قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أشباه عاشقين للكاتبة سارة ح ش الفصل الحادي والعشرون

رواية أشباه عاشقين للكاتبة سارة ح ش الفصل الحادي والعشرون

رواية أشباه عاشقين للكاتبة سارة ح ش الفصل الحادي والعشرون

صحوة متأخرة
(ميرنا)
أتعلمون ما اصعب ما ستشعرون به يوماً؟ هو ان تتخلو عن شيء تحبوه بشدة وقلبكم لا يطاوعكم على تركه، من السذاجة ان تتبع قلبك ومن الصعب ايقاف عقلك عن التفكير به، وما بين دمعة واخرى ينكسر شيء ما بداخل روحك تعجز عن ترميمه من جديد، لتغدو انسان مشوه كنت تحتقر امثاله في الماضي!

تكورت حول نفسي فوق سريري اضم اجزاء جسدي الى بعضه ادخل بسبات عميق ولكن بأعين مفتوحة، دموعي بللت جزء من الوسادة تحت خدي ولكني كنت اضعف من ان اجففهم. اريد استشعار حرارتهم تلفح وجهي لعلها توقظ روحي من رمادها وتجعلني افضل. ولكن لا فائدة!
- ابتعدي عن طريقي روجينا!
صرخة امي عند الباب هزت لي جسدي واقتحامها المفاجئ للغرفة جعلني التفتُ نحوها بقوة احدق بها من وسط صمتي فصرخت بي ووجهها يغلي:.

- هل حقاً ما قالته روجينا؟
حركت عيناي نحو وجه الخالة روجينا المتوتر. لا بد انها اخبرتها بعد ان اخبرتها بالامر قبل ساعة حين اتصلت بي لتتفاجئ بي انهار بالبكاء!
اعدت بصري نحو النافذة واعدت رأسي فوق وسادتي اكمل تحديقي غير مبالية بأمي خلف ظهري وصراخها المجنون. ومن دون سابق انذار افرغت غضبها بالزهرية التي تستكين على المنضدة المجاورة لسريري وهي تضربها بيدها بعنف وتصرخ بي بأعلى صوتها:
- اجيبيني! أهو يوسف؟

اجابتها خالتي مهدئة:
- الامور لا تحل بالصراخ يا سلوى. دعينا نجد حل بدل تصرفاتك هذه!
التفت اليها والدتي لتهتف بها بأستهجان:
- تصرفاتي؟ ألا ترضيكما تصرفاتي؟ لو انها امتثلت لتصرفاتي ما كنا وصلنا لما نحن عليه. ألم احذرها؟ ألم اخبرها ان تترك البحث عن يوسف؟ اخبرتها انه وامه لعنة على حياتنا. ولكن هل صدقتني؟ لا لم تفعل؟ هل.

لم تنهي جملتها. فأنا لم اسمح لها وقمت بتفجير كل تلك النيران التي تستعر بصدري وانا انهض من سريري وصرخت بها بأقوى صوت اطلقته بحياتي:
- يا سيدة سلوى المحترمة ان كنتِ قد لاحظتِ فسيف هو ذاته يوسف. هل اذكركم بسيف المدلل الذي كنتم تفضلون رأيه على رأي؟ هل اذكركم بالثقة المطلقة التي وهبتموها له؟ والان تلوميني لأني ابحث عن يوسف؟ حسناً احزري شيئاً يا شديدة الملاحظة. هو من وجدني قبل ان اجده!

والتفت لأكمل اسقاط الاشياء من فوق المنضدة وانا اكمل صراخي:
- وهو من انتقم مني انا وليس منكم انتم!
فصرخت بي الخالة روجينا:
- هل فقدتم عقولكم؟
لأهتف بهما بجنون:
- اجل فقدت عقلي. انا اموت بسبب تفكيركم المنحط. انا احترق.
ثم رفعت اصبعي بتهديد بوجه امي قائلة:
- ولكني لن احترق بمفردي هذه المرة وسأحرقكم جميعاً معي اقسم لكِ.
امسكتني من عضدي بقوة وهي تكز على اسنانها قائلة:.

- ستذهبين الان من فورك نحو الشركة لتقومي بطرده!
سحبت يدي من يدها بعنف وانا اجيب:
- يا لهذا التفكير الذكي. هل نسيتي ان زوجك المحترم سجل معضم اسهم الشركة بأسمه؟
بهتت ملامحها فوراً وانخطف لونها لأكمل انا:
- انقذنا سيف من الافلاس وظننت ان المقابل الوحيد الذي اخذه هو مباركة ابي لأرتباطنا!
نزلت بضع دمعات كنت احبسهم بينما اكمل:.

- ولكن خطوبتنا كانت مجرد احدى شروط صفقته، لقد تنازل له ابي عن عدد كبير من اسهم الشركة الى ان يكون بأمكانه تسديد الدين له!
سقطت على سريري لأكمل بكائي وانا احيط رأسي واقول لهما بأنهيار:
- كنت مجرد خطوة كان عليه قطعها في طريق خطته، كنت مجرد ساذجة استغلها لأبعد حد ممكن.
ثم صرخت آلوم نفسي:
- وانا الحمقاء كنت ادرك انه يكذب ولم اسعى لأكتشاف كذبه بحجة انه يحبني ومن الاستحالة ان يفعل شيء ما ليؤذيني!

فجأة شعرت بيدان ما تحوطانني. ظننتها خالتي روجينا. ولكن هذا ليس عطرها، كانت امي!
مسحت على رأسي وهمست لي بتوعد:
- لن ادعه ينجو بفعلته هذه. اقسم لكِ!
رفعت يدي لأضمها اكثر إلى وكأني احتمي بها من كل هذه القسوة التي تحيط بي. وكأني اتمنى ان اغرق داخل صدرها اكثر لعلي اصحو فجأة واكتشف ان كل هذا كابوس مزعج، بل مرعب!

(يوسف)
مضى اسبوع من دون ان نتقابل بعد لقائنا الاخير، اشعر بجبل جليدي قد تشيد بداخلي. انا لا اشعر بشيء. لا بالذنب. ولا بالسعادة. وكأني فجأة اصبحت شبه انسان!.
- اذاً؟
التفت بعيون تائهة نحو رأفت الذي يجلس على الكرسي امام مكتبي فأكمل موضحاً: - هل ستكمل؟
اخذت نفساً عميقاً وطرحته بحدة بينما افرك صدغي بأصابعي ازيل عنه صداعي المستمر منذ ثلاثة ايام ثم نظرت له وقلت بحسم: - اجل!

هز رأسه بيأس وهو يقول: - لا اشعر ان نهاية الامر ستمضي على خير!
تمتمت بشرود بينما احدق بنافذتي بأقتضاب:
- ولا انا!
- ولكن طلبك كان حقير!
التفت اليه بحدة فأكمل فوراً:
- اعتقد ان كلانا يعترف انك وغد يا يوسف بما تفعله معها. ولا يكفيك ما تمر به ميرنا الان بعد ما اكتشفت حقيقتك بل قمت بتقديم طلب لمجلس الادارة بعزلها عن الادارة، هذا تصرف منحط. فهذه شركة ابيها. وانت تفعل بها الان ما فعلوه بك بالماضي!

نهضت لأهتف به:
- انها شركتي ابي انا. دعنا لا ننسى هذا!
نهض ليقول لي بأمتعاض:
- بل دعنا لا ننسى ان ادهم هو من طورها ولم تكن بهذا الشكل ايام ابيك!
- ولهذا السبب لم اطردها بشكل نهائي وقمت بتخصيص جزء من الارباح لها ولأمها. فأنا لن اسمح لطفلة مدللة عديمة الخبرة ان تتولى الرئاسة هنا، واتمنى بالفعل ان يكون قرار المجلس لصالحي ويوافقوا بدل ان اتخذ طريقة اخرى لفعل ذلك!

رفع رأفت زاوية فمه بأبتسامة ساخرة وهو يقول لي:
- أتعلم شيئاً، اشفق على حالك اكثر من حالها، فضميرك لن يرتاح صدقني وسيقتلك في كل ليلة لمدى ايام حياتك!
وفجأة وقبل ان ارد بشيء اندفع باب مكتبي بعنف لتدخل ميرنا كاللبؤة المفترسة تبحث عن طريدتها وهي توجه ابصارها المشتعلة نحوي بينما تمسك بيدها ملف ما وهتفت بي بغضب قبل ان تتوقف قدماها امامي:
- هل حقاً فعلت هذا؟ هل حقاً القرار الذي سمعته؟

علقت ابصاري المقتضبة بها دون ان افرج عن ملامحي الحادة قليلاً. لعلي بهذا اخفي شوقي اليها!
هتفت بي بصورة اشد وهي تكتم دموع حبيسة تصارع للبقاء جافة:
- انطق! أحقاً ما طلبته منهم؟
خرجت من خلف مكتبي بهدوء افتقده داخلياً وانا اضع يداي داخل جيوبي ووقفت امامها لأقول لها بجمود:
- اخفضي صوتكِ حين تتحدثي يا انسة!

قلبت بصرها بحدة داخل عيوني الباردة وانفاسها السريعة تكاد تجعلني اشك انها ستطلق صرخة اقوى تهدم المكتب علينا. ولكن جملتها التالية لم تهدم المكتب. رغم انها نطقتها بهمس ولكنها هدمت كل ركن بداخلي:
- لقد كنت اشك ان الزمن سيغيرك، ولكني لم اتخيل ابداً ان يجعلك وغد بهذا الشكل!
بعد جملتها هذه لم اسيطر على ملامح وجهي لأبقيها مقتضبة وارتخت فوراً، نوعاً ما. هي محقة!

سقطت بضع دمعات من عينيها اسقطت بهم تماسكي وهي تقول لي بصوتها المهزوز:
- امي وابي اهملوني منذ طفولتي بسبب المال. وانت الان تخليت عني من اجل المال ايضاً، هل قذارة كهذه تستحق ان تجعلكم تتصرفوا بهذا الشكل الحيواني؟
ثم ضربت ذلك الملف الذي تمسكه بيدها ارضاً بعنف واشارت نحوه بأصبعها وهي تصرخ بوجهي بأنهيار:
- أمن اجل هذا دمرت كل شيء جميل بيننا؟ أمن اجل هذا قتلتني وانا لازلت على قيد الحياة؟

التفت نحو الملف وانا لا ازال متمسك بالصمت عاجز عن الرد بشيء امام كلماتها، جزء بداخلي يموت من بكائها هذا، وجزء اخر قد مات مسبقاً ولم اعد اشعر بشيء!
- هذه هي اموالك القذرة. لم تكن مضطراً لأتعاب نفسك وتقديم طلب مبتذل كهذا لمجلس الادارة، لقد سجلت كل شيء بأسمك من مصانع وشركات بل وحتى منزلنا والسيارات!

وهنا انقبض كل شيء بداخلي والتفت اليها بفزع وكأنها سحبت كل شيء مني وليس اعادته لي، تأتأت شفتاي ببضع حروف بينما عيوني جاحظة بقوة فقاطعت حروفي المبعثرة بحروفها الثابتة:
- لا تظن اني افعل هذا لأني ارى ان هذا حقك!
ثم نقرت بأصبعها فوق صدري وهي تكمل:
- بل لأني اعرف انه هنا لايزال جزء من يوسف القديم بداخلك!
ثم اكملت بقسوة:.

- وهذا الجزء كافي ليقتلك وينتقم منك نيابة عني، سأهبك كل شيء كي تموت لاحقاً بعد ان تعرف الشناعة التي ارتكبتها، كل ما سأفعله بك لن يشفي لي غليلي، ولكن ما ستفعله انت بنفسك سيكون كافياً ليرضيني!
وتركتني وسط تشوشي وضياعي وخرجت المكتب مثل ما دخلت. وكأنها لم تكن هنا من الاساس. وما يثبت وجودها هو ذلك الملف الملقى عند قدماي، ذلك الملف الذي اعجز عن التحكم بجسدي كي ينحني لألتقاطه. ولكن رأفت فعل!

التقطه وقلب اوراقه قليلاً ثم اخذ نفساً عميقاً يعبر عن ضيقه ووضع الملف بهدوء فوق سطح المكتب وقال:
- لقد تنازلت لك عن كل شيء بالفعل!
ثم نظر نحوي وقال بأمتعاض:
- انتهت مهمتي هنا. اتوقع غداً ان تضع الاموال في حسابي في البنك، فمن اليوم انت وحدك!

نظرت اليه بنظرات احاول اخفاء انكسارها، اليوم الجميع قد تخلى عني. اليوم جميعهم اصبحوا ملائكة وانا الشيطان الوحيد هنا فقط لأني اردت استعادة حقي. فقط لأستعيد ما سلب مني منذ طفولتي!
جلست وحيداً خلف مكتبي. في غرفة خالية. سؤال واحد يجتاحني. انا املك كل شيء الان، ولكن هل انا سعيد؟

(الكاتبة)
ثلاثة ايام اخرى، اوجاع متزايدة، هدوء موحش، لم يعد منزل ادهم يطيق المزيد من مشاجرات سلوى وميرنا لاسيما بعد معرفة سلوى بأمر تنازل ميرنا عن كل شيء ليوسف رغم كل شيء اخبرتها به، انعزلت كل واحدة في غرفتها بعيداً عن الاخرى وكأن كل واحدة تودع المنزل بطريقتها الخاصة، فبعد ساعات قليلة سيتحتم عليهما ترك المنزل قانونياً ليوسف وامه!

انهت سديم توضيب اخر حقيبة لسلوى بينما الاخيرة تجلس برصانة -رغم انكسارها- على الكرسي المقابل للنافذة. تحدق بنظرات تائهة بحديقة منزلها. بأرجاء قصرها، بعد كل شيء ضحت به هي الان تعلن راية استسلامها بعد سنين من الانتصار، حرب لم يكن ضحيتها سوى ميرنا. فسلوى لن تتخلى عن مكانتها في مجتمع الطبقة الراقية بفضل اسرتها الارستقراطية، ولكن ميرنا رفضت عيش هذه الحياة مجدداً وقررت ان تبدأ بالاستقلال بمفردها!

- سيدتي؟
انتبهت سلوى من شرودها على نبرة سديم التي رفعتها قليلاً كي تتمكن سلوى من سماعها بعد ان فشلت في ذلك الثلاث مرات السابقة!
ادارت سلوى رأسها نصف استدارة لتقع ابصارها على حقائبها الموضبة هناك!
- هل هناك شيء اخر لأفعله لكِ سيدتي؟
بقيت تحدق قليلاً بحقائبها ثم اعادت ابصارها نحو النافذة وهمست بصوت بالكاد تمكنت سديم من سماعه:
- لا. شكراً لكِ!

استمعت سلوى لصوت انغلاق الباب عندها فقط اسدلت جفنيها بألم لتسقط تلك الدمعة الوحيدة التي سمحت لها بالافلات، اليوم هي من حقها ان تنهار. فلقد انهار كل شيء من حولها!
طرقات خفيفة فوق باب غرفتها بعد دقائق جعلتها تسارع في مسح دموعها وقالت بصوت حافظت عليه متماسك:
- تفضل!

فُتح الباب وخطوات هادئة تحركت بأتجاهها من غير صوت، انها بالتأكيد ميرنا وحذائها الرياضي المريح الذي تستعيض به عن الكعب العالي الذي ينقر بالارجاء!
سحبت الكرسي الاخر وجلست بمواجهة والدتها. ترفع شعرها عالياً ويخلو وجهها من اي مساحيق التجميل وترتدي كنزتها البيضاء وبنطالها الجينز مع حذائها الرياضي الابيض، هيئة تعاكس تماماً ميرنا القديمة، ميرنا التي رسمتها سلوى بماركة شانيل وديور!
- انا سأذهب الان!

لم تستطع سلوى الحفاظ على دموعها بعد جملة ميرنا هذه واجهشت ببكاء صامت اخفته خلف يديها. شاركتها ميرنا اياه ولكنها حاولت ان تكون اقوى وضمتها اليها بقوة وقالت:
- رغم شجارنا المستمر ولكنك تعلمين كم احبكِ امي!
ابتعدت عنها سلوى قليلاً وكوبت وجهها بين يديها وقالت:
- اذاً تعالي معي!
هزت ميرنا رأسها بهدوء وقالت من وسط دموعها:
- امي. اريد ان ابتعد. اريد ان اتغير، اريد ان اكون انا وليس ان اكون ما تريدونه انتم!

- وماذا عني؟ بهذه الحالة لن اتمكن من رؤيتك سوى مرة واحدة في الشهر، انتِ ستكونين في مدينة وانا في اخرى!
- اعذريني على قسوة كلامي. ولكني طوال ال26عاماً كنت معكم في المنزل ذاته ولم تهتمو يوماً بوجودي ونادراً ما كنا نجلس معاً، لذلك حان الوقت لأتخلى انا عنكم بدل ان اجلس دائماً بأنتظاركم!
رفعت سلوى زاوية فمها بأبتسامة مريرة وهي تقول:.

- لا يمكنني لومك، فالانسانة الموجودة حالياً بداخلك نحن من خلقناها، وحان الوقت لنتحمل نتائج فقداننا لكِ...
مسحت برفق فوق شعرها وهي تكمل بعطف:
- من بين كل ما فقدته. انت الجوهرة الوحيدة التي أأسف فعلاً على خسارتها من بين كل مقتنياتي!
تبسمت ميرنا وضمت نفسها اليها مرة اخرى وهي تقول:
- لم تفقديني، ليس بعد!
ضمتها سلوى بشدة اكبر وعيناها تحدق بتراقب من نافذتها، فعقلها الان في مكان اخر!

رحلت ميرنا عن المنزل بعد ان ودعت من فيه، رحلت دون ان تنظر اليه نظرة اخيرة. فهي منذ البداية لم تستشعر أنتمائها اليه وكل ما كانت تمتلكه فيه هي تلك الغرفة التي تكون احياناً سجنها واحياناً ملاذها بعيداً عن الجميع! اليوم هي لم تعد ميرنا اليوسفي. بل مجرد فتاة عادية تحمل حقائبها الثقيلة بنفسها وتستقل سيارة اجرة بدلاً من سيارتها الفاخرة لتذهب نحو شقتها الصغيرة التي اشترتها قبل ايام من رصيدها الخاص في البنك. تلك الاموال التي حصلت عليهم بنفسها بعيداً عن عمل ابيها. وظفتهم جميعهم لأفتتاح شركة المعجنات والحلويات الصغيرة التي كانت تحلم بها منذ زمن وببعض منهم اشترت هذه الشقة المتواضعة!.

اما سلوى فبخروجها من المنزل لم تذهب فوراً نحو المطار كي تستقل طائرة نحو منزل اسرتها. بل اتخذت وجهة اخرى. شركة ادهم. او بالاصح شركة يوسف الحالية!
رغم فقدانهم لكل شيء لكنها لاتزال تحتفظ بتلك الهيبة التي تفرضها على المكان حين دخولها للشركة بكامل وقارها وشخصيتها. ولايزال الموظفون ينظرون اليها بنفس الاحترام وكأنها لاتزال سلوى ذاتها، وكأن ادهم لايزال ينتظر قدومها في مكتبه!

فُتح باب المصعد واتجهت سلوى بخطوات ثابتة نحو مكتب يوسف ودخلته حتى من غير ان تطرق الباب او تطلب من السكرتيرة اخباره بقدومها!

لم تكن صدمة فردية، بل كانت ثلاثية الابعاد، يوسف ونرمين وسلوى! كل واحد فيهم لم يتوقع رؤية اخر. لايوسف استوعب قدوم سلوى ولاسلوى استوعبت وجود نرمين ولانرمين تقبلت هذا اللقاء المفاجئ، ولكن لايمكننا القول انها لم ترغب به، فسنين انتظارها هي فقط من اجل ان ترى نظرة الانكسار تجتاح وجه سلوى، نظرة لم تراها نرمين رغم وجودها. فلقد برعت سلوى في اخفائها جيداً!

قلبت سلوى بصرها فيما بينهم بأقتضاب ثم ختمت هذا التحديق بابتسامة ساخرة رفعت بها زاوية فمها ثم اغلقت الباب ودخلت وهي تبعد النظارة الشمسية عن وجهها وتقول بتبختر:
- اذاً، نرمين الموقرة هنا!
وضعت نرمين كوب القهوة من يدها وقالت بتعالي متبادل:
- وجودي طبيعي هنا في شركتنا. وجودك هو الغريب!
جلست سلوى على الكرسي المقابل لها امام مكتب يوسف واضعة ساق فوق اخرى وقالت وهي تحافظ على ابتسامتها:.

- نحن بمفردنا نرمين، دعينا نترك التمثيل جانباً!
- ماالذي جاء بكِ سيدة سلوى؟
نظرت سلوى نحو يوسف ونبرته الرصينة رغم اقتضابها وقالت:
- لنفتح ملفات الماضي قليلاً!
وهنا بدأت تعابير نرمين تتغير قليلاً وقالت بصوت يشوبه بعض التوتر:
- ماضينا ورقة ومزقناها من كتابنا. ولسنا مهتمين بفتحها بعد الان!
نظرت لها سلوى بنظرة ذات معنى وهي تقول بنبرة خاصة:.

- ولكني متأكدة اني لم امزق شيء. وما زلت محتفظة بماضيك في حقيبتي يا نرمين!
أتعلمون ما اسوأ شيء؟ حين تكذبون وانتم تدركون ان خصمكم يمتلك الدليل ضدكم. حينها لن تتمكنو من الدفاع ولا من تبرير كذبكم بأي عذر واهي، فلا تكذبو، الحقيقة مؤذية ولكنها ستنقذنا في النهاية!
التفتت سلوى بأتجاه يوسف وقالت بينما تخرج ملف من حقيبتها:
- الشيء الوحيد الذي كان يجعلني ابقى صامتة دون فضح هذا الشيء للجميع هو ادهم رحمه الله...

سحب يوسف الملف من يدها وبدأ يقلب الاوراق بتركيز تحت انظار نرمين المتوترة وفجأة رفع رأسه بفزع اليها وعيونه جاحظة وقال بحروف مبعثرة:
- ما. ما ه. هذه؟
- هذه مقصلة اعدامك!
قالتها سلوى بهدوء ثم اكملت فوراً والابتسامة تبتعد تدريجياً عن وجهها لتتحول ملامحها للقسوة:
- ربما عليك ان تعرف كل شيء الان بدل ان توهم نفسك وتقنعها بأكاذيب والدتك!
صرخت بوجهها نرمين فوراً:.

- انا لم اكذب. واظن اننا نحن الثلاثة نعرف جيداً من فينا الطرف الكاذب يا سلوى!
نظرت لها سلوى بنظرة حادة ولكنها لم تعلق بشيء على حديثها بل اعادت ابصارها بأتجاه يوسف وقالت:.

- عانى ابيك من خسارة فادحة بشركته ادى الى افلاسه التام، تخلى كل شركائه واصدقائه عنه ولكن ادهم لم يفعل. قام ببيع مصنعه ومنزله وكل شيء يمتلكه فقط كي ينقذه من افلاسه هذا وجعلنا نسكن في منزل صغير بدل من المنزل الفخم. فعل كل هذا كي ينقذ اخيه من الافلاس والغرق بالديون بسبب الصفقات التي عقدها والتي لم يتمكن من بيع منزله لأكمالها فقد كان مرهون للبنك، ضحى ادهم بكل شيء وقد وعده عاصم انه سيعيد له كل شيء بعد ان تتحسن اوضاعه المالية، اليوم اصبح اسبوع والاسبوع تحول شهر والشهر سنة، تحسنت اوضاع ابيك ولكنه لم يتمكن من اعادة الاموال لادهم لأنه ما ان يفعل ذلك سيخسر الصفقات التي عقدها، وادهم لم يطالبه بها يوماً وتحمل حياته المتدهورة فقط كي يساعده.

اخذت نفساً سريعاً واكملت بعدها:
- حين مات عاصم لم تكن صدمة فقط بالنسبة لك ولأمك انه تنازل عن كل شيء لادهم بل وحتى لنا، فعاصم لم يخبرنا بأمر تنازله هذا.
ثم اشارت له بذقنها نحو الملف الذي بيده:.

- بالتأكيد انت لم تقرأ وصية ابيك مسبقاً وامك جعلتك تقرأ التنازل فقط. ولكن يمكنك قرأتها الان بتمعن هي وبقية الاوراق. انها تحوي اعتذار بخط ابيك لادهم لأنه جعله يعاني طوال هذه الفترة وانه يتمنى ان يتمكن من تعويضه بأقرب وقت وان لم يتمكن فهو لايريد ان يموت وضميره غير مرتاح اتجاه اخيه وقدم له كل شيء مثلما اخيه فعل وهو واثق تمام الثقة ان اخيه سيحافظ على حق ابنه ولن يحرمه من شيء!

ثم نظرت بأحتقار نحو نرمين التي انخطف لونها تماماً واكملت:
- وقد قرر ادهم هذا، قرر انه مهما طور من شركة ابيك فأنه سيقسم الارباح بشكل متساوي ما بينك وبينه وفي المستقبل ستكون نصف الشركة بأسمك والنصف الاخر بأسم ميرنا، نحن لم نسرق حقك. ولكن والدتك فعلت ذلك بنا!
اعادت ابصارها نحو يوسف الذي كان كالجثة الهامدة بالكاد يتمكن من التنفس او ان يطرف بعينيه:.

- عشت انت وامك معنا - واظنك تذكر تلك الايام- فتفاجئت ذات يوم ان والدتك قد وكلت محامي وجمعت اوراق سخيفة تحاول ان تثبت من خلالها ان ادهم زور اوراق التنازل وتريد استعادة كل شيء!
نظر فوراً بحدة وعدم تصديق نحو امه التي نظرت اليه بتوجس ثم اعادت نظراتها نحو سلوى فوراً وهي تقول بعصبية:.

- كان من حقي ان اشك بالامر وانا ارى ان زوجي لم يترك لي اي شيء لا لي ولا لأبني. تعرفين جيداً اني وكلت المحامي لأعرف الحقيقة اكثر من كوني اريد توريط ادهم!
لتجيبها سلوى بعصبية متبادلة:
- لقد اردت سلب كل شيء منا لو ان الفرصة سنحت لكِ فقط!
- كان من حقي فعل ذلك كي استعيد حق ابني!
-وانا كان من حقي ان ابعدك عنا كي لا تتطاولي على حق ابنتي!
- ميرنا ليست ابنتك فلا تتقمصي شخصية الام الحنون!

وهنا نهضت سلوى من مكانها تكاد تنقض على نرمين وتفترسها وهي تهتف بها بسخط:
- بل ابنتي. وستبقى كذلك. وسأفعل اي شيء لأحافظ عليها وعلى حقها!
وقبل ان تجيبها نرمين بشيء اخرس صوتهما ضربة يوسف العنيفة فوق سطح المكتب وصرخته بأعلى صوته:
- هذا يكفي!
صرخة لربما ستكون كافية لكسر زجاج المكتب، صرخة تحمل كل آلم قلبه وصحوته المتأخرة!
اطرق رأسه من غير تعليق اخر واحاطه بقوة بين يديه وكأنه يمنعه من التناثر.

ثواني مرت على المكتب لاشيء يُسمع منه سوى بعض اصوات انفاسهم الغاضبة فكسرت سلوى هذا السكون وهي تسحب حقيبتها بهدوء وتقول موجهة حديثها ليوسف:
- السبب الاساسي الذي دفعني لأقول ما قلت هو لكي اجعلك تعيش الجحيم ذاته الذي تجعل ميرنا تعيش فيه الان، هذا ان كان لايزال لديك بعض الضمير الذي سيصحو بعد ما عرفت الحقيقة!
ثم وجهت ابصارها نحو نرمين لتكمل:.

- جميعنا اذنبنا. وجميعنا اخطئنا بحق بعضنا، ولكن ميرنا هي الوحيدة من تحملت نتائج اخطائنا هذه!
وتركت المكتب من دون اي كلمة اخرى. تركت المكتب بهدوء ولكن ذلك البركان الهائج في صدر يوسف قد استيقظ ليقلب كل شيء رئساً على عقب، ولكن هل سينفع الندم بعد صحوة ضميرنا المتأخر؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة