قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إمبراطورية الملائكة للكاتبة ياسمين عادل الفصل السادس والأربعون والأخير

رواية إمبراطورية الملائكة للكاتبة ياسمين عادل الفصل السادس والأربعون والأخير

رواية إمبراطورية الملائكة للكاتبة ياسمين عادل الفصل السادس والأربعون والأخير

الجزء الثالث: كانت محدقة فيه بصمت مريب عقب أن فاجئها بطلبهِ الغريب، ورغم شعورها الذي تحرك نحوه، ودغدغة مشاعرها التي أحست بها في الآونة الأخيرة، إلا إنها كافحت هذا الشعور بتخوف شديد من عواقبه.
رمشت مروة عدة مرات وهي تطرق رأسها لأسفل، ثم حمحمت قبل أن تجيب: - تتقدملي..! مش شايف إنك استعجلت يامحمود؟

- بالعكس، أنا اتأخرت، من ساعة ما رجعنا من اسماعيلية وانا بحاول افاتحك في الموضوع لكن كل مرة قلقي من رد فعلك كان بيوقفني ويمنعني.

نهض عن المقعد المقابل لها بغرفة المكتب التي تجمعهم، ثم اقترب منها ليجلس على حافة المكتب وهو يردد: - ربنا بعتك ليا في الوقت المناسب يامروة، انتي العوض اللي ربنا عوضني بيه بعد التعب اللي شوفته في حياتي.

هي تطمئن بوجوده، ولكن بعض النتؤات السلبية ما زالت تغلف قلبها المتعافي حديثًا، وقبل أن تعارض رغبته في الإرتباط الفعلي بها، حاوط عقلها ليسيطر عليه بذلك العرض المغري: - أنا مش عايزك تجاوبي دلوقتي، فكري وخدي وقتك، ومتنسيش إن فترة الخطوبة دي اتعملت عشان أي اتنين يتعرفوا على بعض كويس ويشوفوا هما مناسبين لبعض ولا لأ، ولو حسيتي إني مش الإنسان اللي يستحقك، أنا هنسحب بكل هدوء.

كأن هذا الحل قد أشعرها بالأرتياح أكثر، فبزغت ابتسامة متفائلة على ثغرها وهي ترد ب: - موافقة، هفكر وأرد عليك.

كان هذا هو حوارهما الأخير، قبيل أن تجيب عرضه بالقبول وتدعوه لزيارة منزلها في نهاية الأسبوع لمقابلة عمها الوحيد، تحمست بشدة، گأي عروس جديدة، و استشعرت طمأنينة غير طبيعية خلال الأيام التي تبعت هذا الحدث، وحتى اليوم، كان إغداقهِ عليها بشعور الأمان يكفيها ويفيض، يكون وجوده گالنسمة التي تُجمل يومها العملي الروتيني الكئيب، وقد استسلمت لمشاعر حقيقة على وشك أن تطفو على سطح قلبها، بعد أن وجدت طريقها الصحيح.

ورغم مرور أكثر من ساعة ونصف على هذه الحادثة، إلا إنه مازال غير مصدقًا أن المتوفي الذي حزن عليه يجلس الآن في بيته وأمامه تحديدًا، دقق عماد نظراته المتفحصة على فاروق وهي يهتف: - مش عارف أقولك إيه بعد الكلام دا ياحج، أقولك حمدالله على سلامتك ولا ربنا يصبرك على فقدان أتنين من ولادك ولا إيه بالظبط؟

ترك فاروق كأس المياه وهو يبتسم ببشاشة، ثم قال بتلقائية: - الأحسن من كل دا إني أصلح وضع تأجيل خطوبة ندى بنتك وابني عادل، عارف إن الظروف صعبة، لكن إحنا قدها بأذن الله، ومش عايز الحكاية تتأجل أكتر من كدا، على رأي المثل الحي أبقى من الميت.

ابتسم عماد رغم مشاعره المضطربة منذ هذا الحين، ثم ردد: - ندى بنتك ياأستاذ فاروق، وربنا يعوض خسارتكم خير
تنهد فاروق بارتياح و: - نقول على بركة الله، الأسبوع الجاي نقرأ الفترة ونلبس الشبكة، إيه رأيك؟
- على خيرة الله
ف ارتفع صوت دريّة ب زعروطة مرتفعة أثر سماعها هذا الخبر المفرح وهي بالقرب من غرفة إستقبال الضيوف، ف ضحك فاروق حينما صاح عماد معنفًا إياها: - ميصحش كدا يادرية! الناس لسه عندهم حداد.

ف تدخل فاروق قائلًا: - رفعناه من زمان ياأستاذ عماد، دلوقتي للولاد بس، سيبها على راحتها
ثم أستند على عصاه و: - أنا هنزل عشان السواق مستني تحت، وان شاء الله نشوف يوم ننزل نجيب فيه شبكة عروستنا.

صافحه بحرارة وهو يدقق نظراته عليه، ولم يستطع منع نفسه من التساؤل مرة أخرى: - يعني كل دي تمثيلية وانت حي قدامي دلوقتي، صح؟
تعالى صوت ضحكة فاروق غير مصدقًا هذه الحالة التي أوقع فيها الرجل، لقد فقد عماد عقله بالفعل حتى إنه لا يصدق عيناه، ف ربت فاروق على كفه و: - أنا حي، والله حي، لسه ربنا مأذنش بمعادي
فأطرق عماد نظراته وحمحم: - ربنا يديك طولة العمر.

وصحبه للخارج ليتواجه مع دريّة: - تسلم إيدك على القهوة ياست الكل
- تسلم ياحج، مع ألف ألف سلامة
ثم ولجت للداخل، نزعت حجابها ورفعت حامل الأكواب عن المنضدة وكادت تخرج لولا دخول عماد: - صحيح الفلوس دي نقمة على الواحد ياعماد، شوف العيال كانوا عاملين إزاي عشان الفلوس وأبوهم مش حارمهم من حاجه، الحمد لله إن الواحد مستور ومرتاح باله، ملعونة الفلوس اللي بتغير في البني آدمين كدا.

عبست دريّة فجأة و: - فاتحة مروة آخر الشهر، يعني كدا البنتين هيتخطبوا في شهر واحد!
- ربنا يقوينا على جهازهم، أنا مش شايل هم ندى زي مروة، البت دي قلقاني عليها على طول.

مضت دريّة في طريقها نحو المطبخ وهي تتحدث إليه: - ياخويا متقلقش، أنا لما اتكلمت معاها حسيت إنها المرة دي مياله وموافقة، ومش هترفض زي كل الخُطاب اللي فاتوا، وبعدين ده زميلها ف المكتب، يعني عرفاه وضمناه.

وعادت إليه مرة أخرى: - هو انتوا متكلمتوش في تفاصيل الجهاز والفرش ليه ياعماد؟
ضرب عماد الكفين سويًا وهو يردد: - ياولية أنا كنت قاعد بنص دماغ، الراجل لسه راجع من قبره، أنا نفسي حاسس إني مكنتش قاعد معاه وكان بيتهيألي، وبعدين هو قال بالحرف كدا متشيلش هم ومش هنختلف، عشان شاريين بنتنا.

ثم عاد يتحدث لنفسه من جديد: - لا حول ولا قوة إلا بالله، الراجل مات وصحي في أقل من شهر ونص، صحيح يُحي العظام وهي رميم!

منذ أن بدأت فريدة العلاج من ثلاثة أسابيع تقريبًا، وهي تعاني الويلات خلال الجلسات العلاجية، ولكنها تحملت كل ذلك في سبيل أن تقف على ساقيها مرة أخرى..
لم تشعر طوال السنوات السابقة إنها بحاجه للعودة من جديد بقدر ما تشعر الآن.
ساندها رائد حتى تمددت بجسدها على الفراش ثم دثرها سعد بالواقف بالجهه الأخرى و: - أجيبلك ميا ياماما فريدة؟
- ياريت ياسعد، عطشانة أوي.

وأنصرف الصبي ملبيًا رغبتها، بينما جلس رائد القرفصاء وهو ينزع عنها حجاب رأسها: - قوليلي ياماما، الوجع راح شوية؟
رفعت رأسها عن الوسادة لينتزع الحجاب من أسفلها، وأجابت: - شوية، ربنا يعجل بشفايا عشان تعبت
- معلش، فاضل أسبوع ونبقى خلصنا أصعب مرحلة من العلاج
ولجت رفيف وهي تحمل صحن حساء ساخن بالخُضار، ورددت: - عملالك شوربة خضار هتعجبك أوي ياماما.

ثم اقتربت منها، وضعتها على الكومود قبل أن تساعدها في الجلوس و: - ما تيجي تقعدي معانا يومين ياماما بدل ماانتي هنا لوحدك
هزت رأسها بالرفض و: - سعد معايا يارفيف متقلقوش عليا، وبعدين أنا مش هرتاح غير هنا
تناولت منها حامل الطعام الصغير و: - تسلم إيدك يابنتي
وقبل أن تحتسيه، أحضر سعد كأس المياه الباردة: - الميا أهي
تناولتها منه رفيف بينما قالت فريدة: -غير هدومك ياسعد ويلا شوف مذاكرتك.

- حاضر ياماما، بس هقعد معاكي شوية صغيرين
فأشارت فريدة بسبابتها محذرة إياه: - سعد! أنت مذاكرتش امبارح ولا النهاردة، روح شوف اللي وراك لو عايزنا نشوف الفيلم الأجنبي سوا بالليل.

ف أسرع بالنهوض وقد تحمس: - حاضر، هروح أهو
واختفى بسرعة البرق، تتبع رائد انصرافه ثم عقب: - خلاص مبقتيش تستغني عن سعد ياماما! وكمان بتتفرجوا على أفلام سوا!
ثم نظر للجانب الآخر: - خليكي فاكراها، بقالك سنين معملتيش معايا كدا
ف ابتسمت فريدة وهي تلوك الطعام بفمها و: - أنت بتغير يارائد!، طب ده انت بالذات خدت الدلع كله مني
ثم نظرت ل رفيف و: - وبعدين معاك رفيف، انت هتطمع!

أنحنى يُقبل رأسها و: - ربنا يخليكي لينا
ثم نظر لساعة يده: - يلا ياحببتي عشان أوصلك قبل ما انزل تاني
نهضت رفيف و: - ثواني أجيب شنطتي والچاكت بتاعي
وخرجت، علق رائد بنظراته على والدته و: - محتاجة حاجه ياماما قبل ماانزل؟
- لأ ياحبيبي سلامتك، آ...
- قولي ياماما، في إيه؟
ترددت فريدة قبل أن تقول ذلك، ولكنها في النهاية أخبرته: - مش هتروح لجدك؟

تجهم وجهه ونظر للجانب الآخر وهو يقول: - بطمن عليه على طول من عمي، وعرفت إنه خد شقة جديدة واتنقل فيها هو وطنط ميسون بعد ما القصر اتحجز عليه.

ف زفرت فريدة بضيق وتابعت: - بقول تروحله مش تسأل عنه حد تاني!
دلفت رفيف وهي ترتدي معطفها قائلة: - أنا خلصت
فتقدم رائد من زوجته و: - إن شاء الله ياماما ربنا يسهل، سلام
واصطحب زوجته ليخرج بها، وقد عاد صدره يضيق عليه كلما تذكر ما حدث وما عاناه بعد غياب الأب الروحي له وليس جده فحسب، بينما تعامل الجد مع هذا بفتور شديد لمجرد تأديب أبنائه العاقيين وتلقينهم درسًا..

كان يرى إنه لا يستحق معايشة هذا الألم بعد ما فعله لجده من أشياء كثيرة أولها حبه واحترامه، وفي النهاية تلقى الخذلان كما يدعيّ، ولذلك نمت بُقعة قاتمة بداخله تجاه فاروق عقب تلك الحادثة، ومنذها وهو لم يزور الجد إطلاقًا، وحتى خلال خطبة عادل وندى كانت العلاقة بينهما جافة، رغم مرور ثلاث أسابيع تقريبًا..

خرجت برديس من المرحاض وهي تمسح فمها بالمنشفة، تحسست معدتها المضطربة بسبب هرمونات الحمل التي أرقتها هذه الفترة، ثم مضت نحو الأريكة بالصالة تجلس عليها وقبالتها ميسون: - مينفعش تطاوعي نفسك يابيري، طارق قالي إنك مش بتاكلي خالص
رأت في ملامحها علامات الإشمئزاز وهي تقول: - ماليش نفس لأي حاجه ياطنط، قرفانة من الأكل جدًا وعلى طول عايزة أنام، مش عارفه إيه اللي بيحصل أنا بجد Very tired تعبانة جدًا.

نهضت ميسون وجلست بجوارها وهي تردد: - دا كله طبيعي في الأول، متنسيش إنك لسه في التالت، المهم تهتمي بنفسك أكتر من كدا
- حاضر، هو جدو عامل إيه واحشني جدًا بس ممنوع أخرج الأيام دي؟
ف انبعج فم ميسون ب ابتسامة واسعة وهي تردد: - الحمد لله، كان عنده متابعة امبارح مع الدكتور وطمنا إنه بخير، إن شاء الله هو هيجيلك بنفسه يطمن عليكي.

تنحنحت ميسون قبل أن تتسائل: - متعرفيش حاجه عن عمتك؟
فأجابت بعدم اهتمام: - لأ، طارق قالي إنها راحت تقعد في شقتها في بور سعيد بعد اللي حصل، وهو بيروح يطمن عليها كل فترة.

فقالت ميسون على مضض: - ربنا يهديها.

ينظر لساعة يده كل دقيقتين تقريبًا، ويسارع بخطواته مُضيًا نحو غرفة الإجتماعات التي ستضم إجتماعًا هامًا اليوم، ولكنه للمرة الأولى يتثاقل في النوم ويستيقظ متأخرًا فتضيع عليه النصف ساعة الأولى، فكان صباحًا سيئًا بالنسبة له.
مضى رائد في الردهه المؤدية للغرفة ليتواجه مع أميرة التي حاولت إبلاغه بشئ ما: - صباح الخير يافندم، مستر ف...
فقاطعها بضيق شديد: - أميرة مش وقته، أنا مخنوق وعلى أخري دلوقتي.

وفتح باب الغرفة فجأة ليجد الجميع حاضرين عداه، و المفاجأة الكبرى، هي تواجد فاروق بينهم مترأسًا الطاولة، شمل الجميع بنظرات لا توحي بمعناها، ثم أطرق رأسه وهو يردد: - حمدالله على السلامه ياجدي، نورت الشركة
أشار له الجد: - تعالى جمبي يارائد، زي ماكنت دايمًا
ف جلس رائد على يمينه بينما طارق على يساره: - أنا النهاردة ضيف ما بينكم، حبيت أجي أطمن على كل حاجه وهمشي على طول.

فبادر طارق: - متقولش كدا ياجدي الشركة كلها تحت أمرك
وبقى رائد صامتًا بفعل المفاجأة التي تلقاها بوجود الجد هنا اليوم، يبدو إنه كان عليه أن يُصغي لمديرة مكتبه قبيل أن يدخل، عله لم يندهش لهذه الدرجة.

سار الإجتماع بنفس الروتين الطبيعي له وكأن كل شئ طبيعي، وحسب الإحصائيات، كان التقدم السريع وتجاوز الأزمة يرتفع يومًا بعد يوم، وبإشادة خبراء المبيعات والتسويق، الشركة ستتجاوز عصر تدهورها وترتفع لأزهى مراحلها في أقل من شهرين بعد إتباع الإستراتيچيات الجديدة، تابع الجد كل ذلك بانبهار شديد، فقد ترك الشركة محطمة وعلى وشك الأفلاس، والآن سيرى عصرًا جديدًا.

بالتتابع غادر الجميع غرفة الإجتماعات عدا الثلاثي فاروق، طارق، رائد، وقف فاروق عن جلسته و: - أنا جيتلك بنفسي طالما انت مش عايز تشوفني يارائد
أخفض رائد نظراته الخجلة وبرر: - طبعًا عايز أشوفك ياجدي بس كنت مستني الوقت المناسب
- مش باين!
تنفس فاروق قبل أن يضرب بخفه على صدر حفيده الأكبر: - أنا اللي مربيك يارائد، وعارف إن زعلك سمّ، بس مكنش بأيدي حلول تانية، لو انت مكاني كنت هتعمل أكتر من كدا.

لم يعقب، فتابع فاروق: - مش عايز اللي حصل يبعدك عني يابني
ثم نظر لكلاهما طارق، رائد: - أنتوا اللي اتعوضت بيهم عن اللي اسمهم عيالي، فاهمين
انحنى رائد ليُقبل يده، ثم عانقه بقوة وهو يتنفس رائحته التي افتقدها كثيرًا، ثم ابتعد قليلًا ونظر نحو طارق: - هستناكوا كلكوا النهاردة عشان نتغدا سوا.

ف اعترض رائد: - خليها يوم تاني ياجدي، عمي عماد عازمني أنا ورفيف وعمي عادل النهاردة، عشان من ساعة ما خطب ندى مراحش هناك
- اللي تشوفه يابني
ثم نظر ل طارق: - يلا بينا ياطارق
خرج معه للخارج، ف تحدث إليه الجد بصوت منخفض: - وديني أشوف حبيبة جدها بس في السر، لو رائد عرف إني بجيلكوا ومش بروح بيته هيزعل.

ابتسم طارق بتحمس ثم ظهر الشوق في صوت فاروق وهو يتابع: - أحسن برديس وحشاني جدًا.

كانت مائدة عامرة بالأصناف والمأكولات الشهية، فقد أشرف عليها ثلاثة من نساء البيت دريّة، ندى، مروة إهتمامًا بقدوم ضيوفهم، ولكن الطعام له مذاق، ووجودها بجواره الآن على مائدة واحدة في بيتها مذاق آخر..
وضعت ندى قطعة الدجاج المقرمش أمامه و: - أنا اللي عامله الفراخ دي على طريقة كنتاكي، جربها كدا.

ف همّ بتذوقها شغوفًا للتعرف على مذاق الطعام من يديها كيف سيكون، في البداية كانت نظراته مقلقة بالنسبة لها، فأسرعت بسؤاله والتوتر بيّن عليها: - مش عجباك ياعادل ولا إيه؟
ف ابتسم ابتسامة عريضة وهو يستكمل تناولها: - بالعكس، لذيذة جدًا.

سعل رائد واحمرت بشرته، حتى عيناه أدمعت عقب أن تنزل بالخطأ قطعة فلفل حار بالسلطة، رمقته رفيف بعدم تصديق لهذا التحول المفاجئ وظنت وجود شئ ما في حلقه، أسرعت تناوله كوب المياه وهي تتسائل بفزع: - رائد انت كويس؟!
فخرج صوته مبحوحًا وقد اغرورقت عيناه الزرقاوية الصافية: - حااا، فلفل
- إيه!

أرتشف نصف كوب الماء بسرعة لتساعد في تبريد فمه الذي تحول لكتلة من النار، ثم تنفس بصعوبة وهو يقول: - السلطة فيها فلفل!، بوقي هيولع
انفجرت مروة بضحكة مرتفعة لم تستطع كبحها أكثر من ذلك، بينما راقبته درية بقلق إلى أن تفهمت ما حدث: - أنت مبتحبش الأكل الحراق ولا إيه يارائد!
فتدخلت رفيف: - لأ مش بيحبه
فناوله عماد طبق السلطة البارد و: - خد السلطة دي باردة يارائد هتعجبك.

تناولها منه وهو يحاول أن يتناسى هذه النيران التي اشتغلت بداخل فمه، بينما تابعت درية بنبرة مبهجة: - هنستناكوا في فاتحة مروة بعد بكرة ان شاء الله لازم تيجوا
ف ابتسمت رفيف بوجه أختها التي بادلتها ابتسامة خالية من الحقد والضيق: - إن شاء الله، أنا حاسه إنهم لايقين على بعض أوي اما شوفته المرة اللي فاتت.

ثم التفتت برأسها لتجد زوجا العصافير عادل، ندى يتحادثان أثناء الطعام وكأنهم في وادٍ آخر، تبتسم فيبتسم، ينظر لها ف تنظر إليه، علاقتهم بريئة وذات طراز مختلف تمامًا عن العلاقات الطبيعية والمتعارف عليها، ف أحنت رفيف رأسها عنهم كي لا تلفت الإنتباه وتبسمت بارتياح، ثم التفتت لتجد رائد مازال يرتشف المياه بدون جدوى: - رائد الميا مش هتبرد لسانك
ثم ناولته ملعقة من السلطة الباردة: - كل دي.

تناولها بسرعة لعلها تكون الشافية لحريق فمه، ثم تمتم بصوت منخفض: - حسبي الله ونعم الوكيل.

نهاية أجواء الربيع البديعة ملأت حدود الشركة وما حولها، بعد مرور أكثر من شهرين شتويين قارصين، ليس في البرودة فقط، بل في ظل الظروف التي حاوطت بالشركة وموظفيها أيضًا، شهرين من العمل الدؤوب حتى تعدت الأزمة ولو بنسبة خمسون بالمئة.
وضع طارق آخر توقيع له على مستند المرتبات التي سيتم صرفها هذا الشهر، ثم نظر للورقتين الأخيرتين وهو يردد: - المرتبات نازلة الضعف الشهر دا، يبقى إيه لزوم الحوافز دي؟

فأجاب المسؤل عن صرف المرتبات: - مستر رائد بنفسه هو اللي شدد على الحوافز دي بعد المجهود الشاق اللي اتعمل الفترة اللي فاتت.

وضع توقيعه عليهما وسلمه المستند، ثم نهض منتويًا زيارة رائد في مكتبه..
دخل عليه فكان يفتح زجاج النافذة وهو مبتسم بتفاؤل، ف اقترب منه وسأله: - ليه هتصرف حوافز الشهر دا، ما كفاية الزيادات اللي اتصرفت!
مازال ينظر للخارج في وجود هذه الشمس الدافئة، ثم أجاب بمنطقية: - اللي يبصلي بعين أبصله بأتنين ياطارق، الموظفين دول فضلوا معانا في أزمتنا، يبقى هياخدوا نظير اللي عملوه الضعف، وكدا محدش ليه عندنا جمايل.

ثم استدار له وتابع: - خليهم يفرحوا شوية بعد الفترة الصعبة اللي فاتت
ثم انتقل نحو مكتبه و: - بكرة هينزل إعلان طلب موظفين جدد، ياريت تتابع الإعلان دا بنفسك لأني مشغول الفترة الجاية.

جلس قبالته واقترح: - طب ما نرجع الناس اللي كانت عندنا، هما أولى وعارفين الشغل كويس
- لأ، أنا عايز خريجين جداد، دم جديد يدخل الشركة، مش عايز حد سابنا في الأزمة وخلع.

ثم أستند بمرفقيه على سطح المكتب و: - أنا مسافر بعد 3 أيام، هغيب أسبوعين كدا، كل اللي عليك إنك هتشيل الشركة لحد ماارجع، ماهو دا مالك ومال مراتك انت كمان.

عقد ما بين حاجبيه بفضول وهو يسأل: - رايح فين؟
- هقولك بعدين، بس لازم أمشي دلوقتي.

كانت تنظف أسفل الأريكة والمقاعد عندما حضر رائد للمنزل، فتركت كل شئ وأعادت الوضع ل نصابهِ الصحيح، وأسرعت نحو الداخل لتبديل ملابسها التي تلوثت بالأتربة..
بحث عنها في كُل مكان وهو متحمس للغاية، وقبض بأصابعه على الحقيبة الجلدية التي يحملها..

ولج لغرفته، فوجدها قد فرغت للتو من ارتداء ملابسها المكونة من كنزة قصيرة على شورت قصير، دنى منها، وانحنى ليوازيها لينقش قبلة على شفتيها قبل أن يهمس: - جايبلك حاجه حلوة معايا
حاوطت رقبته بدلال وهي تتسائل بشغف: - جيبتلي إيه؟!

رفع الحقيبة قليلاً وناولها إياها، تشبهت عليها، تنغض جبينها وهي تفتحها لتجد النقود مرصوصة بداخلها، بجانب ورقة بملف شفاف، أختطفت من عليها الكلمات وهي تقرأها لتجد عقد ملكية متجرها الذي قامت ببيعه وقد أسترده لها من جديد، حدقت عيناها بذهول وهي تتسائل: - آ، أنت اشتريت المحل تاني؟
- آها، المحل رجعلك وتقدري تشوفيه وقت ما تحبي
ابتهجت وهي تبتسم بحبور، ثم عادت تعبس من جديد وهي تردد: - طب واستعجلت كدا ليه؟

جمع شعرها المتناثر على كتفيها ليتركه خلف ظهرها وهو يجيب: - ده انا كدا أتأخرت
- طب وإيه الفلوس دي كلها؟ طالما رجعتلي المحل ليه هاخد دول؟
ف أفتر ثغره ب ابتسامة آسرتها و: - أعتبريهم الفوايد
وسحب الحقيبة منها ليتركها جانبًا: - الحقيقة مش دي المفاجأة الأساسية
وأخرج من جيبه تذكرتين سفر جوي وناولها إياهم: - إحنا مسافرين بعد 3 إيام
شهقت بسعادة وهي تلتقطهم منه بتحمس شديد: - فين؟

وحملقت عيناه غير مصدقة ما تراه الآن بعينيها وهي تردد: - هاااا؟!، هنعمل عُمرة؟!
وأسرعت بعناقهِ عناقًا عنيفًا من فرط سعادتها لزيارة هذا المكان المقدس الذي كثيرًا ما حلمت بزيارته: - مش مصدقة نفسي، يعني هنقضي أول أسبوع في رمضان هناك!؟
- آها
وأغرق نحرها الدافئ تقبيلًا: - عشان البداية تبقى بداية صح، ماما كانت هتيجي معانا بس هي لسه مش بتقدر تمشي كتير، عشان كدا قالت هتعوضها في فرصة تانية.

ثم سألها وهو ينظر لرماديتيها الجميلتين: - مبسوطة؟
- أوووووي
ودفنت وجهها في صدره وهي تردد: - مش لاقيه كلام أقوله، ربنا ميحرمنيش منك أبدًا يارائد.

تحسس طارق بطنها التي بدأت تنتفخ، وقد زاد وزنها عن الطبيعي خلال الآونة الأخيرة، ثم نظر لملابس الأطفال المعروضة أمامه و: - طب احنا هنجيب دلوقتي حاجة البنت، مش كنا نستنى نعرف جنس البيبي التاني إيه؟
فأجابت والسعادة لا تسعها: - طارق متبوظش فرحتي، دلوقتي نشتري حاجة البنوتة وبعدين لما نعرف البيبي التاني نوعه إيه نجيبله.

ثم وضعت يديها على بطنها و: - مش مصدقة إنهم Twin Room (توأم) لحد دلوقتي
- أنا أتبسط أكتر لما عرفت إن فيهم بنت، ياريت يبقوا بنتين
عبست على الفور وهي تعترض على رغبته: - لأ أنا عايزة ولد، ولد وبنت
ثم عادت تنظر للمعروضات و: - إيه رأيك في الفستان دا، جميل أوي ورقيق
ثم أشارت للمجاور: - ولا دا أحلى؟
مط شفتيه بعدم رضا و: - بصراحة ولا دا ولا دا، أنا عاجبني أوي الأبيض دا
- بس انا مش عاجبني!

- خلاص نجيب الأتنين معنديش مشكلة
حضرت فتاة في العشرينات من عمرها تسألهم: - أقدر أساعدكم في حاجه؟
وفي صوت واحد: - عايز/ة دا
تجهم وجه برديس وهي تحملق فيه بحنق قائلة: - أنا أم البيبي وانا اللي شيلاها جوايا، والمفروض أنا اللي اختارلها كل حاجه
ف انعقد حاجبيه وهو يرد ب: - ما شاء الله!، ماانا أبوها ولولايا مكنتش جت أصلًا، يعني ليا حق فيها برضو
- أنا حقي أكتر منك
- أزاي يعني!

تنحنحت الفتاة وهي تتدخل بينهما: - أحم، ممكن تاخدوا الأتنين يافندم
فأومأ طارق رأسه بالإيجاب و: - أنا موافق، هاتي الأتنين
فغمغمت برديس وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها: - برضو مش هخلي بنتي تلبس الفستان دا
وبعد رحلة طويلة من التجول وابتياع احتياجات الضيفة التي ستحضر لأسرتهم بعد عدة أشهر، عادا للمنزل ومازالت برديس عابسة الوجه ممتعضة الملامح.

ترك طارق الكثير من الحقائب والمشتريات جانبًا، ثم اقترب منها ليجلس بجوارها على الفراش و: - بقالك 3 ساعات مبوزة في وشي، كفاية نكد، وبعدين لو فضلنا نعمل كدا في كل حاجه تخص البنات مش هنخلص يابيري
- خلاص قررت إن الاتنين بنات!، يمكن يطلع ولد
ف ابتسم بتفاؤل و: - إن شاء الله بنتين، أنا بحب البنات أوي، دول المؤنسات الغاليات
ثم داعب وجنتيها الممتلئتين و: - خلاص بقى.

ودنى منها ليجتذبها في أحضانه مرددًا بصوت ناعم: - أنا مقدرش أزعلك
- طارق
- همممم
- أنا عايزة أقولك على حاجه
توجس من طريقتها في إبلاغه، ف أبعدها قليلًا وتأمل تعابير وجهها وهو يتسائل بترقب: - عملتي إيه يابرديس؟
أخفضت بصرها باستحياء و: - معملتش حاجه
بدأ صوته يرتفع قليلًا: - متلعبيش بأعصابي يابرديس، ما تقولي على طول
ورغم إنها ترددت كثيرًا في قول هذه الحقيقة، إلا إنها لم تجد مفر: - أنا حبيتك.

تخشبت عضلات وجهه وعلقت أبصاره عليها، رغم انتظاره الطويل والطويل والطويل لها، إلا إنه ما زال غير مصدقًا إنها بالفعل قالتها، انتظرت منه رد فعل، ولكنه بقى متجمدًا مكانه، فرفعت ناظريها إليه، ولوحت بيدها في الهواء وهي تلفت أنتباهه: - طارق!
تحشرج صوته وهو يسألها: - إنتي إيه؟
- متحرجنيش ياطارق
فأمسك بذراعيها يرجوها منها مرة أخرى: - بالله تقوليها تاني، ملحقتش أسمعها، عشان خاطري يابيري.

ف عضت على شفتيها بتحرج وهي تعيد اعترافها من جديد: - حبيتك، بحبك يعني
فوجدت نفسها تُعتصر بين أحضانه وهو يصيح بجوار أذنيها: - تاني، قوليها تاني، مش مصدق
ثم ابتعد و: - بتحبيني بجد؟!
- آ، آه
ف مال بها على الفراش ليتمددا سويًا وهو يضحك بسعادة جليّة و: - بركاتك ياحج فاروق، مش مصدق نفسي أقسم بالله
ثم اعتدل بجوارها وعاد يسألها: - أوي أوي يعني؟
كادت تعتدل في جلستها و: - وبعدين بقى!

- لأ خليكي زي ماانتي، أنا بس بحاول أستوعب اللي حصل
استغرق وقتًا وهو ينظر لعيناها، فلمحت لمعة فرحة فيهما، وفجأة، أطبق على شفاهها يُقبلّهما بشغف، أطول قُبلة نالتها منه منذ أن تزوج بها، ومن فرط سعادتهما لم يشعرا بقيمة الوقت الذي قضياه سويًا مستمتعين بهذا القرب الفريد، الآن فقط قد تتوج زواجهما، صبر طويلًا ونال كثيرًا.

وكأنها أنثى جديدة بين ذراعيه الآن، أنثى عشقت، وطالما إنها عشقت ستعطي بدون حساب أو توقف، ستعطى بوفرة وغزارة، الآن فقط قد تعوض عما عايشه في بداية زواجهما، وكأن عوض الله عندما يأتي ينسيك جميع الألم الذي مررت به، هكذا هو العوض.

قضاء أسبوع في معية الله وفي كنف زوجها، كان أجمل أسبوع مر عليها بحياتها.
تذوقت حلاوة الإيمان في أداء مناسك العمرة بصحبته لأول مرة، فكان لها مردودًا طيبًا على نفسيهما..
وقفت رفيف أمام الشرفة التي تطل على بيت الله الحرام، تشاهد الطائفين حوله بسعادة شديدة، ثم رددت بصوت هامس: - معقول لسه معرفش كل دا!، أنا متحمسة جدًا مش قادرة أصبر.

في هذا التوقيت، كان رائد ينتهي من صلاة العصر حاضرًا في المسجد النبوي الشريف، ثم جلس قليلًا وهو يتنفس هواء هذه البقعة الطيبة من الأرض، ومد يده بجيب جلبابه الأبيض كي يستخرج مسبحته، ولكنه أمسك بشئ آخر مع المسبحة، ف استخرجه من جيبه ليجد مقياس اختبار الحمل وقد بزغت فيه شرطتين حمراوتين، حملق فيه بعينيه وكأنه لا يستطيع ترجمة هذا رغم وضوحه وضوح الشمس، ازدرد ريقه وهو يهبّ واقفًا عن جلسته، وخرج راكضًا من المسجد ليعود إلى حيث الفندق، اصطدم بأحدهم، ف اعتذر منه وهو يستكمل طريقه: - آسف، آسف.

وتابع طريقه إليها والفرحة تتقافز من صدره وقلبه..
كانت تأكل الغرفة ذهابًا وإيابًا، تنتطر لحظة وفوده بفارغ الصبر، فلم تجد طريقة أفضل من تلك لإبلاغه بخبر حملها.
انفتح الباب فجأة وطلّ هو منه وهو يتنفس بصعوبة، أغلق الباب بسرعة وأقترب منها، نظر لبطنها أولًا، ثم عاد يحدق في عيناها وهو يحاول استخراج الكلام من فمه: - أ، انتي ح، حامل!

فأطرقت رأسها بخجل، ثم هزتها عدة مرات بالإيجاب، أدمعت عيناه وهو يضحك بهيستريا غير مصدقًا، ثم ارتمى على الأرضية وتدحرج عليها يمينًا ويسارًا وهو يصفق بسعادة: - ياااااااااااالله
ضحكت على مشهده وهي تهتف: - وطي صوتك، الناس يارائد
ومازال يضحك وهو ممدًا على الأرضية، ثم نهض فجأة وهو يردد: - يعني أنا بابا، هييجي بيبي صغير ألعب معاه، صح؟

وعاد يصفق من جديد وهو يجوب الغرفة يمينًا ويسارًا: - اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، بابا، أنا بابا
ثم انتقل إليها أخيرًا، أحتضنها بقوة حتى شعرت بضربات قلبه المتسارعة: - بحبك أوي
جذبها نحو الأريكة وأجلسها، ثم انحنى ليستمع إلى بطنها في محاولة بائسة، تعالى صوت ضحكتها و: - رائد مش هتسمع حاجه، ده لسه نُطفة، أنا في الأسابيع الأولى
تأفف و: - يعني لسه 9 شهور بحالهم!

ثم اعتدل و: - مش مهم، المهم إني بقيت بابا
وبصوت مرتفع صاح ليتردد أصداءه في المكان: - أنا بابا، أنا بقيت بابا ياناس...!

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة