قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والثمانون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والثمانون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والثمانون

شهقت مصدومة من اندفاعها المباغت نحوه، واستندت بكفيها على صدره محدقة فيه بنظرات مشدوهة ممزوجة بالخجل، تحول لون بشرتها إلى حمرة صريحة، بادلها نظرة شغوفة متلهفة لاقترابها الساحر، نجحت خطته، وباتت معه حتى وإن كان الأمر مفتعلاً لكنه حاز على مراده في الأخير، عمق نظراته المتقدة حبًا نحوها، استشعرت بأصابعها دقات قلبه العنيفة، فأحست بتأثيرها عليه، وبارتباك يسيطر عليها من تغلغل ذلك الشعور فيها، لم يتحرك من مكانه، وبقى كالصنم مسلطًا فقط أعينه عليها، وبحذر واضح انسلت مبتعدة عنه مبدية انزعاجها من تصرفات الصغيرين الطفولية التي وضعتها في موقف محرج كهذا.

أرخى الاثنان أذرعيهما عنها لتحرر منهم، تراجعت مبتعدة للخلف قائلة بتلعثم: -أنا. أسفة، مقصدش!
أخفضت عينيها بحرج أكبر شاعرة بتلك السخونة المربكة المنبعثة من وجهها، لم ترغب في حدوث ذلك، ولكنه القدر.
رد عليها دياب بهدوء واضعًا يده على مؤخرة رأسه: -ولا يهمك، حصل خير!

انسحبت من أمامه دون إضافة المزيد مسرعة في خطواتها رغم عرجها الملحوظ، وبقيت أنظاره متعلقة بها حتى اختفت من أمامه، فأخر تنهيدة ملتهبة من صدره الملتاع بحبها، استدار للخلف ليحدق في الصغيرين بنظرات ممتنة، ثم فتح ذراعيه لهما ليندفعا في أحضانه، ضمهما قائلاً:
-حبايب قلبي!
سأله يحيى ببراءة: -أنا شاطر يا بابي؟
أجابه وهو يقبله من وجنته: -انت أستاذ زي أبوك!

رغم انتهاء الموقف إلا أن وجنتيها احتفظتا بتلك الحمرة البائنة حتى شعرت أن أمرها سيفضح بمجرد تطلع أحد ما لوجهها وتفرس في تعابيره المرتبكة، استغرقها الأمر بعد الوقت لتتلاشى تدريجيًا منها وتعود بشرتها إلى طبيعتها العادية، انزوت في أحد الأركان بالغرفة المعدة للاحتفال بليلة الحناء محدقة فيمن حولها بنظرات شاردة.

تراجعت لتقف بالشرفة الخارجية مستنشقة نسمات الهواء العليلة، ومستعيدة في ذاكرتها لمحات خاطفة من ذلك الموقف المخجل، أطرقت رأسها حرجًا، وشبكت أصابعها معًا تفركهم بارتباك.

لامت نفسها عشرات المرات لأنها لم تتخذ حذرها، فأعطته فرص ثمينة للتقارب الحسي بينهما، جمدت أنظارها على يديها متذكرة تلك الدقات العنيفة لقلبه، أغمضت عينيها بقوة نافضة عن عقلها تسلله إليها، وكأنه يتعمد اختراقها بمشاهده التي لا تفارق مخيلتها.
ولجت أسيف إلى الشرفة بعد أن لاحظت اختفائها، فتعجبت من سكونها المريب، دققت النظر أكثر في هيئتها المزعوجة، ودنت منها متسائلة باهتمام:
-مالك يا بسمة؟ في حاجة حصلت؟

انتبهت لوجودها، فاعتدلت في وقفتها، وابتسمت لها بتوتر وهي تجيبها: -لأ، عادي!
ردت عليها بعدم اقتناع معللة: -أصل شكلك متاخد كده و..
قاطعتها بجدية زائفة: -تلاقيني بس تعبانة من المجهود الكتير فباين على وشي!
وضعت أسيف يدها على كتفها تفركه برفق، ثم ابتسمت لها قائلة بود: -طب ارتاحي شوية
اعترضت عليها مرددة: -لا مش عاوزة، أنا مبسوطة معاكي!

رمشت أسيف بعينيها متابعة بامتنان حقيقي: -بجد أنا مش عارفة أقولك ايه، أنا ربنا مارزقنيش باخوات، بس فعلاً انتي بالنسبالي أكتر من أختي!
-على ايه يا بنتي؟ هو أنا عملت حاجة
-مش لازم تعملي حاجة، كفاية إنك قربتي مني و..
قاطعتها قائلة بجدية: -بطلي عبط! احنا قرايب قبل ما نكون اخوات!
زاد لمعان عينيها متأثرة بما قالته، وردت عليها بود: -ربنا يقدرني وأقفلك يوم فرحك وأتعبلك!

لم تتمالك بسمة نفسها، فضمتها إليها لتحتضنها بحب واضح، ثم أرجعت ظهرها للخلفة مضيفة بجدية تحمل التحذير:
-أسيف! أنا بس مش عاوزاكي تكوني مجبورة على الجواز عشان اللي حصل!
نظرت لها الأخيرة باستغراب قليل، فأكملت بجدية أكبر: -بصي كل حاجة جت بسرعة، وجايز تكوني اضطريتي تعملي حاجات..
قاطعتها أسيف قبل أن تكمل عبارتها هامسة بابتسامة خجلة: -لأ يا بسمة، اطمني!

سألتها باهتمام وقد بدا على تعبيراتها الاندهاش: -يعني انتي موافقة على..
أومأت برأسها هامسة: -ايوه
فغرت بسمة شفتيها مصدومة وهي تسألها: -بتهزري؟!
ردت أسيف بهدوء: -لأ، أنا فعلاً بأعمل ده وأنا مقتنعة!
احتضنتها بسمة مجددًا وهي تقول: -ربنا يقدملك اللي فيه الخير، ويبعد عنكم أي شر!

راقبتهما من على بعد متعجبة من تلك الألفة الزائدة بينهما، فأثر ذلك الأمر فضولها، فاقتربت منهما وهي تحدجهما بنظرات حقودة متسائلة بامتعاض:
-مالكم أخدين جمب كده ليه؟
نظرت لها بسمة بانزعاج، فهي تعلم أن قدومها دومًا يحمل المصائب، لذا ردت باقتضاب غامض:
-عادي يا نيرمين!
سلطت أنظارها على أسيف لتظهر لها تأففها منها وهي تضيف بعبوس: -ولا بتقولوا سر، شكلها كده!

لم تعلق عليها، واكتفت بإشاحة وجهها للجانب متجنبة نظراتها المقيتة، لكن لم تتركها الأخيرة بمفردها، فاستأنفت قائلة بازدراء:
-جايز المحروسة بتقولك على خبراتها في توقيع الرجالة، اتعلمي منها، يمكن دماغك الحجر تلين و..
صدمت أسيف من كلماتها الفجة في الإساءة إليها، واستدارت نحوها لترمقها بنظرات أكثر كراهية، وقبل أن ترد عليها صرخت بها بسمة مستنكرة وقاحتها اللا محدودة:
-نيرمين!

ردت أسيف هي الأخرى بقوة: -اتكلمي عدل عني!
نظرت باحتقار لها مقوسة ثغرها للجانب وهي تضيف بسخط: -هو أنا قولت حاجة غلط، ما أديكي جبتي سيد الناس راكع على رجله لحد عندك! مش دي الحقيقة؟!
لم تطق تلك الافتراءات الباطلة عليها، فصرخت فيها بعصبية رافضة ما تتهمها به: -أنا مش كده!
لوحت نيرمين بيدها قائلة ببرود مستفز: -مش لازم ترسمي الوش ده عليا، أنا مش بيخيل عليا الألاعيب دي، وياما شوفت!

استشاطت نظرات أسيف على الأخير، وكادت تنفجر غيظًا منها، لكن أسرعت بسمة بالتدخل لتمتص غضبها مضيفة بازدراء:
-تعالي يا أسيف، سيبك منها، هي كده وكلامها يفور الدم!
ثم جذبتها من ذراعها بعيدًا عنها متمتمة بكلمات خافتة محاولة تهدئتها، فنظرت للاثنتين بحقد، وصاحت ساخرة:
-اتلم المتعوس على خايب الرجا!
أسرعت بسمة بإبعادها عن الشرفة ناظرة لها برجاء لطيف، فردت أسيف بهمس مزعوج: -بني آدمة مستفزة والله.

-هي مستحملة نفسها بالعافية!
-ربنا يهديها ويبعدها عني
-يا رب أمين!
ظلت أنظارها مثبتة عليهما رغم ولوجهما للداخل، وأخذت تلعنهما بكلمات مسيئة، استدارت نحو الشرفة لتنظر بشرود إلى المكان، لكن جذب أنظارها وجوده المهيب بالأسفل، تجمدت عيناها عليه، وطالعته بنظرات مطولة متنهدة بحرارة، فكرت في استغلال الفرصة والحديث إليه مرة أخيرة معلنة عن حبها له، ربما يجعله يعيد حساباته من جديد نحوها.

أسرعت في خطواتها لتلحق به قبل أن يبتعد، كانت الظروف مهيئة تمامًا لكي تنفرد بالحديث معه دون أن يراهما أي شخص، فالأغلب مشغول بليلة الحناء، جذبت عباءتها للأسفل متأكدة من تناسقها على جسدها، وضبطت هيئتها، ثم همست راسمة ابتسامة عريضة على ثغرها:
-سي منذر!
التفت برأسه للخلف لينظر إلى تلك التي تناديه، فامتعضت تعابيره حينما رأى نيرمين تدنو منه مرددًا بضيق:
-استغفر الله العظيم!

فرك رأسه بانزعاج واضح عليه، وجاهد قدر الإمكان ألا يبدو فظًا معها، لكنها أخرجته عن هدوئه الحذر حينما سألته بعتاب:
-انت بردك هتتجوزها؟
نظر لها شزرًا وهو يرد مؤكدًا: -اه، ريحي دماغك!
وكأن كلماته كالحمم الملتهبة التي تزيد من عذاب قلبها، فسألته بحدة وهي تعمق نظراتها المتيمة إليه:
-طب فيها ايه زيادة عن باقي البنات عشان تختارها هي؟
حدجها منذر بنظرات قاسية وهو يرد بجمود: -مايخصكيش!

تحركت خطوة نحوه لتقلص المسافات بينهما متسائلة بغيظ: -اشمعنى هي؟
تراجع مستنكرًا اقترابها وهو يرد بانفعال طفيف: -الله! انتي مالك!
رمقته بنظرات معاتبة، بدت أنفاسها مضطربة وهي تتطلع إلى وجهه بأعين غريبة، أرسلت له إشارات موحية تلومه، تحمله الذنب وكأنه ارتكب جرمًا في حقها، تعجب من طريقتها الغير مريحة معه، ومن نظراتها التي لا تحمل أي حياء أو حرج، وأظهر نفورًا واضحًا مما تفعله.

هتفت فجأة بنزق أصابه بالصدمة: -سي منذر. أنا، بأحبك!
صاح مستنكرًا: -نعم ياختي؟
أكدت على عبارتها وهي توميء برأسها قائلة: -أيوه بأحبك!
وضعت يدها على صدرها متابعة بحرقة: -وقلبي بيتقطع مليون مرة لما بأشوفك مع واحدة غيري!
تحولت نبرتها للشراسة وتعابيرها للقسوة وهي تكمل بحقد بائن: -وخصوصًا هي!

قست نظراته اكثر نحوها، وتشنجت قسمات وجهه مما سمعه منها، لم يصدق أذنيه، هو دومًا يصدها، بل على العكس لم يتودد إليها، ولم يعطها أي بارقة أمل من أجل أي شيء، لذلك انفعل بها باهتياج قائلاً:
-انتي اتجننتي، شيلي التخاريف دي من عقلك!
رمقها بنظرات مزدرية مضيفًا: -أنا عمري مابصيتلك، ولا هبصلك أصلاً!

هوت كلماته كالسياط على قلبها لتجلده أكثر، لم يمهلها الفرصة لإظهار حزنها أو حتى للبكاء، فتابع بقسوة أشد مشيرًا بيده:
-وقبل كده قولتلك إننا أخوات، يا ريت تفهمي ده كويس عشان تهدي!
اضطربت أنفاسها من قوة عباراته، وترقرقت العبرات في مقلتيها، تراجع خطوة للخلف مكملاً بقوة:
-ولعلمك أنا مش بأحب إلا أسيف وبس!

وضعت نيرمين يدها على فمها كاتمة شهقاتها، فأضاف بسخط: -سمعتي! احفظي اسمها كويس أسيف رياض خورشيد، يا بنت الحاجة عواطف!
أجهشت بالبكاء أمامه، لكنه لم يتأثر بها، بل زاد حدة وشراسة وهو يقول مهددًا بسبابته:
-وبأحذرك لو في نيتك تضايقيها، صدقيني أنا اللي هاقفلك وهازعلك! وزعلي وحش أوي!

زاد نحيبها أمامه لكنه لم يهتز أو يتأثر بها، بل نفر أكثر منها، وتجاهلها منصرفًا من أمامها لاعنًا ما فكرت فيه نحوه ورافضًا تصديق وقاحتها الزائدة، تعلقت أنظارها به رغم ابتعاده، انتهى حلمها الوردي بصورة بشعة، وبات الأمر حقيقة واضحة للعيان، لا مكان لها في حياته، ردت هامسة بصوتها المختنق:
-يا كسرة قلبك يا نيرمين!
هتف منذر بين جنبات نفسه بضيق كبير وهو يسرع في خطواته تاركًا المكان برمته: -معدتش إلا دي!

سيطرت عليه العصبية بصورة واضحة، فعجزت عن إخفاء ذلك أمام أخيه الذي سأله بفضول: -في ايه يا منذر؟ حد ضايقك؟!
رد بصوت شبه محتد: -لأ!
حاول أن يسبر أغواره ليعرف ما ألم به، فأردف قائلاً
-طب..
قاطعه منذر بصرامة: -متسألش كتير!
هز رأسه متفهمًا عدم رغبته في الحديث، وأكمل بحذر: -ماشي، الحاج اسماعيل عامل أعدة للرجالة عند العمدة، والكل بيسأل عليك!
رد باقتضاب: -أنا جاي معاك!
-تمام!

فرك منذر وجهه بغل، مازال الأمر يثير أعصابه رغم إنهائه له، لكن مجرد توهمها أمرًا كهذا أصابه بالتقزز، أكمل سيره المزعوج محدثًا نفسه باستنكار:
-ولية تفور الدم..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة