قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والأربعون والأخير

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والأربعون والأخير

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والأربعون والأخير

قررت أميرة أن تقضي الليلة بجوار شادية والصغيرة براءة، بعد عودة هاني إلى المنزل ليوصل راشيل أيضاً.
وضعت الصغيرة في مهدها بعد أن أرضعتها والدتها، دثرتها جيداً ثم وقفت لثوان تتأملها بنظراتٍ شغوفة، تلك الصغيرة اسم على مسمى، كتلةٌ من البراءة والنقاء وقد اقتحمت قلبها لتسكنه دون سابق إنذار.

ابتسمت بخفة عندما تبسمت الصغيرة أثناء نومها، وللصدفة فقد كان لها غمازتان على جانبي خديها، تماماً كتلك التي يملكها براء.
تنهدت بعمق ثم التفتت نحو شادية التي كانت تراقبها بحنان، تقدمت نحوها لتجلس بجانبها على السرير قائلة بحماس طفيف: أتعلمين؟ ابنتك تشبهك كثيراً.
بادلتها شادية ابتسامةً سعيدة وهي تنظر إلى مهد صغيرتها بجوارها لتردف: أجل لقد لاحظت ذلك.
ثم أضافت بنبرة ماكرة: لكن لديها غمازتان، هل لاحظتيهما؟

لم تتبدل تعابيرها السعيدة عندما اجابتها بثقة: نعم لقد رأيتهما.
ثم أردفت بنبرة ذات مغزى: وهما شبيهتان بتلك التي يملكها براء بالمناسبة.
هتفت شادية بتعجب وقد رفعت حاجبيها للأعلى: أرى أنك بدأتِ تقرأين الأفكار؟
اتسعت ابتسامتها ثم حركت رأسها بإيجاب مجيبةً بتسلية: من عاشر القوم أربعين يوما صار منهم..
قهقت شادية بسعادة لتشاركها أميرة وهما تنظران نحو الصغيرة.

ساد الصمت للحظات قبل أن تنطق شادية بحذر: مالذي تنتوين فعله الآن أميرة؟
قطبت جبينها بعدم فهم لتعقب: لا أفهم مقصدك؟
تنفست شادية بعمق، ثم قررت أن تدفع أميرة لاتخاذ القرار الصائب لمتابعة حياتها، لذى قررت المخاطرة فتحدثت: لقد فهمتي قصدي جيداً.
تجهم وجهها و قد فطنت لما تريده فنكست رأسها للأسفل، فيما أضافت الأولى بجدية: يجب أن تتخذي قرارك عزيزتي.

رفعت أنظارها الدامعة إليها لتجيبها بضعف: لقد اتخذت قراري منذ عامين شادية ونفذته بالفعل، أم تراكِ نسيتي؟
قاطعتها بنبرة قوية رافعةً كفها في وجهها: هذا ليس قراراً أبداً أميرة بل هروب، كيف لكِ أن تكوني ظالمةً ومستبدةً إلى هذه الدرجة؟

قاد براء سيارته ليوصل عائلته وليليا إلى منزلهم، بعد قضائهم اليوم بأكمله برفقة الأمير الصغير، كم كان براء سعيداً به خاصةً أنه حمل اسم حبيبته، ترى هل علمت أن صديقتها قد أنجبت أم أنها لم تسأل عنها أصلاً؟
أوقف السيارة أسفل البناء، ثم ترجل ليساعد والده على النزول منها يعاونه جواد، ثم دفعه الأخير متجهاً به نحو المصعد، حدثته زينب بتردد: ما رأيك لو أنك تدخل لتشرب معنا بعض الشاي؟

استدار ناحيتها لتتابع علّه يقبل عرضها: هناك بعض الكعك كنتُ قد أعددته صباحاً قبل أن نذهب إلى المستشفى.
ثم أخفضت صوتها: ما رأيك بني؟
ابتسم لها بصدق وهو يشير لها بالإيجاب، ابتسمت بسعادة ثم استبقته إلى الداخل ليتبعها.
دخل الجميع إلى المنزل، ثم توجهت زينب إلى المطبخ من فورها صائحة: سأصنع الشاي.
صاح براء خلفها بودّ: لا أمي، بل أريد عشاءً لو سمحتِ؟

استدارت نحوه تنظر إليه بعدم تصديق لترى ابتسامته المُتسعة وهو يجلس إلى جانب والده، غمرتها السعادة لمرآه وقد بدأ يستعيد عافيته بحق، ثم دخلت إلى المطبخ تصحبها ليليا.

بعد انتهاء العشاء اقترح جواد أن يلعبوا الشطرنج كونه ذكياً في هذه اللعبة، أو هكذا كان يظن.
فبمجرد أن ابتدأت اللعبه جلست زينب بجوار براء، فيما جلست ليليا بجانب خطيبها وكان الطبيب محمد عادل اقترح أن يبقى حكماً.

فوجئ جواد بأن براء بارعٌ في هذه اللعبة أكثر منه، تعالت أصواتهم المشاكسة حين يتهمه بالغش رغم يقينه أنه لم يفعل، ليعود براء ويتهمه بالمثل، فيما زينب وليليا تضحكان عليهما وهما يتبادلان الاتهامات بالغش، حتى صدح صوت والد براء غاضباً فأغلق اللعبة بغضب، ساد الصمت لثوان قبل أن ينفجر الخمسة بالضحك السعيد.

كم كان براء سعيداً بعودته إلى عائلته وهو يستطيع أن يبتسم ويضحك، كأن قلبه يُنبأه بخبر سعيد سيصله عمّا قريب.
في نهاية الجلسة أعلن براء خبره المُفرح، سيعود إلى الأمن الجنائي ليمارس مهامه التي تركها منذ مايقارب العام.

طالعتها بصدمة حقيقية وقد تشكلت لآلئ على طرف عينها، لم تنكر دهشتها واستغرابها من هذا الاتهام المُجحف في حقها، فهتفت باستنكار: أنا ظالمةٌ ومستبدّة؟
رغم الخوف الذي اعتراها مما قد تحدثه هذه الكلمات من آثرٍ داخلها لكنها قالت بتصميم: نعم، أنتي.
انتفضت من مكانها واقفةً لتصيح بها مُتناسيةً موقعها: لقد ابتعدتُ عنه لئلا أظلمه وأوجعه وأنتي تخبريني الآن أنني ظالمة؟

لم تجبها شادية بل بقيت ترمقها بنظرات حذرة، فيما تابعت الأولى بنبرة شبه ساخرة: تحملتُ الألم وعذاب الوحدة فقط لأعطيه فرصة أن ينسى ماحصل له بسببي، وأنتي تتهمينني الآن بالظلم والاستبداد معاً؟
انهمرت دموعها وهي تحرك رأسها بإنكار مضيفة: أبعد كل ما عرفته وأخبرتك إياه أكون أنا الظالمة في هذه القصة؟ كيف؟
تحولت نبرتها إلى الهمس وقد تهدل كتفاها بتعب وهي تعقب: بحق الله أخبريني كيف؟

ارتخت معالم وجهها الواجمة وهي تشير لها بالاقتراب فأذعنت، عادت لتجلس بجانبها فوضعت شادية كفها على كف أميرة ومسّدته بحنان قائلة: أميرة، أنتِ تحملين نفسك مالا طاقة لكِ به.

كفكفت أدمعها بيدها الحرة، فامتدت أصابع شادية لترفع رأسها لتقابل غاباتها المُعذبة لتتحدث بتمهل: حبيبتي، لو أنّ براء حمّلك مسؤولية أفعال والديك أو كانت لديه رغبة بالانتقام منك لفعل منذ زمن، منذ أن علم الحقيقة وتذكرك مع والدتك، أليس كذلك؟
تنهدت أميرة لتجيبها بتعب: أعلم أنه لا يريد الانتقام مني، لكن ذلك لايعني أنه قد نسي ماحدث وأنه تجاوزه.

ابتسمت شادية بخفة مضيفةً: هل تذكرين جملتي التي أخبرتك بها بالأمس؟
هزت رأسها إيجابا لتقول مُرددةً كلماتها: ماباتت نارٌ إلا وأصبحت رماداً.
نعم، هي تلك.
عقدت حاجبيها تسألها: لكنني لم أفهم مقصدك منها؟
عقدت شادية يديها أمام صدرها ورمقتها بتفحص جلي للحظات، ثم انفرج ثغرها عن سؤال: دعيني أسألك بدايةً، هل سألتي عنه من قبل؟ متأكدةٌ من أن لكِ تواصلاً مع أحدهم هناك، صحيح؟

أخفضت نظرها لتهمس بحرج: نعم، لقد سألتُ عنه ذات مرة، وقد علمتُ أنه اشترى منزلاً على شاطئ البحر، وأنه في إجازة طويلة من عمله.
هل تزوج؟
رفعت رأسها كطلقة رصاص عندما سمعت سؤالها، طالعتها بحاجبٍ معقود وأنفاسٌ لاهثة بغيرة: لا، لم يتزوج، لمَ هذا السؤال الغريب؟
رفعت حاجبيها مرددةً بمكر: ولمَ تضايقتي؟ إنه سؤال طبيعي؟
ردت عليها بحدة غير مقصودة: لا ليس طبيعيا البته، إنه يحبني أنا فكيف له أن يتزوج؟

ابتسمت بخبث وقد حصلت على مرادها فأخبرتها؛ إذاً، إن لم ترغبي بأن يتزوج سواكِ فلمَ تريدين منه أن ينساكِ؟
صدمة مهولة ضربت رأسها وقد انتبهت لكلمات شادية، علمت الآن كم أنها أنانية أو أنها تائهة، كيف لها أن تطلب أن ينساها وفي الوقت ذاته لا تريد منه أن يتزوج؟
قالت لها بابتسامة: سأخبرك ماقصدته من جملتي تلك.

انتبهت إلى حديثها فأردفت شادية بنبرة صادقة حملت معها الحقيقة: مهما بلغ حجم تلك المأساة في قلب براء، لكنّ حبه لكِ قد غسله، وبرهاني على ذلك تمسكه بك حتى آخر لحظة.
وضعت يديها على كفها لتتابع: إن كان قد أخذ إجازة طويلة من عمله واشترى منزلاً على البحر فهذا معناه أنه يشعر بالوحدة، عزيزتي إنه بحاجتك الآن، فلا تتخلي عنه.
أخفضت صوتها لتضيف بهمس: براء مازال يحبك، أنا مُتيقنةٌ من هذا.

نعم هي ايضاً مُتيقنةٌ من ذلك، أغمضت عينيها بيأس ودفنت رأسها بين يديها، فيما توسدت شادية فراشها متظاهرةً بالتعب، بعد أن لفتت نظرها نحو أمر غفلته، أو ربما تغافلته عمداً، أو إنه نتيجة تفكير انهزامي بدل المواجهة، علمت شادية أن كلاً من براء وأميرة دواء وشفاء للآخر.

نهضت من مكانها لتتجه إلى سرير آخر في الطرف الآخر من الغرفة، توسدته هي الآخرى وغطت نفسها جيداً، ثم غرقت في التفكير، خطر لها خاطرٌ قاومته كثيراً فأخرجت هاتفها لتلج إلى صفحة ملك الشخصية في موقع ( الفيسبوك )، بحثت عن صور زفافها على سمير علّها تجد صورةٌ له لكنها لم تجد.

أعملت تفكيرها فتجرأت أن تلج إلى صفحته هو، لتطالعها فوراً صورة أمير الصغير، تأملت صورة الصبي فعلمت أنّ ملك قد أنجبت عندما كتب أسفل الصورة اسم الصبي كاملا.
توقفت أصابعها عن العبث بالصفحة عندما يأست من أن تجد له صورةً ما، فهو ليس من هواة الصور، لكنها سُعدت كثيراً لإنجاب ملك وفرحت أكثر باسم الصبي.

ألقت الهاتف بإهمال لتعود إلى خواطرها، أعتقدت أنها ستنساه، نعم كانت تعلم أن الأمر لن يكون سهلاً لكنها ستفعلها بعد مُضيِّ فترة وستمضي في حياتها قُدُماً، لجأت إلى طبيبةٍ نفسية لكنها لم تساعدها كثيراً، لم تستطع أن تخبرها قصتها كاملةً رغم كل محاولاتها فاقترحت عليها فكرة الكتابة، ظنّت أنْ الكتابة ستساعدها على النسيان أو ربما يخفف معاناة قلبها، لكنها اكتشفت أن فؤادها ازداد تعلقاً وهياماً به، أغمضت عينيها أخيراً، لتكون على موعدٍ جديد معه.

خرجت شادية في اليوم التالي من المشفى برفقة صغيرتها، تزيّن المنزل لاستقبالها وقد كان هناك عددٌ من زملائها في المشفى، ظنّت أن أميرة ستنزعج ولن تحبذ الاختلاط معهم، لكنها تفاجأت ببقائها بل وساعدت راشيل في توزيع الحلوى والمشروبات الساخنة، كم كانت سعيدة لمرآى ضحكتها فعلمت أنها قد اتخذت قرارها بالحياة أخيراً.

عاد براء إلى عمله قوياً ذكياً كسابق عهده، سُعِدَ أصدقاؤه وعائلته بعودة الحياة إلى مُحياه، غرقت عائلته في التجهيز لزفاف جواد وليليا، بعد إصرار الأخيرة بأن يعيشا في منزل والدها رغم رفض جواد في البداية لكنه عاد ورضخ تحت إلحاحها.

كان براء يشاركهم على قدر استطاعته ووقته المُتاح، وكم كان يشترك مع ليليا بتحضير مقالب مضحكة بجواد، عادةً ماتنتهي بانقلاب ليليا ضده لصالح زوجها المستقبلي، حتى أقترح عليهما أن يتمّ زفافهما في حديقه منزله المُطلّة على الشاطئ، وقد وافق جواد دون تفكير حتى.
كان والده يراقب أفعاله بسعادة، وفي نفسه شئ من الارتياح، حدسه ينبأه بسعادة وحيده القريبة.

تحسنت صحة شادية حتى بات بمقدورها الاعتماد على نفسها في قضاء حاجات ابنتها لوحدها، رغم ذلك لم تتخلَ عن مساعدة راشيل فقد تعودت عليها.

قرعُ الجرس وانشغال راشيل في المطبخ أجبرها على وضع ابنتها على الأريكة، فتحت الباب فأطلت أميرة من خلفه بابتسامة مشرقة وقد عادت الحياة لتنبض في مُحياها، أدخلتها إلى الصالة بسرعة لتغلق الباب خوفاً من أن تمرض صغيرتها، دلفت أميره من فورها لتداعب براءة التي بلغت شهراً واحداً، وقد بان الشبه الكبير بينها وبين والدتها، أدمنت أميرة القدوم إليها يوميا لتداعبها.

جلست شادية بجانبها تشاهد طريقتها في اللعب مع الصغيرة، تبدو مختلفةً اليوم لكنها لن تسأل ففي النهاية ستخبرها أميرة لوحدها، وقد صدق حدسها عندما التفتت نحوها لتخبرها بابتسامة عريضة: لقد قررتُ أن أنشر روايتي أشلاء.
ابتسمت شادية بسعادة هاتفةً: هذا أمرٌ رائع عزيزتي.
أردفت بسرعة قاصدةً أن تقاطعها: بإسمي الحقيقي، أميرة الفايد.

اتسعت عيناها بدهشة ثم مالبثت أن عقدت حاجبيها لتسألها بتفحص بعد أن لاحظت ترددها وكأن هناك أمر آخر لتخبرها به: حسناً، ومالذي تخفينه عني أيضاً؟
ازدردت ريقها بتوتر وهي تجيبها وقد اشاحت بوجهها إلى الجانب الآخر: لقد قررتُ العودة إلى لبنان.
تنفست بعمق وهي تضيف بهيام: إلى حبيبي براء.
ظلت لثوان تناظرها كأنها لم تستوعب ماقالته، ثم قفزت فجأة صارخةً بسعادة وهي تقبلها بقوة: أخيراً، لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة.

بادلتها أميرة ضحكاتها وقد كانت أشدّ سعادةٍ منها، لتردف قائلة بثقة: لقد كنتي على حق، آن الأوان لأن اتخذ قراري بالعودة إلى الحياة.
ربتت على كتفها قائلةً بدعم: نعم عزيزتي، آن الأوان.
ثم أضافت بنبرة حزينة: ولو أنني تعودتُ وبراءة على وجودك في حياتنا.
ابتسمت باقتضاب مُعقبةً: سآتي دوماً لزيارتكما أعدك، ولن أبيع منزلي لأجل هذا الغرض.

كان وداعهما زاخراً بالمشاعر الصادقة والدموع الحزينة لافتراقهما، لكن ماواساها بأنها ذاهبةٌ للقاء حبيبها لتحيا الحياة التي تليق بها.

امتلأت الحديقة بالطاولات المُستديرة المُزينة بشرائط بيضاء، كان العريسان موفقين في اختيار اليوم للزفاف، فطقس الربيع وهواء البحر المنعش أضافا لمسةً سحرية على الحفل فغدى أكثر بهاءً، تواجد هناك أيضاً عددٌ من الشبان والفتيات يرتدون زيّاً موحداً يقومون على خدمة الضيوف بشكلٍ راقٍ يليق بمكانة صاحب الزفاف.

زيّن براء سيارته وقد أصرّ بأن يذهب بنفسه لإحضار ليليا من صالون التجميل، كان جواد يدور في صالة المنزل يزفر بضيقٍ جليّ ينتظر خروج براء من غرفته علّه يعدل عن قراره، خرج أخيراً وهو يرتدي بذلةً سوداء ذات ماركة عالمية، كان قد اختارها مشابهةً تماماً لبذلة جواد مما زاد الأخير حنقاً.
هتف ليستفزه أكثر وهو ينظر لانعكاس صورتهما على المرآة: إذاً جواد، أخبرني مارأيك؟

احتقنت أوداجه ليجيبه بنبرة ساخرة: ماشاء الله، كأنك أنت عريس الليلة؟!
قهقه براء على تعابير شقيقه الساخطة، وقد عرف ماوراءها لكنه لم يعبأ به، بل لبس ساعته ليتمم بها مظهره الشبابي الصارخ بالوسامة، ثم تناول مفاتيح سيارته ليقول له بلا مبالاة: هيا أيها العريس، اذهب وانتظر عروسك بجانب المأذون فأنا ذاهب لأحضرها.

ثم فرّ من أمام جواد الذي كاد ينفجر غيظاً، ألقى سبةً بذيئة في حق براء عندما دلفت زينب لتسمعه، ابتسمت وهي تعلم سبب غضبة ابنها، فتقدمت نحوه لتجذبه من ذراعه هاتفةً به بلوم: تعال بني، يجب أن تساعدنا في استقبال الضيوف ريثما يحضر براء وليليا.
أذعن لأمر والدته إجباراً ثم خرج لاستقبال الضيوف، وقد كان والد براء يساعد في استقبالهم على كرسيه المتحرك.

حطت الطائرة تحمل على متنها أميرة التي هاتفت محاميها لتعلم منه عنوان منزل براء، فقد قررت أن تعرج عليه فور وصولها، ماهي إلا دقائق وقد أصبح العنوان في حوزتها، ابتسمت بسعادة وهي تُمني نفسها بلقاءٍ لن يُنسى.
كانت هناك فرقة عراضة لبنانية في انتظار العروس، التي أصرّت هي الأخرى بأن يقوم براء بتقديمها إلى عريسها بعد أن استأذنت عمها في الأمر.

صدح صوت العراضة وهي ترحب بالعروس التي وصلت للتوّ، فخرج الأغلبية ليستقبلها عند البوابة، ترجل براء ليلتف فوراً حول سيارته ويفتح الباب للعروس الجميلة ويساعدها على النزول، تزامناً مع وصول سيارة أجرة تحمل أميرة التي تفاجأت بالمنظر، تسارعت أنفاسها باضطراب واتسعت عيناها بصدمة حقيقية، هل هي الآن تشهد زفاف براء على أخرى سواها؟، وقفت لثوان تشاهد السعادة على وجه براء ومنظره الذي كان يوحي فعلاً بأنه العريس، خاصةً وأن ليليا قد تأبطت ذراعه بحنوّ.

ظلّت لثوانٍ تطالع سعادته الواضحة، نزلت دموعها تلقائياً وقد تهدل كتفاها بخذلان، ثم استدارت لتعدو راكضةً بعيداً عن هذا المشهد المؤلم، غافلةً تماماً عن والده الذي رآها وقد قرأ أفكارها، فهمس لسمير الواقف بجانبه بأن يدفع كرسيه ليخرج من هذا الازدحام.

لم تبتعد كثيراً فقدماها لم تساعداها، وجدت مقعداً خشبياً فجلست عليه وهي تبكي بحرقه، أهذا من كانت تراهن على حبه ووفاؤه لها؟ تركته عامان ونيّف لتعود إليه فتجده يحتفل بزفافه؟ متى تعرّف إلى هذه العروس؟ بل بحقّ الله متى استطاع أن ينساها؟ رحمتك يا آلهي لقد غابت كل هذه الفترة لتعود في يوم زفافه؟ كأن القدر قد أقسم بألا يرحمها وأن يظلّ يسقيها من أنهار المرار والحرمان.

أخرجها من أفكارها السوداوية اقتراب صوت رجلٍ ما منها، كفكفت عبراتها ثم التفتت للخلف لترى والد براء يدفعه سمير الذي تفاجأ بوجودها، أشار له الطبيب محمد عادل بأن يتركهما لوحدهما، فأدارت وجهها للأمام وهي تبتسم بسخط، ربما هو من أرسل والده ليخبرها بأنه ملّ انتظارها، وربما يقدم عذراً مقبولا.
وصل الطبيب محمد عادل إلى جانبها فسمعها تهمس له بحشرجه: لقد خسرتُ فرصتي، أليس كذلك؟

لم يجبها، فسقطت دمعة منها مسحتها مسرعة لتضيف: أهو من أرسلك؟
ظنت أنه لم يسمعها فالتفتت نحوه لتراه يبتسم باتساع، وكم كانت ابتسامته مشابهةً لابتسامة ابنه الخائن، ربت على كتفها هامساً: عزيزتي، ليس لأحدٍ سواكِ أية فرصة معه، فأنت من ملك فؤاده.
ابتسمت بسخرية وهي تشيح بوجهها عنه فسألها: أجيبيني ياابنتي، لمَ رحلتي في البداية؟ ولمَ عدتي الآن؟
أجابته دون أن تنظر إليه: ومانفع جوابي لك؟
لقد انتهى كل شئ.

سألها مجدداً بإصرار: أجيبيني أولاً، لماذا؟
ازدردت ريقها بتوتر وهي تجيبه بصدق وقد شردت في مياه البحر: غادرتُ عندما ظننتُ أن وجودي بجواره يؤذيه.
صمتت لعدة ثوان فصدح صوته ثانيةً: ولمَ عدتي؟
ذرفت دمعة حزن لم تقاومها وهي تضيف: لأنني ظننتُ أن كلينا هو شفاء الآخر.
هل تحبينه؟

عاد سمير إلى الحفل فوجد ليليا تجلس في المكان المخصص للعروسين، والذي زُين بأكاليل وردٍ جمعت الأبيض والوردي، وقد بدأ عقد القران وكان براء أحد الشاهدين، إضافةً إلى ابن عمّ ليليا.
كان المأذون قد بدأ بإلقاء الجمل المعتادة لعقد القران وقد جلس على أحد جانبيه عمّ ليليا، وعلى الطرف الآخر جلس جواد ينتظر انتهاء عقد القران بحماس آثار ضحك الحاضرين.

حانت من براء التفاته صوب سمير الذي كان يبتسم باتساع، ثم أخفض نظراته عندما التفت بعينيٍ براء ومسح على رقبته من الخلف، ساوره الشك خاصةً مع غياب والده عن التواجد، مرّت ثوانٍ قبل أن يستوعب الأمر، ما أكد إحساسه أكثر هو نبضات قلبه التي تسارعت بشكلٍ مفرط فعلم أنها هنا، نعم فرياح البحر التي اقتحمت أنفه هذه المرة كانت مُختلطة برائحتها، رائحةٌ لن يخطأها مهما طال به الزمن.

انتفض فجأة بشكلٍ أثار استغراب الحضور متوجهاً بخطواتٍ مُتسعة نحو سمير، وقف أمامه وهو يتفحص وجهه وفي عينيه سؤال قرأه رفيقه ببراعة، فأشار له بالإيجاب ثم ربت على كتفه هامسا وهو يشير إلى الناحية التي جلست بها مع والده: هيا صديقي، لا داعي لأن تضيع وقتاً أكثر.

اتسعت عيناه بصدمة، ثم عدى بخطواتٍ راكضة يسبقه قلبه إليها، ماإن خرج من محيط منزله حتى لمحها تجلس هناك مع والده، جرى نحوهما مهرولاً لكنه تجمد مكانه عندما سمع سؤال والده لها: هل تحبينه؟
وقف ليتمالك أنفاسه اللاهثة وقلبه يرغب بسماع إجابتها، فهو لم يسمعها منها قبلاً رغم معرفته بها، لكن سماعها تعترف بها سيكون لها طعمٌ آخر، طعم النعيم.

تنفست بعمق وهي تجيبه بهمس وصل إليه: نعم، أحبه، بل أعشقه وكأنني خُلقتُ منه ولأجله.
يقسم أن فؤاده يكاد من بين ضلوعه ليجري إليها عندما سمع كلماتها، كانت كالسحر مرّت على جراحه فداوتها.
ابتسم والده عندما شعر به خلفهما، ربت على كتفها ليخبرها: هذا ليس زفاف براء.
التفتت صوبه بسرعة وقد فتحت فمها بدهشة، فأضاف: نعم، إنه زفاف أبن زوجتي.

لم يمهلها لاستيعاب المفاجأة فالتفت للخلف ففعلت المثل لتراه، واقفاً خلفها بشخصه وهيبته ووسامته القاتلة، نهضت من مكانها بتفاجأ لتقابله بجسدها وقد كان الفاصل مابينهما ثلاثة أمتار فقط، لم يشعر بوالده الذي انسحب بصعوبة بسبب كرسيه المدولب.

توقف الزمن عندهما في هذه اللحظة، تلاقت العين بالعين، والدمعة بالدمعة والاشتياق بالاشتياق، تسارعت أنفاس كليهما وهو يتقدم نحوها بتثاقل حتى وصل إليها، رفع كفه ليضعه على وجنتها كأنه يتأكد أنها موجودة قبالته حقاً وليست من صنع خياله الهائم كالعادة.

تلاقت يده بوجنتها الناعمة فلم تغمض عينيها، ابتسم من بين دموعه عندما تأكد من وجودها فابتسمت بالمقابل وذرفت دمعة اشتياق، ظلّ يرمقها باشتياق لن تستطيع أن تبادله إياه مهما بلغ شوقها إليه، تمالك أنفاسه الهاربه من لقائها، تنفس بعمق ثم سحبها إلى أحضانه بعنف، لم تمانع عنفه بل تشبثت به بكل قوتها، هو فعلاً طوق نجاتها.

شدّد على أحتضانها وهو يغمض عينيه بقوة و يستنشق رائحتها ليعبأ رئتيه بها، مُستغنياً عن الهواء ليكتفي برائحتها، إنها ملاذه الوحيد، بين ذراعيها فقط يشعر بأن لحياته معنى.
شعرت بالأمان الذي افتقدته طويلاً بين ذراعيه، لن تنكر أنها الآن فقط، شعرت بخافقها يهتف بسعادة مُطالباً إياها بأن تدفن نفسها في أحضانه أكثر، هو حِرزُها وحِصنُها، هو مُعتَصَمها ولا تريد سواه.

قرّر جواد أن يردّ له دينه في يوم زفافه، فهاهو الآن يجلس بجانب أميرة في سيارة براء التي تزينت للمرة الثانية خلال أقل شهر، وصلت العروس أخيرا ليصدح صوت مزامير العراضة مُرحبةً بالعروس الفاتنة، وكان عريسها ينتظرها في آخر السجادة الحمراء التي امتدت لتخطو عليها أولى خطواتها نحو سعادةٍ تأمل أن تكون أبديةً.

لم تفارق السعادة مُحياه منذ عودتها، واليوم تبدو أكثر إشراقاً وهو يرى من آسرته منذ صغره تُزَفّ إليه بفستانها الأبيض الذي زادها بهاءً.
حضرت شادية وعائلتها بدعوة خاصة من أميرة وبراء، وأيضاً كان في مقدمة الحضور ملك وزوجها وابنهما الأمير الوسيم، الذي ماإن رآى ابنة شادية حتى ابتسم لها فبادلته براءة بأخرى جذابة.

بعد عامين.
قاد جواد سيارته وبجواره والدته زينب التي كانت تتشحُ بالسّواد الكامل حداداً على وفاة زوجها، الذي فارق الحياة منذ تسعة أشهر، وأقسمت على ألا تنزع السواد حتى تنجب أميرة.
دخلت إلى غرفة أميرة لتجد الجميع ملتفين حولها على شكل دائرة كبيرة، شادية برفقة براءة التي بلغت العامين منذ فترة وكانت في زيارةٍ لعائلتها عندما سمعت بخبر إنجاب أميرة.

ملك يصحبها أمير الذي كاد يأكل براءة بعينيه لشدة جمالها، وسلاف التي آثرت ترك شفق الشقية في المنزل برفقة شقيقتها جوليا، ليليا وهي تحمل ضياء ابنها الذي لم يكمل بعد عامه الأول، وبالطبع كان براء يجلس بجانب زوجته يقبلها على جبينها سعيداً بسلامتها.
استغربت زينب هذا التجمع، فشعرت بالقلق ثم هتفت بصوتٍ مرتجف: مالأمر؟ لم هذا التجمع؟

ابتسم براء عندما رأى والدته، وابتعدت النساء عن طريقها لتفاجأ بتوأمٍ من الأولاد وفتاة واحدة، ألجمتها الصدمة بداية فقد كانوا يعلمون أن أميرة حاملٌ بتوأم والآن هي ترى ثلاثة!
استقام براء من مكانه متجهاً إلى والدته ليهمس لها وهو يشير إلى أطفاله: أمي، رحبي ب محمد وعادل وزينب.
ضحكت من بين دموعها ثم عانقت براء بحماس ولهفة شاكرةً إياه على حُسنِ مافعل.

((( من رحم الألم يولد الحب، ومن جوف المخاطر تولد الشجاعة )))
بهذه العبارة وقعت أميرة روايتها التي صدرت مؤخراً، وقد كان الاهداء موجهاً إلى زوجها، وهي الجملة ذاتها التي كانت تهديه إياها كلّما أصدرت رواية جديدة.
طالعت الكلمات التي خطتها بكل حب وامتنان، ثم أردفت لتوقع بكلمة تعلم أنه يعشقها.
(( أميرة الفايد، بتلّةُ ياسمينك )).

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة