قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الخامس

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الخامس

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

وضع إصبعيه أعلى طرف أنفه ليضغط برفق عليه بعد أن أصابه الإرهاق من كثرة الانتظار، فتح عينيه ليحملق بنظراتٍ مزعوجة في أوجه المارقين للداخل ثم انخفضت عيناه نحو ساعة يده الثمينة ليتأكد من كونه لم يتأخر عن ميعاد حضورها المعتاد، عبست تعابيره وامتلأت حدقتاه بحمرة طفيفة، فكعادتها مؤخرًا لم تظهر على الساحة مما أصابه بالإحباط والضيق، طرق "يامن" بأصابعه على حافة الزجاج الخاص بباب السيارة الملاصق له، أطل برأسه للأمام قليلاً لينظر عن كثبٍ للطالبات اللاتي يلجن للداخل في تتابع مستمر راجيًا في نفسه أن تكون ضمنهن.

خشي أن تكون قد أتت مبكرًا عن قدومه وبالتالي لم يلحظها، تراجع في جلسته على المقعد محبطًا، رفع يده للأعلى قليلاً ليتلمس بحذرٍ شديد خصلات شعره المرتبة بعناية، أدار رأسه للجانب ناظرًا في انعكاس وجهه عبر المرآة الأمامية، ضبط وضعيتها إلى حد ما ليتمكن من رؤية القادم من الخلف، ثم عاد ليحدق في بوابة المدرسة بجمود لبعض الوقت، ردد لنفسه بامتعاضٍ يائس:
-غريبة فعلاً، بقالي أكتر من أسبوع مستنيها وهي مابتحضرش!

طقطق فقرات عنقه بتحريك رأسه للجانبين ليخفف من الضغط الكائن بهم بعد أن طال انتظاره، تنهد مضيفًا لنفسه:
-غيابها ده مش طبيعي!
انتهت الطالبات من دخول الحرم المدرسي وتولى الحارس إغلاق البوابة لينقطع أمله من جديد في رؤيتها، هنا نفذ صبره فهتف بنرفزة:
-كده كتير بجد.

للحظة فكر في العودة حينما يحين موعد انصراف الطالبات ليسأل إحداهن عنها، لكنه تراجع عن تلك الفكرة المتهورة بعد أن عاود التفكير في تبعاتها واضعًا في رأسه عدة احتمالات منطقية، فربما هي اكتشفت وجوده لذا تتعمد التخفي عنه كي لا يلمحها فتحول دون فرصة تحدثه إليها، أو ربما قد أصابها مكروه ما فمنعها من الحضور، دارت برأسه الهواجس وفي لحظة قرر أن يترجل من سيارته ليسأل عنها.

تسمرت قدماه وبدا في حيرة جلية، فكر برويةٍ ليضع في حسبانه تبعات تهوره الطائش، فربما إن أقدم على رغبته غير المدروسة لتسبب في إحراج نفسه بتوبيخها اللاذع له أمام زميلاتها ومعلميها وربما قد يتطور الوضع لأسوأ من ذلك ويتهم بمحاولة التحرش بها، ظل على تردده الحائر لبرهة إلى أن فاض به الكيل من كثر التفكير المتعب، ولكن أضاء عقله بفكرة أخرى مجنونة تحتاج فقط منه لحسن ترتيب وتنفيذ، صفى "يامن" ذهنه ليفكر مليًا، برقت عيناه بوهجٍ متحمس بعد أن حسم أمره أخيرًا ليقول لنفسه بنبرة عازمة:
-مقدميش إلا الحل ده!

دققت النظر فاحصة تلك الندوب الواضحة والمتناثرة على عنقها وأسفل ذقنها في انعكاس مرآة الحمام القديمة بعينين منكسرتين وهي تكاد لا تصدق ما حدث لها، أدمعت عيناها بقوة واغرورقت بعبرات مليئة بالمرارة والقهر، ربما هي نجت بأعجوبة من محاولة تشويه كلية لوجهها على يده لكن ستظل ذكرى ما مرت به معه ملموسة على جسدها وحاضرة دومًا في ذهنها، تحرك بصرها ببطء نحو التشوه الكبير الذي نال من ساعدها الأيمن وجلد كفها الأيسر، ارتجفت مع طول تأملها شاعرة بنغصة موجعة تضرب صدرها، ورغمًا عنها شهقت منفجرة في البكاء، أخفت "هالة" وجهها خلف كفيها.

تعالت شهقاتها المكتوبة وامتزجت مع آناتها، أغمضت جفنيها بقوة لتذهب عن عقلها صورة وجهه القميء، ف "منسي" يزورها يوميًا وبصورة متعاقبة في يقظتها ومنامها ليذكرها بفعلته الشنيعة في حقها، أبعدت يديها لتضعهما على أذنيها، فصوته الكريه يكاد يصيبها بالجنون، باتت متأكدة في قرارة نفسها بأنها مشوهة داخليًا وخارجيًا، وحرصت والدتها على تذكرها بما آلت إليه بكلماتها المسمومة التي تقتلها في كل لحظة لكونها تعيش في منطقة شعبية تتناقل فيها الأخبار والشائعات بسرعة البرق كما تنتشر النار في الهشيم، المحزن في الأمر أنه قد تم إضافة الكثير من الأخبار المغلوطة والروايات غير الصحيحة لإضفاء المزيد من التشويق، ناهيك عن الخوض في الأعراض والاتهامات الخفية التي تدعيها الألسن للنيل من شرفها.

انتفضت "هالة" في وقفتها المنكسرة مديرة رأسها في اتجاه الباب القديم حينما سمعت صوت أمها يناديها، كفكفت عبراتها وتنفست بعمقٍ لترد بعدها بصوتها المختنق بقهره:
-حاضر جاية أهوو.

عفويًا حدقت في عينيها الحمراوتين بحزنٍ وحسرة، فتحت الصنبور لتضع المياه الباردة على وجهها علها بذلك تطفئ اللهيب الثائر بداخلها، سحبت نفسًا عميقًا لأكثر من مرة لتنهي نوبة البكاء التي بدأتها، وما إن تأكدت من أنها هدأت قليلاً حتى خرجت من الحمام وهي تجفف بالمنشفة وجهها ويديها، أسندتها على الأريكة راسمة ابتسامة مبتورة على ملامحها الحزينة، خاصة أنها قد أبصرت إحدى الجارات بالخارج، وما إن رأتها الأخيرة حتى نهضت من جلستها المسترخية لترحب بها مواسية:
-ألف حمدلله على سلامتك يا "هالة"، والنبي اتقهرت عليكي بعد ما سمعت اللي حصلك يا غالية!

ردت عليها "هالة" بثبات زائف:
-كتر خيرك، تسلمي
اقتربت منها الجارة مدعية تضامنها معها في مصابها الأليم وضمتها إلى صدرها لتحتضنها، ثم أبعدتها عنها متابعة كلماتها الآسفة:
-منه لله المفتري الظالم، ربنا يخلص منه، ده إنتي ست البنات والله
ثم أدارت رأسها نحو أمها لتضيف بإشفاق بعد أن مصمصت شفتيها:
-وربنا بنتك اتحسدت يا "أم بطة"، ده مافيش حد في جمالها ولا حلاوتها ولا حتى علامها
ردت عليها والدتها بوجه عابس ونظرات متجهمة:
-تشكري ياختي، مانجلكيش في حاجة وحشة.

ربت الجارة بيدها عدة مرات على جانب كتف "هالة" كنوعٍ من المؤازرة لوضعها، رمقتها بنظرة غريبة فاحصة لتشوهها الملحوظ بوقاحة موجهة حديثها لها:
-شدة وتزول يا بنتي
تحرجت "هالة" للغاية من طريقة تحديقها الوقح لجسدها مما دفعها لتخبئة عنقها بطرفي ياقة قميصها المنزلي باهت الألوان لتتحاشى نظراتها الجريئة وغير المكترثة لمشاعرها، هزت رأسها بلا معنى وهي ترد بغصة عالقة في حلقها:
-تسلمي، هستأذنك عندي مذاكرة.

قوست الجارة شفتيها لتظهر ابتسامة باردة معلقة عليها:
-روحي ياختي شوفي مصلحتك وماتستأذنيش، وربنا يعوضك خيرك
انسحب "هالة" سريعًا لتتجنب سماع المزيد من السخافات المزعجة والنظرات المستفزة التي لا تتشمل على العطف والشفقة بل تعكس ببرودٍ التشفي والشماتة، بقيت عينا الجارة مركزة عليها بالرغم من اختفائها بالداخل، تمتمت بعدها بتنهيدة طويلة مسموعة:
-ربنا يعينك يا "أم بطة" على اللي إنتي فيه.

وكأن الأخيرة بحاجة لمن يستثيرها بتلك النوعية من الكلمات المستفزة لتفقد أعصابها وتشتكي علنًا:
-أل كنت ناقصة هم على همي، مين هيبص في وش البت بعد اللي حصلها؟
عاتبتها الجارة بغلظة طفيفة:
-ما إنتي اللي غلطانة بردك من الأول يا "أم بطة"، كان فين عقلك وإنتي بتوافقي على جوازها من "منسي"؟ ده بلطجي وسمعته في الأرض
نفت اتهامها مدعية كذبًا:
-هو أنا لحقت أوافق ولا أرفض، ده يدوب كان ربط كلام عشان أخلص من رزالته.

لوحت بذراعها مكملة حديثها:
-يا شيخة بركة إن ربنا نجاها من شره، وبكرة هيجيلها عدالها، عريس محترم ملو هدومه
غامت نظراتها من كلامها الفارغ الذي سيناقض الواقع، فمن سيرتضي بابنتها بعد أن تشوهت؟ خرج من جوفها زفيرًا ثقيلاً مهمومًا معقبة عليها:
-ماظنش
-استبشري خير، وربك عليه جبر الخواطر، وبعدين بنتك دماغها حلوة، فالحة في دراستها وقريب هاتشوفيها معاها شهادة تتوظف بيها
-هانشوف.

أرادت الجارة اللعب على وتر تشوهها قاصدة بذلك كسر شوكتها حيث كانت تتباهى بالجمال الفطري لبناتها، اقتربت منها ليبدو صوتها عميقًا وهي تردد بخفوت:
-ما هو الجواز مش كل حاجة، وبيني وبينك الرجالة بتحب تشوف الواحدة من دول كاملة من مجاميعه، مافيش حاجة كده ولا كده معيوبة فيها
أطلقت نظرات "أم بطة" شرارات نارية مغتاظة من فظاظتها، كما فارت الدماء في عروقها ليصبح وجهها مشتعلاً بحمرة ساخنة، كظمت غضبها المستشاط بداخلها مضطرة، تجرعت جارتها الوقحة ما تبقى من الشاي الساخن في كوبها لتسنده على الطاولة، ثم مسحت بطرف كم عباءتها البقايا العالقة على طرفي ثغرها، تجشأت قائلة:
-كان بودي أقعد معاكي أكتر من كده، بس إنتي عارفة أبو العيال زمانته صحي من نومه وهايعملي أماثل لو ملقانيش رجعت.

مالت عليها "أم بطة" لتحتضنها مجاملة إياها:
-تسلم رجليكي يا حبيبتي، نردهالك في الفرح إن شاءالله
-يا رب يا حبيبتي، سلامو عليكم
ثم طبعت الجارة عشرات القبلات على وجنتيها كنوع من التوديع الحار الودود لها، سارت معها "أم بطة" حتى أوصلتها لباب المنزل وهي ترد:
-وعليكم السلام
صفقت الباب فور انصرافها لتغمغم بغيظٍ وقد اشتعلت حدقتاها على الأخير:
-غوري في داهية، ولية عاوزة الحرق، جاية تحرق دمي وخلاص.

احتقنت نظراتها أكثر مواصلة التنفيس عن غضبها:
-منك لله يا "هالة"، إنتي اللي عملتي فينا كده، خليتي اللي يسوى واللي مايسواش يشمت فينا!
أغفلت "أم بطة" عن كون ابنتها قادرة على سماع نواحها وعويلها وحتى دعائها عليها بوضوح لتحطم معنوياتها كليًا وتقضي على ما تبقى من روحها المستنزفة، أوصدت الباب بحذرٍ شديد لتنهار باكية وقد كتمت بيدها جوفها كي تظل شهقاتها المكلومة حبيسة صدرها.

لم تتصور أن تخطف الأجواء الطبيعية الخلابة عينيها وتبهرها بهذا الشكل، أحست بالانتعاش، بكتلة متدفقة من الحيوية والنشاط تتغلغل بداخلها وتتشعب في خلايا جسدها، كانت ممتنة للغاية لزوجها الذي منحها تلك الفرصة الثمنية لتبديد أحزانها، وللاستمتاع بالسحر الفطري المحاوط بها، جلست "تقى" بأريحية على الأرجوحة ممددة ساقيها وتاركة تلك الاهتزازة الصغيرة تلعب دورًا في زيادة حالة الاسترخاء المتمكنة منها، أنزلت ساقيها واعتدلت في جلستها حينما أبصرت "ليان" تقترب من على بعد، لوحت لها بذراعها هاتفة باسمها وقد ارتسمت ابتسامة لطيفة على وجهها البشوش:
-"ليوو" تعالي.

اقتربت منها الأخيرة حتى أصبحت في مواجهتها، رمقتها بنظرة غريبة قبل أن تنطق بنبرة بدت أقرب للبكاء:
-أنا مخنوقة ومش قادرة أستحمل خالص
انتاب "تقى" القلق مما ألقي على مسامعها، ردت عليها بتلهفٍ متوترٍ وقد هبت واقفة:
-حصل إيه بس خلاكي تقولي كده؟

ثم مدت ذراعها في اتجاهها لتلفه برفق حول كتفيها وجذبتها نحو الأرائك الموضوعة على مقربة من الأرجوحة، أجلستها بهدوءٍ عليها ثم جلست بجوارها دون أن تبعد نظراتها عنها، مسحت بنعومة حنون على ظهرها وهي تسألها برويةٍ:
-اهدي كده بس وفهميني في إيه
تحركت عيناها عفويًا نحو زجاجة المياة المعدنية الموضوعة في منتصف الطاولة المنخفضة، انحنت "تقى" نحوها لتفتحها ثم أفرغت القليل منها في الكوب الزجاجي، ناولته ل "ليان" قائلة لها:
-اشربي المياه دي.

ارتجفت يدها وهي تتناوله منها، لامست شفتاها قدرًا بسيطًا من محتواه فقط لتبللها، أعادته في اتجاه ابنة خالتها التي سارعت بأخذه ووضعه في مكانه، عادت لتحدق بها والاهتمام القلق مسيطر عليها، ازدردت ريقها لتسألها بتأنٍ حذرٍ علها تفهم ما الذي أصابها:
-احكيلي على اللي حصل، أنا سمعاكي.

اضطربت أنفاس "ليان" وتواترت بشكل غير منتظم، كان جسدها يرتجف بالكامل ونظراتها شبه زائغة، حانت منها التفاتة مرتبكة نحو وجهها لتجيبها بنبرة مهتزة:
-أنا السبب في اللي حصل
زوت "تقى" ما بين حاجبيها مستغربة بشدة مما تفوهت به، في حين تابعت "ليان" بصوتها المتوتر:
-الذنب هيموتني، معنتش قادرة استحمل أكتر من كده
سألتها مستفهمة وقد بذلت مجهودًا كبيرًا لتبدو تعبيراتها هادئة ونبرتها ثابتة:
-ذنب إيه بالظبط؟ أنا مش فاهمة حاجة.

أدمعت حدقتاها بقوة وهي ترد باختناقٍ:
-من الأول مكونتش عاوزة البيبي ده، كنت.. عاوزة أخلص منه.. بأي شكل!
صدمها ما أفصحت عنه وحديثها عن مشاعرها تجاه جنينها، للحظة بهتت وعجزت عن إيجاد الكلمات المناسبة لترد عليها، ظلت على وضعيتها المدهوشة حتى حينما أكملت:
-خوفت من التجربة يا "تقى".

رأت الأخيرة عينيها وقد شعت بحزنٍ دفين ظهر من خلف دمعاتها المريرة، شعرت بأن "ليان" تعاني بقسوة، وأن قدرتها على الاحتمال قد نفذت بالكامل، وأنها الملجأ الوحيد المتبقي لديها لتبوح لها بمكنونات صدرها لذا عليها أن تكون أشد حرصًا على احتوائها واستيعاب حالتها تلك، ضغطت "تقى" على أصابعها لتخفف من التوتر الذي بدأ يتسلل إليها، فتلك هي المرة الأولى التي تشعر فيها بأن المسئولية ملقاة على عاتقها، عمدت لتكون ملامحها ساكنة وهي تسألها بصوتها الرقيق:
-ليه؟

في البداية صمتت وكأن الطير قد حلق فوق رأسها، راقبتها "تقى" بإمعانٍ ولم تضغط عليها لتأخذ منها الرد، تركتها في وضعها للحظات حتى لاحظت شرود نظراتها، فأصبح من يتطلع إليها يظن أنها تُحادث شبحًا لا يراه سواها، انقطع صوتها وهي تسترسل بانكسارٍ وخزي:
-خوفت أجيب بيبي يعيش في عالم مليان بالخيانة والكدب، يتخدع في أقرب الناس ليه زي ما حصل معايا، يتصدم في ناس افتكر إنهم أهله وبيخافوا عليه، يبقى لوحده من غير عيلة أو سند.

وكأنها تسرد ماضيها، تحكي بعبارات شبه متوارية ما خاضته من تجارب حياتية مؤلمة تركت آثارها السيئة محفورة في نفسها، شبكت "ليان" كفيها معًا لتضغط على أناملها، انهمرت عبراتها بغزارة لتمتزج مع شهقاتها عندما تابعت:
-يمكن زعلت لما عرفت إني خسرت البيبي، بس دلوقتي مش حاسة بحاجة، زي ما يكون حاجة وخلصت منها، معنديش إحساس الندم، وده معذبني أوي، وخصوصًا لما بأشوف نظرات الحزن موجودة في "عدي"، وأنا مش قادرة أشاركه حتى إحساسه، أنا مجرمة، مجرمة!

مع آخر كلمة نطقت بها زادت من نحيبها الصارخ، حاوطتها "تقى" لتضمها إلى صدرها فشعرت برجفتها القوية، انكمشت "ليان" على نفسها ورفعت قبضتيها المشبكتين إلى فمها لتكتم أصوات نهنهاتها العالية، حاولت تهدئتها فقالت لها:
-بس يا حبيبتي، متعمليش في نفسك كده، إنتي ملكيش ذنب خالص، دي إرادة ربنا.

زادت رجفتها وصراخها المكتوم فشددت "تقى" من ضمها لها، كانت تشاطرها ما تشعر به، فهي مثلها مرت بتجارب غير عادية عاشتها بكل جوارحها لتفيق منها بعد أن أعادت تشكيل حياتها، كما خلقت فيها شخصية جديدة متصالحة مع الآخرين، شخصية قادرة على التسامح والغفران، ربما مترددة في رأيها في بعض القرارات المصيرية، لكنها في النهاية قادرة على اتخاذ القرار أيًا كانت توابعه لتمضي قدمًا في حياتها الاجتماعية والأسرية، انشغلت "تقى" بابنة خالتها ولم تنتبه إلى "عدي" الذي قد أتى منذ بداية حوارهما وفضفضتهما العفوية.

توارى عن الأنظار ليستمع إلى فيض مشاعر زوجته المخبئ عنه والذي عجز خلال الأيام المنصرمة على حثها للبوح به، حل الوجوم المصدوم على وجهه بالتزامن مع تلك الانقباضة الموجعة التي آلمت صدره، لم ينسَ يومًا أنه كان ضلعًا رئيسيًا في معاناتها وإفقادها لشعور الثقة في الآخرين، لم يرحمها مثل غيره، وتسبب في هدم أحلامها بعد أن ظنت أنه الملاذ الأخير لها حينما انغلقت الأبواب في وجهها، أحس "عدي" بعذاب الضمير، بشيء ما ينغصه، تجمد في مكانه كالصنم فلم يصدر عنه إلا أنفاس متلاحقة مضطربة، تأهبت حواسه مع عودة "تقى" للحديث برقتها الحانية:
-مهما كان اللي حصل زمان فمتحمليش نفسك فوق طاقتها، وربنا أكيد عاينلك الأحسن قدام، إنتي بس اصبري واحتسبي وربنا كرمه كبير.

حاولت أن تشد من أزرها أكثر فأضافت بثباتٍ:
-أنا كانت مصيبتي ماتتحكيش، ومحدش أصلاً يصدقها
تنفست بتمهلٍ لتضبط انفعالاتها قبل أن تتأثر، انخفض صوتها تدريجيًا فأصبح أكثر عمقًا وهي تكمل:
-شوفت سواد ومرار وظلم مافيش بني آدم يقدر يستحمله، حياتي في لحظة ضاعت ولاقيت نفسي مقدميش إلا إني أعيش مع أكتر حد بأكرهه وغصب عني، و...
بترت عبارتها مجبرة كي لا تعيد نبش آلامها التي تعايشت معها وتجاوزتها بعد كفاحٍ وصبر ومثابرة، ادعت الابتسام لتنظر إلى "ليان" بعينين لامعتين وهي تقول لها:
-بس شوفي دلوقتي أنا بقيت عاملة إزاي، وحياتي بقت إيه.

هدأت نهنهات "ليان" وبدأت رجفتها في الانحصار، لاحظت "تقى" تأثير كلماتها عليها فأضفت بتفاؤلٍ:
-يعني مافيش حاجة بتفضل على حالها، كلنا بنمر بفترات صعبة في حياتنا وبنتعلم منها، استبشري خير باللي جاي وإن شاءالله ربنا هيعوضكم، خليكي واثقة في ده
ثم ربتت على جانب ذراعها بودٍ لتزيد من دعمها المعنوي لها:
-بصي قدامك يا "ليان" وماتقفيش عند الماضي كتير لأنه هيوجعك كل ما تفكري فيه، انسيه وكملي مع "عدي" حياتكم
رققت "تقى" من نبرتها لتكمل بخجلٍ:
-وبعدين هو فعلاً بيحبك أوي ومستعد يعمل أي حاجة عشان يشوفك سعيدة، ايدوا لنفسكم الفرصة تستمتعوا ببعض.

ظهر شبح ابتسامة باهتة على جانب شفتي "ليان"، ففضفضتها معها أفادتها إلى حد ما وأخمدت ما اعتراها من ثورة مشتعلة، اطمأنت ابنة خالتها لتجاوبها معها، فضمنتها إلى أحضانها دون أن تضيف المزيد، فيكفيها أن تكون مصدر الثقة لها لتخبرها هي تحديدًا بأحاسيسها، همست لها "ليان" بامتنانٍ:
-ربنا يخليكي ليا، أنا مش عارفة أقولك إيه، إنتي ملاك
ردت مبتسمة:
-أنا معملتش حاجة، المهم عندي إنك تكوني بخير.

مسحت "ليان" بأطراف أناملها بقايا عبراتها المنسابة على وجنتيها لتعاود شكرها من جديد ببحة ملحوظة في نبرتها:
-ميرسي بجد يا "تقى"، "أوس" حقيقي محظوظ بوجودك معاه وجمبه، وعنده حق إنه يتمسك بيكي لآخر نفس في حياته
ابتسمت بخجلٍ وقد تورد وجهها بدرجة ملحوظة لمدحها إياه وهي بالفعل قد رأت ذلك التغيير الجذري منه، وعلى الجانب الآخر كان "عدي" أكثر تأثرًا بحديثهما، اكتشف الكثير عن زوجته من خلال حديثها العفوي، شعر بكبر حجم مسئوليته تجاهها، بأن دوره يحتم عليه دعمها وتفهم مشاعرها دون عتابٍ أو قسوة، بتخطي تلك الفترة القاسية ونسيان ذكراها، بإكسابها الثقة من جديد في نفسها، بالتأكيد على صدق حبهما، لذا ردد لنفسه بعزمٍ:
-هنعدي ده كله يا "ليوو"، وده وعد مني!

لم يعرف أن طول صمته يعني تفكيره في إنجاز شيء ما يحتاج لتركيزه الكامل ولصفاء ذهنه ليخرج بالصورة المرجوة، راقبه "عدي" بتمعنٍ دون أن يتفوه بكلمةٍ، فهو من يعرف صديقه جيدًا، ويفهم كيف يتعامل مع الأزمات بطرقٍ يعجز هو عن الوصول لحلول تنهيها بشكلٍ قطعي، تأمله بشرودٍ حتى خرج "أوس" عن طور سكونه ليردف بنبرة تُرهب الأبدان:
-حسابها قرب أوي
سأله "عدي" باهتمامٍ:
-ناوي على إيه معاها؟
تجهمت تعابيره لتظهر تكشيرة جانبية وهو يجيبه:
-أكيد مش خير.

أضاف "عدي" محذرًا:
-هي عاملة شوشرة جامدة، وده مأثر على أسهم الشركة وتعاملتها، فكرني بوضعنا أيام د. "مهاب" و...
مجرد التطرق لذكرى ما فعله والده الراحل مع "تقى" كان كفيلاً بإثارة دمائه، قست ملامحه وتوحشت نظراته مقاطعًا إياه:
-"عدي"
ابتلع الأخير ريقه خوفًا من غضبته الوشيكة ليعتذر مرددًا:
-أنا مقصدش
ثم صمت للحظةٍ قبل أن يتابع معللاً:
-بس لو فضلنا بالشكل ده هنخسر اللي حققناه، فمحتاجين حل يخرجنا من مشكلتها بأقل الخساير.

علق "أوس" متوعدًا:
-ده لو كنت أنا فعلاً لمستها
تنهد مكملاً بحذر ونظراته أقرب للتوتر:
-أنا متأكد إنك متعملش كده، بس الناس بتصدق اللي قدامها
كان حديثه أقرب إلى الصواب، لذا رد عليه متسائلاً بغموضٍ وقد بقيت حدقتاه مركزة على وجهه:
-هي مش استخدمت الميديا ضدي؟
أجابه على عجالةٍ ودون تفكير:
-أيوه.

أكمل بهدوءٍ أصاب جسده بالقشعريرة:
-وأنا هحاربها بنفس سلاحها في الأول
سأله مستفهمًا:
-إزاي؟
رد باقتضاب زاد من فضول رفيقه:
-بعدين هاقولك
ثم اعترت "أوس" ابتسامة واثقة عكست ثباتًا انفعاليًا عجيبًا قبل أن يكمل:
-هتتفاجئ باللي هاعمله فيها
اندفع زفير "عدي" بقوة خارج جوفه ليرد بعدها:
-مستني أشوف

لكزه أحدهم بقسوة عنيفة في جانب صدره فكاد أن ينكفئ على وجهه لكنه تحكم في اتزانه، تلمس صدره وهو يفركه برفقٍ ليخفف من وطأة الألم الذي أصابه مديرًا رأسه للخلف ليرمق العسكري بنظراتٍ محتدة، كان "منسي" مجبرًا على كظم غضبه والسيطرة على أعصابه في ذلك المكان تحديدًا وإلا تعرض لعقوبة قاسية، أكمل سيره في الرواق المعتم نسبيًا حتى بلغ الأبواب الحديدية، هدر به أحدهم بصيغة آمرة:
-يالا يا مسجون منك ليه.

رد عليه "منسي" وهو يكز على أسنانه في حنق:
-بالراحة يا دفعة
زجره العسكري محذرًا بشراسة:
-حاسب على كلامك بدل ما أنفخك
أظهر "منسي" خنوعه على الفور فردد ملوحًا بكفه معتذرًا:
-لامؤاخذة يا باشا.

ثم أكمل سيره نحو محبسه بتباطئ، زفر بتأفف وهو يتبع باقي المسجونين في اتجاه العنبر المخصص لهم، وقف عند أعتاب الباب المعدني السميك يجوب بعينيه المكان وكأنه يفحصه، كان في نفس الوقت يبحث عن سرير شاغر ليتمدد عليه، وقبل أن تقع عيناه على شيء بعينه شعر بألم مفاجئ قاسٍ في كتفه أجبره على الاستدارة للجانب، هدر معنفًا من تعمد الاصطدام به وإيلامه:
-مش تفتح يا عمنا
رمقه المسجون بنظرة مزدرية محقرة من شأنه ثم هتف يسأله بفظاظةٍ:
-إيه مش عاجبك؟

رد عليه بنرفزةٍ طفيفة:
-أه مش عاجبني، ده أنا ضيف عندكم و...
قاطعه المسجون مستهزئًا به:
-ضيف، هأو، سلامات يا ضيف
استشاطت نظرات "منسي" على الأخير، بينما تابع المسجون هجومه المهين له:
-ده إنت حتت واد ...، لا تكون مفكر نفسك حاجة لا سمح الله
حدجه "منسي" بنظرة نارية أشد حنقًا عن ذي قبل، ورد عليه بتشنجٍ:
-طب ليه الغلط بس؟

وقف المسجون يتحداه في جرأة شديدة دون وضع أي اعتبار له، نظر في عينيه مباشرة وهو يسأله:
-ده اللي عندي، تحب أروق عليك أكتر وأعمل مسخة العنبر؟ أنا جاهز
قرأ "منسي" شرًا مستطرًا في حدقتيه الغائمتين، جف حلقه للحظة، فأغلب المتواجدون هنا من عتاة الإجرام، ربما إن تمادى في تحديه لوقع في شر أعماله، لذا بحنكة شبه مدروسة تراجع ليقول بنبرة أقل حدية:
-وعلى إيه، ده الطيب أحسن.

وضع المسجون يده على كتفه ليضغط عليه بأصابعه الغليظة، مال عليه برأسه ليبدو صوته مهددًا وقويًا وهو يقول له:
-خد بالك العنبر ده ليه كبير، وأي حد يعادي حد من رجالته ولا يفكر بس يعمل نفسه بُرم بيتفرم، فأحسنلك تلزم حدودك هنا
سأله بتوترٍ طفيف:
-ومين الكبير هنا؟
أجابه بتفاخرٍ:
-الريس "شادوفة"
ثم ضربه بقبضته المطوية بقسوة أشد متابعًا أوامره له:
-ويالا اطرأ من هنا وشوفلك حتة اتلأح فيها جمب الحمام، ما هو ده اللي يليق بيك
أومأ "منسي" رأسه قائلاً باستسلام:
-تشكر يا ذوق.

رمقه المسجون بنظرة احتقارية وهو يتمتم بنبرة تعمد أن تصل إلى مسامعه أثناء تحرك الوافد الجديد للداخل:
-أشكال بنت ...!
اضطر "منسي" أن يرضخ من جديد تاركًا من أهان كرامته يستمتع بانتصاره الزائف تجنبًا للمشاكل التي ربما ستودي بحياته إن لم يحسب الأمور جيدًا مع من هم أشد بطشًا منه، فهنا لا يوجد مصطلحًا للتفاهم أو العفو، فقط الثأر ورد الاعتبار ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة