قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والثلاثون

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والثلاثون

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والثلاثون

كأنَّ القلوب تتقاسم الألم وتتعاضد عن بُعد؟
لإنه هو أيضاً لم يزره سلطان النوم طيلة الليلة الماضية، خرج إلى شرفة غرفته ليستند على السور الحديدي وهو يفكر، يعلم أنه صدمها وربما آلمها عندما لم يعترف بحقيقة مشاعره رغم كلّ ماقرأه في عينيها، لكنه لا يستطيع يريد أولاً أن يمسك بيوسف ليستطيع البوح لها دون أن يخاف من أنها ستعرف الماضي يوماً.

مادام ذلك اللعين طليقاً ستبقى الظروف غير مواتية لتحقيق حلمه وأن يجتمع معها تحت سقف واحد، وجوده خارج القضبان يقلقه، خاصة أنه لايعرف لما يخطط له، فقط يعلم أنه سيظهر، ، وقريباً.
نفخ بضيق وهو يعتدل في وقفته ليدخل عائداً إلى الغرفة، يشعر بأن اليوم مميز لكنه لايعلم السبب، لذا قرر مفاجأتها في الشركة.

أبدل ملابسه ليرتدي ثياباً شبابية، مُتمثلةً بقميص أزرق وبنطال من الجينز الأزرق، ليتخلى ولأول مرة عن بذلته الرسمية.
خرج من الغرفة ليصادف زينب وهي تعد الإفطار في المطبخ، ابتسمت له ببشاشة هاتفةً: صباح الخير عزيزي.
بادلها بابتسامة مقتضبة صائحا: صباح الخير.
قطب جبينه وهو يردف بجدية: امي، أريد أن استعير سيارتك لليوم فقط.
عقدت حاجبيها باستغراب لتسأله: لماذا؟ أين هي سيارتك براء؟

تحدث و هو يسير ناحية الطبق الخزفي ليتناول منه تفاحةً يقضمها: لقد تعطلت البارحة وانا في طريقي إلى هنا.
خرجت لتجلب له المفتاح من دبوسٍ مثبت في الصالة وهي تهتف بمزاح: خذها عزيزي، لكنها بالطبع ليست كسيارتك الحديثة.
ابتسم بخفه وهو يقترب منها ليقبلها على رأسها هامساً بنبرة لم تعهدها منه: ادعِ لي أمي، عسى أن يريح الله قلبي.

بدى القلق على ملامحها حالما سمعت كلماته، و لم يمهلها أن تسأل فتحرك من فوره خارجاً، شعرت بقلقها يتزايد فرفعت يديها للأعلى وهي تدعو له بعاطفةٍ صادقة.

جالسةٌ على حالها ذاته منذ مايقارب الساعة أمام حاسوبها المحمول، تحاول فك شيفرة الولوج إلى القرص المدمج الذي وجدته في الحقيبة، وقد تناثرت حولها الكثير من الأوراق والمستندات باللغة الإنكليزية، قرأتها فلم تفهم منها شيئاً، بعضها كان يحمل أسماء شخصياتٍ عربية وأجنبية تعرف معظمها.

وجدت أيضاً بعض الأوراق التي تحدثت عن مجموعة ما تسمى بالكوبرا نسبةً إلى رئيسها، ومستندات كثيره اخرى لم يتسنى لها الوقت لقراءتها عندما لمحت هذا القرص الوحيد، اسرعت لتجلب حاسوبها لتشاهد محتواه، لكنها الان جالسه امام كلمه السر المؤلفه من أربعه أحرف دون أن تعرفها.

نفخت بضيق وهي تدخل أحرف اسم والدها لكن أتتها النتيجة خاطئة، أدخلت اسم ليلى والدتها المفترضة وأيضا خاطئة، اسمها مؤلف من خمسة حروف لكنها جربت إدخاله إلا أن الآجابة ذاتها.
لاتعلم لمَ اتجهت نحو التفكير بأن هذه الحقيبة سبب قتل والدها، وربما ستجد فيها اسم قاتله لو بحثت جيداً.

حملت المستندات لتعيد قراءتها مجددا عندما قُرِع الباب، لتظهر آمال من خلفه وهي تحمل في يدها هاتف أميرة والذي نسته في الصالة، تقدمت نحوها وهي تهمس: إنها الآنسة ملك.
وضعت الهاتف على أذنيها ليأتيها صوت ملك اللائم: أين أنتِ أميرة؟ سيبدأ الاجتماع بعد قليل؟
زفرت بخفة وهي تمرر يدها على شعرها وقد نسيت أمر الاجتماع، فهتفت بعجلة: لقد نسيته بالفعل.
وقبل أن تسمع توبيخها أردفت: سأكون عندك خلال وقتٍ قصير أعدك.

أغلقت دون أن تسمع ردها، رمت الهاتف على السرير لتقوم فوراً بجمع الأوراق والمستندات في الحقيبة بإهمال، أغلقت حاسوبها ومازال القرص المرن داخله، ثم حملته مع الحقيبة واتجهت صعوداً إلى غرفتها وأبدلت ثيابها بسرعة، فارتدت بدلة عملية مؤلفه من بنطال قماشي رمادي وسترة بنفس اللون أسفلها قميص أبيض، وقد تركت شعرها مُنسدلاً على كتفيها.
خرجت مُسرعةً لتتجه إلى الشركة وبالطبع، حرسٌ مُتخفٍ خلفها.

وصل براء إلى شركتها لكنه لم يدخل إليها، فقد عَلم من رجاله أنها لم تحضر بعد، فصعد إلى شقةٍ مقابلها كان قد استأجرها ليراقب مدخلها، وقد وضع أحد رجاله هناك، إضافةً إلى رجلين آخرين وضعهما على المدخل الخلفي.

وقف خلف الزجاج المُعتم وهو يراقب بانتباه وتركيز شديدين، شاهد أحد رجاله المُتخفيين وهو ينزه كلبه في الشارع المقابل للشركة، ثم شاهد سيارتها وهي تصطف في موقفٍ خاص بالشركة، ابتسم تلقائياً وهو يتأمل هيئتها العملية.

ركنت سيارتها ثم ترجلت منها، وقفت لثانية وهي تبحث عن هاتفها لتتأكد من أنها لم تنسه، عندما لفت نظرها رجلٌ ما يلبس بدلةً رياضية ينزه كلبه، ابتسمت وقد عرفت أنه أحد رجاله المكلفين بالمراقبة، حملت هاتفها وهي تدلف إلى الشركة، طلبت رقمه وماهي إلا ثوانٍ حتى أتاها رده: صباح الخير.
أجابته بلؤم: صباح الخير حضرة الضابط، لديك مُراقبة فاشلة بالمناسبة.
استغرب مقالها فأردف بحاجبين مُنعقدين: ماذا تقصدين؟

أخبرته وهي تمشي في رواق الشركة: الرجل المُرابط أمام الباب، حقاً براء؟ ينزه كلبه في شارعٍ مُزدحم بدل أن يأخذه إلى حديقه ما؟
ابتسم بسعادة لنباهتها في حين أضافت: حقاً توقعت منك أداءً أفضل!
ليجيبها بصدق: حقاً أبهرتني بذكائك!
ابتسمت وهي تفكر في أن تخبره بأمر الحقيبة، لولا أن أتاها صوتٌ يناديها تعرفه جيداً.

سكتت أميرة فجأةً وهي تحدّق في نقطة في الفراغ، رمشت عينيها وحررت دموعاً مُتحجرة على طرف عينيها، ظلت شادية تطالعها بإشفاقٍ كبير ولم تنبس بحرف حتى لاحظت ارتجافة جسدها فهمست لها بحذر: أميرة، تنفسي ببطء.

زادت ارتجافتها وهي تستدير نحوها بكامل جسدها وغاباتها التي مازالت تدمع لتخبرها بنبرةٍ بدت الارتجافة واضحةً فيها: أتعلمين؟ تلك كانت آخر مرة حادثته بها وأنا اشعرُ بالسعادة المُطلقة، تلك الأيام هي كلّ ماتبقى لي من ذكرياتٍ جميلةٍ معه.
همست الأخرى بتفهم: أعلم حبيبتي، على مهلك.
بللت شفتيها وازدردت ريقها لتقول بشفتين ترتعشان بشدة: بسببها أنا أتنفس الآن، وبفضلها قاومتُ فكرة الانتحار طويلاً.

حاولت شادية امتصاص الحالة التي وصلت إليها أميرة، فحدثتها كأنما تحدث ابنة الخمس سنوات: حبيبتي، الانتحار ليس حلاً أبداً.
ردت عليها بحدة طفيفة وجسدها يختلج: كيف؟ كيف تقولين هذا وأنتِ لاتملكين تجربة كيف؟
ابتسمت بتحفظ وهي تهمس: أنتِ تعلمين أنني طبيبة، أي أنه قد مرّت عليّ حالات كثيرة.
بادلتها بابتسامة ساخرة وهي تحرك رأسها بعنف وتحاوط جسدها بيديها: لا، حالتي فريدة ولن تقابلي مثلها ابداً.

امتدت يدها لتحرر كفها الأيمن والذي كان بارداً كالثلج، لتهمس لها بدعم: أعلم عزيزتي، حالتك فريدة من نوعها، لكن طبيعة البشر واحدة.
هدأ ارتعاش جسدها رويداً رويدا وكأنها كانت بحاجةٍ إلى من يمسك يدها هكذا، تطلعت إلى شادية بعينيها الدامعة، بللت شفتيها لتهمس بنبرةٍ ضعيفة مبحوحة: أنا مُتعبة، في صدري بركانٌ من الألم.

رفعت رأسها فجأة نحو السماء وهي تنادي بحشرجة بكائها: ياآلله، كلّ هذا الوجع كثيرٌ على قلبٍ واحد، فهل أنا مُجبرةٌ على تحمل كلّ هذا الألم؟
صمتت بغتةً، عضت على شفتها السفلى بوجعٍ حقيقي، أصدرت أنيناً مكتوماً وقد أغمضت عينيها بقوة، زاغت أنظار شادية لمرآها فهمست بوجل وهي تفرك يدها: أميرة، ما بكِ؟ ماذا تريدين؟ حدثيني أرجوك لاتكتمي الألم داخلك.

شهقت بخفة وهي تفتح عينيها ببطء شديد لتهمس لها بنبرةٍ تكاد تُسمع: أحتاج عناقاً بسيطاً، احتاج صدراً حنوناً لأبكي عليه فقط.
رغم تفاجئها بطلبها إلا أنها فتحت لها ذراعيها، فرمت أميرة بنفسها في أحضانها لتبكي، وهي تصرخ بقهرٍ، بألم، ، وبوجع.
همست شادية وهي تمسح على شعرها، مُقاومةً تلك النغزات الخفيفة التي تضرب ظهرها: تابعي أميرة، تابعي لترتاحي.

استدارت نحو صاحب الصوت، إنه العم ( غالب) الرجل الأربعيني الذي يعمل مُستخدماً في شركتها، اقترب منها بحذر وتثاقل وهو يهمس لها: أنسه أميرة ساعديني أرجوكِ.
استغربت هيئته بشدة، فخمنت أنه في أزمةٍ مالية ويريد عونها ربما، فأنهت المحادثة مع براء: اسمع براء، سأهاتفك بعد خمس دقائق.
أغلق الهاتف وهو مُقطبُ الجبين، انتظر مكانه وهو يراقب مدخل الشركة بتركيز شديد.

وضعت الهاتف في حقيبتها وهي تستدير نحو غالب لتسأله ببشاشة: ماالأمر عم غالب؟ هل تحتاج إلى المال؟
هزّ رأسه نافيا وهو يرفع يده إليها بهاتف هامساً بضعف: تحدثي.
ساورها القلق خصوصاً مع هيئته التي تبعث على الارتياب، أخذت الهاتف من يده وضعته على أذنها ليأتيها صوتٌ ساخر: كيف حالك حبيبتي؟
اتسعت عيناها واهتزّت ملامحها وهي تهمس بصدمة: يوسف؟!

تكاد تسمع ابتسامته السامة وهو يتحدث بتهكم: تؤتؤتؤ، يوسف؟ منذ متى وأنت طوال عمرك تنادني جو؟
استعادت ثباتها لتجيبه بنبرةٍ قوية: ماذا تريد؟
أجاب دون تردد كمن ينتظر سؤالها: أنتِ!
تجعد جبينها بعدم فهم ليضيف: خلال عشرون ثانية ستخرجين من الباب الخلفي للشركة، ستجدين سيارة سوداء بانتظارك هناك.
ابتسمت بسخرية وهي تعقب على حديثه: لاشئ يجبرني بأن أطيعك وأنفذ ماتريد، ومن ثمّ هناك رجال براء يراقبون المدخل الخلفي.

شعر بالحنق والغضب عندما ذكرت اسم براء، توهجت عيناه بخبث وهو يفكر فيما أعده له، فأتاها صوته الواثق: لاخيار آخر أمامك أميرة، وإلا بضغطة زر ستنهار شركتك فوق رأس كلِّ من فيها.
تحولت نبرته إلى التهكم وهو يضيف: اسألي العم غالب!
تلقائياً توجهت عينيها نحو غالب الذي ابتلع ريقه بصعوبة وهو يزيح طرف سترته الرثة، ليظهر من تحتها قنبلة موقوتة تُحاوط خصره تكفي لهدم ثلاثة مبانٍ على الأقل.

اتسعت عيناها بهلع حينما رأتها، وسمعت غالب يهمس لها: أنا آسف، لكنهم يحتجزون زوجتي وابنتي الوحيدة.
رفرفت اهدابها بفزع من انحطاطه إلى هذه الدرجة، أيعقل؟ هل هناك من يفكر هكذا؟
طالعت غالب بنظرات مُرتعبة وهي تسمع صوت يوسف وجملته الأخيرة: عشرون ثانية فقط.
ثم أضاف بسخرية: ولا تقلقي بشأن رجال براء، فقط تم التعامل معهم.

اتبعه صوت صفير الهاتف، نظرت حولها إلى الرواق الخالي، الجميع الآن في مكاتبهم، لم تُطِلِ الانتظار عندما همس لها غالب برجاء: أرجوكِ آنسة أميرة ما من وقتٍ كافٍ، سيقتلون زوجتي وابنتي، وستنفجر القنبلة وسيُقتل كلُّ من في الشركة، هو فقط يريد أن يتحدث معك، أتوسل إليكِ أنقذينا.

هزت رأسها موافقةً إياه فهي تعلم أن يوسف يحبها ولن يؤذيها، سارت بخطوات حثيثة نحو المدخل الخلفي وفي ذهنها خاطرةٌ وحيدة، أن تنقذ الشركة بمن فيها!
شعورها بالمسؤولية منعها من أن تتجاهل تهديداته ليس فقط حفاظاً على حياتها هي، بل حفاظاً على حياة الجميع.
وهذا بالضبط ما راهن عليه يوسف الذي ابتسم بمكر ماإن رآها تقبل نحوه بوجهٍ واجم، فتح باب السيارة ليأمرها دون أن ينظر إليها: اصعدي.

ناظرته بازدراء بائن وهي تعقد يديها مُجيبةً بتحدٍّ: يجب أن أضمن تعطيل القنبلة أولاً.
استدار نحوها وهو لاينكر شعوره بالاستغراب من نبرتها الثابتة، رمقها بنظرة متفحصه فلم تهتزّ فيها شعرة ليعرف أن من أمامه الآن لاتشبه تلك التي تركها منذ اسبوعين.

أشار لها بالإيجاب واكتفى بإشارةٍ منه لأحد رجاله والذي كان يجلس إلى جانب السائق، أماء له الرجل ثم نزل من السيارة حتى أصبح بجانب غالب، رفع سترته لتكشف عن خاصرته فبان عدد من الشرائط الكهربائية الرفيعة، فصل الأسلاك المُتشابكه ببعضها ثم امتدت يده للخلف لينزع الحزام الذي حاوط خصر غالب.

جرى الأخير نحو يوسف لكن اعترضه الرجل الآخر مُمسكاً به من ذراعيه، حاول غالب التحرر منه لكنه لم يستطع نظراً بقوة الرجل الجسمانية فبدأ يتوسل إليه: أرجوك سيد يوسف أتوسل إليك حرّر ابنتي وزوجتي؟
أجابه وهو ينظر إلى الأمام ببرود: بعد ساعة ستعودان إلى المنزل.
صاح غالب بضعف وهو يقاوم الحارس ليصل إليه علّه يلين: لقد نفذتُ كل ماأمرتني به، لمَ ستبقيان مُحتجزتين؟ أتوسل إليك مُرهم أن يحرروهما؟

حدجه يوسف بنظرة مُزدرية مُردفاً: بالطبع لئلا تشي بي، والآن عُد إلى الشركة وإياك أن تتحدث لأحدٍ عما حصل.
ثم أعاد نظره إلى الأمام آمراً إياها بحزم: اصعدي.

ضغطت على شفتيها بقوة وهي تفكر في مساعدة غالب، لكنها تعلم أنها الآن في موقف ضعيف تخاف أن يؤذي زوجة غالب وابنته إن هي عاندته، لذا التفتت إلى غالب لتضع يدها على ذراعه هامسة باطمئنان: لاتقلق عم غالب، سأحرص على أن يصلا للمنزل بعد ساعة من الآن، انت ادخل ولاتتحدث مع أحد.

ثم التفتت نحو الحارس الذي يحول بين غالب ويوسف فأرخى يده عنه واتجه إلى السيارة، فيما أومئ غالب لها برأسه وهو يقاوم دموعه: حاضر ياابنتي، لكن أرجوك لا تنسِني.
اهدته ابتسامة لطيفه وهي تشير له ليعود إلى الشركة، راقبته حتى دخل ثم عادت بنظرها إلى يوسف، تنفست بعمق قبل أن تدخل إلى السيارة، ثم تحرك سائقها بعجل.

كان كلّ همّ يوسف هو أن يبتعد بأميرة عن الشركة والقصر وأي مكانٍ يكون فيه أحدٌ ليراقبها، فهو يعلم أن لافرصة له في مواجهة براء في ملعبه وبين جمهوره، لذا خطّط لأن يستدرجه إلى أرضٍ يكون هو المُسيطر فيها.
التفت نحوها ليراها واجمةٌ عاقدةً حاجبيها، حدّثها بصيغة الأمر: اعطني هاتفك.

استدارت إليه تناظره باستصغار، زفرت بخفة وهي تعبث بحقيبتها لتخرج الهاتف وتناوله إياه باستخفاف ثم أشاحت بوجهها عنه، ابتسم بخفة وهو يخرج من جيبه إبرةً ما غرسها في يدها بخفة، تغضّن وجهها بحمرة الألم الذي أصابها فالتفتت لتطالع وجه يوسف المُبتسم بانتشاء، سحبت يدها بعنف وهي تصيح به: مالذي فعلته؟
أبصرت مكان الإبرة لتتابع وقد ثَنَت حاجبيها بشك: مالذي غرسته في جسدي؟

أسند ظهره للخلف وهو يعبث بهاتفها مُستطرداً ببرود: لاتقلقي عزيزتي، إنه مُنوّم فقط.
زاغت عينيها وهي تشعر بثقلٍ بات يضرب رأسها، تراخت أجفانها وماهي إلا ثوانٍ حتى استغرقت في نومٍ إجباري، وقد استند رأسها إلى الكرسي خلفها.
نظر يوسف إليها وتنهد بخفة، ثم رفع هاتفها ليفتحه ولم يكن مُقفلاً برمز، ابتسم بغدر وقد وجد رقم براء.

لم يكن مُطمئناً من إغلاقها الهاتف بسرعة، لكنه أيضاً قرر الانتظار لدقيقتين ربما لأنه مطمئن البال من ناحية رجاله الذين يحرسون الشركة، ضيّق عينيه بانتباه وهو يراقب المدخل الرئيسي، لا أحد دخل او خرج ابداً مذ دخلت هي، قرر الاتصال بالحراسة على المدخل الخلفي، مرت ثانية، اثنان، ثلاثة، ولا رد.

لم يعد يحتمل، حدسه ينبأه بمكروه ما قد حصل، أغلق الهاتف ومضى خارجاً من الشقة بسرعة، عدا راكضاً إلى الشركة، لكنه وقف عند الباب عندما أتاه اتصالها، تنفس الصعداء وهو يفتح الهاتف مُنادياً دون وعيٍّ منه: حبيبتي!
أنفاسٌ كريهة وصلته عبر سماعة الهاتف، ليأتيه صوت يوسف الساخر: حبيبتك نائمةٌ بجانبي الآن.

شخصت أبصاره بذُعر، إزدرم ريقه بصعوبة وهو يحاول السيطرة على انفعالاته ليفكر بعقلٍ سليم، سأله بصوته الأجش بنبرة ثابتة كالجبال: أين أميرة؟
أنفاسه الرزيئة تضرب أذنه بلا هوادة، تعمّد أن يطيل الصمت بينهما ليحرص على استجابةٍ تامةٍ منه.
أعملَ براء عقله في محاولةٍ منه لرسم خطةٍ سريعة لينقذها، لكن خططه راحت أدراجه الرياح حينما أتاه أمر يوسف الصارم: سأرسلُ إليكَ عنواناً، ستأتي إليه وحيداً ودون مُساندة وإلا...

إجترع غصةً مريرة شقت صدره، ليس خوفاً من تهديده ولكن خشيةً عليها، فيما تابع الآخر: أحد رجالي سيراقبك، لو شكّ بأنك حادثت أي أحد من اصدقائك لن تكون النتائج حميدةً بالمرة، حضرة الضابط.
بثقة وعزيمة ودون تردد أجابه وهو يتجه نحو سيارته ليصعدها: أرسل العنوان.

رمى الهاتف بعد أن أغلقه على الكرسي بجانبه بإهمال، قاد سيارته بسرعة مهوّلة وعقله لايكفّ عن العمل والتفكير فيمايخطط له يوسف، حسناً في النهاية هو الكوبرا فعليك توقع أي شئٍ منه، دون أن يحترم أي أصول أو أعراف!

ثوانٍ ووصلته الرسالة، قرأ العنوان فأصابه الذهول، مكان مقطوع في منطقةٍ شبه جبليةٍ تبعد عن بيروت مسافة نصف ساعة تقريباً، لم يفكر مرتين بل ضغط دواسة البنزين لتطير سيارته بسرعة فائقة، الآن بدأ يقلق مما قد يتصرفه يوسف، فهو وعلى الرغم من خبرته الطويلة في الجرائم والمجرمين إلا أن يوسف حالةٌ مُتفردةٌ بالنسبة له، محتالٌ كبير بعقلٍ ذكي وغريزة قتلٍ باردة، هي لاشكّ مزيج مخيف ليجتمع في أي بشريّ.

وصل بعد عشرين دقيقة بالضبط بسبب السرعة الفائقة التي قاد سيارة والدته بها، شعر بشئٍ من الجزع فلأول مرة في حياته المهنية يذهب إلى مكانٍ ما ليلتقي مُجرماً دون أن يضع خطة واضحة، لم يستطع أن يتصل بأيٍّ من أصدقائه للمساندة عندما لمح رجل يوسف الذي بقي يراقبه حتى وصل إلى هنا.

تفحص المكان بعينيه، منطقةٌ مقطوعه ذات صخورٍ كبيرة، أغلق السيارة ثم تقدم عدة أمتار، لاحظ منزلين أشبه بكونهما كوخين حجريين صغيرين، متباعدين قليلاً يفصل بينهما مئة مترٍ أو ربما أقل، لاحظ أن أحدهما يبدو بالياً قد مرَّ عليه الزمان، أما الآخر فقد كان جديداً، لاحظ ظلاً يتحرك بجانب المنزل العتيق، أعملَ بصيرته بتفكير، لوكان هو في مكان يوسف لاختار المنزل الرّث لأن القادم من بعيد سيخمن وجوده في المنزل الجديد، سحب مسدسه الذي لايفارقه وتقدمَ بخطىً بطيئة مُتمرسة.

شعر بخفقاته قد تجاوزت الألف، ليس ارتعاباً بل وجلاً من مصيرها هي دوناً عنه، تقدم حتى أصبح بمحاذاة المنزل، استند على الحائط القديم، أغمض عينيه لثانية ثم فتحهما وهو يُخرجُ رأسه ببطء ليرى غريمه في الطرف الآخر، فجأة شعر بلسعة حشرة على رقبته، لم يأبه بها بل صوّب مسدسه نحو الرجل الذي كان يمشي أمام المنزل وقبل أن يطلق رصاصته تثاقلت أجفانه ومادت به الأرض، شعر بثقلٍ رهيب في رأسه، آخر ما رآه هو وجه الرجل الآخر يتقدم منه وعلى وجهه ابتسامةٌ لعينة، بعدها ابتلعته دوامةٌ سوداء غاب فيها..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة