قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ابن رستم للكاتبة ياسمين عادل الفصل التاسع والثلاثون

رواية ابن رستم للكاتبة ياسمين عادل الفصل التاسع والثلاثون

رواية ابن رستم للكاتبة ياسمين عادل الفصل التاسع والثلاثون

رائحة الحُب تفوح ولو تبعد عنك آلاف الأميال.

لم يكن عقلها في مكانهِ منذ نوبة الصراخ والصياح التي دخل بها مروان حينما عاد إلى وعيه، حتى أضطر الطبيب لإعطاءه جرعة مهدئة كي لا يؤذي نفسه ويفتق جراحه.
وقفت تنظر إليه بعد أن سكن وغفى من جديد، وأطبقت جفونها المحترقة وفركتهما قائلة: - مكنتش اعرف إنه ممكن يتعرض لأزمة نفسية
ف أردف رستم: ..
- اللي شافه مش قليل ياتمارا، خسر صحابه وزمايله قدام عينه.

ثم التفت ينظر لحال أثير التي حضرت منذ قليل لتشكو إليه مما حدث، ما زال وجهها عابس متجهم وعيناها تحمل الكثير من الدموع التي تختزنها بصعوبة، ربت رستم على كتفها يآزرها قائلًا: - مضايقيش نفسك ياأثير، إن شاء الله قلقك هيختفي بمجرد رجوع ظافر
ف انفعلت أثير بسبب هدوءه الغير مبرر و: - إزاي يعني يابابا! حضرتك مش شايف مروان حصله إيه! لو حصل حاجه تاني لظافر أنا هعمل إيه!

- ده واجبه يابنتي لازم طبعًا يقوم بيه، لو كل ظابط مراته خافت عليه زيك كده مش هيبقى عندنا ظباط، وبعدين أنا ربيت ظافر عشان يطلع زي أبوه.

كتمت أثير ما تشعر به و: - عن أذنك يابابا
- أثير!
توقفت، ف اقترب منها و: - لو محتاجة أي حاجه عرفيني
ف ابتسمت مجاملة، بسمة خفيفة لم تصل لتجويف عينيها: - شكرًا
وانصرف، هي بالكاد أخطأت حينما لجأت له، فهو الذي شجع ولده الوحيد منذ البداية كي يفنى نفسه من أجل الوطن.

عادت لمنزلها وهي تحمل حسرة وحزن شديدين، بجانب الضيق الذي يغلف قلبها وهي تستعيد في ذهنها قُبلاته الناعمة الرقيقة التي حُفرت في شعورها وقد تركها لها قبل أن يرحل، كلما تذكرت تشعر بشعورين متناقضين، سعادة لوصولها إلى مبلغها بهذه السرعة، وحزن شديد لأنها لم تهنأ به بعد، وشعور الفقد يجعلها تفقد كل أنواع الشعور سوى الضيق والضجر.

عبرت من بوابة البناية الفاخرة فوجدت الأمن يستوقفها و: - مدام أثير، الأستاذ بيسأل عن حضرتك
نظرت أثير لحالة الرجل الذي بدا وكأنه مندوب و: - أيوة
ف ناولها باقة الزهور الوردية الرقيقة و: - الورد ده لحضرتك، بس عايز توقيعك هنا.

ف وقعت له واستلمت الباقة، ثم صعدت بها وهي تتأمل زهورها المتفتحة البديعة، وعندما انفردت بها في شُقتها تفحصت البطاقة المرفقة معه لتجد مكتوبًا عليها بخط عربي جميل: ل يكن بقدر كُل أوراق زهوري قُبلات على وجنتيكِ والجبين.
-ظافر.

اتسع فمها من اليمين واليسار وكأن وجنتيها تكاد تخترق الأُذن، وضحكت بصوت مرتفع وقد ترقرقت عبرتين سعيدتين وهي تهمس لنفسها بنفس العبارة بصوت منخفض: - ليكن بقدر كل أوراق زهوري قبلات على وجنتيكِ والجبين، ظافر!
وضحكت من جديد وهي تمسح دموعها: - حبني؟ أكيد مش هيتصرف كده من فراغ؟

عانقت باقة الزهور التي باتت في أحضانها حتى صباح اليوم التالي، لم تأكل ولم تشرب وعاشت ليلها تلمس نعومة الزهور وتستنشق رائحتها وتقرأ العبارة التي أرسلها لها مرارًا وتكرارًا حتى باتت تحفظها گأسمها، لقد فاحت رائحة بوادر الحُب وأنعشت صدرها الذي مازال يكنّ الخوف عليه بداخله، وبمجهود مضني حاولت أن لا تتوهم وتفسد فرحتها بخطواته التي يخطوها نحوها، داعية الله أن يعود إليها سالمًا.

كانت تبحث گالمجنونة عن الأشياء الضائعة من خزانتها، الذهب الذي احتفظت به والنقود التي حصلت عليها بالسرقة، كل شئ مفقود.
دخل علي مُدعيًا عدم الإكتراث بها، بينما كان يراقبها منذ أيام منتظرًا اللحظة التي ستنتبه فيها لفقدان هذه الحوائج، وعندما رآها تبحث بجنون هكذا سألها: - بتدوري على إيه ياسمر؟
ارتعد داخلها وهي تستدير له و: - آ، مش حاجه مهمة، كنت بدور على حاجه شيلاها.

ثم أغلقت الخزانة و: - أحضرلك الفطار؟
فقال وهو ينظر لهاتفه بدون اهتمام: - ياريت، عشان رايح أشوف الولاد ومش عايز أتأخر
شعرت ببعض الغبطة وهي تتسائل: - وأمهم هتكون موجودة؟
- معرفش
ثم نظر للساعة و: - مش لازم تحضري الفطار، هبقى أفطر مع عمر
وشرع في ارتداء ملابسه بينما كان عقلها منشغلًا بخسارتها، وإذ به يسأل فجأة: - في حاجه ضايعة منك ولا إيه؟
ف أجابت على الفور وبدون تفكير: - لأ
ف ابتسم بسخرية و: - ماشي.

بالرغم من عدم رغبته في لقاء والده، إلا إنها بذلت أقصى مجهود كي تجعله يوافق في النهاية، حاولت تلييّن عقله قليلًا رغم إنه كان صلدًا گالصخر، وزرعت بداخله فكرة إنه لا شأن له بما يحدث بين والديه، وإنهما سعيدان بقرارهما، ولكنه كان متشبث بأفكاره حتى رآه ورأى كم كان مشتاقًا إليه.
جاهد علي لإصلاح علاقته ب ابنه، حتى إنه تحدث معه گشاب كبير قد تعدى مراحل الطفولة رغم إنه غير ذلك.

مسح على وجهه ومرر أصابعه في شعره و: - الجواز ده زي أي تجربة، ممكن تفشل وممكن تنجح، وطالما الزوجين اتفقوا إن جوازهم فشل ده مش معناه إن الحياة وقفت، في أزواج كتير منفصلين لكن بيحترموا بعض وولادهم بيتربوا بينهم
- وفي كتير عايشين مع بعض ومش عاملين مشاكل!
وكأن في عقله فكرة مترسخة يرفض تغييرها، فلم يسئم علي من محاولاته..

في حين كان نزار يستمع إليه غير مقتنع بكل تلك الحجج التي اختلقها ل يصلح علاقته مع الصغير، ولكنه لك يبدي تذمرًا أو اعتراضًا، وفي النهاية حاول أن يشتت ذهنه بأي شئ حتى ينتهي لقائهم ويصحبه نزار للخارج حيث تنتظرهم چيهان.
خرج علي برفقة عمر من المقهى وخلفهم نزار، وعندما رأى علي سيارة چيهان على الجانب الآخر، التفت خلفه و: - أنا هقول حاجه لچيهان و...

فقاطعه نزار قائلًا: - ملهوش لزوم ياعلي، خلاص كل واحد دلوقتي في حاله
ف اختلق علي حجة جيدة كي يراها و: - أنا هشوف يزن بس، مش هأخركم.

ف أومأ برأسه رغم تنبيهات رستم الغير منتهية كي لا يتركهم لحظة واحدة، عبر علي الطريق تاركًا إياهم ووقف أمام سيارتها مباشرة، رمقته بنظرات غير مفهومة، وكأنها غامضة تحتاج ل فكّ شفرتها، ثم ترجلت عن السيارة ليراها في قمة أناقتها وحُسنها، وقد بدا عليها خسارة الوزن بشكل ملحوظ رغم إنهم لا يتعدون العدة كيلوات.
دنى منها راسمًا البسمة على ثغره و: - كنت جاي أشوف يزن.

فتحت چيهان باب السيارة الخلفي وأخرجت الرضيع من عربته الصغيرة، ثم راحت تضعه بني ذراعيه، كان نائمًا حينها، فنظر له ب اشتياق واقترب من وجهه يتشمم تلك الرائحة الجميلة، وطبع العديد من القبلات على رأسه ووجنتيه، ثم سألها: - هو عامل إيه؟

ف شاركته بآخر معلومة عن صغيرهما: - أخد التطعيم بتاعه من يومين ودلوقتي بدأ يسنن، الدكتور قال في أي وقت ممكن الحرارة تعلى عليه بسبب كده وإن دي حاجه طبيعية وكتبله على خافض حرارة وقت اللزوم.

ضمه علي إليه، ثم رفع بصره ينظر إليها، أحس بنظرات جامدة لا شعور فيها، وكأنها تجاوزت كل الفترة الماضية بآلامها والآن تعيش عصرًا جديدًا، ثمة شخصية أخرى تقف أمامه غير زوجته التي تركها، هيئتها المنمقة، ثيابها، وجهها الذي نحف ف برزت تعابيره الجميلة الفاتنة، تغيرت كثيرًا.
تناولت منه يَزِن لتضعه في مكانه قبل أن يصحو، ثم التفت حول السيارة وهي تردف: - عن أذنك
- آ، چيهان.

ف نظرت نحوه منتظرة أن يسترسل في الحديث: - انتي لسه زعلانة مني؟
ف ابتسمت برضا وهي تجيب: - بالعكس، أنا مدينة ليك بشكر، لولاك كنت فضلت الست اللي بتصحى من النوم عشان تشوف احتياجات بيتها وولادها وجوزها بس، مكنش في بحياتها حاجه اسمها نفسها، شكرًا عشان رجعتني لنفسي تاني ياعلي.

ثم استقرت خلف المقود ونظرت بالإتجاه الآخر حيث يقف نزار و عمر، وأشارت لهم كي يتحركوا.
في هذه اللحظة تحديدًا، شعر بمزيج من الندم والضيق، بتسرعه الذي أدى به لمصير يجهل نهايته، أحس بأن سعادته كانت لحظية، كأنك تجرب شئ جديد، ولكن أصلك إن نسيته تتوه وتضل طريقك.
هذا ما حدث معه، انشغل بحياة أعتقد إنها ستكون سعيدة، بينما هو في طريقه للتعاسة الأبدية.

لليوم التالي على التوالي تتلقى أثير باقة زهور أحلى من سابقتها باللون الأصفر الربيعي الآخاذ، ومرفق معها بطاقة جديدة بعبارة أكثر توهجًا وتشوق: إن كانت قُبلاتي لم تكفِ، ف هاكِ عناقًا يُذيب جليد الشوق القاسي، أفتقدُكِ.
- ظافر.

لم تكن ل تُفرط بترك الزهور بعيدًا عن حُضنها، ولكن عليها الذهاب ل والدتها التي افتقدتها كثيرًا، طوال وجودها في المنزل تنظر للزهور حينًا وتعانقها حينًا وتشتمها حينًا آخر، وكأنها الشئ الذي بقى منه بعدما رحل ليهون عليها الأيام التي يبعد بها بدون خبر.

~على جانب آخر~.

كانت تمارا قد غفت بأرهاق شديد جواره وهي تنتظر أن يفتح عيناه، وفي ظل أضاءة النهار المُشعة التي كانت تغمر الغرفة، فتح مروان جفونه بعد نوم ثقيل وحرب دماغية عنيفة، نظر جانبه، فوجدها جالسة هكذا مغمضة عينيها، أطال النظر لها قليلًا قبل أن ينظر حوله، آلمته الأبرة المغروزة بوريد كفه لضخ المصل بجسده، ف رفع كفه قليلًا ينظر إليه، وإذ بخاتمه يظهر أمام عيناه، نظر حيال تمارا غير قادر على تحريك عضلات وجهه، ثم ضم أصابعه لبطن كفه وكأنه رافضًا الإستغناء عنه، تنفس وكأنه يشم الحزن بين الهواء، واستعاد أمام ناظريه رفيقه الذي مات بين يديه وأوصاه ب أبناءه، أحس بوخزة تضرب قلبه وهو يهمس بألم: - مُعاذ!

أفاقت تمارا على الفور وهبّت من مقعدها، جلست جواره وهي تشمل وجهه بنظرات خاطفة متسائلة: - أنت كويس يامروان؟ أنادي دكتور؟
هز رأسه بالنفي وهو يسأل: - ظافر فين؟ عايز أشوفه ضروري
فقالت ببعض القلق: - ظافر في مأمورية بقاله يومين لسه مرجعش
فتسائل مروان بتوجس: - راح هناك؟
فأومأت رأسها بالإيجاب، ف أطبق جفونه و: - إن شاء الله يجيب حقنا.

وفتح عيناه مرة أخرى وقد انطلقت دمعة حبسها، وسرعان ما تناولتها تمارا وهي تُهون عليه: - بلاش زعل عشان خاطري الدكتور محذر مفيش أي أنفعال
ف قال بنبرة تحمل الأسى: - أنا رجعت من الموت وسيبتهم كلهم، كلهم راحوا قدام عيني مقدرتش أنقذ حد فيهم
- دي أعمارهم
ف صاح ب انفعال: - لو كنت اتحركت بالفريق اللي معايا من غير ما استنى دعم القيادة كان زمانهم كلهم في بيوتهم، كان زمان معاذ مع ولاده دلوقتي، أنا السبب.

ف احتضنت وجهه بكفيها محاولة دعمه: - كل واحد ليه معاد يامروان، محدش يقدر يقف قدام الموت، طالما أجلهم جه خلاص
ارتخت رأسه على الوسادة ونظر للسقفية محدق فيها بشكل مطول، حتى دخل رستم كي يطمئن عن حاله ف تفاجأ به متيقظًا، انتقل نحوه بخطى متعجلة و: - حمدالله على السلامة يامروان، قلقتنا يابني، طمني حاسس بإيه؟
فأجاب بعدم شعور: - ولا حاجه، خالص.

أحس رستم بطاقته السلبية التي تطغى على تعابير وجهه، ف ربت على كتفه و: - أنتوا حققتوا ضربة قوية جدًا، صحيح كان في تمن وخساير، لكن ربنا قومك بالسلامة والحمدلله، قادرين نعوض اللي حصل، وان شاء الله ظافر يرجع بالخبر الحلو
- إن شاء الله
وضغط على فكيّه شاعرًا بطاقة هائلة من الغيظ كلما تذكر الحادث، ردد من جديد: - إن شاء الله يعمل اللي معملتوش.

اليوم الثالث على التوالي وهو غائب، ولكنه يوم غريب قليلًا، لم يرسل ظافر باقة زهور گعادة اليومين السابقين، ف بقيت أثير منتظرة أكثر من نصف يوم على أمل أن تصل، ولكنها لم تأتي، فقدت شهيتها وبقى الحزن مرافقًا لها طيلة اليوم، حتى إنها لم تستطع الخروج من المنزل لزيارة مروان بعد أن تلقت خبر إفاقته رغم ذهاب الجميع إليه، ولكن حالها وهمّها مختلف.

رنّ هاتفها، ف نهضت بعدم رغبة ونظرت لشاشته، وسرعان ما التقطته وأجابت عليه بعدما رأت أسمه منتظرة سماع صوته والإطمئنان عليه: - ظافر
ولكنها لم تجد جوابًا وكأن الصمت يزعزع من ثباتها الضعيف، ف أردفت ثانية: - ظافر! سامعني؟
ثم صاحت وقد نفذ صبرها: - ظافر! ألو
- نعم.

صرخت وهي تلتفت خلفها بعد سماع صوته الذي لمس أذنها وهو مقتربًا منها هكذا، أسقطت الهاتف وقد أرتجفت أطرافها وتجمدت وقد خرج صوتها مهزوزًا مرتجفًا: - ظ، آ...
ولم تقوَ على إكمال عبارتها حتى، ضمها لصدره يهدئ من حالتها وهو يسير بلطف على ظهرها بكفه: - أطمني، أنا هنا، أنتي على طول متوترة كده!

بكت متأثرة بالصدمة، وكأنها لم تستطع التخلص من أفكارها السيئة بعد، ف أجلسها من جديد وانحنى أمامها جالسًا القرفصاء، مسح على وجهها وهو يسأل: - إيه رأيك نسافر شهر العسل؟!
تلاشت مشاعرها السلبية رويدًا رويدًا، ومالت لتستند برأسها على كتفه ملامسة عنقهِ الدافئ و: - أنا هروح معاك آخر الدنيا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة