قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والثلاثون

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والثلاثون

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والثلاثون

صدمة...
بل صاعقة...
بل زلزال هزّ كيانه، أيّ كلماتٍ في هذا العالم قد تصفُ ماشعر به في هذه اللحظة؟
شخصت أنظاره بذهول وتجاوز عدد دقات قلبه الألف بقليل، وهي هنا، في أحضانه، تتشبث به كما لو أنها تخشى ضياعه، أو ربما وجدت الأمان قربه.
لا يعلم حقاً سبب اندفاعها لاحتضانه هكذا، لكنه شعر بسعادةٍ لا مثيل لها، توهجت ظلاميتاه بعشقٍ طالما جاهد في إخفائه منذ لقاها، لكنه طفى وظهر على ليل مقلتيه الآن.

أغمض عينيه بتمهل ولم يقاوم مشاعره، وأيُّ مقاومةٍ قد تُجدي نفعاً وفؤاده مُتيمٌ بهواها؟ وهي بين يديه الآن؟
رفع يداه ببطء شديد ليحتضنها هو الآخر، وابتسامة سعيدة عرفت طريقها إلى ثغره، أخفض رأسه ليشتمّ عطرها، ياآلهي!، رائحتها كما هي منذ واحد وعشرون عاما.
غابت كل الأصوات من حوله، لم يعد يشعر بشئ سوى بصوت أنفاسها يلطم صدره من خلف بذلته الرسمية، باختصار، توقف الزمن عنده في هذه اللحظة.

منذ مدةٍ قصيرة جدا كانت تحيا حياةً مثالية، والدٌ مُحب، ومربية عطوفة، وصديق طفولة وفي.
خلال أيام قلائل تركها جميعهم.
والدها قُتلَ ولم تعرف بعد قاتله، مربيتها محجوزةٌ في المستشفى ولا تعرف لماذا، صديق عمرها اختفى فجأةً والأمن الآن يبحث عنه وأيضاً، لاتعرف لماذا.

حرفياً كانت تشعر بالضياع، لكنها وبمجرد أن تسمع صوته أو تراه تشعر بزمرةٍ من المشاعر التي لا تستطيع لها تفسيراً، حتى مع والدها لم تشعر بهذا القدر من الثقة والأمان التي تسيطر عليها حالما تراه، ولهذا احتضنته كطفلٍ تائه ثم وجد والدته، تنفست بعمق وهي تدفن وجهها في صدره وأغمضت عيناها بقوة.

ذُهل سمير مما رآه، وقف مدهوشاً يُشاهد رفيقه والذي اشتُهر ببروده وجفاه يُعانق فتاةً تعرف عليها منذ أيام قلائل، انتبه من شروده على شهقة مُفاجآة صدرت عن ملك التي خرجت لتوّها من المطبخ وهي تحمل في يدها كوباً من البابونج لأميرة.
طالعها سمير بابتسامة متسعه وهو يشاهدها تقف مذهولةً هي الأخرى لهذا المشهد، تحرك ناحيتها ليمسكها من ذراعها فانتبهت عليه لتطالعه باستغراب هاتفةً: أنت؟

اتسعت ابتسامته أكثر وهو يهمس لها: تعالي معي.
لم ينتظر إجابتها، بل سحبها من يدها بخفة لتتبعه كالمنوّم مغناطيسياً إلى المطبخ، أخذ الكأس منها ووضعه على الطاولة الرخامية التي توسطت المطبخ الفخم، وهي ماتزال على ذهولها.
نعم لم تعرف أميرة إلا منذ فترةٍ قصيرة، لكنها علمت أنها فتاةٌ رقيقة و حساسة لأبعد الحدود، وأيضاً خجولة في التعامل مع الغرباء، فأنى لها أن ترتمي في أحضان شخصٍ لا تعرفه؟ ومن هذا أصلاً؟

كانت هذه الأسئلة تدور في رأس ملك بينما سمير يتابعها بتسلية، وكمن قرأ أفكارها اقترب منها ليهمس بجوار أذنها: إنه صديقي براء، شريكي في التحقيق.
رفعت رأسها كطلقة رصاص وعلامات الاستغراب واضحةً عليها لتهمس بذهول: صديقك؟
أماء لها موافقا ثم عادت لتنظر أمامها بتفكير، بينما هو تنفس عطرها بشغفٍ، انتبهت لأنفاسه التي ضربت وجنتها فالتفتت نحوه وأبعدت وجهها عنه لتهتف بضيق: لو سمحت سيادة الضابط؟

سيطر الامتعاض على قسمات وجهه وهو يتمتم مُبتعداً عنها: هادمة اللذات؟!
رفعت حاجبيها بدهشة حقيقية من كلمته، لدرجة أنها لم تجد كلاماً ملائماً لتردّ عليه، حركت شفتيها بلا فائدة فهزت رأسها بيأس قائلة: أنا خارجة.
اعترض طريقها مسرعاً ليهمس بصوت خفيض مُستنكراً: إلى أين؟
وضعت يديها على خصرها مُجيبةً بحاجب مرفوع: إلى أميرة.
قطب جبينه بانزعاج ليتحدث بجدية: وتقطعين لقاء العشاق؟!

رمشت عيناها بصدمة هامسةً: أهما حبيبين؟!
رفع كتفيه بنفي قائلاً: لا أعلم.
تهدلت ملامحها وهي تنظر إليه باستغراب لتتمتم: أذاً لمَ تقول أنهما عاشقان؟
أجاب ببراءة وابتسامة ماكرة تُحارب للظهور: لقد رأيتي منظرهما مثلي تماما، فما تفسيرك لما رأيتي؟
شردت لثوان مُسترجعةً في عقلها مشهد أميرة وهي في أحضان براء، حركت رأسها بشرود هامسةً: معك حق.

تابع حديثه مشيراً لها لتجلس: برأيي فلنجلس نحن هنا وندعهما لوحدهما، ما رأيك؟
رمقته بنظرة متفحصه ثم أشارت له بالإيجاب متوجهةً إلى الكرسي لتجلس عليه، بينما اتجه سمير إلى كرسيٍّ آخر ليجلس بعيداً عنها، لايريدها أن تنزعج من وجوده فتتركه وترحل، لذا آثر أن يبتعد قليلاً ليتأملها عن بُعد.

لكم تمنى أن تطول تلك اللحظات للأبد، كم تمنى لو أنه يفتح أضلاعه فيدخلها فيها ويخبئها حتى عن عيون البشر، أن يختطفها ويرحل إلى لا مكان حيث لا يوجد سواهما، لكنه لا يستطيع مالم يلقي القبض على يوسف، فهو على يقين أن الأخير إن كان سيظهر فمن أجلها هي.
تنفس بعمق وهو يرخي يديه عنها فانتبهت هي لموقعها لترفع رأسها إليه بابتسامة مقتضبة خجولة قائلة: أنا أعتذر.
ابتسم لها بعذوبة مُتحدثاً: لاتعتذري أميرة.

تنهد بخفة وهو يضيف: لاتنسي أننا أصدقاء، أليس كذلك..؟
إبتسامة جذابة ارتسمت على شفتيها وهي تومئ له بالإيجاب، زادت ابتسامته عذوبة و هو يشير لها لتجلس، فجلس هو أيضا إلى جانبها بينما هي لاتجرؤ على رفع رأسها أمامه، كم شعرت بالحرج والخجل من فعلتها.
وكأنه قرأ أفكارها فقرر تخفيف الحرج عنها ليسألها: كيف كان أول يومٍ لكِ في العمل؟

قطبت جبينها باستغراب من سؤاله، أول يوم؟ التفتت نحوه لتسأله بجدية: كيف عرفت أنه أول يوم لي في الشركة؟
ابتسم بخفه وهو يميل برأسه للجانب قائلاً بتسلية: أهذا سؤالٌ يوجه لضابط شرطة.؟
رمشت بدهشة ثم ابتسمت بلطافة وهو تجيبه برقة اخترقت قلبه: كان جيداً جدا مُقارنة أنه اليوم الأول.
أشار لها بالإيجاب واكتفى بتأمل بسمتها، لكنها فاجأته بسؤال: هلا أخبرتني لمَ كنتم تبحثون عن يوسف؟

تجهمت ملامحه وتجعد جبينه بانزعاج جلي وهو يفكر في جواب ما.

ظلّ يطالعها وهو يضع يده تحت خده يستند عليه، بإمكانه البقاء هكذا لأيام دون ملل، بينما ملك تفكر بجدية في علاقة براء وأميرة، حسناً فلتكن صريحةً مع نفسها هي لاتعرف براء و بالكاد تعرف أميرة، لكن ما رأته؟
كان حباً حقيقياً من كلا الطرفين!

فيما هي تفكر ضيّقت عينيها بشرود وزمت فمها بفكر جاد، فابتسم سمير ابتسامة مكتومة لمحتها بطرف عينها، عقدت حاجبيها وهي تستدير نحوه بكامل جسدها، فغابت الابتسامة عن مُحياه، ازدرد ريقه بصعوبة وهي ترمقه بنظرات نافذة وتّرته، هي الأولى التي تفعلها وتستطيع إرباكه هكذا.
طال الصمت بينهما وهما على تلك الحال حتى قطعته ملك بسؤال: إذاً حضرة الضابط؟

انتبهت حواسّه كلها معها فيما أردفت: ذلك اليوم كان لك دينٌ في رقبتي، أما الآن فأنت مديونٌ لي بإجابةِ سؤالين.
قطب جبينه وهو بانتظار أن تتابع، ساد الصمت ثانيةً لفترة وجيزة حتى قطعته هي مجدداً: سؤالي الأول، كم دفعت ثمناً لتصليح السيارة وايضاً فاتورة المطعم؟
ابتسم بخفة وهو يستند بمرفقيه إلى الطاولة الرخامية وشبكهما سوياً مضيفاً بتسلية: أها، والسؤال الثاني؟

نظرت إليه بتمعن تحاول أن تقرأ أفكاره فيما هو يبتسم باتساع، أنحنت بجسدها للأمام قليلاً، استندت بمرفقها هي أيضاً إلى الطاولة واسندت وجهها إلى مرفقها المسنود، ضيقت عينيها لتردف بجدية: لماذا تفعل كل هذا معي أساساً؟
صمت...
صمتٌ طويل هو كل ماحصلت عليه منه، فيما كانت تتمعن في عينيه علّها تجدُ إجابتها فيهما.

قطع تواصلهما البصري عندما أعاد ظهره للخلف مُجيباً بجدية: سأجيبك بالطبع آنسة ملك، لكن ليس الآن وليس هنا.
عقدت حاجبيها بعدم فهم و تتبعته بعينيها وهو يتحرك عن كرسيه، مشى ناحيتها حتى وقف أمامها مباشرةً و هو يضيف: غداً، بعد انتهاء دوامك، سأنتظرك في المطعم ذاته.
ابتسم من جديد مُردفاً: والآن اسمحي لي أرجوك.
فغرت فاهها ورفرفت اهدابها بعدم استيعاب وهي تراه يتجه خارجاً، ولم تفهم شيئاً.

أنها كالفراشة الرقيقة، لو علمت أنها سبب أذية أحدهم لابتعدت، يخشى إن أخبرها بجُرمِ يوسف لاضطر أن يحدثها بكلّ مافي جعبته، ولعرفت ماضيها وماضي والديها مع عائلته، وهذا بالضرورة سيجعلها تغادره للأبد، وهو الذي لم يصدق أن وجدها!
لذا كان يبحث عن كذبةٍ سريعة يقنعها بها، لاحظت شروده فأمالت رأسها للجانب كما يفعل هو قائلةً: لاتستطيع إخباري أيضاً؟ كما فعلت عندما سألتك عن سبب احتجازك لعليا، أليس كذلك؟

ابتسم بخفه لنباهتها وتنفس براحة وهو يجيبها بصدق: بلى، لاأستطيع إخبارك الآن، لكن أعدك بأنني سأفعل حالما أستطيع.
ساد الصمت للحظات، فخشي أن تعتبر حديثه قلة ثقة بها، كاد أن يوضح مقصده عندما ابتسمت بعذوبة وهي تتحدث بنبرة هادئة: لا بأس، فأنا أثق بك.
مهلاً لحظة، هل قالت أنها تثق به؟ هل حقاً تفعل؟
ياآلهي هل يمكن أن يكون أكثر سعادة منه الآن؟ فمالكة فؤاده تثق به هو وحده؟

اتسعت ابتسامته وهو يحرك رأسه أيجاباً، ليأتيه سؤالها التالي: هل أستطيع البقاء هنا في القصر؟ أم أن هذا سيشكل مشكلةً بالنسبة لك؟

عقد حاجبيه بتفكير، رغم ضخامة القصر ومساحته الواسعه إلا أنه بات يعرف مداخله كلها، فضلاً عن تواجده في منطقة نائية لا منازل فيها وهذا سيسهل عملية مراقبته كونه في منطقةٍ مفتوحة، وأيضاً سيكن من الصعب على يوسف العودة إليه دون أن يراه رجال المراقبة، فأشار لها برأسه إيجابا متحدثاً: نعم، بإمكانك البقاء هنا.

ثم أردف بتحذير: لكن عديني بأمر، لن تذهبي لمكان مالم تخبريني، وإن حصل ورأيتي يوسف لا تترددي بالاتصال بي.
ثم مدّ يده نحوها قائلا: أعطني هاتفك.
وبلا تردد أخرجت هاتفها من الحقيبة واعطته إياه، لم يكن مقفلاً برمز فكتب رقمه وثبته باسم براء، ثم أعاده إليها مضيفاً: هذا رقمي أصبح عندك، اتفقنا؟
زفرت بملل وهي تجيبه بطريقةٍ مسرحية: حاضر، أي أوامر أخرى سيادة الضابط؟

ابتسم بخفه مُردفاً: نعم، نادِني براء فقط، ألسنا صديقين..؟
ضحكت بخفوت وهي تشير له إيجاباً، لحظة خروج سمير من المطبخ ليتوجه صوب براء سائلاً: هل انتهيت؟
نظر له لثانية ثم أعاد نظره إليها قائلاً بنبرة ذات مغزى: سأعرج عليكِ لأراكِ غداً.
اهدته ابتسامة أخرى وهو يشير لها بالوداع، تتبعته عينيها حتى خرج برفقة سمير.

شردت في لقائهما مُحافظةً على ابتسامتها عندما خرجت ملك هي الأخرى، طالعتها بنظرات غامضه فسيطر الحرج على أميرة وقد تذكرت لتوها وجود ملك هي الأخرى هنا.

كتفت يديها أمام صدرها وهي ترمق مُضيفتها بشرود، كادت أن تسألها عن سرِّ علاقتها ببراء لكنها تراجعت، فهي بالكاد تعرفها منذ فترةٍ قصيرة وقد تُحرج نفسها وتحرجها هي معها، فضلاً عن أنه لاحق لها بالسؤال أساساً، فابتسمت لها بخفة قاطعةً هذا الصمت المُقلق: سأطلب لنا عشاءً.
تحركت من فورها فتنفست أميرة الصعداء شاكرةً لها إنقاذها، فهي الآن لاتملك إجابةً بعد للسؤال الذي قرأته في عينيها.

أوصل سمير إلى القسم بعد أن أكّد عليه بزيادة حراسة القصر وجعل قسمٍ منها مُتخفياً.
قاد سيارته متجها نحو المشفى، فهناك بعض النقاط التي لم يفهمها ويجب عليها أن تشرحها له، لم يكن الوقت مُتأخراُ جدا عندما دلف إليها ليجدها مُستيقظة.
تعترف أنها تفاجأت لرؤيته، لم تعتقد أنها ستراه بعد تلك الليلة، ابتسمت بخفه وهي تحدث نفسها إنه براء في النهاية، وهو كما عهدته ذكياً وعنيداً، وأضف أنه مكابرٌ أيضاً.

جلس على الكرسي بظهرٍ منتصب، رافعاً رأسه بكبرياء ووجهه غير مقروء الملامح.
تحدثت وهي تطالعه بابتسامة مقتضبة: أعترف لك أنني مُتفاجئة، لم أعتقد أنك ستعود خاصةً بعد تلك الليلة.
نظراتٌ خاوية كانت إجابته لها، ومع ذلك حافظت على ابتسامتها، حاولت معرفة ماوراءه لكنّ جمود ملامحه وظلام عينيه لم يساعداها.

وكمن قرأ أفكارها انحنى فجأة نحوها، أخذ نفساً عميقا زفره ببطء قاتل لها، ثم تحدث بهدوء: أخبريني ماذا حدث بعد عودتك إلى أميركا؟
ثم أمال رأسه للجانب مضيفاً بتسلية طفيفة بعثت الرعب داخلها: لأخبرك سبب عودتي إليكِ.
سكت لثانية قبل أن يضيف بهمسٍ مخيف: حياة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة