قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والثلاثون والأخير

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والثلاثون والأخير

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والثلاثون والأخير

حمل عدي الملابس من البائع، ثم خرج خلفها يكبت ضحكاته بتحكمٍ، فوجدها تخبر أخيه عن تغيره الصادم، ومازالت تصر على طلبها مرددةٍ: اطلبلي ياسين الجارحي فورًا!
أتاها صوتًا من خلفها يجيب: أنا هنا هل من شكاوي أخرى؟
استدارت رحمة للخلف بدهشةٍ انتقلت للوجوه بأكملها حينما وجدوا ياسين الجارحي يقف قبالتهم برفقة آية، فردد عمر بذهولٍ: بابا حضرتك بتعمل أيه هنا؟!

كادت آية بإجابته فسبقتها نور التي صاحت بغرورٍ: أنا السبب في تواجد الباشا وحرمه!
واسترسلت بعنجهيةٍ: بصراحة كده أنا اللي ألحيت على عمر يطلب من عدي يجيب رحمة تساعدني وفي نفس الوقت كلمت ماما آية وقولتلها تيجي تساعدني في اختيار اللبس، يعني كل ده مدبر ومخطط له من البداية.
رفع عدي أحد حاجبيه باستغرابٍ: أيوه كل ده ليه يعني؟
ردت عليه بابتسامةٍ رقيقة: عشان نفسي نتجمع كلنا كده بره البيت.

واستطردت على استحياء: أنا أسفة لو كنت عطلتلكم أو ضايقتكم بدون ما أقصد.
هنا تمرد عن صمته حينما قال ببسمةٍ هادئة تفتر على طرفي شفتيه: بالعكس أنا حبيت أننا نقضي وقت مع بعض، فكري بالطريقة دي دايمًا يا نور.
ابتسمت آية وأشارت لها باستفهامٍ: يعني خلاص اختارتي اللي يناسبك ولا لسه محتاجة مساعدتي؟
ردت عليها قائلة: رحمة ساعدتني وخلصنا. نطلع بقى على أي مكان نتغدى فيه ولا أيه؟

سألها عدي باهتمامٍ: حابين تتغدوا فين؟
حدجه ياسين بنظرة غامضة، اتبعها قوله الماكر: مكانك السري أنت ووالدتك، اللي بتهربوا ليه كل فين وفين!
برق بعينيه بدهشةٍ، فتطلع لآية فوجدها ترفع يدها وتهمس اليه: مبعرفش أخبي عنه حاجة!
قاطعهما عمر حينما تساءل بدهشةٍ: أيوه أيه المكان ده، وفين؟

مقاطعة أخرى كانت لصالح مليكة التي دنت منهم مسرعة ومن خلفها ياسين الذي يلحق بها، فتفاجئت بوجود العائلة لجوارها مما دفعها لتتساءل بقلقٍ: في أيه يا نور؟ قلقتيني!
اتجهت جميع الأعين تجاهها، فرفعت يدها وهي تشير لهم ببسمةٍ عريضة: كده كملنا ومعتش حد ناقص!

علي طاولة مستديرة في أحد الأحياء الشعبية، تدللت رائحة المشويات والطواجن الشهية، لتزقزق البطون الجائعة التي تشتهي لتذوق ما تتبعه تلك الروائح الطيبة، حمل الشاب اليافع العديد من الطواجن على صينية مستديرة، ثم اتجه للطاولة التي تضم عائلة من أشهر عائلات الطبقة المخملية، قد يجهل كنايتها هذا العامل، ولكنه اعتاد على تقديم واجبه على أكمل وجه للزبائن، فوضع الطواجن قبالتهم، ثم شرع بوضع المقبلات والخبز، غادر من امامهم ليترك الذهول يتمكن من بعض النظرات والصدمة من بعضهم، رمشت آية بعينيها بتوترٍ، ومع ذلك رسمت ابتسامة خافتة وهي تقرب منها أحد الطواجن مشيرة لزوجها: ده بقى الطبق المفضل عندي أنا وعدي، طاجن ورق عنب بالكوارع.

أسبل ياسين الجارحي بعينيه وتحلى برداء الصمت، بينما جذب عمر الطاجن وكان أول من تساءل بدهشةٍ وهو يتأمل الزيت الطاغي على سطح الطعام: بتأكلوا كمية الدهون دي ازاي!
جذب عدي احد الطواجن قبالته وشرع بتناوله وهو يردد: طعمه يغني عن التأملات!
جذبت نور الطاجن المقابل اليه، وبدأت بإلتهام أصابع ورق العنب الشهي، فأبدت اعجابها: أول مرة أدوقه بالكوارع بس طعمه جامد بصراحة.

وزع ياسين نظراته بين عدي وما وُضع أمامه، فجذب الشوكة القريبة منه ثم وضعها بأحدى الورقيات، وما كاد بتناولها فتوقف وسأل عدي بفضولٍ: الرياضة هتقدر تقاوم كمية السعرات دي؟
تناول ما بيده وهو يشير لابن عمه بغرورٍ: باين ان جسمي اتقصرت بيها؟
شرع بتناول طعامه هامسًا بقلقٍ: ربنا يستر!
مالت آية على كتفي ياسين، فوجدته لم يبدأ بطعامه، فتساءلت بحيرةٍ: مأكلتش ليه يا ياسين؟

منحها ابتسامة هادئة، قبل أن يجيبها: عشت عمري كله بحافظ على جسمي وصحتي، فأعتقد الموضوع محتاج تفكير.
منعت ضحكة كادت بالانفلات عنها، ثم قالت بإستنكار: أنا على طول بعملك ورق العنب!
جذب الملعقة ثم حمل ما يعلوه طبقه، مرددًا: بس مش بكمية الدهون دي!
ورفع عينيه إليه ليعاتبها بحدةٍ: وانتي ازاي كنتي بتأكلي الأكل ده. صحتك يا آية؟!

ارتبكت ولم تجد الا الحل الأمثل للهرب من طوفانه: أنا مش بأكل الاكل ده على طول كل فين وفين كده. وبسبب الحاح عدي.
سعل بقوةٍ وهو يحاول مضغ طعامه بعد سماعه ما قالت، فانتهى مما يتناول، ثم انتقل بمقعده اتجاه الجانب الأيسر لابيه، وقال وعينيه لا تفارق والدته: بتشديني لساحة حرب ياسين الجارحي ليه واحنا واخدين هدنة!

ضحكت بصوتها الرقيق، وجذبت طبقها، قائلة: مفيش مانع تدخل معاه حرب جديدة في سبيل ان ميزعجنيش وأنا بلتهم الطاجن المخصص ليا!
قرب وجهه منه أذنها، وهمس فيها بنبرة مثيرة: أنا ولا الطاجن؟

التفتت تجاهه فتقابلت عينيها بعسليته الآسرة، بدى ارتباكها جليًا لمن يتابعهما ببسمةٍ صغيرة، فتراجع ياسين للخلف ليعود لهيبة جلوسه الصارمة، وتابع حواره مع عدي، الذي انتصب بوقفته بعيدًا عن مقعده، فجذب طبقًا فارغ ثم سكب الزيوت الزائدة عن طاجن أبيه، وقدمه اليه وهو يشير له بمكرٍ: اتفضل حليت لحضرتك مشكلة الدهون.
وتابع ببسمة هادئة وهو يجذب هاتفه: لو حابب أبحثلك عن فوايد الكارع تساعدك في اتخاذ قرارك؟

منحه نظرة غامضة، قبل أن يجذب ما أمامه فدث شوكته بالطعام وبدأ بتناوله، راقبه عدي بتمعنٍ، فمال عليه ليهمس له: مش بطال!
ضحك وهو يشير له بما يحمله بشوكته: ده أفضل اختراع في التاريخ يا ياسين باشا.

ابتسم ياسين وهو يراقبه بحنانٍ، فقد طوال حياته أهم لحظات قد تجمعه بابنائه واليوم بفضل نور تجمعا ولأول مرة على طاولة واحدة، فحانت منه نظرة دافئة لها، ثم مررها جميعًا لابنائه، ابتداءًا من عمر الذي يتناول طعامه بخوفٍ ويضع كل ما يقابله على طبق نور التي تلتهمه بمرحٍ، ونهاية بياسين الذي يحاول اقحام مليكة بالأمر ورفضت ذلك بتصميم، ثم اخبرته: اطلبلي حاجة تانية يا ياسين، أنا مصدقت وزني نزل بعد الولادة.

مال عليها وهو يهمس لها بعشقٍ: ولو زدتي مية كيلو صورتك في عيوني عمرها ما هتتغير يا ملاكي!
وجذب بشوكته أحد أصابع الملفوف، ثم وضعها بفمها، فتناولتها على استحياءٍ وهي تردد بصوتها المنخفض: ياسين!
أجابها بهيامٍ: لما بتنادي اسمي مش هتنجحي تحظريني لشيء، لأني بفقد عقلي وكل تركيزي وعيوني مش بتشوف غيرك وقتها!

اصطبع وجهها بحمرة طفيفة، فوضعت المنديل الورقي أمام شفتيها، لتتصنع مسحها لفمها بينما تخبئ وجهها الأحمر، فرفعت عينيها لوالدها الذي يراقبها، فمنحها بسمة صغيرة من طرفي شفتيه، ابتسمت له مليكة ورددت بتوتر لمن جوارها: عجبك كده بابي بيبصلنا!

رفع ياسين رأسه تجاه ياسين الجارحي، فمنحه نظرة تحذرية بعدم الضغط على ابنته بتناول ما لا تحب، فتنحنح بخوفٍ مصطنع وهو يشير له بالطاعة، ثم أشار للعامل الذي أتى إليه، ليخبرها بانصاتٍ: اطلبي اللي تحبيه يا حبيبتي، عشان متتعبيش.

حافظ على الكمية المسموح لجسده بتناولها، وأبعد ياسين عنه باقي الطاجن ثم بدأ يتناول اللحم المشوي(الكفتة) بالخبز والسلطة الطازجة، راقبه عدي بتمعنٍ، فرفع ساعديه ليستند بفكيه، مخفيًا تلك الابتسامة العابثة، فلم يستطيع السيطرة على كلماته المندفعه على لسانه، فقال: صدقني الطاجن كله مش هيقصر على حضرتك؟

حانت منه نظرة خبيثة اليه، قبل أن يوجه اتهاماته الصريحة: أنت نفسك أفقد جسمي اللي فضلت طول السنين دي أبنيه، هتموت وتبني العضلات اللي عندي!
تأمله عدي بتيهةٍ، يحاول تفسير كلماته المبهمة رغم وضوحها، فانفجر ضاحكًا، وأشار له بصعوبة بالحديث: لا في دي حضرتك عندك حق.
ثم أشار لقميصه وهو يتابع: في عضلات محتاج أبرزها في جسمي عشان توصل لشكل جسم حضرتك.

لم يكف عن مراقبته لثوانٍ، مستمتعًا بمراقبته لعضل جسده البارز أسفل قميص حله السوداء، بعد رياضته العنيفة الذي اتخذها منهاجًا لحياته، فقال وهو يمنحه نظرة تسلية: محتاج لسه وقت.
استكمل عدي ما يلتهمه وهو يشير لابيه، مرددًا: فعلًا.

تابعه بعسليته وهو يستكمل تناول الدهون بالرغم من حديثهما المتشارك عن الرياضة والطعام الصحي لتو، فقال وهو يمنحه نظرة قاتمة تتوزع بينه وبين الطبق الذي يتناوله: واختيارك لنوعية الأكل.
ابتسم عدي وقال وهو يستكمل طعامه: أنا مش بأكل النوعية دي كتير، يعني كل ما زوجتك المصون تحب تيجي هنا بأخترق القوانين مش لأجلي لأجل ست الحبايب!
أفتر وجهه عن ابتسامة اتبعها قوله الساخر: لا بتضحي فعلًا!

أكد له وهو يتابع تناول طعامه: طبعًا يا باشا، بينما أنت منشغل بتمارينك الرياضية لمنافسة ابنك البائس هو منشغل بترضية والدتي.
تعالت ضحكاتهما الرجولية معًا والجميع يراقبهم باستغرابٍ، صوتهم منخفض للغاية ولم يستمع اليهما أحدٌ، انتهى عدي من تناول طعامه وفتح أحد الزجاجات الغازية، فراقبه ياسين بصدمة وأضاف: كمان؟!
ضحك وهو يرتشف القليل منها، مستكملًا حديثه: الأكلة دي لزمها حاجة نبلع بيها يا دنجوان!

غام بعينيه، فاعتدل بجلسته عاقدًا ذراعيه على الطاولة، متسائلًا بحيرةٍ: وصلك لقب الشقاوة ده منين؟
أجابه وهو يستكمل تناول مشروبه: من عمي يحيى.
وتابع قائلًا: متقلقش الشباب كلهم عارفين أمجادك السابقة، تقريبًا عمي حمزة مكنش له سيرة عنها طول فترة وجودي بالمقر.
انفرجت شفتيه عن ابتسامة، فوضع عدي الكوب عن يده، ثم دنى منه ليخبره بجدية تامة: النهاردة شوفت نفسي في ياسين ابني. ويمكن عذرت حضرتك كتير.

رفع أحد حاجبيه بدهشةٍ، فتابع عدي بإيضاحٍ: يعني خوفه على رحمة من غضبي، بالرغم من اني لو اتعصبت على الدنيا كلها بجي عندها وبكون حد تاني.
وقابله بنظرة غامضة، وهو يسترسل: نفس حضرتك تمامًا!
وابتسم وهو يتابع: ومع ذلك مكنتش متضايق منه أبدًا، بالعكس ابتسمت وانا بفتكر موقفي معاك اللي مكنتش قادر أفهمك فيها!

جذب ياسين كوب القهوة من العامل، ثم ارتشفه بتلذذ يشعر به بفرحة ما يستمع له بذاك الوقت المميز، فمنحه نظرة دافئة قبل أن يخبره: كنت عارف إن الوقت ده هيجي وهتقدر تفهمني.
ووضع الكوب عن يده، ثم التفت بجسده تجاهه وهو يحذره باشارة غاضبة: ياسين مش شبهك عشان ميختلطش عليك الأمر، حفيدي طالعلي وده شيء أنا واثق منه.
كبت عدي ضحكة كادت بالانفلات منه، وأكد له دون عناد: بالعكس أنا معترف بده.

كبتت رحمة ضحكاتها بصعوبة وهي تتابع مليكة الغير محتملة لنوعية الطعام المقدمة إليهم، فوضعت نور قبالتها القليل من (المنبار المحشي)، وأكدت عليها: متكتريش عشان الحمل.
حدجتها بنظرةٍ ساخرة قبل أن ترد: لسه جاية دلوقتي تراعي الحمل، أنتي من ساعتها نازلة عليا بالسمين كله!
بعدم مبالاة أجابتها: وماله خلي الواد يتغذى.

انخرطت بموجة من الضحك، فتناولت ما وضعته أمامها وهي تشير بإعجاب: لذيذ أوي. شبه اللي ماما كانت بتعمله.
وتلاشت ابتسامتها وهي تذكرها بدعوة: ربنا يرحمها ويغفر لها.
توغل الحزن لمعالم نور، وحدها تعلم ألم فقدان الأهل، لذا أرادت اتنشالها من تلك الدوامة الموجوعة، فقالت: لو كنت أعرف إن ماما وعدي لما بيخرجوا بيجوا هنا مكنتش سبتهم أبدًا.
أجابتها رحمة: الأكل يستاهل بصراحة.

قرب عمر رأسه اليهما ثم تساءل بريبة: بتتفقوا على أيه تاني؟
اشارت له رحمة بصدمة: إتفاق! أنا بتفاجئ زيي زيك والله!
أقحم ياسين ذاته بالنقاش المتبادل، فقال ببسمة هادئة: بس بجد خروجة لطيفة، تسلم دماغك يا نور. تقريبًا أول مرة نتجمع في مكان زي ده.
أشارت نور لعمر ثم عاتبته باستنكار: شوفت الناس الذوق اللي بتفهم.
حذرته مليكة: عمر متجادلش نور هنا، ياسين بابا موجود وهيقف في صفها!

غمزت لها نور وكأن برقبتها دينًا اضافيًا لمساندتها لها الآن، ثم تابعت بقولها: أختك وجوزها فاهمين الدنيا ماشية ازاي مش عارفة حقيقي هتقدر تفهم أمته يا دكتور!
نظراته العاشقة منحتها عاطفة جعلتها تتحاشى التطلع إليه، فالتهت بتناول طعامها خشية من أن يفضحها ارتباكها الصريح.

تعلقت عينيها بوجود أولادها الثلاث بفرحةٍ، تتابع حوار زوجها مع عدي وقد بدى لها تطور علاقتهما أخيرًا، من يراهما يظنهما صديقين مقربين للغاية، وعادت بعينيها لعمر الذي يهمس لنور فتتهرب منه خجلًا بحديثها المرح مع رحمة، وانتهت بابنتها المدلالة التي مازالت تصر على ياسين بمغادرتها لذلك المكان، فأقنعها أخيرًا بتناول البيتزا، فتفاجئت بتوفرها بمكانٍ هكذا، وبدت الفرحة جلية على معالمها بعد تناول ما طلبه ياسين إليها، انتفضت آية بجلستها فزعًا حينما شعرت بيدٍ تمتد لتحاصر خاصتها، فالتفتت تجاهه، فوجدته يمنحها ابتسامة اعتادت ظلمتها بإشراقته المميزة، تابعهما منذ بداية تأملها لاولادها بفرحةٍ وراحة، وشاركها بضمة يده إن لم يستطيع ضمها لصدره، أطبقت أصابعها بقوةٍ على أصابعه وبسمتها الرقيقة تجعله أسيرًا تأملها، فابتلع ريقه وهو يجاهد تلك الربكة المغرية التي تدفع به إليها، يود لو ضمها واختطفها ليخلو بها بعيدًا عنهم، فنهض عن الطاولة وأشار لهم بالاستعداد للرحيل، فصعد كلا منهم بصحبة زوجته لسيارته، وانطلق السائق الخاص بياسين الجارحي للقصر ومن خلفه السيارات الثلاث.

اتبع عمر السيارات الثلاث عودة للقصر، فوضعت نور يدها على ذراعه ثم نادته: عمر.
التفت اليها، فشددت من ضغطها على ذراعه وهي تخبره: مش عايزة أرجع القصر ممكن؟
ضيق عينيه بدهشةٍ، فأوقف سيارته جانبًا على طرف الطريق، ثم سألها باستهزاءٍ: أمال عايزة تروحي فين يا محللة عيلة الجارحي، يكونش وراكي اجتماعات عائلية تانية في مكان تاني؟
ابتعدت عن مجال المرح المتبع بتلك اللحظة، وقالت بجدية: عايزة أكون معاك.

جحظت عينيه في صدمة، فردد بعدم تصديق: يا فرج الله، وأخيرًا هينوبني من الحب جانب.
وتساءل بمرحٍ: يعني خلاص حليتي مشاكل العيلة كلها ومبقاش وراكي أي حد متخانق أو رافع دعوة؟
ملامحها الحزينة، جعلته يتراجع عن مزحه، فرفع ذقن وجهها إليه، ثم أحاط خديها بيده وتساءل بقلقٍ: في أيه يا نور؟
اصطنعت ابتسامة صغيرة ثم أردفت: هتأخدني المكان اللي هقولك عليه؟

بدت غامضة للغاية، ومع ذلك شغل محرك السيارة وقال: عايزة تروحي فين؟

تناول كوب قهوته الثاني ليتمكن من التركيز فيما هو مكلف به، عبث بحاسوبه وهو يراجع الأوراق المرسلة على حساب الواتساب الخاص به، فقاطعه رنين هاتفه، حرر زر الاتصال ليستمع لرعد يخبره: ها يا أحمد قدرت تحدد الغلطة فين؟

تمعن بتركيزه على الشاشة المعروضة من أمامه، وبدأ بشرح الخطأ المقصود بالملف، لذا جعل رعد يتعسر بالبداية لحسبة المبلغ المحدد للصفقة بأكملها، فلجئ لأحمد وكان خيرهم، انتهى أحمد من شرح خطأ الملف المعقد، وختم حديثه: عشان كده كان في عجز بحسبة حضرتك يا عمي.
حياه بنبرة اعجاب: ده انت اللي عمي وأستاذي!
رد بحرجٍ: العفو يا عمي. أيه اللي حضرتك بتقوله ده؟

=بقول الحقيقة، أنا فخور بيك وبدماغك دي ما شاء الله، حقيقي حمزة محظوظ انك ابنه.
ربنا يكرمك يا عمي ويباركلنا فيك يا رب
ابتسم رعد وابلغه: تسلم يا حبيبي، يلا اقفل وخدلك ساعتين راحة قبل السفر. تصبح على خير.
وحضرتك من أهله.

أغلق أحمد هاتفه، ثم اغلق الحاسوب وجمع أوراقه لدرج خزانته، واتجه لغرفته فبحث عنها بعينيه، وجدها تجلس على الأريكة القريبة من الشرفة، متكأة بجسدها العلوي على حافته ورأسها مسنود على ذراعيها المتربعة خارج حافة النافذة، جلس لجوارها فوجدها شاردة حتى لم تشعر بوجوده، فطرقع أصابعه أمام وجهها وهو يتساءل: سرحانه في أيه؟
رمشت بعينيه بفزعٍ، فذمت شفتيها بسخطٍ: خضتني يا أحمد!

جذب الوسادة المطولة الخاصة بالأريكة، وأبعد قدميها للداخل، ثم تمدد قابلتها وهو يعود لنفس سؤاله: كنتي بتفكري في أيه؟
ابتسامة بلهاء ارتسمت على شفتيها، فعقدت صفقة صغيرة معه حينما قالت: أقولك ومتضحكش؟!
وضع الوسادة على قدمه واستند عليها وهو يردف: اتعودت أتحكم بانفعالاتي وقت ما بسمع تفاهتك. فاعتبريني جاهز!

ربعت قدميها ثم زحفت بجسدها حتى باتت جواره، وقالت ببسمة واسعة: كنت بفكر في غبائي وحاسة اني عايزة ارجع لسنين كتير ورا وأضرب نفسي قلم يفوقني وأرجع تاني.
ضيق عينيه بتعجبٍ، فابدى نجاحًا باحكامه أعصابه، وقال: طب وترجعي ليه ما تخليكي مع نفسك شوية لحد ما تصلحي نقاط غبائك كلها!
لوت فمها وعينيها تبرق بغضب: بتتريق عليا؟

مرر يده أعلى أنفه وكأنه يدلكها قبل أن يربع قدمه هو الأخر ويقترب إليها وهو يتساءل ببطءٍ: طب فهميني عايزة تعاقبي نفسك ليه؟ أيه اللي عملتيه ومحسسك بالذنب بالشكل ده.
تأملت عينيه بنظرة مطولة، قبل أن يتبعها همسها المغري: أنت.
عبس بعينيه بعدم فهم: أنا!
هزت رأسها مؤكدة، وأضافت: كل ما بفتكر إنك كنت جنبي طول الوقت وأنا مكنتش حاسة بيك ببقى هتجنن، ومش عارفة لو كنت ضايعتك من إيدي كنت هعيش ازاي!

واتكأت بمعصمها حتى استقامت بجلستها بعيدًا عن مواجهته وهي تستطرد: بس لما بفكر بردو بلاقيك غلطان لانك محاولتش تلفت انتباهي ليك ولحبك!
رد عليها مستنكرًا حجتها الماكرة: بعيدًا عن اللي بتقوليه ده كله بس إنتي جاية بعد كل السنين دي وتفتحي في اللي عدى! ده احنا بقا معانا عيلين يا آسيل!

تجاهلت ما يقول، وكأنها لم تستمع إليه من الأساس، فاسندت رأسها ليدها وهي تهمس بصوتٍ كان مسموعًا إليه: يعني شاب وسيم زيك وحنين وذكي، ورومانسي ازاي مقدرتش أحس بيك من البداية مؤكد اني غبية!
طوفها بنظرةٍ متفحصة، ثم تعالت ضحكاته الرجولية بعدم تصديق، فاتجهت نظراتها النارية تجاهه، وضع أحمد يده على فمه وهو يشير لها: آسف.

ثم اقترب منها وفجأها حينما حملها عن الاريكة، فصاحت به: موديني فين. في كلام كتير مقولتوش لسه!
رد عليها وهو ينجرف بها بين يديه على الفراش، فسقطوا معًا، جذب بيده دبوسها الأسود فانفرد شعرها من خلفها، وتساقطت خصلاته فوق عينيها، أبعده عنها وتمعن بالتطلع إلى لؤلؤتيها، ثم همس لها بشوقٍ: كملي كلامك هنا أحسن.
أسبلت بعينيها بارتباكٍ، ولسانها يردد بتيهةٍ: ها؟

ابتسم وهو يخبرها لها بمشاكسة: كنتي بتعاكسي فيا. كملي!
هزت رأسها نافية، فجذبها اليه حتى بات يحاصرها إليه، ثم غمز لها بمكرٍ: أكمل أنا اللي وقفتي عنده!

توقف بشارع جانبي بأحد زقاق شوارع القاهرة الشعبية، ففتحت نور باب سيارته الجانبي ثم هبطت تتأمل ذاك المبنى المقابل لها ذو الخمسة طوابق بأعينٍ دامعة، هبط عمر خلفها، اتبعها وتساءل وهو يراقب المكان بدهشةٍ: نور احنا فين؟

تغاضت عن اجابته وصعدت الدرج الجانبي حتى وصلت للطابق الثالث، اتبعها عمر حتى وجدها تقف أمام احد الأبواب الموصدة، وعينيها تلمعان حتى باتت لم تحتمل تجمع تلك الهالات فانحدرت على خديها بصمتٍ قاتل، أمسك بيدها ليدفعها لمقابلته، وسألها بلهفة: مالك يا نور، وجبتينا هنا ليه؟

خلعت طوقها ثم فتحته لتحرر منه مفتاحًا صغير، دثته بفتحة الباب الذي أصدر صريرًا مزعجًا للغاية لفتحه بعد سنوات عديدة، ولجت نور للداخل بصمت مازالت تتحلى به، فلحق بها عمر بقلبٍ مكلوم، هو يعلم بأن تلك الحالة التي تبدو عليها الآن غريبة وغرابتها تطعن مخاوفه، لا يرغب بأن تعود لما كانت عليه منذ بداية علاقتهما، أحبها مرحة تحب مشاغبة الجميع، واقحام نفسها فيما لا يعنيها في سبيل رؤية جميع عائلته سعداء، وجدها تلامس كل قطعة أثاث بالمنزل الغريب عنه، وانتهى بها الأمر أمام صورة كبيرة بعض الشيء، ازاحت عنها الغبار ثم أشارت بعينيها له بالاقتراب، فانضم جوارها، ليجدها أخيرًا تنزع لحظاتها الصامتة حينما قالت ببسمة تعاكس دمعاتها: ده بابا.

رجلًا على ما يبدو في نهاية العقد الثالث، يغزو الشيب بعض خصلات رأسه، وخطت التجاعيد خطوط منعرجة لتترك أثر المعاناة التي قضاها بالكد لكسب قوت يومه، وبيده فتاة صغيرة تتمسك به وابتسامتها كإشراقة شمس يومًا طالت غيومه، شعرها منقسم لجدائل قصيرة، وعلى ما بدى قرب ملامحها لحبيبته جعل أمرها معروف إليه، حدجت نور بالصورة قليلًا، وقالت بحزنٍ يذبح فؤادها: دي كانت أخر صورة جمعتنا بعدها بكام شهر جالنا خبر موته.

واستدارت لتقابله بعينيها الباكية وهي تستطرد: وقتها مكنش في حد جنبنا أنا وماما، كنا لوحدينا ولحد ما فقدت بصري بعدها مبقاش ليا شيء في الدنيا، هي كانت بصيرتي وحياتي، كنت بخاف أفكر في اليوم اللي هيجي عليا وهي فيه مش جنبي وخصوصا لما تعبها كان بيزيد عليها وبتحاول تداري عني، كانت فاكرة اني مش عارفة اللي فيها وانا كنت بسمعها كل يوم وهي بتتألم ومكنتش قادرة أساعدها ولا أساعد نفسي يا عمر!

انحرفت دمعة خائنة عنه، وهو يتابع ارتجاف شفتيها وما تحاول اخباره به، فرفع وجهها بيده وبيده بالاخرى حاوط خصرها ليضمها بقوةٍ، وذقنه تجبر رأسها الميل على صدره، تمسكت به نور وأطلقت العنان لما انحسر داخلها، فتحرر نبرته متقطعة تأثيرًا لبكائه المكبوت: يا رتني كنت جنبك من زمان!

تعلقت بقميصه ويدها تضمه اليها بكل قوةٍ، ظلت لدقائقٍ تستمد طاقتها للحديث، فرفعت اليه رأسها ومازال يصر على ضمها إليه، فابتسمت وأخبرته: انت مكنتش زوج ليا بس يا عمر، أنت ادتني كل حاجة، عيلة كاملة، ادتني أم عظيمة بشوف فيها والدتي. وأكتر من أخ وأخت.

ابتسم وهو يزيح دمعاتها بيديه، فاسترسلت بغمزة مرحة: وياسين الجارحي. اللي للاسف مش هقدر اوصفه ببابا الراجل الطيب الغلبان، له مكانة كبيرة صعب أوصفها. ، والأهم انه هو اللي بيسندني قدامكم كلكم من غيره كنتوا قتلتوني.
أبعدته عنها ثم وضعت يديها بمنتصف خصرها وهي تخبره: ثم إني بيك قوية ومفترية!

رفع أحد حاجبيه بذهوٍ، ثم انطلقت ضحكاته فضمها اليه وهو يردد: أيوه انا عايزك كده، ضحكتك متفارقش وشك أبدًا، أنا مبيهونش عليا يومي غير ابتسامتك دي يا نور. بفرح وأنا شايف الكل جوه قصر الجارحي بيعزك وبيميزك لانك تستاهلي. هما قادرين يشوفوا قلبك الطيب وحبك لغيرك. عمري ما اتضايقت من تداخلك في حياة حد لاني عارف انهم يهموكي وبتحاولي تشوفيهم مبسوطين ومرتاحين في حياتهم، من الأخر أنا محظوظ بيكي يا نور.

قال كلماته الاخيرة ويده تجذب اليه يدها، فطبع قبلات متفرقة على باطن يدها، ابتلعت ريقها بتوترٍ من لمساته الرقيقة إليها، فطالعته بحبٍ كبيرٍ، وقالت ببسمةٍ هادئة: عمر أنا اتحرمت من طفولتي وعشتها جوه بيتك ومعاك.
وتراجعت للخلف ويدها تقيدها خلف ظهرها بدلالٍ، ثم تابعت: بيقولوا إن اللي يلاقي الدلع وميتدلعش يبقى عبيط وأنت دلعتني ورجعتني طفلة عندها تسع سنين يبقى تستحمل جناني بقى!

وضع يده بجيب بنطاله القماشي، ودنا منها ببطءٍ مهلك، وابتسامته تقتص من بعدها باجتيازٍ، وخاصة حينما قال: أنا حابك بكل حالاتك حتى لو رجعتي طفلة بدفرتين!
تعثرت قدميها بالسجادة فكادت بالسقوط أرضًا، ضم كفيه خلف ظهرها فانحنى جسده فوقها، تعمق بالتطلع لعينيها والابتسامة الماكرة تلاعب شفتيه بخبثٍ: بس دلوقتي عايزك تكبري كام سنة كده عشان نقدر نتفاهم!

تعلقت برقبته فكاد بأن يختل توزانه بها للارض، فرفع ذراعه الأخر للحائط ليرفعها بجسده للاعلى، ليتفاجئ بها تسبق خطاه لدرج الغرام المتيم، تتجرأ بإثبات حبها إليه وتناديه فيأتيها بكل جوارحه، خيمتهما عاطفة جياشة حتى وإن كان الغبار يحف بهما، فكانت تلك المرة الاولى الذي يزوار عمر منزلها البسيط وكان لديهما ذكرى خاصة بعشقهما المتعلق بمقولة عشقًا من النظرة الأولى!

مع سطوع يومٍ جديدًا، اجتمع الشباب بأكملهم بالباص العملاق المخصص للرحلات الصيفية، فنادرًا ما يتم استخدامه، توالى معتز القيادة بالتناوب مع جاسم وبقيت الفتيات بالطابق السفلي من الباص أما الشباب فكانوا بالطابق العلوي برفقة الاطفال بعد أن صمم عدي باصطحاب جميع الاطفال، بالرغم من معارضة الشباب للامر، فدفع حازم ابنه خالد بغضب: يا ابني اقعد بقى قرفتني، هتتنيل تقع وتلبسني مصيبة!

بينما جذب مازن صغيره عز وهو يشدد عليه برجاء: عشان خاطري يا حبيبي اقعد بادبك
. يا تنزل لمامي تحت أضمن!
جذب الصغير يده من أبيه وهرول لنهاية الباص الطويل، فجذبه أحمد وأحاطه بذراعيه مشيرًا له: خلي بالك يا حبيبي. هتقع!
كاد آسر الصغير بالنهوض عن مقعده ليشاركهما اللعب، فجذبه رائد بسخط: اقعد مكانك.
وذم شفتيه بعبسٍ: عرفش صممت ليه يا عدي نجيب العفاريت دول معانا. دي خروجه بعد زمن!

رد عليه عدي وهو يشير لابنه الجالس جواره على أحد معالم اسكندرية الشهيرة، فقال: خرجنا كتير يا رائد وجيه وقت الاولاد. لازم نقضي معاهم وقت لان ليهم علينا حق ولا أيه؟
اجابه أحمد وهو يحمل ابنه الرضيع عن قدم ليان ابنته ويجذبها لصدره: عندك حق يا عدي. احنا مقصرين جدًا.

ابتسم ياسين وهو يراقب يحيى الغافل على قدميه وبيده احد الكتب التابعة للروائي العظيم د. أحمد خالد توفيق، فخلع جاكيته وداثره به خوفًا عليه من تيارات هواء اسكندرية السقيع، ثم قال: ده حتى يوم الاجازة مبقاش اجازة!
اسرع حازم اليهم بالمقاعد المتوسطة للباص، فقال وعينيه تحد أخر المقاعد المتقاربة: هو عمر كان فين طول الليل من ساعة ما ركب الباص وهو في سابع نومة!

رفع عدي احد حاجبيه بسخط: وانا ايش عرفني ما تروح تسأله!
لعق حازم شفتيه هامسًا برعبٍ: خلاص خلاص بس بلاش تقلب حواجبك وتقلب لياسين الجارحي يا عم!

بالاسفل.
اخرجت مروج ومليكة ما يحملانه من حلوى وتسالي، بينما جذبت داليا بعض العصائر من حقيبتها، فاضافت لهم شروق الترمس والمقرمشات، تابعتهم نسرين بازدراء ورددت: هو ده الاكل اللي هتنفسوني بيه!
تعالت ضحكاتهن، فقالت رانيا: ودي تيجي عملت حسابك في ربع فرخة وشوية لسان عصفور. حتى شوفي!

وأخرجت من حقيبتها طبق صغير يحوي قطع الدجاج وشوربة ساخنة، جحظت رحمة عينيها بصدمةٍ: بتهزري يا رانيا جايبة بالاتوبيس فراخ وشوربة!
اجابتها بضحك: هعمل أيه ما هي صعبت عليا وخوفت لتقول اننا جايبنها نجوعها!

جذبت نسرين منها الطبق وتركتهما يتعاركن فيما يخص طعامها وبدأت بالتهام قطع الدجاج، تفادى معتز احد المطابات فسقطت الشوربة عليها بأكملها، ومازالت تحمل الملعقة لشفتيها بصدمةٍ جعلتها كالتمثال المتحجر، ضحكت شروق وهي تشير لداليا المتحكمة بضحكاته مدعية حزنها التام لما أصابها، ومرة واحدة انفجرت الفتيات بأكملهن من الضحك، فجذبت نسرين المناديل الورقية وأخذت تذيح عن فستانها وهي تقسم اليهن بالاسوء، فحذبت المياه والقتها فوقهن وهي تردد: انتوا عالم بتحبوا الشماتة قد عنيكم. رحلة أيه اللي طالعنها ده انتوا مش فالحين غير في النم على خلق الله.

ردت عليها آسيل بمرح: وحد قالك اننا طالعين نعمل عمرة عشان نتوب ولا أيه؟!
ناولتها بعض من المياه، فصرخت بها بتحذيرٍ وهرعت للخلف حتى التصقت بنور الغافلة بعمقٍ، فانحنت آسيل لتتفادى المياه، فكانت من نصيب نور، التي سقطت عن المقاعد المجاورة وهي تردد بخوفٍ: ها. مين. فين؟
تأملتها نسرين باستحقارٍ اتبع نبرتها: انتي شاربة جرعة منوم وانتي طالعه. ما تقومي ياما!

تركت نور المقاعد واتجهت لتجلس جوار رحمة وآسيل، فمالت على كتفيها، دفعتها آسيل تجاه رحمة واتبعت رحمة نفس السياسية لتحمي مستوطنها، فتحت نور عينيها وهي تردد بانزعاجٍ: ما تثبتوا خلوني انام!
ردت عليها آسيل ساخرة: حد قالك اننا سرير هزار!
واستطردت بمكر: ثم اني سألتك كنتي فين وراجعة وش الصبح مردتيش يبقى اركني على سلفتك.

هزت رأسها بتأييد لفكرتها فاتجهت لرحمة التي مالت برأسها عليها بتعبٍ، وهمست اليها ببسمة هادئة: ارتاحتي لما روحتي؟
هزت رأسها وهي تخبرها بما لا تخفيه عنها: جدًا يا رحمة. أول مرة ادخل البيت بعد جوازي.
واستكملت بفرحة: البيت لسه زي مهو، كأني لسه سايباه امبارح. ذكرياتي كلها محفورة لسه جواه.
ادمعت عين رحمة وقالت بنغزة تعيق صدرها: البيت مش موجود عشان يكونلي فيه ذكريات، ربنا يسامح اللي كان السبب.

حمدت الله حينما وجدت نور بسبات عميق لم يمكنها من سماع ما قالت، لا تريد نزع فرحتها بما أراحت به بالها، أمسكت رحمة بطنها بتعبٍ وهي تجاهد دوارها المفاجئ، فاتكأت على العصا المتفرقة بجوانب الحافلة، حتى وصلت لمقعد السائق بالامام، فنادت بصوتها الواهن: معتز.
استدار اليها وتساءل بتعجب لرؤيتها: رحمة. في حاجة؟!
قالت بتعبٍ وهي تميل برأسها على يدها المتعلقة بالعصا العلوية: من فضلك وقف الاتوبيس شوية.

سألها جاسم بنظرة متفحصة: انتي كويسة؟
هزت رأسها بأنها على ما يرام ولكن لم يبدو اليهما ذلك، انجرف معتز لجانب الطريق، فانحنت رحمة على الدرج الخارجي للاتوبيس، فجلست عليه وهي تحتضن رأسها.
أرسل جاسم رسالة لعدي، فهبط من الاعلى على الفور، فمر من جوارها ثم انحنى تجاهها وهو يتساءل بلهفةٍ: في أيه يا رحمة!
رفعت رأسها الذي يدور اليه، ثم قالت بهبوط: دايخة أوي.

أمسك يدها ثم جذبها اليه، ليعاونها على الهبوط، ثم جذبها للخارج قاصدًا الوقوف بها أمام امواج البحر، استندت على يده وأغلقت عينيها تحارب ذاك الدوار، أنعشهت الهواء قليلًا، وخاصة حينما احاطها عدي بذراعيه فشعرت بدفئه بعدما احاطها جزءًا من جاكيته، لاحظ عدي ارتجاف جسدها، فنزع عنه جاكيته ثم أحاط جسدها به، فتطلعت اليه ببسمتها الرقيقة، تساءل وهو يتفحص نظراتها الهادئة: أيه؟!

قالت ببسمة ساحرة: عجبني جو الافلام الرومانسي الجاكت في وقت البرد ده!
ضحك بصوته كله، وضمها اليها خوفًا من أن تفقد واعيها فتنجرف عن الصخرة للمياه، ثم قال: متقارنيش اللي بينا بأي فيلم لانها قصة ملهاش سيناريو!

أشارت له على الصخرة الجافة القريبة منهما، فجذبها لتجلس عليها، تأملت رحمة تلاطم امواج البحر بانبهارٍ، فلم يرد ازعاجها عما تتأمله، فجلس جوارها بسكونٍ مطول، الى أن قطعته متسائلة بفرحة ويدها تضم بطنها: هنسمي البيبي أيه لو جيه ولد.
ردد ساخرًا: عمر عامل مظاهرات من اليوم اللي اكتشفنا فيه حملك. ومصمم اردله الاسم اللي سماه لابنه!
تعالت ضحكاتها، وقالت: خلاص لو جالنا ولد هنسميه عمر بإذن الله.

رفع اصابعه يبعد تلك الخصلة المتمردة من أسفل حجابها، فجذب حجابها للامام ورتبه قليلًا وهو يسألها بصوته الرخيم: ولو بنوتة شبهك وفي رقتك هتسميها أيه؟
ابعدت يده عن وجهها بخجلٍ، ثم رسمت بسمة مرتبكة: لا رحمة مصممة لو جت بنت هي اللي هتختارلها الاسم وأنا مستحيل ازعل بنتي زي مانت مستحيل تزعل أخوك!
تمردت ضحكاته بصوتٍ أسرها وخاصة حينما أشار لها باستسلامٍ: اقنعتيني!

سندت رحمة رأسها على كتفيه ومازالت يده تحتضن كفها، ظلت ثلاثون دقيقة شعرت بهم باسترداد اتزانها، فعاد بها للحافلة مجددًا وتلك المرة رفض تركها والصعود للاعلى، ورفض الجلوس بالخلف حتى لا يحرج الفتيات، لذا توالى قيادة الحافلة ولجواره تمددت رحمة على المقاعدين الامامين.

قطعت الحافلة نهاية رحلتهم بوصولها للفيلا الخاصة بعائلة الجارحي، فصفها عدي بالچراچ، واتجه الجميع لغرفهم لنيل ساعات قصيرة من الراحة، ومن ثم اجتمعوا بالمساء بالخارج، حيث توالى أحمد وعمر أمر الطعام، فقاموا بنصب شواية ضخمة تحمل شتى أنواع اللحوم المشوية، وتولت الفتيات أمر المقبلات والسلطات، بينما جذب جاسم وحازم غطاء ثقيل ضخم وفردوه أرضًا جوار البحر تقريبًا، أما ياسين ومعتز ومازن حاولوا خلق أجواء مميزة للاطفال داخل الفيلا خاصة بأن الاجواء باتت باردة بالخارج ليلًا، وقام عدي باشعال النيران جوار مكان مجلسهم ليمد الجلسة ببعض الدفء، حملت الفتيات أطباق الطعام وقاموا بوضعها على الأرض، وجلست مليكة وآسيل تعدان بعض الفطائر والسندوتشات الخفيفة للاطفال.

اجتمع الجميع حاول الطعام وتشاركوه وسط جو من المرحٍ ومشاركة كلى الاطراف ما وضع أمامهم، وختام جلستهم بدعوة رانيا: عقبال ما نتجمع أول يوم رمضان على الفطار.
رددوا جميعًا بتمنى وترقب لهذا الشهر المنتظر المبارك: يا رب.

انتهى جمع الطعام من أمامهم، ووضع عمر بعض الموسيقى الهادئة ليتشارك كل ثنائي الرقص الهادئ دون حركات تدين رجولة الشباب قبل أن تفتك بزوجاتهن، فاختاروا الرمال القريبة من البحر، حيث لامست المياه الاقدام بخفةٍ، جذب عدي رحمة اليه فسكنت كتفيه باستسلامٍ لسكينته، أما نور فمازالت تتبع مشاكستها المعتادة فقالت بمرحٍ: كفارة يا دكتارة فينك من الصبح.

رفع حاجبيه بمكرٍ يتبع ابتسامته الشيطانية الخبيثة: ابدًا كان عندي جراحة دقيقة في القلب ولسه في بعض التوابع لترميم الجراحة، أيه رأيك نرمم هنا ولا هناك تاني؟
لكزته بكتفيه فتعالت ضحكاته، وابتعد عنها ليتفادى ضرباتها المنفعلة بصعوبةٍ.

راقبت آسيل ما يحدث بين نور وعمر الذي كاد بالسقوط بالمياه، فضحكت رغمًا عنها وهمست: مجنونة يا نور!
تابع أحمد ما يحدث ببسمةٍ هادئة ثم عاد ليتأملها عن قربٍ جعلها تحاول الابتعاد للخلف قليلًا، فاشارت له بتحذير: خلي في مسافة بينا يا أحمد الناس حولينا!
اجابها بمكرٍ: متقلقيش محدش هيركز معانا بالذات.
ضيقت عينيها باستغرابٍ: ليه؟
اجابها وهو يحيطها بذراعيه: لان العاقل محدش بيدقق وراه!

مالت برأسها أسفل ذقنه، وهمست إليه بخبثٍ وهي تغفو على صدره: حيث كده تصبح على خير.

حاصر عينيها وأفتك بها كلما حاولت الهرب منه، فأشارت اليه بارتباكٍ: أنت بتتعمد تسبلي قدام ولاد عمك عشان تحرجني يعني!

ضحك ياسين ومال بها، فطافت ذراعيه بها مرتين، تمكنت بهما رؤية ما يحدث حولها، فكل منهم بعالم منعزل عن الاخر، لا يرى ما حوله، عادت اليه مجددًا بعدما انتهت رحلتها بين ذراعيه ليدفعها اليه، فاستندت بيدها على صدره، شعرت بوضوحٍ بخفقاتٍ قلبه السريعة أسفل يدها، فتسائلت بقلقٍ: ياسين أنت كويس؟
هز رأسه وهو يجيبها: لأ.

انتابها قلقًا صريحًا، فاقترب منها يهمس اليها بشيءٍ جعلها تتورد خجلًا وتلومه بنظراتها، فاحتضن اصابعها ثم جذبها بعيدًا عن الاعين لغرفتهما الخاصة.

حاولت محاذاة خطاه بنعال حذائها العالي، فاستغرقت وقتًا تراقب فيه خطاها حتى فشلت برؤية نظراته الهائمة بها، لذا انحنى رائد إليها، وازاح عنها حذائها ثم استقام بوقفته بغرورٍ، راقبت رانيا حذائها الملقي ارضًا بصدمة: رائد انت عملت ايه؟ هقف كده ازاي؟!
رفعها اليه، فلامست حذائه، ثم تحرك بها وذراعه يطوفها من الخلف، راقبت عينيه الرمادية عن قربٍ خطير، فهمست اليه: نزلني!

هز رأسه نافيًا، وهو يشير لها: السهرة لسه في بدايتها. مفيش هروب!
ضحكت وهي تجيبه: مش بهرب بس مش مرتاحة من غير الجزمة.
ابعدها عنه ثم خلع حذائه وجذبها لداخل المياه التي ارتطمت باقدامهما، فسألها حينها: أيه رايك؟
احابته بفرحةٍ وهي تتأمل المياه التي يلامسها ضوء القمر الخافت عن قربٍ: ولا أجمل من كده.
ابتسم وهو يخبرها: أنتي الأجمل في نظري!

تناغمت اجسادهما على ايقاع الموسيقى الهادئ، لدرجة جعلت انفاسها منتظمة على كتفيه، فناداها بعاطفةٍ: داليا، نمتي؟
هزت رأسها نافية ومازالت تستكين ذراعيه، فرفع وجهها اليه وهو يحذرها: لا فوقي كده بدل ما أرميكي بالمية!
ابتسمت وهي تخبره بدلالٍ: وأهون عليك.
تهدلت معالمه وهو يخبرها بحبٍ: عمرك ما هونتي ولا هتهوني على قلبي.
وضمها اليه وهو يهمس بعشقٍ: بحبك!

حاولت ابعاد فستانها الطويل عن حذائه، لتتفادى دعساته المتكررة، وحينما فشلت للمرة الاخيرة، زفرت بيأسٍ: معتز فستاني يا معتز؟
اتجهت نظراته للاسفل، وردد دون معاتبًا: قولتلك بلاش ده من البداية!
رفعت عينيها اليه بندم: للاسف طلع عندك حق مكنتش متوقاع هيكون طويل كده.
ابتسم وهو يدنو منها بخبثٍ: اللي اختارتهولك احلى.
اجابته بتوضيحٍ: مينفعش تحت ده.

دنى منها وهو يهمس بمكرٍ: مهو ده المطلوب. نكمل سهرتنا بيه فوق. يالا.
كادت بالاعتراض ولكنه حملها للاعلى، فتعالت ضحكاتها بعدم تصديق!

طوفت رقبته بذراعيها، وعينيها لا تفارق عينيه العاشقة لتفاصيلها، فكانت اول من تحدثت اليه: بقالنا كتير معشناش في هدوء زي ده!
ابتسم وهو يخبرها: الهدوء ده طبيعي تحسي بيه يا مروج لانك وسط أهلك.
خشيت أن يعود لتلك النقطة التي احزنت قلبه، فعلم ما تفكر به وأسرع بقول: أنا كمان بحس بالراحة وسط اهلك. ناس قلوبهم صافية ونادرة وجودهم.

منحته ابتسامة صغيرة قبل أن تحيط برقبته: احساسي ده لانك انت كمان جنبي يا مازن، أنا متخيلش حياتي وانت مش فيها لحظة.
جذب يدها اليه، فضمهما الى قبلته الحنونة، قبل ان يردد: أنتي كل حياتي يا مروج!

بعيدًا عن تلك الاجواء، جلس لجوارها على المقعد المجاور للمياه، يراقب ما يحدث أمامه بغيظٍ، فأشار لها بضيق: ما تقومي نعمل أي حركتين نثبت بيهم وجودنا كده!
رفعت نسرين القبعة عن وجهها، ثم أشارت له بعصبية: إبعد عني يا حازم السعادي. مش صممت انت والبنات تجبيوني يبقى عايز أيه تاني!
اجابها بصدمة: عايز ايه؟!، عايز شوية مشاعر دافية يا بومة! مش خلصنا من هرمونات الحمل لسه أيه تاني!

اغلقت عينيها باسترخاءٍ وهي تحيبه: لسه نكد زيادة الوزن لحد ما ربنا ياخد بيدك وأنزل لوزني ساعتها هترجع حياتك وردية تاني.
ده على سنة كام ان شاء الله؟
قالها باستهزاءٍ، فوجدها مازالت تسترخي ببرود تام وتخبره: أنت وعزيمتي بقا الامل كله متوقف عليها.
جذب القبعة فوق رأسها مجددًا بسخطٍ: نامي نامي. يا رب يطلع عليكي قنديل البحر ولا انثى الجمبري تفترسك يا بعيدة.

انتفضت بجلستها، فلحقت به وهي تستدير خلفها بفزعٍ، صارخة: حازم، متسبنيش!
اشار بيده بسخطٍ وتركها، فركضت خلفه حتى باتت تحتجز ذراعه فابتسم بمكر وهو يقربها اليه مرددًا: متخافيش عروسة البحر هتدافع عنك بس لازم في طقس معين تعمليه عشان تتوكل بحمايتك زي ما بنوكل محامي يترافع عننا في البلاوي السودة، واخدة بالك؟
راقبت المكان من حولها وهي تشير برأسها بفزعٍ، فقال بتسلية: اعملي زي ما هقولك بالظبط.

هزت رأسها من جديدٍ، فضم ركبتيه لبعضهما ثم تصاعد بجسده وهو يخبرها: خبطة لمين وخبطة شمال. ادي!
فعلت مثلما يفعل، فردد: شاطرة زيدي القفزات عشان تدافع عنك بضمير.
جحظت عينيها بصدمة حينما بدأت بالاسترخاء وفهم مغزاه الوقح من فعلتها خاصة حينما وجدته يصطحبها بعيدًا عن الجميع، فتوقفت عما تفعله وهي تخبره بمكر: حازم يا حبيبي ممكن تغمض عنيك.
فرك اصابعه ببعضهما وهو يردد: يا فرج الله.

وأغلق عينيه وهو يستكمل: كنت عارف انك هتفاجئيني. يلا وريني.
دفعته بكل قوتها فسقط بالمياه، سبح حتى خرج عن المياه بانفاسٍ متسارعة، فقالت بسخرية وهي تركض من امامه: معلش بقى انثى الخرتيت قفشة شوية ومحتاجة ونس ليها!
خلع التيشرت عنه ثم قذفه تجاهها، فهرعت للداخل وضحكاتها تعلو لتغمر دقات قلبه فارغمته على الابتسامة!

صعد عدي بها للاعلى بعد أن غفت على ذراعيه، وضعها على الفراش ثم جذب الغطاء عليها وازاح حجابها عنها، انحنى عدي طابعًا قبلة عميقة على جبينها وهو يهمس لها: تصبحي على خير يا حياتي.
ثم نهض ليتجه للشرفة، سكن قبالتها قليلًا، فازعجه صوت هاتفه برسالة من الجوكر فتحها ليجده يدون له.

«في مفاجآة ليك يا وحش، لما أشوفك على الفطار أول يوم رمضان هبلغك بيها، عايزك جاهز للي جاي لانه مش سهل، واللي متأكد منه إن تحالفنا المرادي تحالف شيطاني هيدمر أي شيء يقف في وشه! ».

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة