة، اجهزي بسرعة
نظرت لها بعينيها الحمراوتين صائحة بغضب: -في ايه؟
-دياب برا
-بتقولي مين
-عاوز يكلمك، ومستني في الصالون
-وده اللي جابوه
-هو ده وقت أسئلة، البسي بسرعة خلينا نعرف جاي ليه!

احترقت أعصابه لمجرد سماعه بالأمر، فماذا إن كان قد شهده بنفسه؟ نعم لأقام الدنيا وأقعدها حتى يأتي بحقها، بذل مجهودًا مضنيًا لضبط انفعالاته حتى يتمكن من الحديث إليها بنبرة عقلانية، ثبت أنظاره على باب الغرفة مترقبًا ولوجها بين لحظة وأخرى، طال انتظاره حتى أوشك على الانفجار، لكنها ظهرت في اللحظة الأخيرة.
نظرت له بسمة بضيق متسائلة بجمود: -خير يا أستاذ دياب؟

حدق فيها متفرسًا إياها بنظرة شمولية وهو يسألها بتلهف: -انتي كويسة؟ ال، دي عملتلك حاجة؟
انزعجت من سبابه النابي قائلة بتحذير: -بلاش الكلام ده!
رد عليها معللاً: -معلش أنا مش مستحمل وجايب جاز من اللي سمعته، بس قسمًا بالله ل..
قاطعته قائلة بصرامة وهي تخطو نحو أقرب أريكة: -خلاص الموضوع انتهى، وأي حد هيفتح بؤه بكلمة أنا قادرة أقطع لسانه وأخرسه.

سلط أنظاره عليها متابعًا عدم اكتراثها بحالته النفسية التي تستعر حتى بلغت أشدها أمامها، وهدر بعصبية بائنة ملوحًا بذراعه:
-بسمة، أنا دمي بيتحرق من أي حاجة تمسك، مش بأقدر أمسك نفسي، و..
ألقت بجسدها على الأريكة محدقة فيه بجمود، ثم قاطعته بجفاء: -احنا مش قفلنا على الموضوع ده!

راقبتهما نيرمين من الخارج مسترقة السمع لحديثهما، لم تكن بحاجة لتفسير ما يقولان، فأصوات الاثنين كفيلة بإسماع المنطقة بأكملها، تابع دياب هاتفًا بإصرار:
-أنا لسه عند طلبي ومغيرتش رأيي
ردت معترضة بعناد أكبر: -وأنا سبق ورفضت عرضك!
صرت نيرمين على أسنانها هاتفة بحنق بائن: -يخربيتك، هاتضيعيه من ايدك، بلاش العند يركبك السعادي!
رد دياب متحديًا رفضها الصارم: -وأنا مش هيأس!

أغمضت عينيها مبدية إرهاقها وهي تقول بفظاظة
-هاستأذنك أنا تعبانة وعاوزة أرتاح!

أغاظه أسلوبها المستفز وتعمدها إظهار جفائها نحوه، بل حز في قلبه أنها تعامله هكذا بقسوة، فدنا منها متعمدًا حصارها في مكانها وإرباكها، تفاجأت باقترابه الشديد منها، ففغرت شفتيها مصدومة منه، انحنى بجذعه للأمام قليلاً مسندًا كفية على مقبضي الأريكة ليضمن بقائها تحت سيطرته، حدقت فيه باندهاش مرعوب، وازدردت ريقها بتوتر رهيب، رمقها بنظرات قوية تحمل العزيمة والإصرار وهو يقول مؤكدًا بثبات:.

-وماله، بس أنا هافضل حاطط عيني عليكي!
شعرت باحتباس أنفاسها، باضطراب شديد يجتاحها، بجفاف حلقها خلال تلك اللحظات الثقيلة، كانت الأسعد إليه، والأكثر توترًا بالنسبة لها، لوى ثغره مبتسمًا للجانب ليزيد من تأكيد نيته نحوها قبل أن يرخي ساعديه ويعتدل في وقفته، رمقها بنظرة أخيرة قبل أن يتركها في تخبطها وينصرف.

أوصلته نيرمين للخارج شاكرة إياه على زيارته العاجلة، ثم عادت إليها لتحدجها بأعين مغلولة، ثم هدرت توبخها بعنف:
-اتهبلتي، ومخك لسع، الراجل جاي لحد هنا يتقدملك تاني، وتطرديه، أكيد بوز الإخص بهتت عليكي، إنتي مكونتيش كده!
صاحت بها بسمة بعصبية: -ابعدي عني، أنا مش طايقة حد!
تابعت قائلة بغيظ: -ده السند والحماية، افهمي بقى!

اختنق صوتها للحظة حينما تذكرت وضعها الاجتماعي الحالي، فهتفت بمرارة: -ولا عاوزة حالك يبقى زيي، مطلقة ومحدش راضي بيكي! لأ ومعاكي عيلة!
سدت بسمة أذنيها رافضة الإنصات لها، وصرخت فيها باهتياج واضح: -يووه، نيرمين، بلاش الكلام ده! أنا مش عاوزة كده! مش دي أحلامي، مش ده اللي أنا عاوزاه
ضربتها نيرمين في كتفها بقوة متمتمة بسخط: -اتأمري يا خايبة براحتك لحد ما النعمة تزول من وشك!

احتقنت نظراتها نحوها لأنها تحاول التلاعب بأفكارها وتوجهيها نحو أمر بعينه، وهي رافضة لذلك المبدأ من الأساس، أن تكون مجرد زوجة لأحدهم دون مشاعر مسبقة نحوه، كما أن تجربة أختها الفاشلة في الزواج دومًا تلوح في الأفق، تذكرها بعواقب التسرع وسوء الاختيار دون تأنٍ أو تعقل.
ضاقت أعبن نيرمين نحوها، وتابعت مرددة بامتعاض ناقم على كل شيء: -ياريت حظي كان ربع حظك، مكونتش ضيعت الفرص دي من ايدي..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة