قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية أربعة شكلوا حياتها (سنابل الحب ج2) للكاتبة منال سالم الفصل السابع عشر والأخير

رواية أربعة شكلوا حياتها (سنابل الحب ج2) للكاتبة منال سالم الفصل السابع عشر والأخير

رواية أربعة شكلوا حياتها (سنابل الحب ج2) للكاتبة منال سالم الفصل السابع عشر والأخير

سردت لمار لوالدتها ما حدث معها بداخل قاعة الدراسة، فعاتبتها قائلة بصوتها الهاديء:
-إنت المخطئة!
نظرت لها بأعينها الدامعة وهي تهتف معترضة: -أنا؟!
هزت رأسها إيجابيا وهي ترد قائلة بصوتها الحاني: -نعم، لأنك من البداية تعاملتي معه بأسلوب لا يليق!
انفعلت قائلة بصوت مرتفع وهي تلوح بيدها: -ولكني ظننت أنه كغيره، ي. يريد أن يعاكسني وآآ...

قاطعتها بنبرة جادة وهي تنظر لها بإستنكار: -لا بنيتي، أنت داخل جامعتك، كيف يمكن لشخص بتلك المواصفات والهيئة أن يعاكس طالبة مثلك!
-هه
ثم أضافت قائلة بنفس النبرة: -هو أستاذ جامعي، لديه أخلاق وفضيلة، ومن غير اللائق أن ينحط تفكيره، أو يفكر بطريقة سيئة كما تظنين!

لم تجب عليها بل ظلت تغمغم بخفوت مع نفسها، فتابعت والدتها قائلة بجدية: -حبيبتي لا تتعجلي في حكمك على غيرك، وتريثي قليلا، وعامة لا داعي للوقوف عند ما حدث كثيرا، وواظبي على دراستك!
ردت عليها بنبرة متذمرة وهي تتجه نحو غرفتها: -إن شاء الله، سأحاول
وحينما أتى الميعاد التالي لتلك المحاضرة، كانت لمار من أوائل المتواجدين بالقاعة.
كانت تتعمد أن تدس رأسها في الكتاب حتى لا تطالع أي أحد.

هي ستعمل بنصيحة والدتها، ولن تتواجه معه أو مع غيره.
سمعت هي صوته يصدح في الميكروفون الداخلي مرحبا بالجميع، فظلت مطرقة لرأسها. متحاشية النظر نحوه، وبدأ هو في الحديث عن موضوع اليوم، ولكن سريعا ما رفعت رأسها حينما سمعته يهتف بإسمها قائلا:
-والآن. هلا إنضمت إلي الآنسة لمار الحسيني!
صعقت لمار من إعلانه لإسمها على الملأ، واتسعت مقلتيها بذهول، وفغرت ثغرها مصدومة.

وتسائلت مع نفسها بتلهف كيف عرف أسمها وهي لم تخبر أي أحد بهذا، وهي لم تصادق أحد ليبلغه عن هويتها. فكيف توصل إليه اذن؟
ظلت تتسائل في حيرة واضحة. و لم تفق من حالة الإندهاش الشديدة التي سيطرت عليها إلا حينما كرر إسمها مجددا، فتجمعت الأنظار حولها. وحاصرتها بترقب شديد.
رمشت بعينيها، وإبتلعت ريقها متوترة.

إبتسم عبد الرحمن وهو يتابع اضطرابها وخجلها المصاحب. ثم قال بجدية: -لن نضيع وقت المحاضرة في إنتظار تشريفك لنا آنسة لمار!
ثم أشار لها بيده وهو يتابع قائلا: -هلا أسرعتي قليلا؟
نهضت لمار من مكانها والإضطراب يسيطر على كيانها، كذلك شعرت بإرتجافة قوية تسري في جسدها وهي تخطو بين الجميع لتصل إليه، وتقف إلى جواره على المنصة.

كانت تشعر بعشرات الأعين المسلطة عليها وتخترق عظامها، وتراقبها بتفحص – وأيضا في صمت - وكأنها فأر تجارب.
ارتبك تفكيرها، وعجزت لوهلة عن النطق.
وظلت مطأطأة لرأسها، ومتوردة الوجنتين وهي تقف على مقربة منه. لقد هربت الكلمات من على طرف لسانها، وأصبحت كفاقدي حاسة النطق.
تأمل عبد الرحمن هيئتها المحرجة، ونظر لها بإعجاب، فقلما يرى فتاة تستحي، وتابع حديثه قائلا بصوت قوي:.

-في البداية، أريد أن أعتذر من الآنسة لمار لإحراجها المحاضرة الماضية أمامكم!
رفعت رأسها لتنظر مباشرة له دون أن تطرف عينيها، وفاغرة شفتيها في ذهول أخر عجيب.
ثم هتف قائلا بهدوء وهو يشير لها: - وحقيقة! لم أكن أتوقع حضورك اليوم!
تسائلت مع نفسها هل هو حقا يعتذر لها، أم أنها تتوهم ما تسمعه.
لا يمكن أن يكون الأمر حقيقيا، ربما هي تحلم بهذا.

تأمل هو حالة الصدمة المسيطرة عليها كلية، فإبتسم لها إبتسامة عذبة، وأضاف قائلا بصوته الهاديء:
-وصدقيني لم يكن الأمر شخصيا، ولكني أحب أن ينتبه الجميع للشرح، لذا أعتقد لا يوجد بينا ضغائن الآن!
ظلت على حالتها المصدومة، ولم تعقب.
الأمر حقيقي إذن. هو يعتذر لها، وأمام الجميع كما أحرجها من قبل أمامهم.
لوح عبد الرحمن بيده أمام وجهها بعد أن لاحظ شردوها، وهتف قائلا بعد أن أبعد الميكروفون عن وجهه:.

-آنسة لمار، هل أنت معي، يمكنك العودة إلى مكانك الآن!
رمشت بعينيها أمامه، وإزدادت الحمرة في وجنتيها، وابتسمت له مجاملة، وركضت سريعا في إتجاه المدرج.
سمعت صوته يأتي من خلفها هاتفا: -والآن نعود إلى حيث وقفنا.
حانت منها إلتفاتة للخلف لترمقه بنظرة سريعة قبل أن تتوارى عن أنظاره لتجلس في مكانها المعتاد بالخلف.

حقا هي لم تصغ إلى كلمة واحدة مما قالها، فعقلها مشغول بالتفكير فيما فعله أمام الجميع. ظنونها حوله كانت خاطئة، ورأي والدتها كان الأصوب. هي تتسرع في الحكم على الأخرين، وعليها أن تتعامل بإحترام مع الغير حتى يبدو العكس.
إنتهت المحاضرة، وإنصرف الجميع وظلت هي جالسة في مكانها.

لم يكن عبد الرحمن قد إنصرف بعد، فرفع عينيه مصادفة للخلف، فوجدها جالسة في مكانها، ومسندة لرأسها على مرفقها، فضيق عينيه في إستغراب، وتحرك نحوها...
وقف إلى جوارها، وتأملها للحظات، فوجدها بالفعل شادرة في عالم أخر، لا تدرك أنها باتت بمفردها في القاعة، وهو متواجد معها، لذا سألها بصوت آجش:
-ما الأمر آنسة لمار؟

انتفضت لمار فزعة على إثر صوته، وشهقت مذعورة، وتعجب هو من حالة الرعب التي تشكلت على قسمات وجهها، فأردف قائلا بمزاح:
-لست بشبح، فلا تخشيني!
أغلقت شفتيها بحرج، وإكتسى وجهها بحمرة خجلة، وردت عليه بصوت محتشرج: -معذرة، أنا. أنا لم أقصد، ولكني آآ...
قاطعها بصوته الرخيم قائلا: -إنت شاردة من برهة، والمحاضرة انتهت!
تلفتت حولها، وأدركت أن القاعة فارغة إلا منهما، فقالت بحرج: -هاه حقا، لم اعرف هذا.

-لأنك لم تكوني معنا منذ البداية
أجفلت عينيها في حياء واضح، وقالت بخفوت: -اعتذر منك
اتسعت إبتسامته، وتابع بمزاح: -يبدو أن هذا هو اليوم العالمي للإعتذار
إبتسمت لطرفته، وأطرقت رأسها لتهم بجمع متعلقاتها الخاصة. فتابع هو حيائها الواضح بإعجاب، وسألها بإهتمام:
-هل لديك محاضرات أخرى اليوم؟
ردت عليه دون أن تنظر له قائلة بجدية: -نعم. فأنا متواجدة هنا حتى الرابعة عصرا
-عظيم، وأنا كذلك.

رفعت عينيها نحوه لتنظر له بإندهاش، وفاغرة ثغرها ب: -هاه
-أرجو أن تمري على مكتبي قبل أن تنصرفي، أريد أن أسألك في أمر ما
-ولكن آآ...
قاطعها بجدية وهو يشير بكف يده: -لن أقبل بالرفض. أراك لاحقا!
ثم تركها وإنصرف خارج القاعة، وتابعته هي بنظراتها الحائرة، ولم تكف عن سؤال نفسها ب:
-ما الذي يريده مني؟

طوال المحاضرات التالية ظل عقل لمار مشغولا في تلك المسألة التي يريد أن يتحدث معها فيها حتى حان موعد اللقاء بينهما.

طرقت لمار على باب غرفة مكتبه، فسمعت صوته يسمح لها بالدخول، فدلفت إلى الداخل وهي على استحياء شديد.
ابتسم عبد الرحمن لرؤيتها، وأشار لها بكف يده لتجلس على المقعد المقابل لمكتبه قائلا بصوت رخيم:
-تفضلي، في ميعادك بالضبط
ابتسمت له مجاملة وهي تجيبه بنعومة: -شكرا لك
سألها بإهتمام واضح وهو عاقد لكفيه على سطح مكتبه: -كيف كان اليوم معك؟
تنهدت في تعب وهي تجيبه بصوت شبه ضجر: -مرهق نوعا ما.

-هذا أمر طبيعي في الدراسة
-أها
تنحنح عبد الرحمن بصوت خشن قبل أن يتابع قائلا: -آنسة لمار، ربما أنت الآن تتسائلين في نفسك عن سبب استدعائي لك
حدقت به دون أن تنبس بكلمة، فأضاف قائلا بصوت هاديء: -حسنا، الأمر وما فيه أني أحتاج لمساعدة من عدة طلاب لتنفيذ فكرة خاصة بالمؤتمر العلمي الرابع للكلية. فأردت أن أسألك إن كانت لديك الرغبة في الإنضمام.

ردت عليه بتوتر واضح في نبرة صوتها ب: -لا مانع لدي، ولكني أخشى ألا أكون ذات فائدة كبيرة، فمعرفتي ضئيلة مقارنة ب آآ...
قاطعها بجدية وهو يشير بيده: -صغير أو كبير، فالكل له دور في هذا المؤتمر
إضطرب صوتها وهي تبرر رأيها قائلة: -أنا أقصد أن أجهل بما تريده مني
نظر له بوجه خالي من التعبير، وأجابها بصوت واثق: -سأحدد المطلوب منك ومن كل شخص في مجموعتي حتى أضمن سير كل شيء وفق البرنامج الموضوع لمشروعي!

هزت رأسها في إقتناع وهي تجيب بإيجاز: -حسنا
سألها بجدية وهو يميل بجسده للأمام: -هل نحن متفقين إذن؟
هتفت دون تردد بحماس: -نعم
إتسعت إبتسامته الفرحة قائلا: -على بركة الله، وهذه ورقة العمل يا آنسة لمار
تناولتها من يده، وأجفلت عينيها وهي تجيبه بخفوت: -شكرا
وعلى مدار الأيام التالية، عملت لمار مع فريق العمل المشترك في المشروع العلمي، والذي يرأسه عبد الرحمن، وتجمع أعضاء الفريق في معمل خاص بهم.

كذلك إزداد التواصل بينهما بدرجة واضحة. ولاحظت إهتمامه الكبير بها، وسؤاله الدائم عن أحوالها، وكذلك تحمسه لمعرفة أمورا أكثر خصوصية عنها.
ولم تمانع هي في إعطائه تفاصيل تخص حياتها، فقد رحبت بوجوده في حياتها.
وكانت تسرد لوالدتها أولا بأول بحماس جلي في تعبيراتها عن تطورات المشروع.

ولكنها كانت تحذف الأجزاء الخاصة بإهتمام عبد الرحمن بها حتى لا تنهرها أو تعاتبها أو تفسر المسألة بطريقة خاطئة. فقد كانت ترى الأمر من منظور إهتمام الأستاذ بطالبته المجدة. وحاولت أن تحافظ على تلك النظرة حتى لا يتطور الوضع معها.

إجتهدت لمار كثيرا في هذا المشروع، وقضت وقتا مطولا في البحث عن جميع ما يخص تفاصيله الدقيقة لتظهر لأستاذها أنها استحقت ثقته وتقديره.
وبالفعل رأى عبد الرحمن نتائج إجتهادها. وأثنى عليها. ومدحها أمام الجميع، فشعرت بأنها على القمة في حضوره.
كذلك كان دائم الإشادة بها في المحاضرات التي تجمعهما سويا فشعرت بالزهو والفخر بنفسها.

وحرص على مناقشة غالبية التفاصيل معها، ولم يكف عن أخذ رأيها في بعض الأمور. ورغم الغموض الذي كان يسود حياته الشخصية بصفة عامة، إلا أنها كانت معجبة بتركيبة شخصيته...
نعم فقليل من الناس يعرف عنه تفاصيل حياته الخاصة. وهو لا يتطرق إليها أبدا، ولا يتحدث عنها أمام العلن. فهو من تلك النوعية التي تفصل بين عملها وحياتها.

ومع هذا كان يعطيها هي الإستثناء لتبدي رأيها فيما يريد، وتسأله عن أي شيء. ولكنها لم ترد إفساد علاقتهما معا بسؤاله عن حياته الخاصة...
ورويدا رويدا تبدلت نظراتها له من الإعجاب إلى أكثر من هذا، وأصبحت تراه بصورة أخرى تداعب أحلامها، وتتوغل داخل أعماق روحها.

لم تنكر أنها قاومت هذا الشعور كثيرا حتى لا تنجرح مرة أخرى، وحافظت على أسلوبها في التعامل معه، ولكن نظراتها كانت تفضح أمرها. فهي قد تعلقت به، وأسلمت قلبها لحبها له
وحينما لا تلتقي به، تجلس لساعات مطولة أمام شاشة حاسوبها تراقب صفحته الشخصية، وتتطلع إلى صورته.
تنهدت في هيام وهي تحدث نفسها قائلة: -كم أنت رائع يا عبد الرحمن! هيئتك، وطريقتك، وأسلوبك في الحديث!

مسحت بأناملها على صورته الضوئية، وتابعت بهمس: -كم أود أن تكون زوجي، فأنا تعلقت بك يا حبيبي!
تنهدت بحرارة أكبر وهي تتقلب على فراشها، وأضافت بخفوت: -آآآه. كم أعشق تلك الغمازة التي تتشكل على وجهك حينما تضحك، يا الله! لم أظن أني سأقع في الغرام معك، أنت الذي تشاجرت معه، يا ليتك تشعر بي!
ثم أغمضت عينيها لتظل صورته عالقة في ذهنها، وتصاحبها في أحلامها الوردية معه...

أصبح شعورها بالغيرة واضحا عليها حينما انضمت عضوة جديدة لفريق العمل - والتي كانت تدعى رضوى - حيث كانت جميلة بدرجة كبيرة، وحسنة المظهر، ورائعة في تعاملاتها الإجتماعية. فكسبت صداقة الجميع في وقت قليل.
فتملك لمار الضيق والغضب، وبذلت جهدا مضنيا لتبدو طبيعية، ولكن إنفعالاتها الغير مبررة كانت تظهر العكس. فرؤيتها مع أستاذها الذي تعشقه يثير جنونها وحنقها.

وما وضعها على حافة الجنون هو تبادلهما للضحكات والمزاح وكأنهما حبيبان مرتبطان.
نعم، فمن يراهما معا يظن أنهما يشكلان ثنائيا مرحا.
كذلك تراجع أدائها في المشروع الخاص بالمؤتمر، وكثرت أخطائها. فتركيزها إنعدم بدرجة ملحوظة بسبب متابعتها المستمرة للإثنين.
وعللت هذا بالإرهاق البدني الذي إنتابها مؤخرا. ورغم هذا تقبل عبد الرحمن أعذارها. وطلب منها بهدوء:.

-ارتاحي لمار، لا ترهقي نفسك كثيرا، فراحة العقل والبدن ستجعلك تصلين إلى النتائج بسهولة، لكن العمل المستمر سيجعلك تغرقين في دوامة الإرهاق، لذا اعطي لنفسك فسحة
إبتسمت له لتفهمه هذا، وردت عليه بإمتنان: -شكرا لك على نصائحك الغالية، سأتذكر هذا دوما
رمقها عبد الرحمن بنظرات مطولة وهو يضيف بصوت خافت: -أنا موجود لأجلك لمار.

تهللت أساريرها عقب عبارته الأخيرة، وخفق قلبها أكثر، وشعرت بالسعادة الغامرة تجتاحها. فبكلمة واحدة أعادها للحياة، ونسيت شعور الغيرة الذي كان يذبحها ببطء.
نعم فهو موجود لها ولأجلها فقط. فأي سعادة بعد هذا...

وذات يوم تشاجرت لمار مع رضوى بدون سبب مقنع، فقط لأنها رأتها ممسكة بهاتف عبد الرحمن المحمول، وتعبث به وكأنه ملكية مطلقة لها، فأصابتها بالغيرة الشديدة، لذا تصيدت الأخطاء لها، وتعللت بوجود خطأ فادح في المشروع، وعمدت إلى إهانتها بصورة فجة.
وأردفت قائلة بتعجرف وهي ترمقها بنظراتها الإحتقارية والنارية في آن واحد: -من تظنين نفسك، أنت مجرد فرد غير أساسي في الفريق!

نظرت لها رضوى بإستغراب، وهتفت محتجة: -يا لمار، لماذا كل هذا الصخب؟ أنا فقط أقول رأيي، هذا لا يصلح، وأنا عند رأيي!
صاحت بها بإهانة صريحة وهي تحدجها بتلك النظرات الحادة: -أنت جاهلة
رفعت رضوى إصبعها أمام وجهها، وهتفت محذرة ب: -من فضلك، إحذري لسانك معي، وإلا. آآ.
تحركت لمار خطوة أمامها، وأردفت قائلة بتحد سافر: -وإلا ماذا؟ هيا قولي؟ أتظنين أني سأخاف منك؟!
-ما الذي يحدث هنا؟

قالها عبد الرحمن بصوت جهوري وهو يتجه نحوهما
هتفت رضوى قائلة بضيق: -انظر يا أستاذ عبد الرحمن، لمار تنعتني بالجاهلة
فغر فمه مشدوها ونظر في إتجاه لمار متسائلا ب: -ماذا؟
ردت عليه لمار بصوت محتد قائلة: -هي من استفزتني لقول هذا!
إحتجت رضوى على ذلك الإتهام الباطل، وصاحت معترضة ب: -أنا؟ حرام عليك لمار، أنا لم أخطيء في حقك، بل كنت أقول رأيي بكل أدب.

ردت عليها لمار بتذمر وهي ترمقها بنظراتها المحتقنة: -وهل أنا من افتعل هذا كله؟
صاح بها عبد الرحمن بصوت أمر قائلا: -كفى لمار!
صمتت كلتاهما، ونظرت إليه لمار بحزن وهو يتابع قائلا بصرامة: -هذا غير مقبول على الإطلاق أن يساء إلى أن فرد هنا، لا مانع إن اختلفتما في الرأي، ولكن لن أقبل أن يهان أي أحد في حضوري أو غيابي!
اعترضت لمار على عبارته، وقالت متذمرة: -ولكن هي من بدأت.

رمقها بنظرات شبه حادة وهو يسألها بتهكم: -وهل أنت طفلة في حضانة لتتذمري من غيرك؟
فغرت شفتيها مصدومة من جملته الأخيرة، وإنقبض قلبها بصورة آلمتها بسبب أسلوبه الحاد معها وكأنها إرتكبت جريمة بشعة في حقه، وتسائلت بإندهاش:
-ماذا؟
صاح بها بصوت جاد، ونظراته المحذرة تحاوطها قائلا: -انضجي يا لمار، وتعاملي مع رفاقك بأسلوب أفضل، أنت الكبيرة هنا!

مطت شفتيها في عدم إقتناع، هل هي المذنبة الآن بعد أنقضت ساعات وأيام محاولة اثبات أنها تستحق ثقته، وتلك الجديدة تظفر بكل شيء في لحظة. لذت هتفت بإستنكار واضح من رده ب:
-حقا، وماذا عنها؟
رد عليها بجمود دون أن تهتز عضلة واحدة من وجهه: -هي لم تتعرض لك من البداية، ومن الأفضل أن تعتذري لها فورا!

رمشت بعينيها لأكثر من مرة، وتسائلت في نفسها ب: -هل هو جاد فيما يقول، هل يريدني أن أعتذر منها، أنا أتوهم هذا، لا يمكن أن يطلب مني أن أعتذر.
انفرج ثغرها بذهول وهي تردد: -نعم! أعتذر لها؟!
أجابها بصلابة وهو يشير بإصبعه: -طبعا، فأنت البادية
ضربة أخرى تلقتها لمار في قلبها، هو يدافع عن رضوى ولا يعبأ بها، فقررت ألا تستسلم لرغبته تلك.

نعم سترفض حتما ما يريد، أيعقل أن تفعل هذا، وهي التي كانت تلبي ندائه وقتما يريد؟
لذا عقدت ساعديها أمام صدرها، وأشاحت بوجهها للجانب وهي تجيبه بعناد: -أسفة، لن أعتذر لأحد.!
أردف هو قائلا بصرامة شديدة لم تعهدها منه: -وأنا لن أقبل بوجودك ضمن الفريق ما لم تعتذري لها
أرخت ساعديها، ووضعتهما في منتصف خصرها، ونظرت له مذهولة من رده الصارم، وهتفت محتدة ب:
-إذن أنا سأنسحب، ولن يمنعني أحد!

لوح بيده وهو يرد عليها بعصبية: -مع السلامة، ومشكورة على مجهودك الفترة الماضية
فغرت شفتيها بصدمة أكبر. واتسعت عينيها مذهولة، لقد وافق على إنسحابها بسهولة دون أن يبدي إعتراضه، وهي التي ظنت أنه سيتمسك بوجودها معه.
تدخلت رضوى سريعا في الحوار بعد أن ساءت الأمور، وإحتدت المناقشة، وقالت برجاء:
-أستاذ عبد الرحمن لا داعي لتكبير المسائل، أنا متنازلة عن حقي!

هز رأسه معترضا، و هتف قائلا بجدية واضحة: -لا يا رضوى، عليها أن تتعلم احترام مشاعر الغير!
كانت تلك أخر عبارة سمعتها منه قبل أن توليهما ظهرها، وتلتقط حقيبتها، لترحل مبتعدة من المكان وعبراتها تسابقها في الإنهمار...

عادت لمار إلى المنزل، وظلت حبيسة الغرفة لساعات وساعات تبكي بحسرة على ما حدث.
لعنت غيرتها التي دفعتها لإرتكاب تلك الحماقة. فلو تحكمت في أعصابها أكثر ما كان وبخها بعنف أمام الغير.
عاتبت نفسها بقسوة وهي تضرب الوسادة بكفها، وقالت بغضب وهي تصر على أسنانها: -أنا غبية، غبية! ما كان يجب أن أنفعل عليها، أنا المذنبة في هذا، وهو لديه حق!

كورت قبضتيها في ضيق واضح، وتابعت بغيظ: -أووف، لو كنت أعتذرت لها لأصبحت قرة عينه، ولكني أفسدت الفرصة بيدي. يا لحماقتي!
كفكفت عبراتها، وعقدت العزم على أن تنسى هذا الأمر، وتعود للفريق غدا، وكأن شيئا لم يحدث...
أخذت نفسا مطولا، وحبسته في صدرها، ثم زفرته على مهل، وأردفت قائلة بحسم: -نعم، لن أتخلى عنك بسهولة!

وبالفعل ذهبت في اليوم التالي إلى المعمل، ولكنها تفاجئت برضوى تمنعها من الدخول، فإستشاطت غضبا، وصاحت بإصرار ب:
-أفسحي الطريق
هزت رأسها معترضة وهي تجيبها بصوت هاديء: -أسفة، ولكن الأستاذ عبد الرحمن هو من أوصى بمنعك من الدخول
هدرت بعصبية وهي تحاول المرور للداخل: -أنت كاذبة!
-رضوى، من فضلك انضمي لرفاقك ودعي الأمر لي مع لمار
قالها عبد الرحمن بصوت مرتفع وهو يسير بخطوات ثابتة في إتجاه باب المعمل...

إستدارت رضوى برأسها نحوه، وردت عليه بخفوت: -كما تريد أستاذ عبد الرحمن
وقف عبد الرحمن قبالة لمار، وعقد ساعديه أمام صدره، ونظر له بحدة. فأجفلت هي عينيها في حرج، وأردفت بتلعثم:
-أنا. أنا أريد أن آآآ...
قاطعها هو بصوت جاد وهو يرمقها بنظراته القوية: -انتظري لمار لايمكنك العودة للفريق!
برقت عينيها بلمعان واضح وهي ترجوه قائلة: -ولكني جئت اليوم لكي أشاركك، أقصد لكي أشارك في المشروع، لقد تعبت كثيرا فيه.

أرخى ساعديه، ورفع كفه في وجهها، وقال بصرامة واضحة: -لا يا لمار، الأمر لا يتعلق بالمشاركة في الفريق أو المشروع، ولكنه يتعلق بك
-هاه
أضاف هو بنفس الجمود الذي أصابها في مقتل: -لا أريد إحراجك، ولكن تراجع مستواكي مع الفريق في الأونة الأخيرة، وتجاوزت عن الكثير من أخطائك لأني أعرفك. ومع هذا أنت لم تقدري ما فعلته لأجلك.

ابتلعت ريقها بصعوبة، ودافعت عن نفسها بصوت مختنق قائلة: -أعلم أني كنت مقصرة، ولكن لدي أسبابي
لم ينظر لها هذه المرة، بل أدار رأسه قليلا، وأكمل بصوت جاف: -ليس هذا فقط، ولكن أسف إن قلت لك أني مللت تقبل أعذارك، لقد أصبحت تشكلين ضغطا علي، حقيقة أنا لا أعرف ماذا أقول!
كانت تلك هي الضربة القاسمة التي صرعت قلبها على الفور بعد أن اعتصرته بقسوة.

إنهمرت عبراتها عفويا وهي تسأله بصوت شبه باكي: -هاه، أنا. أنا أشكل ضغطا عليك؟
لم يتأثر بدموعها ولا بحالة الحزن الغريبة التي سيطرت عليها كلية، بل تابع قائلا بجمود:
-نعم، لم أتعود المجاملة، ولكني إكتفيت منك، من فضلك ارحلي، ولن أنسى مجهودك معنا، وسأكتب لك شهادة تقدير
توسلت له برجاء واضح وهي تشير بإصبعيها: -اعطيني فرصة فقط للتوضيح.

رد عليها ببرود وهو يزفر بضيق: -أسف لمار، لا حاجة بي للشرح أو التبرير، أنت اخترت الإنسحاب، وأنا أرى أن قرارك هذا أفضل للجميع
إزدادت إعتصارة قلبها، وهتفت متوسلة: -لا تفعل بي هذا
أجفل عينيه للأسفل، وتنهد بأسف وهو يجيبها بجمود: -هذا لمصلحتك، أراك في المحاضرة. آنسة لمار، مع السلامة
ثم أغلق الباب في وجهها بهدوء. فتسارعت أنفاسها اللاهثة، وشعرت بإختناق في صدرها.

لقد تخلى حقا عنها، وإنسحب بصورة نهائية من حياتها. ووقفت هي بمفردها في الرواق تعزي حالها.
لقد فقدته للأبد. وأصبحت بمفردها من جديد
سارت كالمغيبة تجر أذيال الخيبة ورائها حتى عادت لمنزلها.
رأتها والدتها سمية على تلك الحالة المؤسفة، فخافت عليها كثيرا، وسألتها متوجسة:
-لمار، بنيتي! ماذا حدث معك؟ أجيبني؟ لا تظلي صامتة هكذا
ردت هي على والدتها بصوت منكسر ب: -انتهى كل شيء يا أمي، انتهى.

سألتها سمية بخوف حقيقي قائلة: -ما الذي انتهى؟ أنا لا أفعل ما تقولين؟
أجهشت لمار بالبكاء وهي تجيبها بحسرة: -لقد رحل يا أمي، لقد مل وجودي، أنا أشكل عبئا عليه
فغرت سمية فمها مصدومة وهي تسألها قائلة: -من هذا يا لمار؟
دفنت لمار وجهها بين راحتيها، وتابعت قائلة بنشيج: -أنا الغبية التي ظنت أنه ليس كغيره، ولكني للأسف وقعت ضحية قلبي!

أزاحت والدتها يديها عن وجهها، وأمسكت بها منهما وصاحت بقلق: -يا لمار، رد علي، ماذا حدث؟
أغمضت عينيها لتنهمر عبراتها أكثر، وأضافت بصوت متشنج: -كم كنت حمقاء لأظن أنه لي. هو. هو كان مجرد رجل في حياتي!
صرخت فيها سمية بصوت مرتفع ويحمل التهديد الصريح ب: -لمار إن لم تتحدثي فورا سأذهب لكليتك لأرى ما المسألة، فيبدو أن للأمر علاقة بأستاذك.

فتحت لمار عينيها، وردت عليها بصوتها المختنق قائلة: -انتظري أمي، سأخبرك بكل شيء، فأنا لا أستطيع أن أكتم الحزن في قلبي تلك المرة
-أخبريني كل شيء
سردت لمار لوالدتها ما حدث معها منذ بداية انضمامها للفريق العلمي حتى انسحابها منه، وكذلك عن مشاعرها التي تطورت بشكل مبالغ فيه ناحية أستاذها حتى تحولت إلى حب وغيرة
صدمت سمية بما سمعته، وحافظت على هدوئها حتى تحتوي إبنتها المعذبة بمرض البحث عن الحب.

لاحقا تمددت لمار على فراشها، ودثرتها والدتها بالغطاء، وجلست إلى جوارها، ثم مسدت على شعرها، وهمست لها قائلة بحنو كبير:
-بنيتي ليس من العيب أن نحب، ولكن الخطأ أن نسعى إليه من الباب الخلفي
صمتت لمار، ولم تعقب، فقد أرهق قلبها وتعذب كثيرا نتيجة إختياراتها الخاطئة في البحث عن فارس أحلامها الذي يحتوي حبها النقي.

تابعت والدتها حديثها الهاديء بصوت ناعم ولكنه حازم في نفس الوقت ب: -أنت تبحثين عن رجل يحتويكي، عن رجل تغديقين عليه بحبك العذب، وتسلمين قلبك بسهولة لكل من يجاملك بعبارة أو كلمة، وهذا هو أكبر خطأ وقعتي فيه، فالحب ليس هكذا، ولا يحدث كما تتخيلين.

ثم أخذت نفسا عميقا وزفرته على مهل لتكمل حديثها بهدوء ب: -الحب يأتي حينما تلتقين بالشخص الذي يسعى جاهدا ليكون معك في الحلال، للشخص الذي يطرق باب منزلك ليطلبك شريكة حياته، ولا يعبث معك أو يستهزأ بمشاعرك!
بكت لمار نادمة على ما فعلت. فأضافت والدتها بعتاب واضح: -لا تتعجلي الوقوع في الحب، ولا تختلقي أسبابا لتبرري رغبتك فيه، فمن تعجل حدوث الشيء عوقب بحرمانه. انتظري يا بنيتي!

نظرت هي لوالدتها بأسف حقيقي في عينيها، وقالت بحزن مرير: -قلبي يقتلني يا أمي، أنا أتعذب بالحب، أنا لا أستحق هذا!
أجابتها والدتها بهدوء قائلة: -أنت تعانين لأنك أخطأت من البداية
هزت لمار رأسها معترضة على الوسادة، وقالت وهي تبتلع تلك الغصة في حلقها:.

-لا يا أمي، أنا لم أخطيء حينما أحببت نادر وتعلقت به، انتظرته طويلا لكي يتقدم لخطبتي، ولكنك تعلمين ما حدث. لقد ظلمت في حبه، وحرمت منه! ولم أرتكب جريمة حينما ظننت أن أن، آآآ...
لم تكمل هي عبارتها، وأشاحت بوجهها للجانب، فمدت سمية يدها نحو وجهها، وأدارته ناحيتها، وقالت بجدية:
-اكملي، أنا مصغية لك
تنهدت لمار في آسى، ولكن آن الآوان لتزيح عن صدرها كل هم تحملته لوحدها. لذا أجابتها بحزن:
-أن أحمد يحبني!

ارتسمت علامات الدهشة على قسمات وجهها هي تصغي لإبنتها، وحاولت أن تظل هادئة وهي تسألها بإهتمام كبير:
-ومن أحمد هذا؟
-إنه. آآآ...
-أخبريني كل شيء عنه.
سردت لها بإيجاز حبها الزائف مع أحمد رسلان، وكيف أوشك على أن يوقعها في المحظور بإسم الحب.
أطرقت سمية رأسها في ضيق، وقالت بصوت شبه منزعج: -وكنت تسمين هذا حبا؟ هل الحرام أصبح مبررا للحب؟!
دافعت لمار عن نفسها بإستماتة قائلة: -والله لم أفعل أي شيء.

رمقتها سمية بنظراتها الصارمة وهي ترد عليها بهدوء رغم حالة الهياج الثائرة بداخلها ب:
-أتعلمين أنت ساذجة للغاية لأنك تظنين أن كل كلمة حلوة تقال هي حب
-كنت أعتقد أن اهتمامه بي حبا
خشيت سمية أن يكون حدث مع إبنتها الأسوأ، فسألتها مجددا بحذر وهي تكافح للحفاظ على هدوئها قائلة:
-وهل هناك أمر أخر تخفيه عني؟
ترددت لمار في الحديث، وظهر تلعثمها الواضح وهي تجيبها ب: -آآ، أنا. آآ.

رمقتها والدتها بنظرات أسفة. فإبنتها كانت تعاني الكثير، وتكتم في صدرها ما يؤلمها، ولم تشاركها هي كأم في أي شيء.
مسحت هي على وجه لمار، وأمرتها بجدية وهي تهز رأسها: -أجيبني لمار، لابد أن تتصارحي معي قبل أن تتصارحي مع نفسك، أنا أمك، سندك في تلك الدنيا
قصت عليها بإختصار شديد معرفتها بماجد المعالج الرياضي، وتعلقها به، وكذلك رفيقتها مريم، وعذوفه عنهما حينما تطرق الأمر للإرتباط الرسمي.

هزت سمية رأسها في إستهجان، وأردفت بإستنكار واضح: -كان إحساسي صائبا حينما قصصت علي قصة رفيقتك مريم، وأيقنت الآن أنها كانت تخصك أنت بالذات!
إزداد بكائها وهي تجيبها بندم: -خشيت أن أخبرك فتعاتبيني
ردت عليها والدتها بحسم ب: -أنا أمك، ولي كامل الحق في معاتبتك وتوجيه النصح لك!
أصدرت لمار أنينا واضحا وهي تردف قائلة: -وهو رحل مبتعدا وتركني أعاني من جديد
مطت سمية فمها للأمام في غضب.

هي تعلم أن نية ابنتها في الحب صافية، ولكن اختيارها للوسائل خاطيء، وعليها أن تدرك هذا حتى لا تتكرر المسألة بشكل دائم.
اخذت نفسا مطولا مرة أخرى، وزفرته على مهل لتكمل قائلة: -أنت تتعذبين لثقتك العمياء في أشباه رجال، وتسليمك لقلبك لمن لا يستحق
صاحت لمار باكية وهي تنظر لوالدتها بعتاب: -إذن أنا المخطئة في كل شيء، أنا المخطئة منذ البداية أيضا؟

نظرت لها سمية بنظرات قوية وهي تجيبها بهدوء حذر: -ربما لم تكوني السبب في البداية، ولكنك وجدت لنفسك المبررات لتخوضي تلك التجربة الخاسرة في كل مرة، ولم تتعلمي منها شيئا، فمع ظهور شخص جديد في حياتك، تعاودين الكرة، وتنسين وعودك لنفسك
هتفت لمار بصوت مختقن: -أريد أن أحب وأحب، ما العيب في هذا؟
ردت عليها بثبات واضح ب: -لا عيب فيه طالما كان على بينة
-أنا المذنبة إذن!

-حبيبتي لا تلومي إلا نفسك حينما تتسرعين في إختياراتك، وترين بنفسك نتائجها المؤسفة
أغمضت لمار عينيها في ندم واضح، وصاحت بيأس: -لن أثق بالحب أبدا
-ثقي به حينما يأتي إليك، ولا تسعي نحوه
هزت رأسها معترضة وهي تضيف بإحباط: -لا أريده نهائيا، لقد بات محرما علي. يكفيني كل تلك المرارة والإنكسار!
-صدقيني الأيام وحدها كفيلة لتمحو أثار الماضي!
-لا أظن هذا.

أردفت والدتها قائلة بهدوؤ يحمل التفاؤل: -بل سيحدث، وأنا أقول لك عن صدق، ولكن أريد منك الآن أن تعاهديني وتخلصي النية لله ألا تنجرفي وراء مشاعرك، وحينما تصدقي الله أولا، ونفسك في وعدك، سيأتي الحب ركضا نحوك!
نظرت لمار لوالدتها بندم حقيقي، ثم إعتدلت في نومتها، وأمسكت بكف يدها، ورفعته إلى فمها، وقبلته، وقالت بصوت خافت ومتحشرج:
-أعاهدك يا أمي؟ ولكن هل ستسامحيني على حماقاتي؟

تنهدت والدتها وهي تجيبها بشجن: -لا أنكر أني حزينة من تصرفاتك الطائشة، ولكني أمهليني بعض الوقت لأسامحك!
-حسنا يا أمي، وأنا أعاهدك.!
نفذت لمار وعدها، و أكملت دراستها العليا دون أن تخوض أي مغامرات جديدة تتعلق بالحب وقصصه.
وتعاملت مع غيرها بإحترام حقيقي. وتحاشت الحديث مع عبد الرحمن، واكتفت بحضور محاضراته والتركيز على الدراسة.

لاحقا عرفت أنه كان منفصلا عن زوجته، وعاد إليها بعد أن أنجبت له ابنا. فلم تصدم كثيرا، فقط إندهشت من تلك الحقيقة الغريبة، وبررت لنفسها بأنه كان غامضا فيما يخص أمور حياته، وحمدت الله أن قصتها معه إنتهت منذ فترة طويلة، وقبل الإمتحانات حتى تتمكن من أدائها بتركيز.
واستمرت على عهودها، ولم تقف عند أطلال الماضي كثيرا، وأصبحت قوية من أجل نفسها، ولم تعد ساذجة أو غبية لتنهار مع أول كلمة معسولة تقال لها.

نعم، لقد تخطت الأشهر التالية بثبات عجيب، وركزت على الحاضر. وشكلت شخصيتها الجديدة. أنثى قوية ناضجة، يتمتع عقلها بالرجاحة في إتخاذ قراراته، وبالتفكير المتريث قبل إصدار أحكام نهائية. وأصبحت على عهدها وفية، شابة صلبة تأخذ أمورها بجدية...
وكان لوالدتها أكبر الأثر في مساعدتها في بناء تلك الشخصية الجديدة التي تشكلت بفعل تجاربها مع هؤلاء الأربعة.

إجتازت لمار الإمتحانات بتقدير مرتفع، وسعدت والدتها بها كثيرا.
وقررت أن تقيم حفلة صغيرة لها إحتفالا بنجاحها تدعو فقط أقاربهما.
لم ترفض هي طلب والدتها، ورحبت بالفكرة كثيرا، فقد آن الآوان لتتصالح مع ماضيها، وتلتقي بخالتها وبناتها. فهي الآن أصبحت أكثر نضجا ووعيا عن ذي قبل.

أقيم الحفل في مطعم صغير، وتزينت لمار في أبهى صورة. حيث إرتدت فستانا رقيقا من اللون الذهبي الفاتح، مضبوطا عليها من الأعلى، وينسدل بإتساع متناسق على الجزء السفلي من جسدها. كما وضعت ( بروشا ) ذهبيا على طرف حجابها الذهبي فأضفى عليها جمالا. وإرتدت طوقا رقيقا حول عنقها. ووضعت لمسات رقيقة من مساحيق التجميل.
تجمع حولها معارفها وأقاربها. وكانت فخورة بنفسها وهي ترى ثمار إجتهادها الحقيقية.

ضمتها والدتها إليها، فهمست شاكرة في أذنها ب: -دمت لي نعمة في حياتي يا أمي
قبلتها سمية من وجنتها، وأردفت قائلة بفرحة حقيقية: -بنيتي، أنت جوهرتي الغالية، أسعدك الله دوما، وأراح قلبك
-اللهم أمين
أشارت والدتها بكف يدها للحاضرين نحو طاولة الطعام التي كانت مليئة بأشهى الأطعمة وهي تقول بحماس:
-تفضلوا جميعا، الطعام شهي
-بالفعل.

ربتت لمار على ظهر والدتها بإمتنان واضح، ثم قالت بصوت خافت: -عن اذنكم، سأذهب للمرحاض لأغسل يدي
أومأت والدتها برأسها، وأضافت بصوت هاديء: -لا تتأخري، ستأتي الكعكة بعد قليل، وكذلك مفاجأتي لك
ردت عليها بجدية وهي تبتسم لها: -دقيقة واحدة وسأعود يا غاليتي
ثم أخفضت رأسها، وسلطت أنظارها حيث تسير، ومرت بخطوات حذرة بين الحاضرين، ولم تسلم من تبادل القبلات ولا الأحضان من قريباتها.

لوحت بيدها لأحداهن وهي ملتفتة الرأس ولم تنتبه للقادم في طريقها، فإصطدمت به دون قصد، وأطرقت رأسها في خجل واضح وهي تقول بنبرة معتذرة:
-أسفة، لم أرك
-كيف حالك لمار؟
انتبهت هي إلى هذا الصوت الذي تعرفه جيدا، ورفعت رأسها ببطء لتنظر إلى صاحبه. وهتفت بإسمه غير مصدقة أنه يقف أمامها، وعلى مسافة قريبة للغاية منها:
-ن، نادر
إبتسم نادر لها بعذوبة، وهمس قائلا بصوت آسر: -مبارك النجاح يا لمار.

لم تفق هي من صدمتها بعد. وإعترت الدهشة خلجات وجهها وهي تسأله بذهول: -أنت! ماذا تفعل هنا؟
رد عليها بتلك النبرة التي إشتاقت لسماعها قائلا: -لقد جئت لأبارك لك بنفسي نجاحك
ظلت شفتيها منفرجتين في ذهول وهي تردد: -غير معقول
لم تتوقع هي أن تراه بعد تلك الفترة الطويلة، لقد كانت عودته مفاجأة صادمة بكل المقاييس.

وعاد لذاكرتها رؤيته لأول مرة في المصيف، وما حدث من تجاذب لأطراف الحديث، ثم رغبته في الإرتباط الرسمي بها، وإنتهاء الأمر بشكل مأساوي.
قطع هو تفكيرها بسؤالها بهدوء: -كيف هي أحوالك يا لمار؟
ابتلعت ريقها بإرتباك، فهي لن تنكر أنها مازالت تحتفظ له بمكانة خاصة في قلبها رغم مضي تلك المدة. فهو أول من طرق قلبها، وأول من أحبته بصدق، وأول من تذوقت طعم الحب معه. وكذلك الفراق.

أجفلت عينيها لتتحاشى النظر إليه وهي تجيبه بتلعثم: -أنا. أنا في أحسن حال
إلتوى فمه بإبتسامة هادئة وهو يكمل قائلا بجدية: -دوما يا رب، هل تأذنين لي أن أتحدث معك
رفعت عينيها نحوه لتنظر له بإستغراب، ثم سألته بإقتضاب وهي عاقدة لحاجبيها: -لماذا؟
تنحنح بخفوت، ثم أجابها بنبرة جادة: -أنا. احم. أنا أريد أن أتقدم لخطبتك!
إتسعت عينيها في صدمة، وهتفت بعدم تصديق: -ماذا تقول؟ تخطبني؟
قال لها مبتسما بعذوبة: -نعم.!

عجزت عن الرد عليه، وظل وجهها شاحبا مصدوما، وتسائلت مع نفسها بريبة واضحة. هل تتوهم ما تسمعه؟ هل عرض عليها الخطبة؟ هل هي تحلم؟ نعم الجواب لسؤالها الأخير هو التفسير المنطقي. هي تتخيل هذا الحوار.
-لمار. هل أنت معي؟ أنا أريد أن أخطبك!
ردد نادر تلك العبارة على مسامعها بصوته الساحر. فأفاقت من شردوها، وعبست بوجهها وهي تجيبه بصلابة:
-أسفة، أنا لا أتحدث في تلك الأمور بمفردي.

ثم تحركت للجانب لتبتعد عنه، فتحرك معها ليسد عليها الطريق بجسده، وسألها برجاء:
-انتظري لمار، أنا أريد أن أعرف رأيك على الأقل!
زفرت بإنزعاج وهي مطرقة الرأس، وقالت بجدية أشد: -نادر. من فضلك، أنا آآآ...
ثم سمع كلاهما صوتا أنثويا يأتي من الخلف بحماس جلي قائلا: -أرى أن المفاجأة لم تنتظر كثيرا
إلتفتت لمار برأسها للخلف لترى والدتها سمية تسير نحوها، فهتفت مصدومة: -أمي.

مط نادر فمه قليلا، وهز كتفيه وهو يردف قائلا بهدوء: -لم أستطع خالتي سمية، فكنت متشوق لرؤية لمار!
وزعت لمار نظراتها بينهما، وتسائلت بحيرة: -ما الذي يحدث يا أمي؟ أنا لا أفهم شيء!
تنهدت والدتها في فرحة وهي تجيبها بسعادة: -الأمر في غاية البساطة حبيبتي، لقد تقدم نادر لخطبتك منذ فترة، وأنا طلبت منه الإنتظار حتى تنتهي من إمتحاناتك وتظهر نتيجتك النهائية.

زاد إندهاشها بعد تلك العبارة الأخيرة، وهتفت قائلة بعدم تصديق: -كيف هذا؟ وقد آآ. وقد آآ...
قاطعها صوت ابنة خالتها رشا وهي تجيبها بصوت جاد: -لقد اعترفت له بالحقيقة يا لمار!
وكأنه يوم المفاجأت بالنسبة لها، حيث التفتت برأسها للجانب، وسألتها بنبرة مشدوهة
-أنت يا رشا؟
أومأت برأسها إيجابيا وهي تجيبها بثقة: -نعم، فهو لم يحبني يوما، وأنا توهمت حبه!

ثم نظرت رشا إلى نادر، وقالت بندم: -وأفسدت ما بينكما عمدا، فطالني ما أصابك، وتعلمت درسي جيدا!
وقفت لمار أمام المرآة تنظر إلى هيئتها وهي ترتدي فستان عرسها الأبيض غير مصدقة أن حلمها البعيد قد أصبح حقيقة الآن.
إرتسمت إبتسامة رضا على ثغرها وهي تتذكر كيف عانت حتى وصلت إلى تلك اللحظة الجلية.
حدثت نفسها بثقة واضحة قائلة: -الآن سأبدأ حياتي مع من اختارني بروية، وسأطوي صفحات الماضي في دفتر ذكرياتي المنسية!

لف نادر ذراعيه حول خصر لمار، ونظر لها بعشق بادي في عينيه، بينما تعلقت هي بعنقه، وتمايل الإثنين على نغمات الموسيقى الهادئة.
إلتوى فمه بإبتسامة عذبة وهو يهمس لها قائلا: -هل حقا كنتي تحبيني يا لمار؟
نظرت له بشغف وهي تجيبه بصوتها الرقيق: -كنت ومازلت يا نادر. وبحثت عنك في كل شخص ألتقيته!
أرخى ذراعه عن خصرها، ووضع كف يده أسفل طرف ذقنها، وإنحنى على جبينها، وتابع قائلا بجدية:.

-إنسي الماضي يا لمار، ودعينا نبدأ من حيث انتهينا
هزت رأسها نافية وهي تجيبه بثقة: -لا يمكنني أن أنسى الماضي، فهو شكل ما أنا عليه الآن،!
مال على أذنها، وهمس لها بصوت ساحر ألهب مشاعرها التي إشتاقت له كثيرا: -أحبك يا لمار
تنهدت بحرارة وهي تستمتع بصوته الذي يخترق كيانها لتزداد خفقات قلبها وهي تجيبه بهيام بائن في نبرة صوتها:
-وأنا أيضا يا نادر!

تمت
الجزء التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة