قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع

رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع

- حسناً لقد تجاوز ذكاؤك توقعاتي بمراحل!
هتف جواد بجملته هذه بدهشة بائنة في نبرته، مخاطباً براء الجالس أمامه مُغمض العينين، ابتسم بخفة وهو مايزال على وضعه، أردف جواد سائلاً إياه: إذا ماالذي حدث بعدما نقلتها إلى المستشفى؟
تنهد براء بتعب وهو يتابع سرد قصته: تمّ إدخالها إلى العناية المركزة ثمّ خرج الطبيب المختص بعد قليل.

Flash Back.
كان براء يجول في رواق المستشفى أمام غرفة العناية المركزة، بعدما تمّ نقل عليا إليها رافضاً أن يحضر معها أحد خاصّةً أميرة، فقط اكتفى بإحضار عادل معه والذي كان يجلس على كرسي الانتظار في الرواق.
خرج الطبيب من عندها فوقف براء أمامه هاتفاً بجديّة: أخبرني ما لديك أيها الطبيب؟
اجاب الطبيب بعملية جادة: لقد أُصيبت بذبحة صدريّة، يجب أن تبقى تحت المراقبة.
هز رأسه متفهما قائلاً: شكرا لك.

ثم أردف بنبرة تحذيرية: لكنني لا اريد دخول أي أحدٍ من طاقمك الطبي إليها، سأجلبُ ممرضةً خاصّة، وأيضا سنحضر لها الطعام من الخارج، وهناك حارسان سيبقيا أمام غرفتها بشكلٍ دائم.
عقد الطبيب حاجبيه متسائلاً باستغراب: ولمَ كلُّ هذه الإجراءات سيدي؟
- أجاب براء بغموض: هي شاهدة أساسية في قضيّة هامّة، ولا آمن إلا أن تبقى تحت مُراقبتي.

ثم تابع: أرجو أن تكتب لنا الأدوية اللازمة لها، وكذلك أنواع الطعام الذي يجب أن تتناوله وسنتولى نحن الباقي.
رغم غموض كلماته التي تبعث على الريبة لكن لم يجد الطبيب بُدّاً من إطاعة الأوامر، فقال بنبرة رسمية: عامةً يجب أن تتناول الطعام الصحي والخالي من الدهون والزيت والزبدة، وسأكتب الأدوية اللازمة في ورقة وأرسلها إلى سيادتك.

هز براء رأسه في استحسان، مشى الطبيب من أمامه خطوتين قبل أن يقف ليهتف كمن تذكر أمرا ما: وأيضا أرجو أن تنتبه لئلا يشمل طعامها على أي نوعٍ من أنواع المكسرات.
التفت إليه براء ناظراً باستغراب، بينما تابع الطبيب: تحاليل الدّم لها تُظهر حساسية عالية تجاه المكسرات لديها.
هز رأسه متفهما دون أن يُعقب تاركاً الطبيب يتحرك من أمامه حتى اختفى، تقدّم عادل نحوه ليسأله باستغراب: ماكلّ هذا التشديد براء؟

همس براء وهو ينظر إلى غرفة العناية حيث ترقد عليا: حدسي يُخبرني أنها لم ترتكب جريمتها وحيدةً، وأن هناك من سيحاول أن يقتلها لئلا تشي به.
رفع عادل حاجبيه بدهشة، ثمّ تطلع إليه براء آمراً: أُريدك أن تحضر لي عنصرين ليحرسا الغرفة ويمنعا أياً كان بالدخول إليها سوانا.
حرك عادل رأسه موافقا قبل أن يردف: حاضر، وماذا بشأن الممرضة؟ ماذا ستفعل؟
ابتسم بخفه وهو يربت على كتفه مُجيباً: لا تهتمّ، سأحضر ممرضةً موثوقة.

ثم أردف بحزم: بعد أن تنتهي من هنا، أريدك أن تذهب إلى المعمل الجنائي، قمْ بمقارنة العيّنة التي أخذتها سلاف منها مع عينة أميرة، وكذلك بصماتها مع البصمة التي وُجِدتها على سترة عمار، وأخبرني بالنتيجة.

عاد إلى المستشفى عقب خروجه منها بنحو ساعة، فبعدما أملى أوامره على العناصر الشُرَطيّة التي وقفت أمام غرفة عليا، اتجه نحو منزله حيث هاتف والدته ليطلب إليها تأمين ممرضة موثوقة فأخبرته أنه يستطيع أخذ بسمة، الممرضة التي تعمل في عيادتها فهي صبية ذكية ونشيطة.

احضر بسمة من عيادة والدته كما أخبرته، ثم عاد بها نحو المشفى ليسمع صوت صياح فتاة ما في الرواق، وبكلّ سهولة استطاع تمييز هذا الصوت المميز والتي لم تكن سوى أميرة، تقف أمام غرفة عليا لتأمر الشرطيان بأن يسمحا لها بالدخول إليها، إلا أن طلبها هذا قوبل بالرفض القاطع منهما، حيث اخبراها بمنع الزيارات عن عليا إلا بأمرٍ مباشر من الضابط المسؤول عن القضية.

- أشار إلى نسمة بأن تدخل إلى غرفة العناية حيث ترقد عليا، و صدح صوته بخشونة: مالذي يحدث هنا؟
التفتت إليه لتصيح به بحنق: هل استطيع أن اعرف بأي حقٍ يتم منعي من زيارة مربيتي؟وبأمرٍ مِمّن؟،
ابتسم بخفه وهو يقف بشموخ، مجيباً بما يشبه السخرية: إنها أوامري انا آنسة أميرة، وأما عن السبب
فهذه أسرار خاصة بالتحقيق.
نظرت إليه وهي تعقد حاجبيها بضيق: لكنني فقط أريد الاطمئنان عليها لا أكثر.

كان قد أصبح يقف أمامها عندما اجاب بلا مبالاة: اطمئني هي بخير، لكنني لن أسمح بزيارتها حالياً.
التفت ليذهب لكنها استوقفته كلماتها عندما هتفت بجزع: أرجوك، انا فقط أريد أن أراها حتى ولو من بعيد.
استدار نحوها مجددا وهو يضيق عينيه بشكٍ قائلاً: ولماذا انتي مُهتمّة بالاطمئنان عليها إلى هذه الدرجة.؟
- أردفت وهي تجاهد بحبس دموعها: لم يتبقى لى سواها، أرجوك.

نغزات حادّة بدأت تضرب قلبه وهو يتأمل عينيها الدامعتين، ورغم أنه كاد يلين لها إلا أنه رسم الجمود على وجهه وهو يردف: آسف، لكنني لن أسمح لأحد برؤيتها الآن.
استدار هذه المرة ليمشي مبتعدا عنها عدة خطوات، قبل أن تصيح خلفه بغضب: هناك قوانين في هذا البلد سيادة الضابط، و قوانينكم تحترم حقوق الإنسان، واسمح لي أن أخبرك أن ماتفعله هذا اسمه حماقة!

التفت أليها يرمقها بنظرات غير مفهومة، تقدم نحوها بثبات حتى وقف أمامها وتعابير وجهه غامضة، تأملها للحظات دبت الرعب داخلها، قبل أن ينشقّ ثغره عن ابتسامة خبيثة، وهو يهمس أمام وجهها بنبرة هادئة لكنها تحمل تهديداً مبطناً وعينيه المظلمتان لا تحيدا عن خضراوتيها قيد أنملة: لو أنك حبيبتي لأريتك الحماقة الحقيقية كيف تكون.

أرجعت رأسها للخلف وهي تشعر بنبضاتها الهادرة بقوة من آثر اقترابه، وظلام عينيه يحوي ألف حكاية، لا تنكر أنها شعرت بالخوف من تهديده المُبطن، لكنها لم تستطع النطق بحرف واحد وهي تشعر بأن صوتها قد اختفى نهائياً.
وهو أيضا لم يكن بحالٍ أفضل منها، فقد تأمل خضراوتيها بتمعّن شديد ليدركه ذلك الإحساس من جديد، إحساس بأنه يعرف تلك الواقفة أمامه أكثر من أي شخص في الدنيا.

انتبه أنه شرد في غاباتها اكثر من اللازم، فعاد إلى الخلف خطوتين قبل أن يستدير خارجاً من المستشفى بأكملها، تاركاً إياها خلفه تحاول لملمة مشاعرها التي بعثرتها كلماته المقتضبه.

عادت إلى قصرها وهي تجرُّ أذيال خيبتها، لم تستطع رؤيتها حتى ولو من الزجاج العازل، دلفت إلى الصالة الكبيرة حتى جلست على إحدى الآرائك وهي تمسحُ دموعها التي انهالت بغزارة، لم تعرف لها أنيساً سواها، وهي من ربتها كأنها والدتها الحقيقية.
دخل يوسف إلى القصر هو الآخر، بعد أن أخبره حارس الأمن في الخارج بخبر نقل عليا إلى المشفى، وجد أميرة في الصالة وهي تسند رأسها إلى كف يدها وبدت كأنها شاردة.

سار أليها بخطىً حثيثة يسألها: مالذي حدث أميرة؟
نظرت إليه وهي تتنهد بسقم، فأجابته ببرود: لا أعلم، كان الضابط يتحدث إليها وكانت بخير، فجأة سقطت أرضاً ونقلها إلى المشفى رافضاً أن يصحبها أحدنا.
ثم اعتدلت في جلستها لتهتف بضيق بارز في نبرتها: وعندما ذهبت لأراها في المشفى فوجئتُ بأن الضابط منع أياً كان بزيارتها.
عقد حاجبيه وهو يفكر، هل من الممكن أن يتعرّف إليها براء؟

استفاق من شروده على حركة أميرة، حيث استقامت لتصعد إلى غرفتها علّها ترتاح.
زفر بضيق وهو ينظر إلى الأعلى بعينٍ ضيقة، سينقذ عليا بالطبع، لكنه أولاً يجب أن يحصل على تلك الحقيبة، فبالرغم من تعذيبه لسيمون لساعات الا ان الأخير لم يعترف بمكانها حتى مات تحت التعذيب.

فكر لعدة دقائق حتى توصل إلى نتيجة مفادها أن يعطي الحارس الذي يقف أمام غرفة عمار منوما حتى يستطيع الدخول إلى الغرفة ويبحث عن ضالته، ثمّ بعدها سيتخلص من براء ويخرج عليا بأقل الخسائر.

مساءً، دخل إلى المستشفى وفي داخله ألف سؤال لاإجابة لها إلا لديها، وقف الحارسان باحترام عندما رآياه يتقدم نحوهما، فتح الباب فجأة ليرى عليا وهي تجلس نصف جلسةٍ وتستند برأسها على حافة سريرها الأبيض، تكتف يديها أمام صدرها وتلبس ثوب المستشفى ذو رقبة ّ مفتوحه، وبعض وصلات جهازٍ ما يُصدِرُ صفيراً رتيباً ماتزال على صدرها.

انتبهت عليا لدخوله حاولت أن تعتدل في جلستها وهي تحاول أن تكون طبيعية، وسحبت الرداء من خلف ظهرها ليغطي رقبتها وبداية صدرها.
أشار إلى الممرضة الجالسة على كرسي قريب منها لتخرج، جلس براء على الكرسي وهو يرمقها بتفحص جلي، وهي تشيح بوجهها عنه، تحدّث أخيرا بما يشبه السخرية: حسنا، والآن سيدة عليا؟ هل تستطيعين الحديث معي أم سنؤجله اليوم أيضا؟

أخذت نفسا عميقا ثم زفرته ببطء لا تعرف كم إستطاع أن يعلم لكنها قررت أن تمشي معه على مهل، تنهدت بخفة قبل أن تومأ برأسها إيجابا.
اعتدل في جلسته ليسألها بغتةً: لماذا قتلتي عمار؟
ازدردت ريقها بوجل وهي تتمتم بتعب: لم أقتل أحدا سيادة الضابط.
ابتسم بتهكم وهو يضيف: وانا صدقتك، لكن هلّا شرحتي لي بعض النقاط التي لم أستطع شرحها.

أمعن النظر إليها ليقول وقد اختفت ابتسامته الساخرة: كيف وضعتي حبوب منوم لآمال؟لقد قمنا بتحليل دم لها فاكتشفنا أنها أخذت حبوباً مُنوّمة ليلة مقتل عمار، فهلّا أخبرتني كيف حدث هذا؟
تنهدت بتعب وهي تُنكر: لم أضع لها أية حبوب.
ضيق عينيه وهو يقترب منها أكثر قائلا بوجه اكتسب جديّةً قاسية: سيدة عليا لن تستطيعي الإفلات بفعلتك هذه أعدك، لذلك أنا أنصحك بأن تعترفي فهذا قد يخفف عقوبتك.

ابتسمت بخفة وقد نسيت نفسها، اعتدلت في جلستها لتجمع شعرها كله على طرف واحد من جهة اليسار حيث بانت رقبتها وعظم الترقوة لديها، فجأة امتدت يده لتمسك بيدها بعنف، تطلعت إليه بحاجبين مُنعقدين مالبثت أن ارتخت تعابير وجهها وهي ترى نظراته المُصوبة على عظم الترقوة لديها.
ازدردت ريقها بتوتر وهو يتفحص تلك العلامة التي برزت على عظمها من الطرف الأيمن.

جحظت عيناه بشدّة وهو يرى تلك العلامة المميزة، دوائر ثلاثة فوق بعضها، الأولى أصغر من الثانية والثانية أصغر من الثالثة، ولونهم أسود مظلم.
تسارعت أنفاسه بغضب وهو يرمقها بنظرات كرهٍ واضحة، سألها بجمود مخيف: أنتي هي حياة، أليس كذلك؟

شدّد على يدها حتى كاد أن يكسرها، غير آبهٍ بذلك الصفير المتعاقب على جهاز فحص القلب، تطلعت إليه بنظرات زائغة وقد بدأ جسدها بالارتجاف بشدة، رفرفت بأهدابها وبدأت تفقد وعيها، في هذه اللحظة دخل الطبيب يصرخ في براء ليتركها ويخرج من الغرفة.

وقف بتثاقل عندما صرخ به الطبيب مجددا داعياً إياه للخروج، ودون أن تحيد عينيه عنها انحنى صوب أذنها ليهمس لها بنبرة ذات مغزى: لاتحاولي الهرب مجدداً، حتى الموت لن يُنقذكِ هذه المرة.
رمقها بنظرة أخيرة قبل أن يتحرك خارجاً من المشفى، متجهاً نحو منزله بسرعة البرق، تصحبه ذكريات مريرة لوجوه كثيرة، ووجه والدته الحقيقية المُتألم والمنكسر كان أبرزها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة