قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الأول

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الأول

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الأول

فتحت الخادمة الباب فدلفت تلقي بتحية هادئة قبل أن تسألها عن سيدتها ليتعالى صوت الأخيرة وهي تقبل مرحبة بضيفتها:
- أنا هنا يا تاج، ازيك يا حبيبتي...
حيّتها تاج بدورها قبل أن تسألها باهتمام: - ايه الاخبار يا رندا؟ طمنيني!
هزت رندا برأسها في أسف وأجابت وهي تشير اليها بالتقدم أمامها: - ما فيش جديد يا تاج، البنت دي هتموتني ناقصة عمر...

تاج بتقطيبة: - يا ستي بعد الشر، معلهش أنت عارفة هي كانت متعلقة بماما سعاد الله يرحمها أد إيه.

زفرت رندا بتعب وقالت وهي تتجه برفقتها ناحية غرفة الجلوس: - الله يرحمها، والله ماما سعاد أثرت فينا كلنا، لكن أنا خايفة عليها يا تاج، شهرين وهي زي الشبح في البيت، لا بتخرج ولا حتى بتقعد معنا، حتى الشلّة اللي كنت بتخانق معها عشانها مش بترد على حد فيهم ولا بتقابل أي حد، دا صاحبتها نجوان مش قادرة عليها، ولا كلامي ولا كلام أبوها أو اخواتها نافع. أنا تعبت يا تاج. تعبت!

وقفت تاج ووضعت يدها على ذراع رندا قائلة بمواساة: - معلهش يا رندا، انتي عارفة هي كانت متعلقة بيها ازاي، دي كانت مع ماما الله يرحمها على طول وكانت شبه مقيمة عندنا وقاعدة معها في أودتها، وما تنسيش أن هي اللي خدت الخضة الكبيرة وهي بتصحيها الصبح زي عادتها لما اتفاجئت بيها...

وسكتت ريتاج فيما اهتزت طرف شفتها السفلى لتقضم عليه بأسنانها مغالبة دموعها فقالت رندا مواسية:.

- الله يرحمها يا تاج، أنا آسفة والله ما أقصدش أفكرك بالمرحومة، لكن قلت يمكن أنتي اللي تقدري عليها تخرجيها من حالة الحزن الفظيعة اللي هي فيها دي، مع أني عارفة أنك مش بتخرجي الا قليل حتى الشركة أدهم قالي أنك مش بتروحي إلا قليل وبعد محايلة منه كمان، ما تتصوريش أنك تيجي انهرده مخصوص عشانها كبيرة عندي قد إيه!

تاج بلوم رقيق: - دا اسمه كلام يا رندا! ريما دي بنتي الصغيرة، معزتها من معزة شمس وهمس تمام، اسمعي أنا هطلع لها، ش هي في أودتها؟

أشارت رندا برأسها بالايجاب، فابتسمت تاج ابتسامة صغيرة قبل أن تتوجه الى الدرج المفضي الى الطابق العلوي المخصص لغرف النوم وغرفة معيشة صغيرة، ومطبخ على الطراز الأمريكي معد لتجهيز الوجبات السريعة والمشروبات...

دقات خفيفة على الباب لم تلتفت لها، أتبعها فتح الباب، فقالت ببرود دون أن تلتفت الى القادم:
- عاوزة أقعد لوحدي، مش عاوزة أشوف حد...
اتجهت ناحيتها تاج وهي تقول بدعابة خفيفة: - ولا حتى أنا يا روما!..
فالتفتت اليها ريما هاتفة بلهفة: - طنط تاج...
لتتبع عبارتها بقفزة من فراشها وارتمت بين ذراعي تاج والتي لم تشاهدها منذ ما يزيد عن الشهر، فاحتوتها تاج بدورها مربتة عليها وهي تقول بحنان:.

- وحشتيني يا روما. وحشتيني أوي...
رفعت ريما رأسها لتطالع تاج بعينيها الزمردتين وقالت: - وحضرتك والله، وخالي أدهم وماما سع...
لتبتر عبارتها وترتمي بين ذراعي تاج تنتحب كما لم تفعل منذ وفاة الجدة سعاد، بينما وقفت رندا تراقب ما يحدث بقلب أم يرتجف قلقا على حال صغيرتها، فيما همست تاج وهي تمسّد خصلات شعرها القصيرة:.

- هشششش. ريما حبيبتي، انتي أكتر واحدة كنت ملازمة ماما الله يرحمها في أيامها الأخيرة، وكنت شايفة حالتها اتأخرت إزاي، دا غير الزهايمر اللي جالها وخلّاها طول الوقت تايهة.

شهقت ريما بشهقات بكاء صغيرة فيما دفعتها ريتاج لتتجه بها ناحية الفراش حيث جلستا على طرفه، رفعت ريما وجهها عن كتف الأخيرة وقالت بصوت كتمته غصَّة بكاء حارة:
- بس. بس دي وحشتني أوي يا طنط، أوي. مش قادرة أتصوّر اني مش هشوفها تاني، مش هتكون هي أول حد أفتح عيني على وشّه الصبح، أنا عارفة كل اللي حضرتك بتقوليه دا صح، بس أنا مش قادرة.

تاج وهي تغالب دموعها المهددة بالسقوط: - وتفتكري أنا يعني اللي قادرة يا ريما؟ ريما أنا والدي اتوفى وسابنا احنا الاتنين سوا، ما كنش لينا غير بعض! لا عم ولا جد ولا خال، أنا كنت كل عيلتها وهي كانت كل عيلتي، لغاية ما قابلت خالك أدهم وشوفت مامتك وطنط كوثر الله يرحمها وحاسيت معهم بطعم العيلة بجد، خالك محمود كان وما زال أخويا اللي اتمنيته، مامتك كانت اخت تانية ليا زي طنط مها، وجدتك كانت أم تانية زي ماما الله يرحمهم، وانتي ما شاء الله عندك عيلة كبيرة كلها بتحبك وخايفة عليكي.

صمتت لثوان تركتها تفكّر في كلامها قبل أن تستأنف حديثها بابتسامة حنون مربتة على يديها التي شبكتهما فوق حضنها:
- حبيبتي. إذا كان فيه حد المفروض ينهار مش يكتئب بس يبقى أنا! لو فكرنا بطريقتك يبقى أنا دلوقتي خسرت الانسانة الوحيدة اللي كانت باقية لي من عيلة مراد والدي الله يرحمه، فاكراها سهلة عليا؟ لكن وجود جوزي وولادي وانتم عيلتي الكبيرة حواليا هوّنت عليا كتير اوي.

رفعت ريما عينين ذابلتين طغى اللون الاحمر على بياضهما تطالعها بحزن وهمست: - أنا آسفة يا طنط، أنا نسيت انك أكيد أكتر واحدة متأثرة باللي حصل، أكتر مننا كلنا، وبدل ما أنا اللي أواسي حضرتك وآجي لك أزورك، حضرتك اللي جيتي لي، ما تزعليش مني...

طوقت ريتاج كتفيها النحيلتين وقالت بابتسامة معاتبة: - حد يزعل من بنته بردو؟ وبعدين دا أنتي خليفتي، دا أنا بقول ريما هي المتمردة الصغيرة مش شمس بنتي!، ولو على الاعتذار. يبقى مش انا اللي تتأسفي له، مامتك وباباكي أول ناس لازم تعتذري منهم على القلق اللي اتسببت لهم فيه أكتر من شهرين!

تقدمت رندا الى الداخل ودموعها تسيل في صمت فيما شقت ابتسامة صغيرة وجهها الحزين على حال ابنتها، لترفع ريما عينيها فطالعها وجه أمها الباكي بنظراته الحانية لتنهض من فورها وتهرع ترتمي بين أحضان والدتها هاتفة بصوت غلفه البكاء:
- أنا آسفة يا ماما سامحيني انتي وبابا، كنت أنانية وما قدرتش زعلكم على ماما سعاد الله يرحمها ولا زعل طنط تاج.

هدهدتها والدتها وهي تمسح خصلاتها القصيرة التي تلمع كجناح غراب هامسة بعطف: - هششش، خلاص حبيبتي، أنا اللي كان رعبني عليكي انك ما نزلتيش دمعة واحدة بس من يوم اللي حصل، وصدقيني على قد قلبي ما اتقطع عليكي دلوقتي وانا شايفاكي بتنهاري من العياط بعد أكتر من شهرين على قد ما اتطمنت أن بنتي رجعت تاني، متماسكة وايمانها قوي، ولازم تعرفي اننا طالما مع بعض عيلة واحدة وايدينا في ايدين بعض، يبقى عمرك ما تسمحي لزعل انه يضعفك مهما كان...

ابتعدت ريما عن حضن أمها الدافئ قائلة وعينيها لامعتين من دموعها المنسكبة: - صح يا ماما، حضرتك بتتكلمي صح، المفروض أحس بنعمة اللمة والعيلة وأد ايه ربنا فضله علينا كبير اننا كلنا مع بعض، مهما بعدنا وفرقت بيننا مسافات، لكن احنا عيلة واحدة وكيان واحد، غيرنا بيكونوا عايشين في بيت واحد لكن كل واحد عايش مع نفسه ولنفسه وبس!

نهضت ريتاج واتجهت اليهما تطوق كتف كلا منهما بذراعها هاتفة في مرح بسيط: - طيب بما أن ريتاج الصغيرة رجعت لنا من تاني عاوزين نرجّع كل كيلو نقصته في الفترة لي فاتت دي كلها، انتي بئيتي شبح يا بنتي تتحسِّي مش تتشافي!

ضحكت رندا وعلّقت وهي تنظر الى ابنتها: - هتقولي لها زي ما عصام ابن خالها بيقول! انتي يا ريما لما بتيجي الواحد بيحس بشوية هوا بس زي ما تكوني لابسة طاقية الاخفا!

احمر وجه ريما ليس خجلا وإنما، حنقا وغضبا وهتفت بحدة: - هو اللي سخيف وبيحدف طوب!، هو ماله هو أتشاف ولا لأ، حد كان قاله يييجي!
رندا بعتب: - يعني دا جزاؤه يا ريما؟ هتنكري أنه في أول الايام خالص كان شبه مقيم عندنا؟ لدرجة أنه مهدي أخوكِ نفسه قالي انه بيعمل معاكي أكتر من اللي هو بيعمله!

رفعت ريتاج حاجبها الايمن قائلة بابتسامة مكر خفيفة: - جرى ايه يا روما؟ حد يزعل من عصوم بردو؟ دا اكتر واحد في عيلة شمس الدين دمه زي الشربات كمان!

كشّرت ريما قائلة: - شربات تقييل وانتي الصادقة يا طنط!، وبعدين بلاش اسم روما دا، انتو عارفين اني بتغاظ منه!

رندا وهي تتبادل النظرات المازحة مع تاج وببراءة مزيفة: - ليس بس يا ريما؟ ولا عشان عصام هو اللي طلّعه عليكِ؟ دا حتى اسم حلو وجديد...

ريما بتبرّم: - ولو!، قال روما قال! طبعا ما هيموت ونفسه يرجّع يوم من أيام روما!
تعالى صوت من أمام الباب المفتوح قائلا: - لا وانتي الصادقة، هيموت لأنه خلّا مراتي تتغزّل فيه بالشكل دا!
شهقت ناعمة ندّت من ريتاج لتلتف الى الخلف فطالعتها هيئته الوقورة، ليتقدم ناحيتهم فلاحظت ابتسامة صغيرة تداعب فمه الحازم، فيما هتفت رندا بفرح:
- أدهم...

دنا منهم حتى وقف أمام ريتاج تحديدا وقال: - الأول أسلّم على آخر العنقود سكر معقود وبعدين لينا حساب سوا!
رافعا حاجبه الأيسر ناظرا لريتاج بتوعّد فيما جذب ريما الى أحضانه مردفا: - أيوة كدا. كنت حاسس بفراغ كبير الشهرين اللي فاتوا، وحشتني شقاوتك ومقابلتك ليا، اوعي تحرمينا من ضحكتك تاني يا روما!

هتفت ريما بنزق: - حتى أنت يا خالو!
لتتصاعد ضحكات ريتاج ورندا فيما قطب أدهم في حيرة متسائلا: - حتى أنا إيه؟
تاج بخبث ناظرة الى ريما المحمرة حنقا: - أبدا يا سيدي. أصلها مش عجبها اسم روما. بتقول عليه وحش.
رندا بتخابث منضمة الى ريتاج: - مع أنه جديد، مش فاهمه هي مش عجبها ليه. حتى عصام لما سمعته منه أول مرة واستغربت ليه الاسم دا قالي انها بتفكره بيها...

ريما بسخط: - بفكّره بيها! ليه ان شاء الله؟ كنت شبه قيصر وأنا معرفش!
أشارت رندا لابنتها قائلة: - عارفة أنه الولد عصم دا طلع أجدع واحد فينا؟
تاج بضحكة: - سيرته هي اللي خلّيتها تنسى اللي كانت فيه صح؟
ريما بعناد ومكابرة: - لا. طنط تاج هي السبب. مش فلطح أفندي دا!
ضحكة خشنة داعبت أوتار قلبها لترفع عينيها اليه تطالعه بحب لم يخبو على مدار ما يقرب من ثلاثين عاما فيما قال بصوته الرخيم:.

- كدا أنتي رجعتي ريما بنت اختي اللي احنا عارفينها فعلا، لسان سريع الطلقات!
ريما بحزن مصطنع: - كدا يا خالو!
مال عليها أدهم لاثما جبهتها قبل أن يقول: - كدا يا قلب خالو.
تاج بمرح: - قلب خالو! كدا أنا أطلع منها بقه!

تبادل الجميع الضحك قبل أن تهتف رندا وهي تتجه الى الخارج: - أنا هروح لأم ابراهيم عشان نجهز الغدا، هعمل لك كل اللي نفسك فيه يا حبيبتي، المفروض نحتفل انهرده، ريما هتتغدى معنا بعد المدة دي كلها!

ريما بحب: - ربنا يخليكي ليا يا ماما.
تاج وهي تستعد للحاق برندا: - استنيني يا رندا، جاية معاكِ...
ولحقت بها فيما قال أدهم وهو يهم للخروج خلف متمردته: - هسيبك أنا عشان تجهزي...
وانصرف بخطوات سريعة لاحقا بريتاج والتي كانت تهمّ بنزول الدرج خلف رندا التي سبقتها عندما قبض على ساعدها لتلتفت الى الخلف فطالعتها عيناه وفيما عاتبته على مفاجئتها بهذا الشكل قال هو بتهديد زائف:.

- بقه أخف دم في عيلة شمس الدين. ها؟! عموما لينا بيت نتحاسب فيه، مش عند الناس يا أم أدهم!

كتمت ريتاج ضحكتها وقالت ببساطة: - مش شهادة حق ولازم أقولها؟! عموما نتحاسب يا، بابا جدو!
وختمت حديثها بالكلمة التي دائما ما تعمد الى استفزازه بها مشيرة الى أنه قد أصبح جدّا فبالتالي قد من المفترض به أنه قد وصل الى مرحلة من الرزانة والثقل في أفعاله، ولكن أدهم أجاب بثقة مفرطة:
- بابا جدو اللي مش عجبك دا ابنه عنده سنتين وشوية. خلِّي بالك. ها!

وسبقها نازلا الدرج فيما قطبت هي مكررة كلماته في عقلها لتزداد عقدة جبينها وتهمس بينها وبين نفسها:
- أخلِّي بالي! هو قصده إيه بالظبط ب خلِّي بالك دي؟!..
لتلحق به وهي تردف بداخلها بقسم: - حاضر يا أدهم، لينا بيت نتكلم فيه، ولما نشوف حساب مين فينا اللي تقِّل!

- أحمد حبيبي شوف نهاوند أختك كدا شكلها صحيت.
ما هي الا ثوان حتى كان أحمد يدلف الى المطبخ حيث والدته لبنى تقوم باعداد الطعام بينما يحملها بين ذراعيه قائلا ببشاشة وهو يحمل أخته الرضيعة بين ذراعيه:
- نهاوند صحيت يا ماما.
التفتت لبنى تنظر الى ابنتها وهي تبتسم قائلة: - ثواني أنشّف ايدي وآجي لك يا روح ماما.

ثم وجهت حديثها الى الخادمة العشرينية العمر قائلة: - حُسنى خلي بالك من صينية البطاطس اللي في الفرن، وما تنسيش الرز عشان مش يتحرق.

ثم خلعت مئزر المطبخ ووضعته على الطاولة الخشبية الرباعية أمامها واتجهت الى أحمد تحمل عنه ابنتها والتي ما أن رأتها حتى رفعت يديها في إشارة منها لأمها بحملها فيما ابتسمت لها ابتسامة واسعة أظهرت غمازة خدها التي ورثتها عن والدها، بينما عيناها الخضراء فهما يتطلعان فيها بشقاوة محببة.

ضمتها لبنى الى صدرها وقبّلتها بعمق في وجنتها وهي تقول: - يا خواتي ع العثثل يا ناس، ايه كميلة ماما دي.

دلفت لبنى خارجا وهي تحمل صغيرتها، يتبعها أحمد والذي منذ أن وُلدت أخته منذ أربعة أشهر تقريبا وهو شبه ملاصق لها، لا يتركها الا ليلا عندما يحين موعد نومه، وفي الصباح فهو يذهب الى المدرسة وما ان يعود حتى يتجه من فوره اليها يلاعبها ولا يتركها الا وقت أن تحتاج لتناول رضعتها أو تغيير الحفاض، حتى أن مهدي علّق يوما ضاحكا أنه يشعر أن أحمد يغار عليها منه هو، والدها!..

دلفت لبنى الى غرفة الصغيرة لتقوم بتبديل ثيابها في حين تركت أحمد لينهي حل فروضه المدرسية، ارتسمت ابتسامة حانية على شفتيها حين تذكرت. مهدي، حبيبها وزوجها وأبو ابنتها و، ابنها!

نعم. لقد أثبت مهدي أنه والد بحق لأحمد ابنها والذي حُرم حنان الأب بالرغم من وجوده في عالم الأحياء، ولكنه كان دائما الحاضر الغائب، حاضرا باسمه الذي يتبع اسم ابنها، وغائب بكلّه سواء جسدا أو روحا أو ذكرى!..

كانت تميل على ابنتها التي أرقدتها فوق فراشها تقوم بتغيير الحفاض لها بينما الصغيرة فهي تلهو بقدميها الى الأعلى مصدرة أصواتا كصوت زقزقة العصافير وهي تناغي بلغتها الطفولية الغير مفهومة، عندما شعرت بيدين تتسللان لتطوقان خصرها في غفلة منها فانتفضت واقفة وهي تشهق بنعومة، وقد التفتت برأسها الى الخلف لتطالعها عينان ضاحكتان فيما أسرت ذراعيه جسدها تقرّبانها منه ليلتصق ظهرها بصدره بينما مال عليها هامسا في أذنها بشغب محبب:.

- سلامتك من الخضّة يا قلبي...
نظرت اليه مضيقة عينيها في نظرة حنق يحفظها تماما وقالت: - سلامتي من الخضّة!، تعرف أنا فعلا ابتديت أشك أنك بتعملها قاصد!، انت عارف أني بترعب مش بتخض كمان وكل مرة تعملها فيّا، يبقى قصدها ولا لأ؟

مهدي ببساطة: - آه!
ارتفعت حاجبيها عاليا فيما وسعت عيناها وهي تكرر بدهشة: - آه!
ليقول بطبيعية: - كم مرة قلت لك طول ما احنا مع بعض ما تخافيش من حاجة ولا من حد؟ لو خفت يبقى أكيد الغلط من عندي أنا. حبي ليكي المفروض يخليك قوية، وقلبك جامد، مش من الهوى دُبنا!

تعمقت تقطيبتها مكررة بغير فهم: - دُبنَا!
مهدي بغمزة من عينه وابتسامة من شفتيه المظلل بشارب ولحية خفيفين: - آه دُبنَا. دُبْنَا عبد العزيز (على وزن لبنى العزيز الممثلة)!
وكزته بمرفقها في خاصرته فتأوه بينما هتفت هي بحنق: - هه هه هه، تصدق أنك ظريف أوي!
مهدي وهو يتأوه بألم مصطنع: - عارف ما قولتيش حاجة جديدة، كلهم أساسا بيقولوا لي كدا!

زمّت لبنى عينيها وهمست بشرّ وهي تلتفت بكليتها إليه: - كلهم؟! مين كلهم دول أن شاء الله؟!
نظر مهدي الى ابنته التي تعلقت عينيها به كالمعتاد حينما يتواجد بالقرب منها وقال وهو يتجه اليها ليحملها:
- شايفة مامتك يا نهودتي بتكشّر في وشّي إزاي؟..
وكأن الصغيرة قد فهمت حديث والدها إذ ما أن حملها حتى رمقت أمها بطرف عينها قبل أن تنطلق في الصراخ وسط نظرات الذهول بين مهدي ولبنى والتي هتفت بصدمة:.

- بسم الله الرحمن الرحيم، ايه يا بنتي هو حد داس لك على طرف؟
مهدي وهو يهدهد ابنته ليسكتها: - مش نهاوند بقه!، حد يسمي بنته نهاوند؟
لبنى بترفّع: - ماله الاسم، جديد وغريب وفي منتهى الرقة، دا مقام موسيقي حضرتك...
مهدي ساخرا: - لأ وأنتي الصادقة دا مش مقامك حضرتك!، ما هي بتعمل باسمها، بتفتح ال تون بتاعها على الآخر والجدع اللي يقفله!

اقتربت منه لبنى ومدت يديها لتتناول ابنتها قائلة بسخرية: - طيب هات يا أبو نهاوند، أنا هسكتها، واتفضل انت روح غيّر هدومك على ما أقول لحُسنى تحضر السفرة.

مهدي رافعا سبابته: - انتي اللي طابخة طبعا؟
لبنى وهي تحتضن صغيرتها: - طبعا، أنت عارف حُسنى بتساعدني بس، لكن أنا بحب أعمل شغل بيتي بإيدي و...
سكتت فجأة بينما فتحت عينيها واسعا ليقطب مهدي بقلق ويقترب منها قائلا: - ايه يا لبنى فيه ايه؟..
رفعت لبنى يدها التي وضعتها أسفل ابنتها وقد شعرت بسخونة تسيل فوقها أمامه وهي تقول بذهول:
- بنتك من غير بامبرز ولا هدوم ولا الهوا...

لينخرط مهدي ضاحكا وهو يقول: - منها للجو على طول يعني!
لبنى وهي تكاد تبكي: - لا وانت الصادق منها ليّا أنا على طول!
مهدي وهو يحاول تهدئة ضحكاته: - معلهش بتحصل في أحسن العائلات بردو.
لبنى وهي تنظر الى ابنتها بغيظ: - طيب ما هو شالك قبلي، ايش معنى ما عملتيهاش معه؟..
مهدي بثقة: - الناس مقامات بردو.
نظرت اليه لبنى بنصف عين وقالت: - امممممم. ماشي يا مقامات. اتفضل بقه روح غيّر هدومك على ما أحميها وأحصّلك.

اتجه مهدي للخروج من الغرفة قبل أن يقف قائلا: - صحيح كلمتي ماما أحلام؟
لبنى بابتسامة ما أن أتى على ذكر أحلام خالتها أو خالة والدتها التي اعتنت بها وبولدها أحمد بعد ذلك:
- آه كلمتها، كويسة الحمد لله، بس القاعدة في البلد شكلها عجبتها خصوصا والست زينات قريبتها هناك ماسكة فيها.

مهدي بابتسامة: - ترجع بالسلامة ان شاء الله...
وانصرف فيما نظرت هي الى ابنتها وحدثتها قائلة: - مش عيب اللي حضرتك عملتيه دا؟ ينفع كدا؟ بنوتة قمر زيّك كدا تعمل الحاجات دي؟ ياللا عشان نستحمى ونغيّر.

لاحقا بعد أن حممت صغيرتها وأرضعتها فنامت الأخيرة قريرة العين، لتقوم بتشغيل جهاز الأصوات والذي يقوم بتنبيهها ما أن تصدر أي صوت، دلفت خارجا لتمر بطريقها بالمطبخ تطلب من حًسنى الخادمة تحضير المائدة لتناول الطعام قبل أن تتجه الى غرفتهما للاغتسال وتبديل ثيابها.

دلفت الى الداخل واتجهت الى غرفة الملابس الملحقة بالغرفة الرئيسية لتخرج ثيابا نظيفة، اتجهت بعدها الى الحمام فيما لاحظت عدم وجود مهدي بالغرفة، فطرقت باب الحمام عدة مرات، ولكنها لم تسمع سوى صوت خرير المياه، فهتفت بصوت عال كي يسمعها:
- خلّيك براحتك حبيبي أنا هستخدم حمام أحمد.

لحظات كانت الفارقة بين انتهاء عبارتها واستدارتها لتنصرف حين فوجئت بيد تجذبها الى داخل الحمام قبل أن يوصد الباب خلفها بإحكام!..

نظرت اليه في ذهول بينما قال مهدي مضيّقا عينيه: - حمام مين حضرتك اللي حضرتك هتستخدميه؟
لبنى بغير فهم: - أحمد.
مهدي بغموض: - وأحمد قاعد فين دلوقتي؟
لبنى مقطبة: - في أودته!
مهدي بتساؤل: - وطبعا هتلبسي البُرنس صح؟..
لبنى ببساطة: - صح!
مهدي بحزم: - غلط!
ليردف وهو يدنو منها: - أنا كم مرة قلت لك احمد كبر وما عادش صغير؟
لبنى بابتسامة مندهشة: - مهدي انت بتغير من أحمد؟ دا ابني!

مهدي من فوره: - وابني أن كمان، لكن دا ما يمنعش أني أقول لك أني آه بتضايق، أصلك متعرفيش انتي بتكوني عاملة ازاي بعد ما بتاخدي حمام!

لبنى بابتسامة ناعمة ودلال أنثوي: - لا. قولي انت ببقى عاملة ازاي؟
اقترب منها حتى التصق فيها ومال عليها بوجه قائلا بصوت دافئ: - بتكوني لذيذة جدا، وشعرك سايح على ضهرك وعيونك بتلمع، وخدودك موردين، من الآخر تتاكلي أكل!
ضحكت لبنى برقة فيما أردف وهو يحتويها بين ذراعيه يهمس في أذنيها: - هي نهاوند مش نامت.

هزت لبنى رأسها ايجابا فباغتها مهدي بحملها بين ذراعيه لتهتف متسائلة: - ايه دا؟ انت بتعمل إيه يا مهدي؟..
مهدي وهو يتجه بها الى حوض الاستحمام الذي كان قد ملئه في وقت سابق ليأخذ حماما دافئا:
- هساعدك يا قلب مهدي، هفرُك لك ضهرك...
همست بخفر: - لا ما ينفعش كدا يا أبو نهاوند.
مهدي قبل أن يوقفها في وسط الحوض: - دا هو دا اللي ينفع يا. أم نهاوند!

لتطلق ضحكة رقيقة ابتلعها مهدي في جوفه قبل أن يغرقها معه في عالمهما الساحر.
لاحقا وفيما كانت تتوسد صدره برأسها نظر اليها وهو يراها تغط في نوم عميق، ليشرد لوهلة قبل أن يهمس بينه وبين نفسه:
- سامحيني يا لبنى، مقدرتش أقول لك، بس أنا مش ممكن أتخلى عنه ولا عنك، دا مهما كان ابني أنا يا حبيبتي!

ثم مال عليها لاثما جبهتها قبل أن تبرق عينيه بعزم فيسحب ذراعه ببطء من أسفل رأسها، وينهض من جانبها ليرتدي سرواله المنزلي، قبل أن يتناول هاتفه الشخصي ويبتعد به الى جانب الغرفة ويضغط بضعة أرقام وبعد لحظات سمع صوت الطرف الآخر فألقى التحية ثم قال:
- خالي. أنا عاوز أشوف حضرتك ضروري، لا. ما ينفعش في التليفون، لا أنا عاوز حضرتك على انفراد. تمام هتلاقيني عندك. سلام.

وأنهى المكالمة وقد سطعت عيناه ببريق الحزم والتحدي، فهو لن يكون مهدي نزار العايدي أن لم يستطع حماية ابنه. أحمد.!..

وقفت تضع اللمسات النهائية على أطباق طعام الغذاء، فيما شقيقتها تقوم بتجهيز المائدة في غرفة الطعام، قالت حينما عادت الأخيرة لمساعدتها في رفع الأطباق: - هتلاقي السلطة عندك يا ريما في التلاجة، ما تنسيهاش، دا طلبه حضرتك، عاوز greek salad سلطة يوناني على الغدا.
ريما بابتسامة: - وهو مراد من امتى بيحب السلاطة؟ لا واليوناني كمان!

همس بتلقائية وقد انتهت من تزيين آخر صحن للطعام: - ومين قال أنه دا طلب مراد؟
طالعتها ريم في تساؤل وهي تحمل صحني الطعام لتردف همس: - دا ابن خالك حضرتك، عصام باشا. هو اللي عاوز السلطة، وبيتشرّط كمان، يا كدا يا مش هيتغدىّ!
غابت الابتسامة عن وجه ريما وقالت ببرود لم تلاحظه همس: - غريبة يعني. ما قولتيش انه عصام جاي على الغدا انهرده؟

همس بتلقائية وهي تهز كتفيها: - عادي، تقريبا هو اللي عزم نفسه، سمع مراد بيكلمني في التليفون وكان عنده بالصدفة في المكتب، وطبعا انتي عارفة ابن خالك، اول ما عرف انه فيه ورق عنب شبط في مراد وقاله فيها لا أخفيها، هههههه يا أتغدى معكم يا مش هسيبك تتهنى بورق العنب، لا ومش كفاية انه عزم نفسه. كمان اشترط على مراد سلطة ومش اي سلاطة. لا. يوناني! الباشا قال أنه طول فترة قعدته في ايطاليا كان فيه مطعم يوناني كان بياكل معظم وجباته فيه، واتعود عليها من وقتها...

خرجت ريما بدون تعليق تضع الصحون التي بيدها على المائدة تبعتها همس، حتى أذا ما انتهيا من أعداد مائدة الطعام، سمعتا صوت مراد وهو يدلف الى المنزل يتحدث مع آخر وصل صوته الرخيم بوضوح الى أسماعهما وخاصة ريما التي تجلّد وجهها، فيما نادى مراد على همس التي خرجت لملاقاته والترحيب بعصام. بينما تبعتها ريما مرغمة.

قبّل مراد همس برقة على وجنتها قبل أن يرحب بريما ببشاشة قائلا وهو يصافحها:
- مش معقول، ايه المفاجأة الجميلة دي؟ أنا ما صدقتش همس وهي بتقول لي انك الحمد لله بئيتي أحسن من الأول. بجد أنا فرحان جدا.

ثم نظر الى همس مردفا:
- ما قولتيش ليه انه ريما هنا، كنا احتفلنا بيها بجد.

همس بابتسامة:
- أنا لآخر لحظة ما كنتش مصدقة لاانها هتيجي فعلا، ولما جات هي اللي طلبت مني أخليها مفاجأة ليك.

مراد بسرور ظاهر:
- وأحلى مفاجأة بجد...

نظرت اليه ريما بابتسامة أضاءت وجهها فجعلته قبلة للناظرين وخاصة شخصا بعينه أسرت عيناه بابتسامتها وتغميض عينيها كعادتها حين تضحك رافعة وجهها وكأنها تدعو من أمامها لتقبيلها!

انتبه من شروده على صوت ريما الناعم وهي تقول:
- ربنا يخليك ليا يا أبيه. كفاية مقابلتكم ليا دي عندي أحسن من أي احتفال!

قرر عصام أنه يكفي ابن عمه هذا القدر من الترحيب، فمن الواضح أن مراد قد نسي أنه الى الآن لا يزال، قابضا على يدها في مصافحة قد طالت حتى. تمكّن الغيظ منه هو!

تقدم عصام منهم وقال بسخرية لم يشعر بها سواها وهو يمد يده مصافحا متجاهلا نظرة الترقب وكأنها تحذّره من الاقتراب منها ولكنه لم يأبه لنظراتها المتيقظة تماما كظبية متحفزة:.

- نورت يا بنت عمتي.

أجابته ببرود رسمي أشعل فتيل غضبه:
- مِرسِي يا ابن خالي...

لتشتد قبضته على يدها وتتلاقى النظرات، فتلمع الأعين، وترتعش الشفاه، وترجف القلوب، وبينما تتقافز دقات قلبها الى أعلى وعقلها يرفض ما قرأه في عينيه، كان هو يطالعها بعزم وتصميم بأنه قريبا. وقريبا جدا، ستنتقل كلماته لها من مرحلة النظرات الى، حيّز التنفيذ أو بمعنى أدق من. التلميح إلى. التصريح وبقوة!

قاطع صوت مراد حربهما الباردة التي تدور رحاها بين أعينهما، وهو يسأل زوجته عن الغذاء، لتجذب ريما يدها من قبضته فأفلتها ولغرابتها فقد شعرت بالبرودة بعد أن احتواها دفء كفه!

تراجعت عدة خطوات غير ظاهرة الى الخلف لم ينتبه لها الا عصام فيما ابتسم مراد قائلا وهو يشير الى عصام الواقف يطالع همس بابتسامة فيما نظراته قد تسلطت على تلك التي تقف على مسافة غير بعيدة عنه تتحاشى النظر اليه عن عمد: - أخبار الغدا إيه؟ عندنا ضيف انهرده بيسنّ سنانه لورق العنب بتاعك.

همس بمرح وهي تصافح عصام بدورها: - ازيك يا ابن خالي، ورق العنب والأكل كله خلص، يا ريتني عرفت من بدري كنت رتبتها مع شمس واسلام.
عصام وهو يبتسم: - ملحوقة، بكرة نتغدى سوا، لكن المرة دي أنا عزمكم. عشان جوزك ما يذلّش (لا يذل) أنفاسي بطبق ورق العنب!

أحاط مراد كتفي همس بذراعه وهتف بمرح: - أذل أنفاسك! هو أنت يا ابني فيه حد بيقدر عليك؟ انت من ساعة ما رجعت من ايطاليا وانت خلاص. ما عادش فيه عندك ولا نقطة حمرا واحدة!
ضحك عصام قبل أن ينظر الى تلك الغائبة الحاضرة، والتي تحاول جاهدة الهرب بنظراتها بعيدا عنه فقال متعمدا جعلها تنظر اليه بزمردي عينيها: - وانتى أكيد معزومة يا روما...

ثم التفت الى همس مؤكدا:
- خلاص. هعمل حسابي نتغدى كلنا سوا وهقول لمهدي ولبنى كمان، مع اسلام وشمس.

ريما ببرود:
- معلهش اعفوني أنا، أنا هنزل الشغل مع خالي أدهم من بكرة ان شاء الله، كفاية الفترة اللي فاتت دي كلها، عاوزة أبتدي بجدية شوية.

مراد بساطة:
- يا ستي خالك أدهم أحب ما عليه انك تخرجي وتتفسحي، ولو مكسوفة منه أنا هكلمه، ولو أني شايف مالوش لازمة طالما مديرك المباشر موافق ومرحّب كمان!

ريما بتقطيبة وهي تدنو منهم بخطوات بسيطة:
- مديري مرحّب! – ثم ضحكت مردفة – آه. قصدك انت؟!

مراد بهزة نفي بسيطة:
- لا مش أنا.

قطبت في حين واصل مراد يشرح لها ما جعل قلبها يكاد يتوقف عن العمل:
- آه صحيح أنتي متعرفيش آخر التطورات. يا ستي بما أن خالك محمود ومراته سافروا ل هَنا باريس، فبالتالي منصب مدير العلاقات العامة أصبح شاغر، وبما أنه خالك أدهم مش بيحب حد مش مننا يمسك منصب في المجموعة، فابن خالك الهمام هيمسك المكان مؤقتا لغاية ما خالي يرجع بالسلامة.

رينا وهي تشعر بصعوبة في النطق:
- ابن خالي مين؟

مراد ببساطة دون أن يعي أنه يفجر قنبلة من العيار الثقيل في وجهها مشيرا الى ذلك الآخر الواقف يراقبها بنظراته الناعسة:.

- عصام!

ازدرت ريما ريقها بصعوبة قبل أن تحاول جاهدة رسم ابتسامة صغيرة على وجهها ليقول عصام بسخرية لم يستشعرها إلا هي:.

- ايه يا بنتي عمتي. ما فيش مبروك؟!
شحذت ريما أنفاسها ووقفت رافعة رأسها تطالعه بشموخ ورفعة أثارت اعجابه الذي مرق كالسهم بين رمادي عينيه فيما قالت ببرود:.

- مبروك يا ابن خالي. ولو أنه منصب مؤقت، خالي محمود أول ما يرجع بالسلامة هترجع انت كمان شغلك عند بابا في شركته.

كادت تلعن حظها التعيس، فلأجل هذ السبب وحده رفضت عرض والدها في الالتحاق بالعمل معه في شركته معللة ذلك أنها تريد العمل لدى خالها فهي تخشى أن تُعامل ك ابنة صاحب العمل وليس كموظفة عادية لديه!..

أخرجها عصام من شرودها بقوله:
- حد عارف. مش يمكن الشغل يعجبني، وأتثبت وأقنع بابا أنه يسوّي معاشه!

صدحت ضحكة مراد في حين قالت همس تقاطع الحوار الدائر المحمل بشرارات تطير بين الاثنين في الهواء لم يشعر بها إلا هما:.

- طيب ممكن نتغدى عشان الأكل كدا برد...

كانت فترة تناول الطعام محنة بمعنى الكلمة بالنسبة لها، ومع أنها لم تشارك في الحديث الدائر بين ثلاثتهم إلا لماما، بالرغم من محاولاته في جرّها للحديث حتى وأن كان عن طريق إثارة استفزازها، ولكنها تمالكت نفسها ولم تكن تشارك الا بتعليق بسيط أو جواب على سؤال وجه اليها بطريقة مباشرة، فهي منذ أن عاد ابن خالها الوسيم منة ايطاليا منذ ستة أشهر وقررت تفادي التواجد معه في مكان واحد، والشيء الذي أثار دهشتها وحيرتها بل وغيظها في ذات الوقت أنها شعرت وكأنه يتعمد الظهور أمامها من حيث لا تدري!

حاولت في البداية تجاهله، ولكنه بدأ يتدخل في اختيار أصدقائها بطريقة سافرة، وخاصة حين تحدثت أمامه والدتها عرضا عن شلّتها والمرسم الذي تشارك فيه، وعلم أن هناك شباب من الجنسين، ليباغتها بين كل حين وآخر بزيارة فجائية، حتى كان ذلك اليوم الذي فوجئت فيه بزميل لها يخبرها بأنه يكن لها شعورا خاصّا!

وقتها كانت بمفردها معه في حين خرج الباقيين لابتياع طعام الغذاء، لم يكن قد سبق له تجاوز الحد المسموح بينهما، وكانت تشعر معه بنوع من الألفة والأمان، ليباغتها بحديثه عن مشاعره، فحاولت قدر استطاعتها توضيح أن مشاعرها هي أنما مشاعر أخوة محضة، وحينما أعيتها السبل والتفتت تحاول الانصراف، حاول اثنائها عن الرحيل بامساكه بيدها، وكانت الغلطة التي لا تغتفر والتي بسببها رقد بالمشفى لثلاثة أسابيع يُعالج من كسور في ضلعين من أضلع القفص الصدري!

لم تكد تفتح فمها تهم بنهره وتأمره أن يترك يدها حين فوجئت بيد تنطلق من جوارها كالقذيفة لتصطدم بوجه جلال. فتنفجر نافورة من الدماء من أنفه!

لم يمهله عصام الذي انقض عليه كالإعصار يضرب ويركل ويصفع في حين حاولت هي بكل قوتها ابعاده عنه وهي تصرخ أنه سيقتله، ليبتعد عصام عن جلال الذي ارتمى فوق الأرض. يتأوه ويتقلب يمينا ويسارا ليركله عصام الركلة الأخيرة قبل أن يهدده بصوت كالفحيح وهو يحرك سبابته أمامه:.

- أقسم بالله لو اتعرضت لها مرة تانية. مش هعتقَكْ (أتركك)!
ليسارع بعدها بشدّها من يدها لينصرفا سويا، ثم يرغمها على الصعود الى سيارته، وبعد أن قاد بها الى شارع هادئ نسبيا أوقف المحرك والتفت اليها يأمرها بالابتعاد عن تلك الشلة نهائيا، وأن لم تنصاع لأوامره فهو سيضطر لابلاغ عمّه نزار شخصيا بما رآه!

صاحت وقتها بغضب أنه يحشر أنفه بما لا يعنيه، لتزيد من غيظه وغضبه منها بمدافعتها عن جلال وأنه انسان خلوق ولم يأت بما يجعله يقوم بضربه بوحشية بهذا الشكل، لتضيف ببرود وأنفة. أنه كان يفاتحها برغبته. في الارتباط بها!
لحظتها جاهد عصام نفسه ألا يستدير ويرجع لذلك الأرعن كي يجهز عليه تماما، ولكنه تمالك نفسه بشقّ الأنفس وقال بصرامة لا تقبل النقاش:.

- وطلب الأستاذ مرفوض، ويمين بالله يا ريما لو شوفتك معتِّبة المكان دا بعد كدا. هيكون لي تصرّف تاني خالص معاكي!
صاحت ريما يقهر:
- وانت مالك؟ واحد متقدم لي. يبقى أنا اللي أقول. آه أو لأ!
عصام بصرامة ونظرات سوداء:.

- لأ، لأ يا هانم، البيه مش مراعي أنه المكان ما يسمحش بكدا، تقدري تقوليلي لو أي حد دخل عليكم وشافه وهو ماسك ايدك بالطريقة دي هيقول إيه؟ لو عنده ذرة اهتمام بيكي كان حط في اعتباره كدا، ما كانش يرضى أنه يعمل أي حاجة ممكن تحطك في موقف وحش قودام أي حد. لكن دا. واد غبي، وهي كلمة واحدة رجوع هنا تاني انسي، ومش عاوز كلمة واحدة بعد كدا!

لا تستطيع الانكار أنها هي نفسها قد فوجئت من تصرّف جلال، ولكنها عزت ذلك الى أنه قد قام به وليد اللحظة، ولكن عصام على حق، فلم يكن من المفروض أن يفاتحها جلال بهكذا أمر وهما بمفردهما كلية، كما أنه من الخطأ الشنيع امساكه بيدها كما فعل حتى وان كان دون وعي منه، ولكنها لم تشأ أن تظهر اقتناعها بصواب كلام ذلك المتحذلق الجالس بجوارها يأمر وينهي كما يحلو له، فأجابت بترفّع:.

- بردو مالكش فيه. أنا حرة!

ولكنها بالفعل لم تطأ ذلك المكان مرة ثانية بعد ما حدث والسبب كان ملازمتها جانب الجدة سعاد التي تدهورت حالتها الصحية سريعا وأصيبت بمرض الزهايمر. ولم تطل. فقد استرد الله وديعته منذ شهرين اعتزلت فيهما الجميع ملتزمة غرفتها بما فيهم أصدقائها، وحدها رفيقة طفولتها وصديقتها الصدوق نجوان من كانت تستطيع زيارتها، ولكنه هو. ومنذ أن لازمها وقت أن سقطت منهارة بعد وفاة الجدة سعاد، رافضة البكاء أو حتى الكلام، لترقد شبه غائبة عن الوعي لأيام، كان شبه مقيم لدى عمته فيهم، وكان ينتهز وقت ذهاب عمه نزار الى العمل ليصعد الى غرفتها بمعرفة عمته كي يستطيع القاء نظرة عليها، فيما تتنازعه رغبته بالذهاب اليها واحتوائها بين أحضانه، ليهدهدها ويهمس لها أن كل شيء سيكون على ما يرام!

لم يتوقف كثيرا عند شعوره ذاك، بل لم يحلله محاولا معرفة ماهيته، ولكن ما يعلمه جيدا أنه منذ أن عاد من الخارج وتحديدا لحظة أن وقعت عليها عيناه لأول مرة بعد غياب سنتين شعر بانتفاضة في قلبه، وكأنه كان غارقا في سبات عميق ليصحو فجأة. لم يتساءل، لم يبحث ويفتش. ولكنه. قرر، ابنة عمته الصغيرة الجميلة ستكون له. وكفى!..

انتهت محنة تناول الطعام على خير، وبعد احتسائهم الشاي قرر عصام الذهاب ليدعوها الى مرافقته ففتحت فمها وقد حضرت نفسها للرفض حين بادر مراد قائلا ببساطة:.

- لا امشي انت وسيب لنا ريما، ريتال عند بوب بتلعب مع أدهم، واحنا شوية كدا ورايحين نجيبها، هناخد ريما معنا هتبقى مفاجأة جميلة للكل. ايه رأيك يا ريما؟..

موجها سؤاله لريما التي هتفت بحبور:
- موافقة طبعا يا أبيه، أنا أقدر أرفض لك طلب...

في حين علم عصام سبب سعادتها الواضحة، فهي كانت تهم برمي عرضه في وجهه حين سبقها مراد وعرض بقائها معهم، ليفكر في نفسه الجايات أكتر يا بنت عمتي!

رسم عصام ابتسامة صغيرة وقال:
- تمام. عموما ما تنسوش معادنا بكرة ان شاء الله، أنا هكلم مهدي واسلام، وعمي نزار طبعا عشانك يا بنت عمتي...

همّ بالذهاب ليتوقف وينظر لريما من فوق كتفه مردفا كمن نسي شيئا:
- و آه صحيح، اعملي حسابك هنروح بكرة سوا بعد الشغل على المطعم اللي عازمكم فيه...

ريما بضيق مكتوم:
- معايا عربيتي ميرسي.

عصام بلهجة واجبة النفاذ:
- مينفعش احنا الاتنين نكون في مكان واحد ورايحين حتة واحدة وكل واحد فينا يمشي بعربية، سيبيها في الشركة وابقي خوديها تاني يوم!

ريما ساخرة:
- وهروح الشغل تاني يوم ازاي يا نبيه؟

عصام ببساطة:
- هفوت عليكي. ولا يهمك!، أنا تحت أمرك. روما!

وغمزها في غفلة عن الآخرين بعبث قبل أن ينصرف في حين ودّت ريما لو نشبت أظافرها في ابتسامته الساخرة تلك والتي وللعجب زادته وسامة مذهلة!

نظر أدهم الى مهدي في سكون قبل أن يتحدث بجدية قائلا:
- هو جالك الشركة انهرده؟

زفر مهدي بضيق مجيبا:
- أيوة يا خالي، جاي بكل بجاحة. وكأنه له حاجة عندنا!
أدهم بهدوء:
- بس هو فعلا له حاجة عندنا يا مهدي!

مهدي بذهول وحيرة:
- له حاجة؟ انت موافقه على كلامه يا خالي؟

نفى أدهم بهزة بسيطة وقال:
- مش حكاية موافق ولا رافض. حكاية أنه الموضوع دا لازم الواحد يتعامل معه بحنكة. الراجل دا مش سهل، وظهوره في التوقيت دا أكيد وراه سر، ولازم نعرفه، لأنه دا هيقوي موقفنا قودامه.

هتف مهدي بغضب مكتوم:
- أنا مش هسمح له أنه يعتّب برجليه الشركة تاني يا خالي، وهعرف أتصرف معه بطريقتي.

وقفز واقفا مردفا بجدية:
- عن إذنك يا خالي.

وابتعد بضعة خطوات ناحية باب غرفة المكتب حيث جلسا حين ناداه أدهم وهو ينهض واقفا بدوره قائلا:.

- مهدي.

توقف مهدي مكانه ليتبعه أدهم حتى وقف بجانبه وقال:
- خلي بالك يا مهدي. أي تصرّف منك مش مسئول العواقب هتكون وخيمة فعلا. لأنه للأسف وبصرف النظر عن أي شيء أو أنه عنده حق ولا معندوش. لو الموضوع وصل المحكمة هيتحكم له فيها ومن أول جلسة، لأنه في نظر القانون دا حقه! عشان كدا لازم نفكر كويس. ليه ظهر دلوقتي بعد السنين دي كلها؟!
التفت مهدي لخاله بالحركة البطيئة مكررا في صدمة:
- حقه!

زفر أدهم بضيق ووضع يده على كتف مهدي مجيبا وهو يشفق عليه:
- للأسف أيوة يا مهدي. لأنه في نظر القانون مهما كان دا يبقى. أبوه. وهو ابنه. وأمه اتجوزت، يبقى، حضانتها ليه تسقط، فهمت؟!

ليحدق مهدي واسعا وهو غير مصدق لما يسمعه من خاله الأكبر، مع أنه في داخله مقتنع بصحة ما قاله، ولكنه يأبى الاعتراف. رباه. كيف ستستقبل لبنى هذا الأمر؟ بل، كيف سيقبل هو بتسليم ابنه - وان لم يكن هو أبوه البيولوجي – إلى آخر كل صلته الحقيقية به اسما ملتصقا باسم صغيره هو، ذاك الذي شاهده وهو يكبر أمامه يوما بعد يوم، فقط، كيف؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة