قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أترصد عشقك الجزء الثاني للكاتبة ميار عبد الله الفصل التاسع والثمانون

رواية أترصد عشقك الجزء الثاني للكاتبة ميار عبد الله الفصل التاسع والثمانون

رواية أترصد عشقك الجزء الثاني للكاتبة ميار عبد الله الفصل التاسع والثمانون

ظلام
ظلام غلف عالمه وتفشي في أرضه
شعاع الأمل اندثر
وحل محله العتمة، والوحدة
أمواج الخيبة وآنات الوحدة تكاد تفتك به
الأمر وللسخرية أنه لم يعد يطاق الوحدة التي زارته مرة اخرى
الأشباح ليست خرافات، أو عالم وهمي يخدعون به الأطفال
فالأشباح تستطيع زيارة الكبار ايضًا مسببين لهم نوبة ذعر يكاد يقتلهم أحياء.

بقى وحيدًا في أروقة المشفى الكئيبة الباردة، والبرد ينخر عظامه ولكنه ابى التفوه بكلمة واحدة وذاكرته تستعيد عبق ذكريات دافئة لم يكن يتصور أنه سيذكرها
هي وشمسه في صورة بهية، كأم بأفعالها وهي لم تنجبها من رحمها مع طفلتها، ليغلق جفنيه وصوت الضمير يصمته
بل يخرسه بحدة
لن يستسلم لذلك الانجراف ابدًا
لكن الانجراف كان أشد ليجرفه معه إلى أشد الذكريات الحالكة.

يمكث بمفرده داخل غرفة من أربعة جدران باردة لا حياة فيها، حتى بأثاثها الثمين لكن الروح فقده مصدره كحال القصر، وهو يعامل كمهمش
اعتصر قبضة يده بعنف لتبرز عروق يده النافرة وهو يهوى بكل عنف يلكم الحائط
كيف استطاع وتجرأ أن يجعل طفلته تعاني ولو جزء يسيرا مما عاناه بمفرده.

كيف يتركها بمفردها، داخل شقته ومع مربية حمقاء، رعناء اهملت في صحتها واصابت صغيرته ضعيفة المناعة التي التقطت العدوى منها لتصاب بعدوى برد جعل تفقد الكثير من السوائل في جسدها هذا مع وجود التهاب في معدتها، والعديد من ترهات الطبيب الذي لم يفهم كثيرا ما قاله
كل ما قاله أن الفتاة كانت على وشك الموت من قلة الاهتمام والرعاية الكافية.

بل تقريع الطبيب عن اهماله كأب جعله صامت ولم يستطيع التكلم بحرف وعينيه تراقب الصغيرة في الفراش ومحلول تغذية معلق في جسدها مع رعاية طبية كافية
أرخى رأسه ليضع كلتا كفيه على رأسه محاولا الاستفاقة من غيبوبة الصدمة التي كبلت أطرافه وقيدت روحه
لكن بلا جدوى الذكريات تعود كشبح خبيث يتغول، ويتسلل رويدا حتى يصل لمكانه المنشود ويضرب في الوتر الحساس الخاص به
ذكريات ماضية، كان يصفها بالهدوء ما يسبق العائلة.

عائلة أقل من مثالية مكونة من ثلاث افراد، تسربوا من يديه كما تتسرب الرمال من بين الأنامل!
من فرح التي فرت هاربة من التطبع به، وتوقفه عن تقفي اثرها جعله حتى الآن لا يعلم ما كان يفكر به ليتركها دون معرفة وجهتها التالية!
ثم من بين تخبطاته نسي شمس التي تركها تواجه العاصفة بمفردها دون أن يهم حتى بتخبئتها وجعلها تمكث داخل أحضان عائلة الغانم.

فلا وقاص سيرفض ولا حتى رهف، يكفي أن العائلة تتقبل صغيرته كونها الحفيدة الأولي لتلك العائلة، ولن ينكر تفاجئه من وقاص الذي اكتشف بالصدمة انه قرر ان يكتب بعض من أسهمه باسم الصغيرة، لم يحاول التحدث مع وقاص ومعرفة السبب!
لكن اللعنة، كل شيء تدمر، ها هو قد دمر المنزل واحرقه بيديه واصبح ماذا
وحيدا!
أم مخذولا
أو نادمًا؟!
نفى برأسه عدة مرات، الندم لا يطوف فوق سمائه الملبدة بالغيوم، ولا حتى مع هطول الغيث.

تربيته خفيفه على أحد منكبيه جعلته يستفيق من دوامته السوداء، ليرفع رأسه بصمت شديد ينظر إلى الذي عكر سوداوية مزاجه وما ان رأى أسرار التي تقف أمامه و انفاسها اللاهثة وكأنها قطعت ميلا راكضة نحوه جعله يجز على اسنانه ساخطًا مشيحا بوجهه للجهة الأخرى
حتى أسرار لن تسلم من أذيته التي يقسم انها لن تكون متعمدة
لكنه للأسف مرض خبيث يؤذي أقرب المقربين له
فالأمر بدأ من رهف ثم الهاربة وشمسه وسينتهي ببوصلته أسرار!

اغرورقت عينا اسرار بالدموع لتهزه بقوة قائلة بحدة
-نضال
لكن لم يبدو على الأخير أي ملامح للحياة وهو هائم في حياة بعيدة كل البعد عن حياة الواقع، لكزته أسرار بقوة تفيق ذلك المختل من أوهامه الخاصة التي تقسم انه يخلط ماضيه بحاضره وسيقتل بها مستقبله و يؤذيها ويؤذي عائلته
انفجرت تقول في وجهه بحدة
-نضال فوق وفهمني ايه حصل.

تلك المرة رفع رأسه وهو ينظر الى مقلتيها، والزرقة التي لم تكن صافية، بل حزينة، ملبدة بالدموع كحال عالمه غائم، كئيب بغمامات الوحدة
- نضال
نطق اسمه باستنجاء جعله للمرة الأولي يرفع رأسه عنها وهو ينظر للإرجاء بجواره ليعود ببصره نحو أسرار المجنونة، التي تود حتما خسارة جنينها بتهورها الغريب
وهذا لن يسمح به نهائيا
يكفي ما سببه لمن كانوا بالقرب منه
أيستمع صوت تأنيب ضمير ثم ما هذا الصوت؟!
هل هذا الندم؟

هل يسيطر عليه مرة أخرى؟!
وماذا عن فرح
اغمض عينيه بقوة، وعقله الذي يتخطاها منذ أسبوعين خذله
كل ما بها من حالات بكاء وفرح وسعادة غامرة بأقل ما يفعله
توسلاتها لحبه وغيرته الغبي وأفعاله المتهورة لها جعله يغمغم بصوت أجش
- راحت مني
صوته الكسير جعل أسرار تنفجر في البكاء الصامت وهي لا تصدق الرجل الشبح الذي أمامها، لا يصدق حقا ما يحدث
جلست في مواجهته وهي تعيد تتوسله لعودة نضال الذي تعلمه مرة اخرى
- نضال.

مرر يده على خصلات شعره ليحاول بيده على ذقنه ثم يقول بنبرة مميتة
-الكل راح يا أسرار
رفع عيناه وهو ينظر اليها تنفجر من البكاء، ولأجله؟!
اللعنة على قلبه، لولا فقط أنها أصبحت زوجة ذلك المزعج لأحتضنها
لكن زوجها الأحمق يقف له بالمرصاد، الأحمق لا يصدق انها اخته التي لم تنجه له امه، بل اخت ولدت من رحم معاناته وشقائه.
ضربته بقوة على صدره لتصيح بانهيار تام
-نضال متوجعش قلبى، مش متعودة عليك يشوفك مكسور.

جذبته بقوة من ياقة قميصه تهدر في وجهه بحدة، تمده بالصلابة التي هو في غنى عنها الآن
كيف وشمسه الوحيدة غامت خلف السحب تاركة إياه، كانت قاب قوسين أو أدني من رحيلها الدائم
كيف يتحمل كل تلك الصدمات تباعا، لم يعد يتحمل، ولا يرغب في المزيد من احزان الجميع، اجابها بصوت بارد خاوي من أي ذرة مشاعر
-الكل مستني لحظة انكساري يا أسرار، انكسار نضال الغانم
هزت رأسها نافية عدة مرات، على ماذا تكذب أسرار.

تلك هي اللحظة المنتظرة من الجميع، ألم ينتظرونها
هنيئا لهم بها، لقد حدث
لقد انكسر تماما
افاقته صفعة خفيفة على خده الايسر واسرار تعيد جذبه من ياقة قميصه لتهدر بحدة في وجهه
-البنت هتبقي كويسة انت بس ارجعلنا
التوسل في آخر كلمتها جعله ينظر إليها ببعض التجهم ليقول بسخرية مبطنة بالألم
- محدش عايزيني في حياته يا أسرار الكل بيخاف مني
جذبت ياقة قميصه تسمح له بمواجهتها، تنظر إليه من عينيه المنطفئتين لتصرخ قائلة.

- انا عايزاك، رهف عايزاك، وقاص عايزك
تجلده دون هوادة وهو يتحير فعلا في وصف وقاص
في لحظات يشعر أنه لا يحبه ويكرهه، ولحظات يراه يحاول ترميم الماضي
لكنه يبتعد، ويبتعد ويجعله يتشتت، عض على نواجذه وهو يهمس ببعض الجفاء
- وقاص، وقاص حامي العيلة
هم التحدث ببعض القذارة مخرسا أي نداء حي من عينيها اللائمتين أو من ضميره
ولماذا ضمير وقد قتل ضميره بيديه، لكن صوت خشن اوقفه
- أسرار.

شهقة خافتة تبعها تورد في الوجنتين جعل اسرار تترك ياقة نضال لتنتفض مستقيمة من مجلسها وهي تري سراج ينظر اليه بعينين شرستين محاولا الأفتاك به لتقترب اسرار هامسة منه بصوت خفيض
- انت جيت ازاي
الحرج الذي سيطر عليها وارتباك صوتها جعله ينظر إليها بلوم شديد ليهبط ببصره نحو بروز بطنها ثم إليها، الحمقاء المغفلة لا تكف عن إيذاء جسدها وجنينها، ليهمس بصوت خشن
- ابعدي عنه
اتسعت عينا اسرار باستنكار تام لتقول بدهشة.

- سراج انت بتقول ايه
لم يلتفت لها كثيرا وهو يقترب من الاخر، وقد سئم حقا من تلك اللعبة التي يمارسها عليها
يجعلها تخرج من المنزل وعملها وتتفرغ له ولكأبته وتشجع مرضه لينتشر، جلس على المقعد وقال بسخرية لاذعة.

- وانت عايزنا نشفق عليك وانت مكسور ومتخاذل مش كدا، نتعاطف مع نضال عشان مر بطفولة بائسة وعديناها، لكن لما تيجي انت تبعد عن اللي بيحبوك وتنسي أمرهم وتكبر دماغك القذر ده في سبيل انهم يموتوا من دونك ولما تنجح بتحس بقي، بالوجع!
اشمأزت ملامح سراج تقززا مطالعا الرجل الذي أمامه ليهتف بتقزز
- ايه البجاحة اللي انت فيها دي
لم يكلف نضال نفسه عناء للرد عليه، لتقف اسرار في مواجهته قائلة
- سراج مسمحلكش
نظرة زاجرة.

اتبعها بمعاتبة، لتلين حدته ويقل تجهمه وهو يطمئنها بنظرة عينيه محاولا تهدئتها ليلتفت نحو الرجل الذي قرر أن يصبح اخرسا في الوقت الحالي
- انت عارف ايه اللي مصبرني عليك مش عشان علاقتك الغريبة والشديدة بمراتي لأ، لأني بشوفك زيها للأسف محتاج نفس الرعاية والاهتمام وعندكم نفس الدماغ الناشفة وتستكتروا تطلبوها من حبايبكم.

مرر نضال أنامله في خصلات شعره وهو لا يعلم من أين جلب هذا الرحل ذلك التحليل له، مال برأسه ناظرا إياه بحدة لتضيق عيناه قائلا
-خلصت تحليل
هذا ما توقعه، لينظر نحو اسرار التي تتوسل منه الهدوء
لكن أي هدوء تطلبه منه، وذلك البارد جالس أمامه، انه يذكره بها تماما في بداية زواجهم
صاح بنفاذ صبر وهو يحاول أن يلين راسه
- مخلصتش بس اعتقد كفاية الدور ده، لازم تحاول تفضفض اللي جواك وتبتدي صفحة جديدة.

وليلعب على الوتر الحساس، أمسكه من نقطة ضعفه وجذب انتباهه
- بنتك المرة دي كانت معاها واحدة، الله أعلم بتفكيرك الغريب ده لما ناوي تمشي وتسيب البيت هتعمل ايه من غيرك
لم يفته النظرة القلقة في عيني نضال ليشيح بوجهه جانبا، مخبئا مشاعره ويحاول لملمة بقاياه امام اعين الغرباء ليشعر به يهمس بصوت منهك
- لطالما بتتوجع كدا بتوجع قلبهم ليه
لأنه أحمق وغبي
هكذا أجاب دون أن يجرؤ على التحدث بحرف، لكن أجاب عليه بجفاء.

- لاحظ أنك بدأت تاخد عليا
ابتسامة ساخرة زينت محيا سراج الذي بدأ ينظر لنضال بصورة مختلفة
التحكم في أعصابه من تعليقاته المستفزة لا يستطيع شخص بشري تحملها على الاطلاق
لكن ماذا يفعل وهو يرى أمامه صورة ذكورية ونسخة طبق الأصل من زوجته ليقول
- لازم تتقبلني في حياتك، عشان الست اللي تهمك تبقي مراتي وتهمني اكتر منك
لعبت ابتسامة مقتضبة لم تكد تزين محيا نضال إلا أنه عاد للوجوم مرة أخرى وهو يلعب على وتر حساس.

- وتفتكر الراجل بيبقي مجنون على الست الحامل ليه، عشان شايلة خليفته بيعاملها ك
انتفضت عروق سراج وهو يعلم كلام الحقير المبطن، استقام من مجلسه يهم بقتل ذلك الأحمق، إلا أن أسرار لم تتحمل تلك المهزلة التي تحدث أمامها لتصرخ في وجهيهما
- نضال، سراج، بطلوا بقي الشغل ده، محدش يفكر فيكم انا هختار حد على حساب التاني، اوعي حد يحطني في الاختيار ده نهائي.

بدا الرجلين حائرين ومرتبكين في ان واحد، الا ان نضال اول من كسرالصمت وهو يقترب من سراج هامسا
- عاجبني انك لسة محتفظ بروح أسرار القديمة
هز سراج رأسه يائسا ليجيبه بنفس الهمس
- انا مكسرتهاش، انا كل اللي عملته اني اتقيت ربنا فيها وعاملتها بما يرضي الله
تجهمت ملامح نضال مرة أخرى، وتحفز جسده محاولا دحض أي ذكري تطرأ على خاطره الآن
كله بسببها هي
لو لم تذهب لما...

اللعنة، صرخ بها بين جنبات عقله، لما لا ينفك وينساها ولو لمرة!
انتبه على ربته على كتفه وهو يقول بنبرة مهتمة صادقة
- اهتم ببنتك احسن من كدا.

رغم ان نضال استشعر اهتمام سراج الصادق، لكن هذا لا ينفي شعوره بالضيق وهو يسمع نصيحة من رجل مثله، رجل لم يحاول إخفاء مشاعره ومصالحه زوجته التي هربت من وجهيهما، صوت صراخ انثوي باسم صغيرته جعله يغمض جفنيه بيأس شديد ليرفع كلتا اصبعي السبابة والابهام مارا إياها على جسر أنفه
- شمس
جذبة عنيفة من ساعده جعلته يلتفت ببرود ناحية صاحبة الصوت ليرى الدموع تنهمر من عيني مارية وهي تصرخ في وجهه
- شمس حصلها ايه احكيلي.

ضاقت عينا نضال للحظات، ليسألها ببرود دون أن يهتم بالاجابة على سؤالها
- مين قالك
يعلم نضال الإجابة، فالخبر أن وصل لأسرار فهذا يعني أنها أخبرت العائلة، ومن زوجة حامي العائلة فالخبر وصل لمارية بالطبع، اندفعت مارية تضربه على صدره بحدة قائلة بانهيار تام
- مش مهم مين قالي، شمس حصلها ايه، انا ادتهالك عشان تراعيها مش عشان تهملها.

نكس نضال رأسه ضاما كلتا يديه في جيب بنطاله سامحا لها بإطلاق مشاعرها الثائرة للعنان، فبرغم كونه أب سيء وهي ام سيئة لكن ما ذنب الصغيرة كي تأتي للعالم مع والدين مثلهما
غمغم بصوت أجش أودع فيه كل بروده
- هتبقي كويسة
اتسعت عينا مارية بجحوظ لتنفجر في وجهه هادرة.

- هتبقي كويسة! الدكتور قالي لولا انه لحقوها كانت البت هتموت، يعني انا كنت خايفة وقررت اديها لحد يهتم بيها دي جزاء اللي عملته ليك يا نضال، تخلي البنت بين الحيا والموت
شخص اخر يقوم بقرعه بطريقة لم يستطيع تحملها، عض على نواجذه وهو يجيبها بكل ما أودع فيه من جفاء
- خمس ايام وهتبقي كويسة، الدكتور قالي كده.

هزت مارية رأسها وكل يوم تتأكد انها كانت مخطئة في حقه، حتى الفرصة التي اعطتها له لم يكن يستحقها، لترمقه بازدراء قائلة
- يا بجاحتك وبكل برود بتقولي كدا
بالكاد تحمل سخريته واستهزاءه
لكن يسخر ويتكلم ببرود في مصيبة كتلك، لولا اتصال فريال لها مخبرة إياها عما سمعته من أخبار وخروجها كالمجنونة في الصباح الى المشفى كي تتأكد ان ما حدث مجرد خطأ
نضال لن يترك ابنته تعاني وحشة الألم والوحدة وهي في ذلك العمر!

لكن الأحمق، الغبي الذي ظنته سيساعد ابنته ويجعلها مكتفية بالحب والدعم الذي تفتقر هي لإعطائه
لكن يؤكد لها
انها اخطأت في تقدير شخص مثله
وان كان هذا اخر ما جعبته فقد صعقت حينما تخطاها قائلا بجفاء شديد
- مش فاضيلك
اتسعت عينا بذهول انقلب بعدها لصراخ هادر
- يا حيوااااان
واتبعها بالسقوط
والاستسلام لأشباح الماضي لإعادة تنغيص حياتها!
****
جالسا على المقعد بتفاخر شديد محاولا وضع صورة دقيقة للعريس الذي أمامه.

مال غسان قليلا برأسه ومقلتيه الخضراوين يتفحصان بدقة شاملة، ووافية لعريس ابنة خالته
تلهف الرجل نحو الباب بين كل فينة والأخرى، ثم والدته التي تثرثر في مواضيع شتي كاد أن يفتك برأسه كله لا شيء وهو ينتظر العروس كالآخرين
يري صاحبة الملامح الشامية ولسانها اللاذع بلهجتها القاهرية.

لا يعلم ما يفعله هنا الان، كالأحمق اندفع بتهور للذهاب مع والدته وأصر وعاند كالبغال وهو يمارس سلطته كونه الرجل الأكبر في العائلة، ونحي نزار جانبا
فهو الأكبر، ورجل العائلة
أليس هذا هو وضعه ومركزه
وكون وجود خطيب محتمل لأبنة خالته وجب عليه أن يكون هنا يستقبل العريس المحتمل مع عائلته، يرمي ابتسامات مجاملة وهو يكاد يحفظ يديه في جانبيه كي لا يقتل ذلك السمج ووالدته الأخرى.

من أين مصيبة هذا الرجل اتي، لتجعله مفضوح لتلك الدرجة متلهفا لرؤية ملكة الجمال!
ابتسم بسخرية وهو يعيد تكرار جملته التي لا ينفك ويعيدها مرارا
- اهلا وسهلا نورتورنا
ربتت والدة العريس على ساقي ابنها وهي تزجره بعينيها من كثرة رفع رأسه للباب، لتتابع بابتسامة واسعة جعل غسان يضيق عينيه بتوجس
- منور بأهله.

خبط غسان بحنق شديد وهو يضرب كلتا يديه على فخذيه، سائلا من الله الصبر كي تنتهي تلك الجلسة، اقترب من العريس سائلا إياه بهدوء مصاحب قبل العاصفة
- بس بدي اسالك استاذ مصطفى كيف عرفتا لبيسان
وكما توقع
عينا الرجل التمعت ببعض الظفر كما لو أنه فاز باليانصيب والابتسامة المستفزة التي زينت ثغره كاد أن يمحيها وهم بالفعل بالقيام الا ان نظرة واحدة زاجرة من أمه
عاد الوحش داخل مخدعه، ليسمع إجابة المستفز.

- في الحقيقة يا أستاذ غسان الانسة بيسان تبقي زميلة عمل ليا واول ما جت الشركة طبعا كانت مثال للأخلاق والأدب
انسلت من شفتيه ابتسامة ساخرة ليغمغم بصوت خفيض
- بلشنا كزب ونفاق من اولتها
هل يكذب الرجل عليه وهو أدري بأبنة خالته، المرأة فقط لسان طويل يقذف شتائم مصرية اغلبها لا يعلمها، لكن بالتأكيد لو علم كلها ما ترك عظمة واحدة سليمة فيها، انتبه على صوت أمه
- غسان ابني.

هم بالنطق والرد بوقاحة، لكن لسانه ألجمه الصدمة لتنفرج شفتيه بصدمة كاملة وهو يرى صاحبة اللسان الطويل دخلت المجلس.

لا ينكر دهشتها بوجوده أعقبها تهجم في ملامح وجهها وهي تقدم بعض الحلويات لعريس الغفلة ووالدته تبعها بتقديم الاطباق لوالدته ووالدتها وحينما قدمت الطبق له لم يعير لها بالا ولم يحاول اخذ طبق الحلوى ليلتفت نحو العريس الذي تحولت عيناه للجشع والنهم الشديدين متفحصا بدقة شديدة لمنحنيات ابنة خالته جعل غسان يضم قبضة يده وهو يسأله بخشونة
- فهمان عليك بس انا عم اسال ايمتا بلشت علاقتكن.

جزت بيسان على اسنانها، محاولة النظر نحو والدتها ومساعدتها للتخلص من ذلك اللزج، متى قامت بدعوته هي
هي فقط طلبت خالتها وليس شيء آخر
هسهست بغضب وهي ترمي طبق الحلوى الأخير بين يديه الذي تلقاها بهدوء
- وانت مالك
قاطعها بخشونة قائما من مجلسه بعد أن وجد المقعد الشاغر فقط أمام ذلك المتحرش، ألزمها الجلوس في مقعده وهو يزجرها بنبرة خفيضة
-هسسسس، انا الزلمة هون وانا يلي بحكي.

اتسعت عينا بيسان بذهول قبل أن تلتمع خضرة عينيها بجنون وهي تهسهس بغضب
-انت اتجننت، يا خالتو انتي جبتيه ليه ده
تلونت كلتا وجنتي فاطمة وعايشة أمام الضيفين اللذان ينظران للمسرحية الهزلية أمامهم بتعجب شديدين، ليجلس غسان بهدوء شديد أمام العريس الذي خابت كل توقعاته ويشعر انه لن ينفرد ببيسان ليقول ببرود شديد غير مكترثا بالضيفين الذين امامهما
- له له يابنت خالتو بيصير يجي شب يتقدملك بدون ماكون موجود.

ضمت بيسان يديها محاولة عدم التهور والتحدث بحماقة، اللعنة هذا ما ينقصها في جلسة تعارف
لتحاول الجلوس على المقعد الخاص به قديما، وهي تتكلم بشفتيها دون أن يخرج صوتا له
- وانت مالك يا غلس انت، اصلا وجودك غير مرغوب فيه.

انفرجت عن شفتيه ابتسامة ظفر، وهو يشعر انها نست كونها عروس خجول يجب أن تعجب والدة عريس الغفلة، فيبدو المرأة لم يعجبه تمردها ولا حتى تصرفاتها التي من الممكن أن تخجلها في المستقبل، ليجيبها بنفس الهمس
- عجبك ولا ماعجبك انا الكبير هون انا اكبر من نزار، يعني انا يلي بقبل او برفض اوكي.

هزت بيسان رأسها رافضة بشدة، لتستقيم من مجلسها بحدة وهي توجه انظار تجعل غسان يكاد يقسم انها ستحرق منزلها بالكامل وليس هو ليسمعها تتحدث بحنق
- عن اذنكم
ولكن عينيها آمرته باللحاق بها، الا انه لم يلحقها بتلك السرعة
بل جلس وتلكئ قليلا في مجلسه دون التفوه بحرف، ثم استقام من مجلسه وهو يطمئن خالته ووالدته ليلحق بتلك المجنونة.

دلف للمطبخ حيث تنتظره صاحبة الخصلات الكستنائية واللسان الطويل، تفاجأ حينما رآها ممسكة بالسكين الحاد مشهرة إياه في وجهه، مقتربة منه
لحد الإغواء
والخطيئة!
والله وحده يعلم ما الذي جعله يقف عاجزا عن كبح جموحها، تحاصره بجسدها اللين والسكين ترفعها في وجهه ومحصور في الخلف من رخام المطبخ البارد
لكن أين البرد وهو يرى تلك الشعلة المتلألئة في عينيها، تضرج وجنتيها بالحمرة وهي تحدثه بحدة.

- اسمع بقي عشان شغل اللي بتعمله ده انت حفظاه وفهماه كويس
أدخل كلتا يديه في جيب بنطاله لينظر الى السكينة ثم اليها، وانتعاش خفيف أثلج صدره
كونها تتشاجر في يوم هام بالنسبة للفتيات مع اكثر رجل تبغضه في حياتها، بل وتأمره بكل شراسة أن يبتعد عن نطاقها
أي نطاق ترغبه، وهو رغما عنه يسير خلفها منساقا لا حول له ولا قوة، نظر الى السكين ولا يرغب حتى بتشيت ذهنها للوضع اللذان به حاليا ليهمس باستفزاز.

- أي ياشاطرة نزلي السكينة من ايدك
تبعرث بعض خصلاتها الشقراء ليزداد جموح صورتها في عينيه، عيناه تتأمل بشغف شديد للصورة التي بها
كمحاربة شرسة ترفع سيفها وكرامتها مصانة فوق رأسها، لا تنحي بخزي ولا تراجع
صورة امرأة لا تستسلم، بل تعامل أي شخص يتخطى حدوده بالند الشديد
ومقارعة حتما ليست في صالحها، لكنها لا تعترف الهزيمة بسهولة
صاحت بانفجار شديد ونصل السكين يقترب من رقبته
- اطلع برا مش عايزاك تبقي موجود وسطنا.

ألقي نظرة نحو السكين ثم نحوها ليسألها ببرود
- واذا ماطلعت
انفجرت تصرخ بحدة وبرعونة شديدة كادت أن تودي بحياته بحركة خرقاء لولا يده التي امسكت ساعدها بخشونة، لكنها لم تكترث ليده المطبقة على ساعدها ولا للسكين الذي سقط بل تركزت على اخراج غضبها منه في وجهه
- غساااااان، عايز ايه مني هااا، حتى بيت خالتي مبقتش اروحله
لؤي يديها خلف ظهرها ليسألها ببرود
- بدك تقنعيني انو انت ماعم تجي لعنا منشاني مو منشان نزار.

اتسعت عينا بيسان وهي تفهم الى ما يرمي إليه ذلك الغبي، هزت رأسها رافضة عدة مرات الا انه يستفزها، بل يختبر مقدار تخطيها للأمر
- لو مفكرة بعملتك هي بدك يخليه يغار فبحب قلك انت غلطانة
رفعت يدها الأخرى تهم صفع وجهه الا انه امسكها ولوي الأخرى بجوار شقيقتها، وانقلبت الأدوار لتصبح محاصرة بين طاولة الرخام الباردة وبين جسده
-اخرس
تتلوي بعنفوان شديدة، رافضة ذلك الحصار الرخيص، وتنفي كلماته الحقيرة.

- انا مش بفكر فيه انا مش متوقعة ان تفكيرك صغير للدرجة دي، نزار كان ماضي وانتهى محصلش نصيب وهو لقي نصيبه مع حد تاني انا كمان يشوف نصيبي
تأوهت بألم أثر جملتها الأخير حينما قبض بعنف على ساعديها ليقترب منها منفجرا في وجهها
- لك شو بدك بواحد متل هاد اه
ويسألها الآن
ماذا يريد هذا المختل بعد، صاحت بنفاذ صبر
- انت عايز ايه، مفيش حاجة عجباك ابدا أقرب مش عاجب ابعد مش عاجب.

ضيق غسان عينيه متفحصا وجهها المتورد، والى فستانها الأزرق الشاحب بشئ من الجنون، وقد تعمدت بهذا الفستان اظهار كامل أنوثتها امام عريس الغفلة الذي ينهشها بعينه وإلى أمه التي تنظر باستحسان بالغ الى تفاصيل جسدها، سألها بمواجهة
- بيسان انتِ، انتِ عم تهربي مني
ضيقت عينا بيسان لتحافظ على الصمت لبرهة محدقة نحو عينيه، دون التجرؤ على إجابة سؤاله، لتجلي حلقها هامسة
- انا بجد تعبت، انا رايحالهم.

خطوة واحدة فاشلة، اقرب للميؤوس منها للتخلص من حصاره، إلا أنه منعها بجذبها مرة أخرى بعنف آنت بسببه، لتهم بالصراخ في وجهه الا انه اجبرها للرؤية داخل عينيه
أمواج عينيه الخضراء تعاكس الخضراء الراكدة خاصتها
همت بالتحدث او الانفلات والابتعاد عن هذا الحصار الا انه اجبرها على النظر إليه
الانتظار من اجل حديثه
- بدون لف ودوران بيسان جاوبيني...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة