قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والستون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والستون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والستون

تنفست الصعداء بعد تلقيها ذلك الخبر المفرح عن إفاقتها من غيبوبتها المؤقتة، وبترقب شديد انتظرت انتهاء الطبيب من فحص مؤشراتها الحيوية لتلج إليها.
دنت عواطف من فراشها الطبي، ثم مالت عليها تضمها إلى صدرها هاتفة بنبرة متأثرة: -حمدلله على سلامتك يا بنتي!
ردت عليها بسمة بنبرة خافتة: -الله يسلمك يا ماما!
تابعت قائلة بتنهيدة مطولة: -لو تعرفي اتخضينا عليكي أد ايه!
ابتسمت هامسة: -قدر ولطف!

لم يستطع الانتظار بالخارج لأكثر من هذا، فقد كان متلهفًا لرؤيتها هو الأخر.
شعر بأن روحه ردت إليه بمجرد سماعه بخبر استعادتها للوعي.
تحرك بتوتر رهيب دائرًا حول نفسه إلى أن حسم أمره بالدخول.
دق دياب على الباب متنحنحًا بصوت خشن: -ممكن أدخل؟
التفتت عواطف نحوه قائلة بود وهي تشير بيدها: -أه يا بني، تعالى!

ثم استدارت برأسها لتحدق في ابنتها وهي تضيف: -سي دياب ماسبناش للحظة هو وسي منذر، ليل نهار معانا يا بنتي عشان يطمنوا عليكي!
رمشت بسمة بعينيها في حرج واضح من وجوده، لكنها رأت في نظراته المتطلعة إليها شيئًا غريبًا عن كل مرة.
تلألأت عيناه بتوهج لامع وهو يدنو منها.
هتفت عواطف قائلة: -أما أروح أطمن أسيف، هي أعدة في الاستقبال من بدري، وهتفرح أوي لما تعرف.

هزت بسمة رأسها بإيماءة خفيفة دافنة نفسها أكثر في الفراش.
تابعها حتى انصرفت من الغرفة، فاقترب أكثر منها متأملًا إياها بأعينه المشتاقة.
قطع الصمت السائد بينهما معاتبًا بمرح: -ينفع القلق ده كله يا أبلة؟
حركت رأسها للجانب متحاشية النظر إليه، ثم ردت قائلة بهدوء: -أنا اتأخرت على المدرسة، أكيد هايكتبوني غياب!
عقد ما بين حاجبيه مدهوشًا من جملتها الأخيرة، فسألها مستفهمًا: -مدرسة! انتي بتتكلمي عن ايه؟

أوضحت مقصدها قائلة بتنهيدة متعبة وهي تفرك جبينها: -المفروض كان عندي إشراف كمان، لازم حد يبلغهم يدوني اذن صباحي عقبال ما أفوق، و..
قاطعها قائلًا باستغراب: -انتي فقدتي الذاكرة؟ إذن ايه ده؟
التفتت برأسها نحوه هاتفة بتجهم قليل: -احنا عندنا شغل، صعب نغيب اليومين دول، ومافيش أذونات إلا في الضرورة القصوى، و..
قاطعها دياب مرة أخرى مازحًا: -يا أبلة السنة خلصت من بدري، صحي النوم!

قطبت جبينها مرددة بتعجب: -افندم؟
ازدادت ابتسامته اتساعًا وهو يضيف بمرح: -انتي في غيبوبة بقالك عشر أيام أو أكتر!
ارتفع حاجباها للأعلى وهي تصيح باندهاش كبير: -نعم! غيبوبة!
رفع إصبعيه أمام عينيها مداعبًا وهو يشير بنظراته نحو عقلها: -ها دول كام بقى؟ عاوزين نطمن على الحتة الطرية اللي جوا برضوه!

كانت شاردة أغلب أوقاتها تفكر مليًا في موافقتها على عرضه الأخير. خشيت من تسرعها، لكن لم يكن أمامها بديل، وهو لم يحاول فرض نفسه عليها.
تنهدت مرهقة من كثرة التفكير، فاستندت برأسها على مرفقها مغمضة جفنيها للحظات.
أتاها صوتها مهللًا بسعادة: -فاقت يا أسيف، بسمة فاقت!
هبت من مقعدها واقفة لتلتفت نحوها، ثم ارتسم على ثغرها ابتسامة رضا وهي تقول: -بجد! الحمدلله، ربنا جبر بخاطرنا!

وضعت عواطف يدها على صدرها متابعة بتنهيدة ارتياح: -أنا كان هيجرالي حاجة من رقدتها دي، عدت على خير، ربنا ما يعودها تاني
-يارب
أشارت قائلة بيدها: -أنا هاكلم نيرمين أبشرها!
ردت عليها بهدوء: -ماشي، وأنا هاطلع عند بسمة أبص عليها
-طيب يا بنتي!
قالتها وهي تفتش في حقيبتها عن هاتفها المحمول لتبلغ ابنتها بذلك الخبر السار.
عادت بسمة إلى منزلها لتكمل فترة النقاهة به، وتماثلت للشفاء بدرجة كبيرة بعد عدة أيام.

أولتها أسيف الرعاية الكاملة، ولم تبخل عليها بمجهودها رغم إرهاقها، فشعرت الأخيرة بأنها كانت مخطئة في حقها، وأنها تسرعت في الحكم عليها، وتقاربت الاثنتان إلى حد ما.
اتفق منذر مع عائلة عواطف على إبقاء سر الخطبة بينهم، وكذلك اتفق على تحديد موعد محدد لقراءة الفاتحة، ورغم أنها خطبة زائفة إلا أنه أصر على القيام بها وفق الأصول والأعراف المتبعة.

تأججت نيران الغيرة بداخل نيرمين، لكنها عقدت العزم على إفسادها مهما كلفها الأمر، حتى وإن تحالفت مع الشيطان ذاته، المهم ألا تحظى به غيرها.
-أبدًا، مش رايحة!
صاحت بها جليلة وهي تهز رأسها رافضة الذهاب مع ابنها البكري للتقدم رسميًا لخطبة تلك الفتاة تحديدًا.
حك منذر رأسه بعصبية وهو يردد بهدوء ممتعض: -يعني يرضيكي أروح من غيرك يا ست الكل؟!
ردت عليه بعبوس: -كفاية أبوك وأخوك!

أضاف قائلًا بإلحاح: -وأنا مش هاعملها من غير ما تكوني راضية وموافقة!
قطبت جبينها معللة سبب رفضها: -يا بني، يا حبيبي! أنا نفسي أفرح بيك، وأشوف عيالك بيتنططوا حواليا، بس. بس مش من دي!
سألها بانزعاج: -واشمعنى هي بالذات؟ يعني لو كنت وافقت على اللي في بالك كنتي هتبقي..
قاطعته قائلة بجدية: -أنا بأدور على مصلحتك.

سحب منذر نفسًا عميقًا، ثم زفره على مهل قبل أن يقول: -يامه مش كل الرزق فلوس وعيال! الرزق في حاجات تانية، زي الصحة، وراحة البال، والسيرة الطيبة، والستر والرضا!
ردت عليه قائلة بتبرم: -دي بتاعة أعمال وسحر و..
قاطعها مداعبًا: -مش جايز سرها يبقى باتع معايا!
نظرت له بحدة وهي تقول: -انت بتهزر يا منذر!
ابتسم لها مضيفًا بإحباط: -طب أقولك ايه بس يا ست الكل؟ ما أنا احترت معاكي ومش عارف أخشلك من أي سكة.

بالفعل بذل مجهودًا كبيرًا في إقناعها، لكنها كانت متشبثة برأيها رافضة الإنصات إليه.
تنهد بتعب، لكنه لم ييأس، فرسم على ثغره ابتسامة راضية.
لف ذراعه حول كتفيها، وانحنى ليقبلها من أعلى رأسها قائلًا: -برضوه الفرحة مش هاتكمل إلا بيكي! ده انتي الخير والبركة!
أشار لها طه بيده مضيفًا بضيق: -خلاص بقى يا جليلة متحبكيهاش! عاجبك شحتفة ابنك؟

نظر منذر لأبيه بامتنان لأنه كان يدعمه بقوة في رغبته، لم يتوقف عن إلحاحه عليها حتى استسلمت في الأخير، وضغطت على شفتيها قائلة بتبرم:
-طيب. خلاص!
تهللت أساريره، وتنفس الصعداء هاتفًا بحماس: -ألف حمد وشكر ليك يارب!
تابع طه قائلًا بجدية: -جهزولنا الأكل بقى خلونا نروح بعدها للزيارة دي
ردت عليه زوجته بامتعاض: -ماشي يا حاج طه، أما نشوف أخرتها ايه!
صاح دياب مازحًا: -وأنا ماليش نصيب معاكو؟

اتسعت ابتسامة جليلة قائلة: -انوي انت بس، وأنا يا حبيبي متأخرش عنك!
أضاف منذر بمرح غامزًا لأخيه: -ايوه يا عم، واخد اللي على وش القفص!
رد عليه دياب بتذمر زائف: -كفاية إني قاعد في قعره بقالي سنين!
فهمت جليلة إلى ماذا يرمي ابنها، إلى زيجته السابقة التي انعكست بالسلب عليه، فمطت فمها قائلة بضجر:
-بلاش السيرة الفقر دي، انسى يابني!
هز دياب رأسه هاتفًا: -ماشي، خلينا مركزين مع منذر النهاردة، ده يومه!

كان أخيه محقًا في هذا، فاليوم هو محلق في عنان السماء، ستحقق رغبته حتى ولو كانت مؤقتة، لكنه سينالها.
بدت مزعوجة للغاية وهي تنتظر اتصاله الهاتفي لتنزل مع عمتها لانتقاء خاتم الخطبة، فهو يعد من الأمور ا?ساسية التي لا يمكن التغاضي عنها حتى وإن كانت معترضة عليها.
وبامتعاضٍ بادٍ على وجهها اضطرت أن تبدل عباءتها وترتدي ثوبًا داكن اللون اختارته بسمة لها.

ورغم عبوسها إلا أنها لا تنكر إعجابها به. في ظروف أخرى ربما كانت ستصبح أسعد الفتيات وأكثرهن فرحة، ولكن ?نها تعلم زيف الحقائق ففرحتها تعد مصطنعة.
تأنق منذر على غير عادته، فبدا وسيمًا للغاية بثيابه المنمقة، أرادها أن تنبهر بهيئته، أن يلفت أنظارها، أن يشعرها بأهمية أبسط الأمور من منظوره حتى لو كانت في الملبس فقط.

راقبته نيرمين من الشرفة بأعين نارية، كادت تفترسه نظراتها، تمنت لو كانت هي العروس، أن تتأبط في ذراعيه، أن تسير وسط الجيران بخيلاء ومرفوعة الرأس لأنها مخطوبة لسيد رجال المنطقة.
كانت سترقص طربًا، وتقيم الأفراح والليالي الملاح، لكن ذهبت أحلامها أدراج الريح، وباتت تعيسة الحظ، خائبة الرجاء.
ولم تكن لتفوت فرصة مثل تلك لتظهر حقدها وغلها، فأصرت على الذهاب معهم.

ترقب على أحر من الجمر نزولها، وظل يتلفت حوله بضيق كبير حتى لمح طيفها.
انتصب في وقفته، واتسعت ابتسامته، كما تحولت نظراته للإشراق.
دنا منها قائلًا بنبرة متحمسة نسبيًا وهو مسبل عينيه نحوها: -صباح الخير، أخبارك ايه؟
ضغطت أسيف على شفتيها قائلة بحرج وهي تتحاشى النظر إليه: -الحمدلله!

وقبل أن يضيف كلمة أخرى، اقتحمت عليه نيرمين الحوار قائلة بعبوس: -مكانش ليها لازمة النزلة دي يا سي منذر، كنت هات حاجة صيني مضروبة، وأهي تقضي الغرض بردك!
اشتدت تعابير وجهه من طريقتها الفظة، ونظر لها شزرًا قائلًا بتأفف: -لا مؤاخذة الصيني ده ليه ناسه، لكن أنا بأجيب بقيمتي!
ردت عليه بامتعاض: -طبعًا قيمتك على عينا وراسنا يا سي منذر، بس الفلوس دي هتترمى في الأرض، فخسارة تضيعها على الفاضي!

رمقها بنظرات ساخطة وهو يرد بصلابة: -مالكيش فيه!
ثم استدار برأسه ناحية أسيف متابعًا: -يالا يا عروسة، اتفضلي!
توردت وجنتي أسيف بشدة من تلك الكلمة، وبخطوات متعثرة تحركت صوب سيارته لتجلس في المقعد الخلفي.
بعد لحظات كان الجميع بالسيارة، فانطلق بهم منذر نحو أشهر منطقة تضم أكبر محال الصاغة.
أوقفها عند الناصية، ثم التفت برأسه للخلف لينظر مباشرة في عينيها متساءلًا باهتمام:
-تحبي محل ايه؟

احتارت أسيف في الرد عليه، فرأسها كان خاويًا، هي بصعوبة تحاول الاستمرار في تلك التمثلية الزائفة، لذلك ردت باقتضاب:
-أي حاجة، مش هاتفرق!
فرك طرف ذقنه بكفه متابعًا: -أنا في دماغي محل كويس، بس مش عارف إن كان ذوقي هيعجبكم ولا..
قاطعته عواطف قائلة بامتنان: -يا بني كتر خيرك، ده كفاية واقفتك معانا!
رد عليها بإصرار جاد: -الأصول أصول يا ست عواطف!
احتقنت عيناي نيرمين بشدة، واكتسى وجهها بحمرة مغتاظة.

رمقت أسيف بنظرات حاقدة مشتعلة، وتمتمت مع نفسها بغضب: -يا بت المحظوظة، موديكي عند أشهر جواهرجي في الحتة كلها! بوز فقر!
حدقت بشرود كبير في تلك الأشكال المختلفة للخواتم، وتنوعت نظراتها ما بين الإعجاب والقلق.
أرادت شيئًا محددًا، وصممت على البحث عنه.
أخرجها من حيرتها صوت منذر متساءلًا بحماس: -ها عجبتك حاجة؟
ضغطت أسيف على شفتيها قائلة بتردد: -يعني. أنا في دماغي حاجة تكون خفيفة كده، ومش فيها شغل.

عقد ما بين حاجبيه متساءلًا باستغراب: -ليه؟
نظرت له بجدية وهي تقول بغموض: -أكيد انت فاهم كويس!
انتصب في وقفته، وحدق فيها بنظرات شبه صارمة مرددًا: -بس إنتي هاتتخطبي لمنذر حرب، مش أي حد، يعني لازم تكون حاجة من قيمتي وقيمتك!
-بس..
رفع يده في وجهها مقاطعًا باقتضاب: -متجادليش كتير، هي كلمة!
استدار برأسه ناحية صاحب محل الصاغة موجهًا حديثه له: -شوفلنا أحسن حاجة عندك!

ابتسم الأخير بتكلف وهو يرد بدبلوماسية معتادة: -طبعًا يا فندم، حضرتك تؤمر!
أزعجها تصرفه المعاند، فاقتربت منه أكثر، فتقلصت المسافة بينهما إلى خطوة واحدة، وزادت هي من نقصها بميلها عليها برأسها هامسة بضيق:
-لو سمحت يا أستاذ منذر! إنت عارف إني مش موافقة على الموضوع من الأول، فأرجوك ماتضغطش عليا!
تفاجأ من قربها الشديد، وشعر بخفقان شديد في قلبه.
لم يتخيل للحظة أن تؤثر به هكذا، أن تحرك فيه شيئًا وبقوة.

طالعته بنظرات متعجبة من تحديقه بها، فابتسم لها قائلًا بمزاح: -طب اتفرجي! ده حتى الفرجة ببلاش!
نظرت له بضيق أكبر، فأصر قائلًا: -اتفرجي بس، متفقين؟
اكتفت بالابتسام، وعاودت التحديق في الخواتم البراقة أمامها.
راقبها بنظرات دقيقة متأملة لكل ردة فعل تصدر عنها، أراد أن يعرف وبشدة إلى أي شكل تميل، فقد دار في رأسه فكرة ما.

استشاطت نظرات نيرمين على الأخير، وأحست بسخونة منبعثة من جسدها المتقد على جمراته الملتهبة.
اقتربت من والدتها، ومالت على كتفها لتقول بصوت خفيض من بين أسنانها المضغوطة: -شايفة يا ماما الدهب، بصي!
ردت عليها عواطف بإيماءة خفيفة من رأسها: -ربنا يعوضك بابن الحلال اللي يجيبلك أحسن منه!
همست لها بحقد مسلطة أنظارها على ابنة خالها: -كفاية الوكسة اللي اتوكستها، وغيري واخد الحلو كله.

ربتت أمها على كتفها مرددة: -صفي قلبك، وربنا هيكرمك!
بعد لحظات، كانت قد انتقت الأقرب إلى رغبتها، خاتمًا بسيطًا رقيقًا، والأهم خفيفًا في وزنه، فلم يكلفه إلا القليل.
أزعجه اختيارها، ومع ذلك لم يعترض، وبضجر كبير اشتراه لها.
نظرت لها نيرمين بسخط وهي تبرطم مع نفسها: -وش فقر طول عمرها، حد يقول للنعمة لأ؟

غص صدرها بغيظها الحقود، فكورت قبضتها، وهمست لوالدتها قائلة بازدراء: -بأقولك ايه، أنا طالعة أشم شوية هوا برا لأحسن اتخنقت من الوقفة هنا!
هزت عواطف رأسها بالإيجاب قائلة: -وماله يا بنتي! واحنا لما نخلص هانطلعلك على طول
-طيب
قالتها نيرمين وهي تعلق حقيبتها على كتفها متجهة نحو باب المحل.

كانت تنفس نارًا من أذنيها، أوشكت على الانفجار من شدة غضبها المكتوم، لذلك فضلت الانسحاب مؤقتًا حتى تضبط انفعالاتها الهائجة.
سريعًا ما تأججت مشاعرها المحتقنة حينما لمحتهما عند محل الصائغ المجاور، فضاقت نظراتها، وقست تعابير وجهها للغاية.
انتوت نيرمين أن تفرغ شحنتها الغاضبة فيهما، خاصة أنها فرصة لا تعوض..
بتجهم واضح على تعابيرها المتصلبة دومًا اتجهت صوبهما، خاصة حينما رأت بصحبتهما رجلًا غريبًا وعائلته.

لم يكن الأمر بحاجة إلى فطنة أو ذكاء خارق لتخمين السبب.
تغنجت بجسدها واضعة يدها على منتصف خصرها، ثم نظرت لهما شزرًا قبل أن تنفرج شفتيها لتصرخ بتهكم:
-أهلا بنسايب الهم والندامة!
ارتفع حاجبي لبني للأعلى حينما رأتها قبالتها، وسريعًا ما حل الوجوم الممزوج بالسخط على نظراتها.
هتفت بصدمة: -إنتي؟!
رمقتهما نيرمين باحتقار وهي تتابع بوقاحة فظة: -ها، ده عريس الغفلة الجديد، لأ عرفتوا توقعوا صح المرادي!

صاحت بها شاهندة بعصبية: -جرى ايه يا بت انتي، لمي نفسك يا مصدية بدل ما..
قاطعتها نيرمين صارخة بانفعال متعمد وهي تلوح بذراعها في الهواء بحركات مستفزة: -مصدية مين يا مقشفة، يا، ، ده احنا دافنينه سوا يا حيلتها!
حدق الرجل بغرابة في أوجه ثلاثتهن، لم يعرف بماذا يرد، فقد كان مدهوشًا بما يحدث حوله.
ردت عليها لبنى مهددة: -وعزة جلال الله يا بنت ال، يا، لو ما اطرقتي من هنا، لأجيبك زي زمان تحت رجلي و..

قاطعتها نيرمين صائحة بحدة: -اللسان الزفت مافيش أسهل منه
تحركت لبنى خطوة نحوها محاولة الاشتباك معها بالأيدي هاتفة بتشنج: -انتي ناقصة رباية من يومك و..
دفعتها نيرمين من يديها وهي تكركر ضاحكة لتثير أعصابها بطريقة مستفزة، ثم وجهت حديثها للرجل الذي كان يتابع الموقف باندهاش عجيب قائلة:
-انفد بجلد يا أخ، دول عيلة سو، وربنا إنت أمك دعيالك عشان شوفتني النهاردة، العالم دول ولاد تيت، هيسفوا دمك!

انفجرت فيها لبنى بوابل لاذع من السباب النابي، لكن لم يردع نيرمين هذا عن مخططها الانتقامي، فتابعت قائلة بامتعاض:
-شايف البكابورت اللي طالع من بؤها، واسمها حماتك، دي حُمى بعيد عنك!
دنت منه مشيرة بيدها: -اخلع منهم أحسنلك، خدها مني كلمة، ده أنا كنت معشراهم بقالي سنين
ردت عليها شاهندة بصراخ حاد: -أخويا كان عنده حق يطلق واحدة زيك مالهاش ظابط ولا رابط، ده انتي تكفري العاقل يا..!

أضافت لبنى بوعيد شرس: -ما بقاش أنا أم حاتم يا بنت عواطف إن ما دفعت تمن ده غالي!
ضحكت نيرمين عاليًا لتزيد من حنقهما، ثم تمايلت بميوعة بجسدها وهي تضيف: -كان زمان وجبر! احنا نحب نخدم بردك!
أولتهما ظهرها وهي تبتسم بتشفٍ عظيم، شعرت بأن نيرانها المستعرة قد هدأت قليلًا، ردت إليهما جزءًا مما يستحقان.
تنفست بعمق وهي تتجه عائدة إلى محل الصائغ.

رغم اعتراضه عليه إلا أنه اضطر أن يرضخ مجبرًا لرغبتها، لكن هذا لم يمنعه عن التفكير في شيء أخر.
هو راقب جيدًا نظراتها المتطلعة للمصوغات الذهبية، وجاهد لمعرفة متى تتلألأ حدقتاها بنظرات مشرقة، ومتى تنظر بفتور لها حتى يتمكن من اختيار هديته المناسبة.
وبجدية هادئة استطرد حديثه قائلًا: استنوني في العربية، وأنا هحاسب الأستاذ وأحصلكم
ابتسمت عواطف قائلة بسعادة: -ماشي يا سي منذر!

ثم ربتت على ظهر ابنة أخيها متابعة بلطف: -بينا يا أسيف
اكتفت الأخيرة بالإيماء برأسها، وتحركت معها إلى خارج محل الصائغ.
مال منذر على صاحب المحل قائلًا بخفوت جاد: -دلوقتي عاوزك تجيبلي الحاجات اللي هاشاورلك عليهم، وتلفهم في علبة محترمة عشان العروسة
توهجت عيناي الصائغ بوميض متحمس وهو يرد: -تمام يا باشا، أحلى حاجة للهانم!
التوى ثغره للجانب قائلًا باقتضاب: -ماشي!

باهتمام واضح بدأ في اختيار ما انجذبت إليه حبيبته عله يسعدها بطريقة أو بأخرى.
لاحقًا، أوصلهن منذر إلى المنزل مؤكدًا على قدومه بصحبة عائلته مساءً للتقدم رسميًا بخطبتها - حتى وإن كانت زائفة - فقد أراد اتباع الأعراف والتقاليد.
وبالطبع لم تدخر عواطف وسعها في ترتيب المنزل وتجهيزه لاستقبال ضيوفها اليوم.
فالليلة مميزة للغاية، وهي تريد الاحتفال بها فهي فرصة طيبة لتطرق الفرحة باب منزلها.

هتفت بنشاط: -يالا أوام يا نيرمين، عاوزين نمسح الصالة و..
التفتت بوجهها المتجهم نحوها مقاطعة بسخط: -ارحميني يا أمي، وسطي مقطوم من صباحية ربنا!
تعقد وجه والدتها صائحة بانزعاج: -هو انتي عملتي حاجة؟ ده أنا اللي بيشيل وبمسح، مجاتش من نص ساعة احتجتلك فيها!
ردت عليها نيرمين بتبرم ملوحة بيدها: -أنا مش عارفة ليه قلبة البيت دي؟ هي أول واحدة تتنيل تتخطب، ما أكم مليون غيرها..

قاطعتها عواطف قائلة بحدة: -خلاص، مش عاوزة منك حاجة، ربنا يديني الصحة! روحي لبنتك شوفيها!
زمت فمها رامقة والدتها بنظرات حادة، ثم أولتها ظهرها متجهة نحو غرفتها مبرطمة بكلمات ناقمة.
رفضت أسيف ارتداء أي ثياب مبهرجة رغم محاولات بسمة إقناعها بالعكس.
حركت رأسها بالنفي قائلة بإصرار: -لأ، مش عاوزة!
ألحت عليها بسمة قائلة: -دي قراية فاتحة، يعني المفروض تكوني شيك و..

قاطعتها أسيف قائلة بضجر: -احنا فاهمين إنها أي كلام، يعني مالهاش لازمة التمثيلية دي!
أشارت لها ابنة عمتها بيدها متابعة باهتمام: -ماشي، بس صدقيني هايبقى شكلك أحلى
اتجهت هي ناحية خزانة الملابس بخطوات شبه عرجاء لتعيرها إحدى ثيابها.
دققت النظر فيما تملك، ورغم محدودية الاختيارات، إلا أنها أثرت أن تعطيها أفضلهم.
التفتت ناحيتها جاذبة ثوبًا رقيقًا من اللون الزيتي مصنوع من قماش الساتان هاتفة بحماس:.

-بصي بقى ده حلو خالص!
رمشت أسيف بعينيها مرددة بحرج: -هو جميل والله، بس، أنا..
اقتربت منها قائلة بعبوس مصطنع: -عشان خاطري، يعني هاتكسفيني، يالا بقى!
ابتسمت مستسلمة وهي تحرك رأسها: -ماشي! مش هازعلك!
تبدلت سريعًا ملامحها للحماسة والسعادة، وتابعت قائلة: -أنا هاظبطك، متشليش هم!

ترجل من سيارته وهو في قمة أناقته، حيث ارتدى حلة جديدة سوداء ناثرًا عليها عطره الهاديء، ومن أسفلها قميصًا أبيض اللون، وتأكد من إكمال وجاهته بوضع رابطة عنق تحمل لون الحلة.
بدا كرجال الأعمال في تلك الهيئة الكلاسيكية الرائعة.
سلط أنظاره للأعلى محدقًا في الشرفة العلوية، ومخرجًا من صدره تنهيدة حارة.
ها قد اقترب خطوة منها، حتى وإن كانت مؤقتة، لكنها حتمًا السبيل إليها.

استند دياب بمرفقه على سقف السيارة رافعًا حاجبه للأعلى ليبدي إعجابه وهو يقول: -الشياكة ليها ناسها!
أخفض أخاه نظراته نحوه، وابتسم له قائلًا بصوت رخيم وهو يجذب ياقة سترته للأسفل: -ها، ايه رأيك؟
مط دياب فمه للجانب هاتفًا: -مافيش بعد كده!
حدق منذر في باقة الورد التي يحملها أخيه متساءلًا بفضول: -انت جايب الورد ده لمين؟
ارتبك دياب لوهلة متعللًا: -ده. ده من الواد يحيى للأبلة بتاعته.

جمد منذر أنظاره عليه قائلًا بعدم اقتناع: -يحيى!
رد عليه دياب مبتسمًا ببلاهة: -اه، أصل الواد مزوق زي أبوه!
صاح طه بجدية وهو يشير بعكازه: -يالا يا شباب، مش هنتسامر كتير!
التفت منذر ناحيته مرددًا بابتسامة صغيرة: -حاضر يا حاج!

تنحنح بعدها بخشونة طفيفة، ثم أشار له بيده ليتحرك أولًا كنوع من الاحترام الشديد لشخصه، بينما تأبطت جليلة في ذراع ابنها دياب، وتهادت في خطواتها معه، في حين تسابقت أروى مع يحيى في الصعود على الدرج.
شعرت بدقات قلبها تتلاحق من توترها الواضح.
جف حلقها، ولأكثر من مرة ارتوت من المياه المسنودة على الكومود.
وضعت بسمة اللمسة الأخيرة على حجاب رأسها الذي فضلت أن يكون من اللون الذهبي ليتلاءم مع ثوبها.

رفعت سبابتها قائلة بانبهار: -واو، شكلك جميل أوي!
استدارت أسيف برأسها نحو المرآة لتطالع وجهها الذي تحول للإشراق بفضل جهود ابنة عمتها.
رمشت بعينيها غير مصدقة أنها نفسها، هي لم تضع من قبل مثل تلك الكمية من مساحيق التجميل، بل على الأرجح لم تضع إلا أحمر الشفاه الرخيص وفي المناسبات الهامة فقط.
وضعت بسمة قبضتيها على كتفيها بعد أن وقفت خلفها، ثم سألتها باهتمام: -أنفع يا قمر؟

أجابتها قائلة بحياء: -هو أنا أقدر أتكلم! بجد انتي جميلة أوي! أنا. مش عارفة أقولك ايه
-متقوليش حاجة، المهم تتبسطي النهاردة حتى لو شوية
-ربنا يقدرني وأردلك جميلك ده
-مافيش جمايل بينا! احنا بقينا اخوات، صح؟
-أيوه طبعًا.
تابعتهما خلسة من فتحة الباب المواربة وهي تتقد غيظًا من استحواذها على أختها.
استشاطت نظراتها، وشعرت بغلي الدماء في عروقها.

همست نيرمين لنفسها بنبرة مغلولة: -والله لأعكنن عليكي، إنتي مش هاتخلصي مني بالساهل!
انتبهت لقرع الجرس، فتحركت متسللة متوارية عن الأنظار.
هتفت بسمة بابتسامة عريضة: -الظاهر العريس جه، خليكي هنا شوية لحد ما نناديكي
انزعجت قسمات وجه أسيف هاتفة بضيق: -بلاش نكبر الموضوع أوي، هو..
وضعت الأخيرة إصبعها على شفتيها مقاطعة بجدية: -ششش، هو كبر لوحده، المهم افردي وشك بس عشان الميك آب مش يبوظ!

ثم داعبت طرف أنفها بإصبعها، ونظرت لها بأعين لامعة قبل أن تجذبها نحوها لتحضنها بحنو صادق.
-يا أهلًا وسهلًا بالغاليين، شرفتونا!
قالتها عواطف بنبرة مرحبة للغاية وهي تفتح الباب على مصراعيه سامحة لضيوفها بالولوج للداخل.
رد عليها طه بخشونة هادئة: -كتر خيرك يا عواطف!
اقتربت من جليلة لتحتضنها متابعة بسعادة: -نورتيني يا ست جليلة، والله احنا زارنا النبي النهاردة!
ابتسمت لها مجاملة وهي ترد باقتضاب: -تسلمي!

تساءلت أروى قائلة بمرح: -مش هاتسلمي عليا أنا ويحيى يا طنط عواطف؟
انحنت بجسدها قليلًا نحوها، واحتضنت وجهها الطفولي براحتيها لتقبلها قائلة بود: -ده السلام كله ليكي يا غالية يا بنت الغاليين!
ثم ضمت الصغير يحيى إلى صدرها لتقبله من جبينه هو الأخر.
تنحنح منذر بخشونة ليلفت انتباهها مازحًا: -ومافيش اتفضل للعريس و..
قاطعته قائلة بحرج كبير: -يا خبر أبيض، هو احنا نقدر، ده بيتك يا سي منذر، اتفضل. اتفضل!

استقبلتهم في غرفة الصالون مبدية سعادتها الغامرة بقدومهم.
وبامتعاض مزعوج ولجت نيرمين إلى الداخل لترحب بهم.
بادلتها جليلة نظرات أسفة وشبه حزينة لعدم وقوع الاختيار عليها، كانت تتمنى أن تكون هي العروس المنشودة، لكن خاب رجاؤها، وفي نهاية المطاف القرار الأخير بيد ابنها البكري.
خرجت من شرودها المؤقت على هتاف عواطف القائل: -اتفضلوا الحاجة الساقعة!
ظلت أنظاره معلقة بباب الغرفة مترقبًا ظهورها بين لحظة وأخرى.

لم يرغب في إضاعة فرصة أن يكون أول من تقع عليها عينيه.
انتبه لصوت أبيه الأجش وهو يتساءل بجدية: -أومال العروسة فين؟ تقلانة ولا..
أخفت عواطف ابتسامتها الحرجة بكف يدها وهي تجيبه: -ما انت عارف البنات يا حاج طه، بيتكسفوا في المواضيع دي!
هز رأسه بتفهم، ثم ربت على فخذ ابنه متابعًا بنبرته الجادة: -وماله، بس عريسنا عاوز يقول الكلمتين اللي عنده في وجودها!

ردت عليه عواطف بابتسامة متسعة للغاية: -ثانية وهاتكون عندكم يا حاج!
رغم إدراكها أنها لا تشغل باله في تلك اللحظة إلا أنها لم تفقد الأمل، جمدت نرمين نظراتها عليه طامعة في التفاتة خاطفة منه نحوها.
كادت دقات قلبها تصم أذنيها من فرط الارتباك والتوتر.
ازدردت ريقها لأكثر من مرة وهي تقدم خطوة وتؤخر الأخرى، لم تشعر بمثل هذا الاضطراب المنفعل من قبل.

دعمتها بسمة في مشيتها، أو بالأحرى استندت عليها أثناء سيرها المتباطيء نحو غرفة الصالون.
استشعر فؤاده وجودها قبل أن يراها، فثبت أنظاره على الباب.
خفق بشدة حينما رأها تطل كالبدر في تمامه عليه.
لم يشعر بجسده وهو يهب واقفًا مستقبلًا حضرتها الآسرة بتلهف كبير.
التوى ثغر منذر للجانب مُشكلًا ابتسامة متشوقة، ولمعت نظراته ببريق الحب.

لم يختلف حال أخيه عنه كثيرًا، بل ربما أشد وطأة منه، هو يحترق شوقًا بداخله، تبدلت تعابير وجهه للإشراق، ولم يكترث بافتضاح أمره، فالمهم الآن أن تشعر هي تحديدًا بما يكنه لها في قلبه.
هتف الحاج طه قائلًا وهو يضرب بعكازه الأرضية: -تعالي يا عروستنا!
وضعت عواطف يدها على ظهرها لتدفعها نحو الداخل متابعة بنبرة مشجعة: -خشي يا بنتي، سلمي على عمك الحاج طه، والست جليلة!

أطرقت رأسها في خجل وهي تتجه نحوه أولًا، ثم مدت يدها لمصافحته، وتحركت بحذر نحو جليلة لترحب بها.
رمقتها الأخيرة بنظرات شبه ضائقة، لكن بقي وجهها خاليًا من أي تعبيرات مزعوجة.
راقبتها أعين منذر، ومع كل خطوة تخطوها بقربه، كانت أنفاسه تتسارع، وحماسه يزداد.
استقر الجميع في مجلسه، وبدأ طه في إتمام مهمته بالتقدم لخطبتها.
سلط أنظاره عليها متساءلًا بصرامة: -ها يا عروسة، ايه رأيك؟

فركت أسيف أصابعها بارتباك كبير، صمتت للحظات تفكر في الأمر، ورغم إعلانها موافقتها مسبقًا، إلا أن تنفيذ الأمر على أرض الواقع أصعب بكثير.
تصارعت الأفكار في رأسها، وتخبطت قرارتها، مازالت تخشى من تلك الإقدام عليها.
كانت أحلامها حول تلك الليلة مختلفة كليًا، فقد تمنت أن يكون والدها جالسًا بزهو في منزلها ومن حوله المعارف والأقرباء.
يبدي شروطه بإباء وثقة، فمن سينال درته المكنونة لابد أن يستحقها.

أما والدتها فكانت تحلم بها تزينها، تضع فوق حجاب رأسها تاجًا صغيرًا ليزيدها جمالًا.
لمعت عيناها تأثرًا، وسحبت نفسًا عميقًا لتضبط انفعالاتها قبل أن تبكي بلا تبرير.
طال صمتها، وزاد قلقه، أوشك صبره على النفاذ من سكوتها المريب.
تجمدت عيناه عليها محاولًا سبر أغوار عقلها.
دومًا تفاجئه بتهورها، بقرارات عجيبة تصدمه.

للحظة ظن أنها ربما سترفض، وستتعمد إحراج عائلته، لكن تبددت أوهامه، حينما همست بنبرة شبه متلعثمة وقد اعتلت الحمرة وجهها:
-أنا. انا موافقة!
تنفس الصعداء لموافقتها، وهتف غير مصدق: -يبقى نقرى الفاتحة!
أيده والده قائلًا بابتسامة هادئة: -وماله، على بركة الله، الفاتحة. بسم الله الرحمن..
كانت معظم الأوجه فرحة، أو على الأغلب راضية بتلك الخطبة، إلا وجهها تحول للإظلام، ونظراتها للقتامة.

كتمت حقدها في قلبها مجبرة، لكن وعيدها بالانتقام وتعكير الصفو بينهما لن يخبو أبدًا.
أطلقت عواطف زغاريد متعاقبة كتعبير رمزي عن فرحتها، وإعلانًا صريحًا عن وجود مناسبة سارة بأهل هذا المنزل، أعقبها هتاف جليلة:
-لبس عروستك الدبلة يا ابني!
أومأ برأسه مرددًا: -حاضر.
نهض من مكانه، ومد يده ليتناول العلبة الصغيرة الحمراء التي تحوي خاتمي الخطبة من والدته، ثم دنا من عروسه.

تنحت بسمة جانبًا مفسحة له المجال ليجلس على مقربة منها، ووقفت على الجانب تتابعهما بسعادة واضحة.
أخرج منذر الخاتم الخاص بها من العلبة، وأسبل عينيه نحوها قائلًا بهدوء: -ايدك يا عروسة!
مدت يدها المرتجفة نحوه، وزادت رجفتها وهو يتلمس كفها محاولًا وضعه في إصبعها.
سحبت يدها للخلف مكملة إرتدائه، وتحاشت النظر نحوه تمامًا.

انتظر أن تفعل مثله، لكنها بقيت على جمودها، فمال عليها هامسًا بمرح: -وأنا مش هالبس دبلتي ولا ايه؟ أنا معاكي في الخطوبة دي!
ابتسمت رغمًا عنها لتصرفها الأخرق، وتناولت منه خاتمه، ثم بإصبعين مرتعشين جاهدت لوضعه في إصبعه الغليظ.
ضغطت على شفتيها بقوة وهي تفعل هذا، فبدت كمن يقوم بعملية جراحية حساسة للغاية.
نظر لها مدهوشًا، لكنه لم ينكر استمتاعه بالأمر.

على الجانب الأخر، استغل دياب الفرصة للتودد إلى حبيبته، فاقترب منها بدرجة كبيرة حتى أوشك ذراعه على ملامسة ذراعها.
شعرت بسمة بالحرج من جرأته، فنظرت له بقوة، فابتسم لها بسخافة.
رفع فجأة باقة الورد أمام وجهها دون أن يعلق، فسألته بغرابة: -ده ليا؟
أجابها مازحًا: -لأ للفازة، لاقيتها فاضية كده ومكتئبة فقولت أنعنشها!
انعقد ما بين حاجبيها بدرجة كبيرة، وردت عليه بعبوس قليل: -حضرتك جاي تهزر!

رد عليها معاتبًا: -هو في حضرتك بعد دش المياه إياه، فاكراه يا أبلة؟
توردت وجنتاها كليًا من تذكيره لها بذلك الموقف المشحون بينهما.
تابع قائلًا بابتسامة لطيفة: -عمومًا احنا اتصفينا خلاص، والورد ده ليكي يا أبلة!
شعر بانجذاب بنطاله الرمادي للأسفل، فأخفض بصره ليجد صغيره ممسكًا به.
داعب دياب خصلات رأسه بكف يده بحنو أبوي واضح.
هتف يحيى ببراءة: -سلامتك يا مس بسمة!
ردت عليه بنبرة رقيقة: -الله يسلمك يا حبيبي.

أشار الصغير نحو ساقها متساءلًا بفضول طبيعي: -رجعلك بتوجعك يا مس؟
أجابته باقتضاب وهي تعض على شفتها السفلى: -يعني. شوية!
تابع الصغير مرددًا ببراءة وهو يوزع أنظاره بينهما: -خلاص قولي لبابي يشيلك!
ارتفع حاجباها للأعلى في صدمة واضحة، وشهقت بصدمة خافتة: -نعم
تفاجأ دياب هو الأخر من جملة ابنه، فوضع يده على فمه قائلًا بابتسامة حرجة: -مسحوب من لسانه العفريت ده!

أبعد الصغير يحيى كف والده عن شفتيه ليوضح مقصده ببراءة: -أنا لما رجلي بتوجعني بأقول لبابي ده وهو بيشلني على طول فمش بأحس بأي وجع، فانتي قوليله زيي!
رفعت بسمة أنظارها نحو والده لترمقه بحدة وهي ترد بسخرية طفيفة: -لأ فيه الخير، حنين من يومه!
حك دياب مؤخرة رأسه مضيفًا بسذاجة مرحة: -احم. مش عارف الواد ده طالع غلباوي لمين، حاجة غريبة، أنا مش كده خالص!

ضاقت نظراتها نحوه حتى كادت تخترقه وهي تقول بجدية: -انت هاتقولي!
وقبل أن تفيق من حرجها الواضح أمام الجميع، اندهشت من إعلانه الصريح بنبرة ثابتة: -دي بقى هديتي للعروسة، يا رب بس تعجبك!
حركت أسيف عينيها نحوه لتحدق فيه بعدم تصديق.
ابتسم لها منذر وهو يخرج تلك العلبة المغلفة من الحقيبة القماشية ليضعها أمامها.
أومأ لها بعينيه متابعًا بهمس جاد: -افتحيها يا عروسة!

تجهمت قسمات وجهها إلى حد كبير حينما رأت ما أهداها إياه؛ لقد انتقى لها من المشغولات الذهبية ما يخطف الألباب، ويذهب العقول.
شعرت بخفقان قوي في قلبها وهي ترى بريق ذلك الذهب الذي تتخطى قيمته الألوف بكثير، وما زاد من توترها هو تعمده اختيار تحديدًا ما أحبته من أشكال رقيقة.
حدقت فيه مرة أخرى بنظرات معاتبة، وقبل أن تحرك شفتيها لتعترض هتف بصرامة جادة: -النبي قبل الهدية، وهدايا منذر حرب مش بتترد مهما حصل!

رمقها بنظرات أكثر شدة وصرامة ليمنعها من الرفض.
صفعة أخرى مهلكة تلقتها نيرمين على وجهها بعد تصرفه المفاجيء. لم يطرأ ببالها أن يقدم لها ذلك الكنز الثمين كهدية متواضعة لمجرد خطبتهما.
صرت على أسنانها بقوة حتى كادت تحطمهم من فرط غيظها المحتقن، فتلك التعيسة المعدمة حازت على الهيبة والمال معًا..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة