قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل السابع

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل السابع

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

اجتاحها شعورًا عجيبًا بالارتباك فور أن توقفت نظراتها على ذلك الغريب المتواجد معهما على متن اليخت، لم تتبين وجهه، فقد كان يوليها ظهره ويبدو عليه الانهماك في ضبط شيء ما بيده، طالعت "أوس" بنظراتٍ حائرة مرتبكة، ابتسم لها بثقة وأحنى رأسه عليها ليقول موضحًا بصوته الخفيض:
-ده الفوتوجرافر يا حبيبتي
عقدت ما بين حاجبيها باستغراب وهي تسأله بتلعثمٍ بائن:
-فو.. فوتو إيه ده؟

تحرجت "تقى" من عدم قدرتها على تلفظ الكلمة بنطقها الصحيح فأخفضت رأسها خجلاً منه، ابتسم لتورد وجهها ثم شدد من ضم ذراعه لكتفيها ليميل أكثر نحو أذنها مفسرًا لها بخفوت:
-أقصد المصور
امتدت أصابعه نحو طرف ذقنها ليرفع وجهها إليه، حملق في وهج حدقتيها اللامعتين متابعًا همسه الهادئ:
-إنتي مقولتيش حاجة تتكسفي منها، كلمة جديدة أول مرة تسمعيها طبيعي تتلخبطي.

عضت عفويًا على شفتها السفلى بحرجٍ، احتفظ "أوس" بنظراته المشتعلة بحبها وهو يقول لها:
-قولي ورايا فوتوجرافر
تعلقت عيناها به تتأمله بإعجابٍ، أخذ يكرر الكلمة لعدة مرات حتى تتمكن من نطقها بشكل صحيح، وما إن فعلت ذلك حتى باغتها بقبلة حميمية التهمت شفتيها وحبست أنفاسها لثوان كمكافأة تشجيعية لها، ازداد وجهها احمرارًا من فعلته الجريئة أمام الغريب، عاتبته بنظراتها فابتسم بغرورٍ مؤكدًا لها عن ثقة كاملة:
-هنا محدش يقدر يتحرك من مكانه بدون إشارة مني!

أيقنت حرفيًا أن المصور لم يكن ليفعل شيئًا أو حتى يتحرك قيد أنملة دون أمر مباشر من زوجها، شعرت بالارتياح ومع ذلك طلبت منه برقةٍ:
-ممكن متعملش كده تاني قصاد حد
رفت على شفتيه ابتسامة بسيطة، لم يرغب في منحها وعدًا لن يستطيع الإيفاء به، أرخت "تقى" عينيها والتفتت نحو المصور حينما ناداه بلهجته الصارمة:
-"ريمون"، احنا جاهزين!

استدار الأخير بجسده ليواجه رب عمله راسمًا على وجهه ابتسامة هادئة قائلاً لهما:
-تمام معاليك، وأنا كمان مستعد للفوتوسيشن!
تطلعت "تقى" بحيرة إلى زوجها، فبدت المصطلحات الدائرة بينهما إلى حد ما غريبة على مسامعها، تساءلت بحرجٍ وهي تشب بقدميها للأعلى قليلاً لتصل إلى أذن "أوس" فلا يسمعها المصور ويسخر من جهلها حتى لو في نفسه:
-ده عبارة عن إيه؟

أوضح لها ببساطة ووجهه محتفظ بإشراقته:
-دي جلسة تصوير لينا يا حبيبتي، يعني أنا وإنتي هنتصور مع بعض بس صور مش تقليدية، حاجة مختلفة ومميزة
ردت متسائلة باستغرابٍ:
-ولازمتها إيه الحكاية دي؟ ما كنا نتصور في أي استديو
حاول جاهدًا أن يخفي ضحكاته المستمتعة بعفويتها التلقائية ورد عليها مؤكدًا:
-مش هاينفع، لازم نظهر بشكل معين.

قطبت جبينها وضاقت نظراتها نحوه، فهي تحاول أن تفهم ما الذي يدور في رأسه، لم يتركها "أوس" لحيرتها وبادر مفسرًا بكلمات متأنية لتستوعب جدية ما يفعله حتى وإن كان مغلفًا بالطابع الرومانسي:
-احنا في حرب إعلامية يا "تقى"، والناس محتاجة نشوف إننا ثنائي بيعشقوا بعض
علقت دون تفكير:
-طب ما ده حقيقي.

-بس الناس متعرفش كده، الصور والشو الإعلامي هيفرقوا معانا، هيخلكوا الكل يحس ويلمس ده ويتمنوا يكونوا مكانا أو حتى يعملوا زينا
ثم التقط كف يدها وقربه من فمه بعد أن انحنى عليه ليقبله هامسًا لها:
-زي كده يا حبيبتي.

خجلت من تودده الرقيق لها في حضور المصور وسحبت يدها على عجالة من بين أصابعه التي اشتدت على أناملها لتمنعها من الإفلات، تركها مضطرًا حينما أصرت على إبعاد يدها، ونظرت له قائلة بارتباك ووجهها يلمع بدمويته الخجلة:
-"أوس" أنا اتكسف أعمل ده قصاد حد
شعر بربكتها وترددها فطمأنها قائلاً بثقة:
-أنا عارف إنك مش متعودة على النوعية دي من جلسات التصوير، وأنا زيك مكونتش عاوز كده، لكن احنا مضطرين عشان نقدر نكون جبهة تكون معانا، ده غير إنه هايكون أكبر رد على أكاذيب "رغد" وكلامها اللي بتقوله على الميديا.

هزت كتفيها في عدم فهمٍ وعادت لتنظر إلى المصور بحيرة أكبر، أحست باللمسة الحنون على جانب ذراعها و"أوس" يميل عليها ليهمس لها مغازلاً:
-خليكي واثقة فيا، هتتبسطي يا حب عمري!
أسبلت عينيها نحوه فنظر لها ملء عينيه وهو يقول لها بتنهيدة أشواقٍ:
-بأحبك
خفق قلبها بقوة مع تلك الكلمة التي عنت الكثير لها، أخرجها من عالمها الوردي صوت "ريمون" القائل:
-ها يا فندم نبدأ؟
هز "أوس" رأسه بالإيجاب وهو يرد:
-أوكي!

استعان المصور بخبراته الاحترافية في ذلك المجال ليحرص على إظهار مشاعر الحب المتأججة بين الزوجين من خلال ضبط وضعيات رومانسية مميزة تعكس شغفهما الحقيقي والتقاط ذلك بعدسة كاميرته، وليظهر التناسق بينهما طلب منهما "ريمون" ارتداء الثياب التي تتقارب في ألوانها مع بعضهما البعض، فارتدت "تقى" كنزة بيضاء دستها في بنطالها ذي اللون الرملي الداكن المحدد من الخصر لينسدل بضيق طفيف عند القدمين حيث ارتدت حذائًا ذو كعبٍ عالٍ لتبدو أنيقة وناعمة في هيئتها التي اكتملت بحجابها الرقيق، نظرت بهيامٍ ووله إلى "أوس" الذي تخلى عن ألوانه الداكنة لأول مرة ليرتدي سروالاً يصل لركبتيه من نفس لون بنطالها مع قميصًا أبيض اللون، في البداية كانت مرتبكة ومتوترة مما انعكس عليها وجعل تعبيراتها تشتد وأطرافها في حالة عدم استرخاء، رفع "أوس" يديه أعلى كتفيها ليضغط عليهما برفق، أردف قائلاً بهدوءٍ:
-استرخي يا حبيبتي، متركزيش غير معايا وبس.

ردت بارتباكٍ:
-مش عارفة، حاسة إن شكلي مش حلو و...
قاطعها بعتابٍ:
-مش حلو إزاي؟ كده إنتي بتقلي من نفسك وأنا ماقبلش بده أبدًا
عبست قائلة:
-إنت بتهزر يا "أوس"، دي أول مرة أعمل كده في حياتي
ابتسم معلقًا:
-ومش هاتكون الأخيرة
ثم رمقها بنظرة مطولة ناعمة للغاية:
-أنا بأعشقك
التهبت بشرتها من غزله الصريح وقبل أن تحرك شفتيها لترد وضع إصبعه عليهما يتلمسهما برقةٍ، همس لها قائلاً:
-غمضي عينكي.

لم تجادله وامتثلت لطلبه الآمر فأطبقت على جفنيها لتستمتع بتلك اللمسات الهادئة المغرية التي خففت قليلاً من حدة توترها، لحظة وشعرت بيديه تحاوط خاصرتها وتشدها إليه برقة أكثر حتى التصق صدرها بصدره، فتحت عينيها لتحدق في وجهه الذي بات قريبًا للغاية، نظرت في عينيه الناطقة بحبه وغاصت فيهما، حاصرتها نظراته الحالمة، وأسرتها همساته المغازلة فتناست تدريجيًا وجود المصور لتنخرط في تلك الأجواء الرومانسية، برع "ريمون" في تسجيل لحظاتهما دون أن يقاطعهما، تركهما يظهران مشاعرهما بأريحية تامة، وجسد ذلك بالتقاط عشرات الصور من زوايا مختلفة لينتقي منها في النهاية الأفضل والمميز، وما إن انتهى حتى قال له "أوس" بصرامته المعتادة:
-تقدر تتفضل، دورك انتهى.

حرك رأسه بإيماءة خانعة قبل أن يرد بأدبٍ:
-تمام يا فندم، ووقت ما حضرتك تحب هننشر الصور
اكتفى بالإشارة له بيده لينصرف الأخير بعدها تاركًا الثنائي بمفردهما على متن اليخت، أخرجت "تقى" زفيرًا مطولاً من صدرها لتستدير في اتجاه "أوس" متسائلة باهتمامٍ وقد كتفت ساعديها أمام صدرها:
-احنا هنعمل إيه دلوقت؟ هنرجع الفيلا؟
رمقها بنظرة ذات معنى وهو يجيبها بعبثية:
-لأ طبعًا.

فهمت ببديهية ما يرمي إليه فخجلت وأرخت ذراعيها، تراجعت ببطءٍ للخلف مشيرة له بسبابتها:
-"أوس" احنا في عرض البحر وده عيب و...
قاطعها متسائلاً بابتسامةٍ مغرية:
-إيه اللي عيب؟
ردت بتلعثم وقد اشتعل وجهها على أخره:
-إنت فاهمني كويس
ابتسم ممازحًا:
-ده إنتي حامل مني يا حبيبتي، يعني مافيش حاجة تتكسفي منها
أولته ظهرها آملة أن تركض هاربة منه قائلة باعتراضٍ صريح:
-لا مش هاينفع، أنا هانزل و...

توقفت عن إتمام جملتها لتشهق عاليًا حينما انقض عليها "أوس" ليمسكها من خصرها، أطبق جيدًا بكفيه عليها فلم تستطع الهروب منه، مال عليها بشفتيه فتلمس وجنتها، أحست بأنفاسه الساخنة تحرقها وهو يقول لها:
-مش بالساهل تبعدي عني!
نادته بهمسٍ مقاومة سيل المشاعر الجارف الذي اجتاحها:
-"أوس".

وما زاد ذلك إلا من رغبته في تجديد مشاعر حبه المستعر معها، أدارها ببطءٍ إليه وشفتاه تختبران سخونة بشرتها، أحس بتهدج أنفاسها وعدم انتظام خفقات قلبها، تابع همسه الناعم لها ليستدرج مشاعرها أكثر:
-إنتي أحسن حاجة حصلتلي في حياتي، بأحبك!
أخرجت تأويهة حارة من صدرها مع تلك القبلة الدافئة العميقة التي اصطبغت بها شفتيها، لحظات وكانت هي بين ذراعيه يحملها طواعية وبها الرغبة لتجديد عهود الحب، اتجه بها للأسفل حيث الغرفة الخاصة المتواجدة به، استوى بها على الفراش وانتزع عنها ثيابها، ثم أعاد بث عواطفه الحسية ومشاعره الوجدانية لها بالتحام الأجساد ومعانقة الأرواح.

كانت فاقدة للإحساس بالأمان في حضرة والدتها، فجل ما يهم الأخيرة هو الحصول على النقود والتخلص من عبء المسئولية الملقاة على عاتقها، حتى وإن كلفها ذلك التضحية ببناتها لمن لا يؤتمن عليهن، وإن عُقدت مقارنة بسيطة بينها وبين "فردوس" فلن يختلف الحال كثيرًا، كلتاهما تبحثان عمن ينتشلهما من الفقر، دون الاكتراث بنتائج ذلك وتأثيره على فلذات أكبادهما، تحركت "هالة" وهي مسلوبة الإرادة تنفيذًا لأوامر أمها، ولا أهمية لما تعانيه في صمت من أوجاع نفسية تحطمها بل وتقتلع بشراسةٍ روحها، تغلغل بداخلها إحساسها بالانهزام والضعف، تبعتها في حزنٍ حيث وجدت آخر من توقعت رؤيته، في البداية لم تنظر نحوه، كانت منكسة لرأسها محدقة بانكسارٍ فيما يوجد أسفل قدميها، وكأنها تتحاشى من جديد نظرات الشماتة والتشفي في أعين من يقوم بزيارتها لينظر إلى أي حالٍ قد وصلت بعد تعدي "منسي" عليها، فالكل قد جاء ليشهد نتائج جريمته عليها.

في البداية نظر لها "يامن" بابتسامةٍ حاول إخفائها، ولكن حينما أمعن النظر في تفاصيلها جيدًا لاحظ ذبول ملامحها، لم ترفع وجهها إليه، قطب جبينه باستغرابٍ أشد، انخفضت عيناه لتتأمل حجابها الواسع الذي غطا نصفها العلوي، لم تكن من النوعية التي ترتديها في الأغلب، ولكن علل ذلك بكونه قد جاء لزيارتها في المنزل فكانت على أريحيتها، ما أثار ريبته أيضًا هو تدلي أكمام قميصها المنزلي المترهل عليها بشكلٍ لافت للأنظار وكأنها تخبئ كفيها بهما بل وجسدها بالكامل، ومع ذلك لم يلقِ بالاً للأمر، فالأهم عنده أنها واقفة أمامه وبخير، لاح شبح ابتسامة باهتة على ثغره وهو يقول بلطفٍ:
-إزيك يا "هالة"؟

تصلب جسدها بالكامل وتخشبت في مكانها فور أن سمعت صوته المألوف يمر في أذنيها، رفعت رأسها لتنظر إليه بذهول رغم السحابة الكثيفة من العبرات التي تغلف مقلتيها، اكتست تعبيراتها بأمارات الصدمة ثم ما لبث أن تحول اندهاشها إلى انزعاجٍ غاضب، فقد اقتحم رأسها كافة المشاعر السلبية المشحونة ضده، لم يكن ينقصها إلا حضوره المتطفل ليذكرها بأمثاله ممن يحتقرون الأقل شأنًا منهم، شحذت عقلها بغضبٍ غير مفهوم ضده ورمقته بنظرة مطولة حانقة، تنحنح "يامن" مبررًا وجوده في منزلها دون ميعادٍ مسبق فتابع بتلعثمٍ بسيط:
-أنا حبيت أطمن عليكي، قصدي يعني "أوس" كلفني أشوفك لما غبتي عن المدرسة.

سألته بحدةٍ وقد أوشكت على فقدان قدرتها على التحكم في أعصابها:
-هو إنت بتراقبني؟
رد بارتباكٍ وهو يتعمد الحفاظ على جمود تعابيره:
-مش كده بالظبط، أنا...
لم تمهله الفرصة لاختلاق الأكاذيب وإقناعها باهتمامه أو اهتمام غيره الزائف بها فهدرت به منفعلة وكأنها تلومه على مجيئه:
-إنت عاوز مني إيه؟
خشيت والدتها من تفاقم الحوار بينهما وتحوله إلى شجارٍ غير محمودِ العواقب، التصقت بها لتنهرها بابتسامةٍ لزجة وصوتها منخفض إلى حد ما:
-بالراحة يا "هالة"، احنا اتفقنا على إيه.

لم تنظر نحوها، بل بقيت عيناها مثبتة على وجه "يامن" وهي تصيح به مستخدمة يدها في التلويح:
-أنا لسه عايشة أهوو، وقول للباشا مايقلقش على فلوسه، في الحفظ والصون، وزي ما وعدته كل مليم صرفه عليا دين في رقبتي هسدده
تفاجأ من عصبيتها الزائدة وهجومها العنيف نحوه بالرغم من كونه لم يفعل ما يسيء لها، اقترب منها عدة خطوات لتلتقي النظرات الحادة مع بعضها البعض، ثم هتف قائلاً بخشونة متعمدًا إضفاء صفة جادة ورسمية في نبرته:
-وأنا مش جاي أسأل على فلوس، الموضوع وما فيه إنك مش بتروحي مدرستك وده مكانش في الاتفاق.

ابتسمت بتهكمٍ لتشير إلى استخفافها بحديثه، هنا استشاطت نظرات "أم بطة" التي كانت تتابع انفعال ابنتها بصبرٍ محدود، لكزتها بقسوةٍ في جانب ذراعها معنفة إياه:
-اتكلمي عدل يا بت مع الضيف
أبعدت عيناها الحمراوتين لترمق والدتها بنظرة مليئة باللوم والعتاب، اختنق صوتها وهي تقول لها:
-متقلقيش يا أم البنات، فلوسك هتوصل زي تملي، وكلامي ده مش هو اللي هايمنعه
اشتعلت نظرات أمها أكثر من أسلوبها الملتوي في الحديث، نهرتها مجددًا بغلظةٍ:
-اتعدلي يا بت.

تابع "يامن" جدالها المثير للشكوك بقلقٍ، أحس بوجود ما تخفيه الاثنتان عنه، وليست المسألة كما ادعت أمها بأنها مريضة بالزكام، تراجعت "هالة" خطوة للخلف فاتحة ذراعيها في الهواء قبل أن تضيف من تلقاء نفسها:
-هو أنا قولت حاجة غلطت، ما هي دي الحقيقة، الفلوس تهمك أكتر مننا
صعقت "أم بطة" من الطريقة المريبة التي تتحدث بها ابنتها أمام الضيف الغريب، والتي تنذر أيضًا بكارثة وشيكة، رفعت سبابتها تحذرها:
-لمي لسانك يا بت، وحسابنا مع بعض بعدين.

مجرد توعدها بالرد الصارم أثار ضيقه وجعلت دمائه تحتقن، أضافت "هالة" قائلة وهي لا تزال في حالتها غير الطبيعية تلك:
-أكتر من كده؟ خليه يعرف إنتي بتحبي مين أكتر
رمقتها والدتها بنظرات نارية تعكس حنقها منها، ومع ذلك استمرت "هالة" في صراخها وكأنها شعلة انطلقت فجأة:
-مش مهم عندك بناتك ولا إيه اللي يحصلهم، المهم تقبضي التمن في الآخر.

ثم أشارت إلى نفسها متابعة بأنفاس تهدر:
-وأنا مش فارقة معاكي، مش حاسة باللي أنا فيه
اغرورقت عينا "هالة" بالدمعات الحارقة وهي تكمل بنحيبٍ مؤلم:
-"بطة" ضاعت قبلي، وإنتي قبضتي تمنها، والدور جه عليا.

سكتت والدتها مبهوتة من إفراجها عن مكنونات صدرها بتلك الصورة الفجائية التي عرت حقيقتها المخزية، حقًا لم يكن ينقصها إلا صراحتها القاسية لينفضح كل شيء، حلت "هالة" أزرار كمي قميصها لتكشف عن ذراعها المشوه، رفعته نصب عينيها مكملة صراخها الحاد:
-واديني دفعت التمن، مش برضوه إنتي بعتيني للبلطجي رد السجون "منسي"، ودي كانت النتيجة، ها شوفتيها؟

حملق "يامن" مصدومًا في ندوبها الواضحة، انفرجت شفتاه عن ذهولٍ غاضب، في حين تقلص وجه "أم بطة" بارتباك قلق، كانت تخشى ردة فعل الضيف أكثر من حالة ابنتها المتعصبة، رفعت "هالة" حجابها قليلاً لتكشف عن عنقها دون أن تنزعه عن رأسها، اقتربت من أمها لتقول وهي تنهج:
-بصي كويس، ده برضوه من "منسي"، ليه بتداري عينيكي؟ مش دي الحقيقة، وكان ممكن أتشوه بالكامل لولا ستر ربنا.

أرخت حجابها وتهدل كتفيها في انكسارٍ مؤلم لتضيف ببحةٍ:
-وبدل ما تاخديني في حضنك حرمتيني من حنيتك وعطفك وبرضوه عشان الفلوس، لأنها أهم عندك مننا!
أطبقت والدتها بقوة على شفتيها عاجزة عن إيجاد المبرر لما تسببت به من أذى لابنتها، هدر "يامن" متسائلاً وهو لا يزال غارقًا في صدمته:
-إيه اللي بأسمعه ده؟

حانت من "هالة" التفاتة صغيرة نحوه قرأ في عينيها الباكيتين الكثير، ألمه أن يجدها على تلك الحالة الهزيلة المنكسرة، أشاحت بوجهها بعيدًا عن عينيه المسلطة بالكامل عليها لتنسحب عائدة للداخل وهي مغلوبة على أمرها وشهقاتها المتحسرة تسبقها، تسمرت قدما أمها في مكانها وقد زاغت نظراتها الحائرة، لم تعرف بماذا تبرر الموقف برمته، رمشت بعينيها وارتجفت شفتيها وهي تدعي كذبًا علها تنجح في خداعه:
-متأخذناش يا بيه، أصل.. ال .. بت .. هي
صاح بها "يامن" مقاطعًا إياها بنبرة أجفلت بدنها وجعلتها ترتعش مهابةً منه:
-اخرسي ولا كلمة.

هزت رأسها بهزات مستسلمة له وهي تبتلع أكاذيبها في جوفها، طالعته بنظرات مرتعدة وتراجعت خطوتين للخلف مشكلة مسافة آمنة بينه وبينها، لوح بذراعه في وجهها متابعًا صياحه الهادر:
-إنتي إيه؟ غولة فلوس، في حد يعمل في بناته كده؟
ارتعدت وهي ترد:
-أنا مظلومة يا بيه، احنا فقرا وعلى أد حلنا
أخرج من جيبه حفنة من النقود ألقاها في وجهها كرد حقير على لغوها الفارغ وهو يسألها بغيظٍ محتقن:
-هما دول اللي هيملوا عينك؟ خديهم!

ألقت نظرة مترددة للنقود الملقاة أسفل قدميها، ومع ذلك لم تجرؤ على الانحناء وجمعهم، واصلت تراجعها للخلف، كما ازداد جفاف حلقها من فرط رعبها لأسلوبه العدائي الصريح، اقترب "يامن" منها يهددها علنًا وهو يشير بسبابته:
-بس قبل ما تعملي ده هتدفعي تمن اللي عملتيه في بناتك
دافعت عن نفسها قائلة بدموع زائفة:
-يا بيه أنا ست غلبانة وعايشة لوحدي مع كوم لحم، ما أذنبتش لما حبيت أسترهم في الحلال، هما مالهومش حد غيري، ومافيش أم مش هتخاف على بناتها، أنا عايزاهم يعيشوا
رد بتهكمٍ:
-واضح فعلاً.

ادعت الانتحاب مكملة دفاعها عما تفعله:
-احنا في غابة يا بيه، وعايشين وسط ناس ما بترحمش، ولو مكنش لينا ضهر هنتاخد في الرجلين، وأنا معنديش الضهر ولا السند، عاوزني أعمل إيه وأنا ولية مكسورة الجناح؟
صرخ في وجهها منفعلاً:
-ده مش مبرر، أفقر منك ومحافظين على ولادهم وبيحاولوا يخلوهم أحسن منهم.

كفكفت عبراتها بيدها لتظهر حقيقتها القاسية من خلف قناع الحنون الزائف، ثم ردت عليه بمنطقها الراسخ بداخلها بفعل تأثير بيئتها المتدنية عليها:
-الكلام سهل، بس ساعة الجد هتلاقي الكل بيدور على مصلحته وبيقول يالا نفسي، وده اللي أنا عملته مع بناتي، دورت على اللي فيه الصالح ليهم، مش جريمة يعني لما جوزتهم للي يقدر يصرف عليهم، وأي واحدة في مكاني وعندها نفس ظروفي هتعمل كده وأكتر!
كز على أسنانه صائحًا بغضبٍ فيها:
-إنتي واحدة آ...

لم يكمل جملته بسبب مقاطعة ابنتها الصغرى التي هرولت تستنجد بأمها فقالت بهلعٍ وعيناها متسعتان على أخرهما:
-الحقي يامه، "هالة" عاوزة تحدف نفسها من البلكونة!

رضخت ملبية لطلبه بعد إلحاحه الدؤوب للخروج وقضاء بعض الوقت بالمنتجع للترفيه عن كليهما، ارتدت "ليان" ثيابها الصيفية الخفيفة وخطت برشاقة مع "عدي" عبر الطرقات المعبدة، نجح الأخير ببراعة في إخفاء مشاعر الكدر واضعًا على وجهه ابتسامة لطيفة، فقد تعهد في نفسها بالعمل على نسيان الماضي بمآسيه وبتعويضها عما فات وإكسابها الثقة في نفسها من جديد، اقترب الاثنان من المسبح الرئيسي للمنتجع حيث كان المكان هادئًا نوعًا ما، التفت ناحيتها ليسألها:
-إيه رأيك لو جربتي ال spa هنا؟

ردت بفتورٍ:
-ماليش مزاج
سألها بإصرارٍ:
-ليه بس؟ دول جايبين ناس محترفين ومستواهم معروف
بدت وكأنها تبذل مجهودًا كبيرًا للحديث وهي ترد عليه:
-وقت تاني يا "عدي"، خلينا نتمشى شوية
اكتفى بالإيماء برأسه معقبًا عليها:
-أوكي.

صعدا كلاهما الدرجات الرخامية الثلاثة المؤدية للمسبح، واتجها إلى مقعدين مفرودين للتمدد والاسترخاء عليهما، بحث "عدي" بعينيه عن النادل المسئول عن ذلك المكان فلم يجده، اعتدل في جلسته قائلاً:
-أنا هاطلب عصير فريش، تحبي أجيبلك إيه يا "ليو"؟
ردت متصنعة الابتسام:
-أي حاجة
-تمام.

قالها وهو ينهض عن مقعده متجهًا نحو الاستقبال القريب، تبعته "ليان" بنظراتها الفاترة إلى أن اختفى فوجهت بصرها نحو المسبح ومن فيه، جابت بأنظار عادية المكان برمته، لمحت أحد الأشخاص المكلفين بمراقبة المسبح وإنقاذ من على وشك الغرق بانصرافه ومعلقًا لحقيبة ما على ظهره، كما رأت فتاة ممددة على المقعد الطويل وواضعة لسماعات الأذن على رأسها، تحركت حدقتاها نحو ذلك الطفل الصغير الذي قفز لتوه في المياه وصوت ضحكاته المستمتعة تلفت الانتباه، تجمدت عيناها عليه وبدأت في مراقبته بابتسامة باهتة، كان مرتديًا لعوامتين صغيرتين حول عضديه لتبقياه أعلى المياه..،

ابتسمت أكثر لضحكاته البريئة التي انتشرت في المكان، بحثت بعينيها عن ذويه فوجدت والدته مشغولة بالحديث في الهاتف، للحظة توترت حينما رأت إحدى العوامتين يتقلص حجمها، أيقنت أن بها خطب ما، خاصة حينما اختفت الضحكات وبدا وجه الطفل غريبًا، اعتدلت في رقدتها وشعرت بخفقة قوية تعصف بقلبها، وكأن مشاعر الأمومة تحثها على النهوض ومتابعته، هبت واقفة على قدميها واضعة يدها على جبينها محاولة البحث بعينين مذعورتين عن أمه التي كانت متواجدة قبل قليل على مقربة منه، جزعت حينما لم تلمحها في المكان، فجأة تعالت صرخات الصغير وبدا كما لو كان يستنجد بمن ينقذه وجوفه يبتلع المزيد من الماء، هللت "ليان" بفزعٍ:
-يا جماعة في طفل بيغرق، حد يلحقه.

التفتت كالملسوعة باحثة عمن يلبي استغاثتها:
-مافيش حد هنا ينقذه
بدا المكان كما لو كان مهجورًا من رواده بالرغم من كونه وقت الظهيرة، ولم يكن بمقدور الصغير الانتظار ريثما يتواجد أحدهم لنجدته، أحست بمسئولية كبيرة تُلقى على عاتقها نحوه، لا وقت للتردد أو الخوف أو حتى إعادة التفكير، فحياة أحدهم على المحك الآن، استجمعت جأشها واستدعت شجاعتها لتقضي على خوفها، سحبت نفسًا عميقًا تشد به من أزر نفسها ولفظته بعدها دفعة واحدة، تقدمت "ليان" للأمام نازعة خفيها عن قدميها، ثم وقفت عند حافة المسبح ووثبت دون إضاعة المزيد من الوقت فيه، سبحت بمهارة نحوه وأمسكت به من أسفل ذراعيه لترفع رأسه أعلى المياه، نظرت له بخوفٍ وقد ظنت أنه فارق الحياة، هزته برفق منادية إياه:
-حبيبي، إنت كويس.

وحينما سعل بحشرجة طفيفة عادت روحها إليها، مددت جسده أعلى صفحة المياه وواصلت السباحة به للطرف الآخر من المسبح، رفعته بحذرٍ شديد للأعلى ثم خرجت منه لتجد والدته تركض مسرعة من على بعد وعلامات الفزع مرسومة على قسماتها، تساءلت بأنفاسٍ لاهثة:
-"مودي"، ابني ماله؟
نظرت لها "ليان" شزرًا وقطرات الماء تنساب من عليها لترد بتهكمٍ حاد:
-كان بس هايغرق
كتمت الأم شهقتها بعد أن رددت:
-ابني!

ثم جثت على ركبتيها ترفعه إلى صدرها وهي تضمه معتذرة له:
-سوري يا حبيبي، دي غلطتي، أنا انشغلت عنك، حقك عليا، مش هايحصل ده تاني
سعل الطفل قائلاً:
-مامي!
أبعدته قليلاً عن صدرها لتنظر إلى وجهه بندمٍ، مسحت براحتيها وجهه لتشعره بالأمان، وانهالت عليه بالقبلات الأمومية مكررة اعتذارها له، حملته بين ذراعيها ونهضت واقفة على قدميها، التفتت إلى "ليان" تشكرها:
-أنا مش عارفة أقولك إيه، إنتي أنقذتي ابني، كان ممكن يروح مني وأنا مش حاسة بده.

ردت الأخيرة محذرة إياها:
-يا ريت المرة الجاية تاخدي بالك
أكدت لها دون تفكير:
-طبعًا مش هاسيبه يغيب عني ثانية، وميرسي على اللي عملتيه مع "مودي"
ثم هزت صغيرها تأمره:
-قول يا "مودي" ميرسي لأنطي
فرك الطفل عينيه هاتفًا بارتجافة محسوسة:
-ثانكس أنطي.

بادلته "ليان" ابتسامة رقيقة وداعبت شعره المبتل بأناملها قبل أن تتركه بصحبة والدته، اتجهت عائدة إلى مقعدها وهي تنفض ذراعيها في الهواء لتزيح الماء المنهمر منها، صفق "عدي" بكفيه في إعجابٍ كبير لتتفاجأ هي من وجوده شاهدًا على ما حدث، سألته بوجهٍ جاد في تعبيراته:
-إنت شوفت اللي حصل؟

رد مبتسمًا بسرورٍ لم يخفه:
-أنا ماصدقتش أصلاً عينيا، إنتي يا "ليو"، مش معقول!
قالت من زاوية فمها بفتورٍ:
-عادي يعني
ودون أي مقدماتٍ احتضنها بقوةٍ متابعًا مدحها:
-أنا فخور بيكي يا "ليو"
أحست بقوة ضمه وبذراعيه تضغطان على جسدها، ضمت شفتيها لتقول على مضضٍ:
-خلاص يا بيبي.

تراجع "عدي" عنها ليتأمل ملامحها اللامعة بعينين تشعان حبًا، ثم أردف متغزلاً بها:
-واو أنا معايا سوبر هيرو زي القمر
لكزته في كتفه قائلة بعبوسٍ:
-بلاش أفورة، وحاسب عشان أشوف فوطة أنشف بيها نفسي
رد بغموضٍ ونظراته تنم عن عبثية صريحة:
-مش هنحتاجها دلوقت!
رفعت حاجبها للأعلى متسائلة وقد وضعت يدها أعلى منتصف خصرها:
-ليه؟

رد مبتسمًا ابتسامة عريضة عكست حماسه الكبير:
-عشان هننزل البسين سوا
وقبل أن تعترض وجدت نفسها محمولة على كتفه، صرخت عاليًا ليكف عن مزاحه السخيف وهي تركل بساقيها في الهواء، لكنه كان جادًا فيما يقول، وقفز بها إلى المسبح ليستمتع معها بالمياه المنعشة، ضربته في كتفيه وهي توبخه بعد أن أفاقت من الصدمة:
-إيه اللي عملته ده؟

لم يكترث بضيقها أو حتى عدم رضائها عن جنونه وطيشه، اقترب سابحًا منها ليقول لها بتنهيدة العاشقين:
-بأموت فيكي يا "ليو"، إيه رأيك في المياه؟ منعشة صح
اغتاظت من ابتسامته الباردة فضربت بيديها المياه بعنفٍ قاصدة إغراق وجهه، حذرها مازحًا:
-بلاش كده يا "ليو"، أنا مش بأسيب حقي.

لم تعبأ بتحذيره وواصلت قذفه بالمياه بأقصى ما تستطيع، كتم "عدي" أنفاسه ثم غطس للأسفل ليدنو منها، شعرت "ليان" بيديه تمسكان بها من خصرها، صرخت ضاحكة من دغدغته لها، ثم رفعها أعلاه ليلقيها بغتة على جانبها فتغمر المياه كامل جسدها، امتزج صوتها الغاضب مع صوت ضحكاته، رمقته بنظرة جادة وتحدته قائلة:
-ماشي، إنت اللي بدأت
اتجهت إليه تنوي إغراقه وهو يحاول الفرار منها مدعيًا الجبن والخوف، وما هي إلا لحظات وتحول الأمر بينهما لمعركة قتالية بالمياه تناسيا فيها من حولهما واستمتعا كالأطفال باللهو والضحك.

-يا نصيبتي!
انفرجت شفتاها عن شهقة صارخة بعد أن ولولت لاطمة على صدرها لتندفع ركضًا في اتجاه غرفة ابنتها كي تلحقها قبل فوات الأوان، شخصت أبصارها حينما رأت "هالة" تحاول إلقاء نفسها من أعلى الشرفة، وأختها الصغرى تجاهد للإمساك بها بصعوبة وسط صرخات الجيران الفزعة ممن يتابعون المشهد، كادت الاثنتان تنزلقا معًا بسبب فارق الحجم والوزن، في أقل من لحظة كانت يدها قد امتدت لتلتقط معصم ابنتها لتثبتها، صرخت بها "هالة" بجنون:
-سيبيني أموت، مش عاوزة اعيش تاني.

وتلوت أكثر بجسدها متعمدة الإفلات من قبضتها، هتفت والدتها مستغيثة:
-يا ناس حد يلحقني
بدأت مقاومتها العكسية تضعف، وساعد التعرق الزائد على انزلاقها أكثر، وقبل أن يحدث ما تخشاه امتدت قبضة أخرى أكثر قوة للإمساك برسغها، التفتت ناظرة إلى جانبها فوجدته "يامن"، صاح بها الأخير بخشونة:
-ماتبصيش كتير، ارفعي معايا
ردت دون تفكير:
-حاضر يا بيه.

زادت عدائية "هالة" مع إصرارهما على إفشال محاولة انتحارها، تلوت بجسدها وتعالى صراخها ولكن ظل "يامن" يبذل قصارى جهده لإنقاذها، وقع قلبه في قدميه وهو يتخيل أنه أفلتها، حفز نفسه وأوجد بداخله الدافع القوي ليسحبها إليه، مد يده الأخرى نحو جسدها ليمسك بأسفل كتفها ليضمن سيطرته عليها، تضاعف جهده، وأنهكت قواه، ورغم هذا استمر في جذبها ودفعها نحوه حتى أصبحت في متناول قبضتيه ووالدتها تهلل في أذنيه مستجدية:
-يباركلك ربنا يا بيه، امسكها كويس.

نجح "يامن" أخيرًا في رفعها إلى الحافة، أطبق بذراعيه على خصرها وتمكن من إعادتها لداخل الشرفة، أنزلها على أرضيتها دون أن تنفلت قبضتاه عنها، وشكل بجسده حاجزًا بشريًا يمتص النوبات العصبية العنيفة لجسدها، كانت "هالة" في حالة لا وعي، انفعالاتها خرجت عن السيطرة، أعصابها مستهلكة، جثت والدتها أمامها متمتمة بتوبيخٍ:
-يادي الفضايح والجرس، الناس هتقول عننا إيه، أل كنا ناقصين
رفع "يامن" وجهه نحو "أم بطة" ليأمرها بخشونةٍ:
-اخرسي خالص، مش عاوز أسمع صوتك!
لوت ثغرها معترضة بحذرٍ:
-هو أنا قولت حاجة، ده...

قاطعها بنبرة أشدُ بأسًا:
-اسكتي، إيه مابتفهميش
وضعت يدها على فمها مرددة بصوت خفيض:
-هاتكتم أهوو
انتظر "يامن" لدقائق ريثما بدأت انفعالات "هالة" تخبو وتشنجاتها تخور، ثم رمق والدتها بنظرة قاتلة مواجهًا إياها بالقول المباشر:
-عملتي فيها إيه؟
نظرت له بتوترٍ وهي تجيبه:
-ولا حاجة يا بيه، ما أنا كنت برا معاك
سألها هادرًا بغضبٍ محتدم:
-إيه اللي وصلها لكده؟ ردي عليا
اهتزت شفتاها قائلة:
-م.. معرفش!

توعدها بشراسةٍ:
-لو طلع ليكي يد في اللي حصلها مش هارحمك
غمغمت محتجة:
-هو أنا اللي قولتلها روحي احدفي نفسك وجيبلنا العار
اغتاظ من أسلوبها المتلوي في إنكار تورطها في إيذاء ابنتها بصورة مباشرة، ودَّ لو استطاع سحقها أو حتى إحراق لسانها ليمنعها عن الكلام والتفوه بما يشعل النفوس ضغينة وكرهًا، وقبل أن تواصل نواحها الزائف هتف آمرًا بلهجته الصارمة:
-بس، ولا كلمة زيادة
-حاضر.

أسند "يامن" "هالة" على صدره، ومسح برفق على وجنتها، كانت ملامحها ذابلة للغاية، ووجهها شاحبًا غير مبشرٍ بخير مما ألمه كثيرًا وأشعره بوجوب وجوده إلى جوارها لحمايتها أولاً من نفسها، وللتصدي لتسلط والدتها عليها، فربما قد تدفعها من جديد لارتباك مثل تلك الحماقة، امتدت ذراعاه أسفل ركبتيها وخلف ظهرها ثم نهض بها حاملاً إياها وهو يقول لأمها:
-حاسبي
ردت عليه بوجه ممتعض ونظراتها تجوب أوجه الجيران المتابعين لما يحدث:
-اتفضل يا بيه!

اتجه بها "يامن" إلى فراشها، أسندها برفقٍ حذر عليه، وسحب الغطاء ليضعها على جسدها، التفت مشيرًا بسبابته ل "أم بطة" يقول لها دون انتظار رأيه:
-من هنا ورايح ملكيش دعوة بيها
عبست معقبة على جملته بتهكمٍ بائن:
-هو كان ليا أولاني لما هيبقى تاني؟ ما إنتو يا بهوات اللي واخدنها في حمايتكو! هو أنا بقيت أعرف أكلمها ولا أقولها تلت التلاتة كام!

وقف قبالتها يحدجها بنظراته النارية التي تشع غضبًا مضاعفًا، فشخصية مثلها مستفزة لأبعد الحدود، تدفعك دفعًا نحو الجنون ما لم تكن أعصابك باردة تتحمل أسلوبها الفظ وكلماتها المهيجة للدماء، أحست "أم بطة" بالخوف حينما نطق من بين أسنانه المضغوطة:
-إنتي ماتعرفنيش لسه، بس احذريني أحسنلك!

ابتلعت ريقها في جوفها متراجعة في تحديه:
-كفاية إنك تبع الباشا "أوس"، هو حد يقدر يقف قصادكم
ضاقت عيناه أكثر حتى استشعرت أنهما باتتا كجمرتين متقدتين على نيران مستعرة، تصلبت في مكانها وتوقفت عن الرمش بعينيها عندما تابع "يامن" بوعيدٍ خطير:
-كويس إنك عارفة ده، لأن زعلنا وحش أوي ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة