نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني عشر والأخير
لم يتبقى على العيد سوى يومًا واحد، اليوم هو المتمم للشهر المبارك وغدًا عيد الفطر المبارك، وبالرغم من سعادة استقبالهم للعيد الا أن الحزن كان يلتهم أوجوههم، بداخل قلب كل منهم رجاءًا وأملًا الا يغادر الشهر الفضيل أبدًا، لدرجة تجعل الفتيات تبكي في هذا اليوم، جلسوا جميعًا يتناولون أخر إفطار بآلية تامة، والحزن يتوغل علة الأوجه، الا من الأطفال المتحمسون للغد باستقبال العيد بلهفةٍ وحماس، كسر صوت يحيى الصمت القاتل بينهم فقال: كل سنة وأنتوا طيبين.
أجابوه معًا على صوتٍ واحد: وأنت طيب وبخير.
قال عز وهو يتفحص أوجه الشباب بتمعنٍ: ها يا رجالة خطتوا هتقضوا يومكم فين بكره؟
أجابه معتز بحماسٍ: لسه، بس تقريبًا هنخرج لملهى الألعاب زي كل سنة.
ترك رعد الملعقة عن يده، وصاح بصرامةٍ: الإلعاب للأولاد بس لو عرفت إنكم ركبتوها مش هيحصل كويس، ميبقاش الواحد أطول مني ويوصلني كلام إن فخر العيلة بيتمرجحوا!
تبادل الشباب نظراتهم المرتبكة لبعضهم البعض، وانتهت لحازم الذي فضح سرهم بالمرة الأخيرة، فتحرر لسان رائد عن الصمت حينما دافع عنهم قائلًا: على فكرة في ألعاب صعبة جدًا وتخص أصحاب القلوب الشجاعة مش الأطفال.
أجابه حازم بسخطٍ: حلل تفاهتكم بقى!
رددت رانيا ساخرة: عرفت ليه محدش فيهم بيرضى ياخدنا معاهم.
أجابتها شروق بحنكٍ: عشان يتهيفوا براحتهم ومن غير ازعاج.
عزمت نور على خطتها حينما قالت: طب على فكرة السنادي هنخرج وهنستمتع بالعيد بطريقتنا ومن غير رجالة ولا أولاد ولا قرف.
حمستها مليكة قائلة: برا?و يا نور ما إحنا مش هنقعد كل عيد في الييت وشنا لبعض.
بينما أضافت داليا: خططي وشوفي هنروح فين واحنا معاكي يا زعيمة.
ترك عمر طبقه وصاح بضيقٍ: زعيمة! تاني يا نور تاني!
أجابته بعدم مبالاة وهي تلتقط قطعة من اللحم: الظروف اللي بتجبرني يا ابني، إنت مش شايف تجبر ولاد عمك وطغيانهم!
رد عليها أحمد بحزن مصطنع: متجمعيش يا نور، بمنتصف التربيزة بالظبط في ناس في حالها لا بتتشعبط في مراجيح ولا في جر شكلك.
حانت منها نظرة متفحصة لمنتصف الطاولة حيث يجلس أحمد وياسين وعدي، فهزت رأسها مرددة بخبث: بكره نشوف يابو ليان، وإحنا يعني هنكره نشوف حد محترم مكمل في احترامه!
ضحك ياسين بعدم تصديق، بينما اندفع جاسم يردد: واحنا يعني بلطجية العيلة، ما تشوف مراتك يا عمر!
صاح بضجر: نفسي أطلقها وأخلص والله يا ابني بس ما باليد حيلة عليها توصية من فوق أوي.
تمرد ياسين عن صمته حينما ردد بحزم: تربيزة الأكل مش ساحة قتال هي!
ابتلع الجميع ألسنتهم واستكملوا طعامهم بصمتٍ قاتل، حتى مزقته ملك وهي تنهض عن الطاولة تطرق على كأس عصيرها الفارغ بالملعقة: أكلتوا وخلصتوا أكل، من فضلكم مش عايزين نشوف هنا أي راجل، قهوتكم وشايكم هيجيلكم بره لحد عندكم.
تذمرت الوجوه كاعتيادهم كل عام البقاء لساعات طويلة بالداخل، فنهض آدهم ورعد ويحيى وعز للخارج بصمت ومن خلفهم الشباب بصحبة حمزة الذي يصيح بضيق: كل واقفة ترمونا برة بالساعات ما تنجزوا من الصبح ميحلاش الموضوع يعني الا بعد الفطار!
أجابته شذا بمرح: هنعمل أيه واحنا صايمين مش بنقدر نركز.
منحها نظرة عابثة وهو يلحق بالشباب للخارج، حتى الصغار نسبوا أنفسهم لخانة الرجال ولحقوا بهم وبقى ياسين الجارحي يرتشف كوب قهوته بثباتٍ جعلهن يتهمسان بخوف، فأشارت لهن آية واقتربت من مقعده الرئيسي تردد على استحياء: هي ساعة واحدة بس يا ياسين.
خطف عسليته إليها، فتوددت إليه بهمسٍ مضحك: مش هتتنازل عشاني، صورتي هتتهز قدام البنات!
حمل كوبه وغادر للخارج بخطوات واثقة، فأغلقت الفتيات باب القصر الداخلي وأشارت يارا بحماس: يلا يا بنات ورانا شغل كتير.
فور نطفها بتلك الجملة حتى هرولت الفتيات للاعلى وهبطن بأدوات هائلة من التجميل والمسكات الطبيعية للاستعداد للتزين واختيار الفساتين.
بالخارج.
استند ياسين على السور الخارجي وارتشف كوبه بثبات، فاقترب يحيى منه يحك أنفه ليخفي ضحكته الساخرة: ياسين الجارحي اتطرد زينا ولا أيه؟
عبث بعينيه بضيقٍ، وعاد يتطلع أمامه وهو يردد: بالنهاية أنا زوج ولازم أخضع لبعض الأوامر.
تعالت ضحكات يحيى بعدم تصديق، فسدد له الأخير نظرة قاتلة، جعلته يصيح بخوف: آسف.
بجوارهم.
جلس الشباب على الطاولة الضخمة المتوسطة للحديقة، يتأملون مكينة القهوة وبراد الشاي الموضوع من أمامهم بحيرة، فتبرع ياسين وقام بصنع أكواب القهوة، بينما وضع جاسم السكر وسكب الشاي الساخن مرددًا بسخرية: مدام طلعوا مكنة القهوة بره يبقى قدامهم لنص الليل!
صاح رائد بغضب: ما يتحبسوا في جناح واحد كلهم، لازم ياخدوا القصر كله ويرمونا بره كده.
ضحك أحمد وهو يجيبه: عايزين ياخدوا راحتهم عشان الشغل يبقى على نضافة.
حذره عمر ساخرًا: اجمد وعدي بدل ما مش هتلحق ليلة العيد.
مال مازن للطاولة بانهاك متفوهًا بضجر: أنا كان مالي ومال الليلة دي ما كنت مرتاح في بيتنا وقادر أمشيه صح، أخرتها اتطرد بمكنة القهوة بره!
ارتشف عدي قهوته بتلذذ وقال: متقولش مطرود عشان بيرستيجك نازل لبعد الأرض، سميها قاعدة خشنة مينفعش فيها حريم.
ضحك الشباب على حديثه، فكسر حاجزهم سؤال عمر: هو حازم فين؟!
انتهى حازم من جمع البللاستيشن، فحمل الحقيبة الضخمة واتجه بها للمصعد، فما أن توقف بالطابق السفلي حتى تخشب محله صدمة جعلت شفتيه تتهدل للأسف.
والدته تجلس على الأريكة باسترخاءٍ ولجوارها ملك ويارا ووجوههم ملطخة بمسك فحمي مخيف، ناهيك عن المنشفة التي تحيط بوجوههم، بينما أقدامهم موضوعة بوعاء بالماء الورد وتقوم شذا وداليا وشروق بفرك أرجلهم بشيءٍ غامض لم يتمكن من رؤيته جيدًا، بينما تقوم رحمة بكي شعر زوجته التي اختفت معالمها من فرط الادخنة الصاعدة من الاداة المستعملة، ولجوارها نور تحمل خيطًا طويلًا وتقوم بتنظيفات للبشرة لآسيل، ووضع على الأرض حوض للاستحمام بلاستيكي ضخم كانت تجلس به رانيا ومروج، ودينا التي تقوم برسم الحنة السوداء على ذراعها، حتى الصغيرات كانت تقوم رحمة بوضع طلاء الأظافر بحرافية لليان، وكأن اليوم عالمي للنظافة المرأة، ناهيك عن ادوات التجميل المحاطة على طاولة الطعام الضخمة، والحامل المعلق عليه فستانين كثيرة يصعب على عقله توقع عددها، ومن أمامها تحتار مليكة فيما ستختاره لوالدتها التي تقف لجوارها رافضة لكل فستان تخرج به، وهي تخبرها بأنه قصير، وفجأة استدارت الرؤؤس إليه وأعينهن تبرق بصدمة من وجوده، وإذ فجأة يعلو صريخ صاخب جعل الشباب بالخارج ينتفضون بفزعٍ وكلا منهم لا يجرأ على التقدم لمعرفة ما يحدث بالداخل، الجميع يقف أمام الباب الخارجي يحاولون معرفة ما يحدث بالداخل، وفجأة انفتح الباب ورُكل إليهم حازم ومن خلفه حقيبته، فسقط أسفل أقدامهم.
تربع بجلسته ومازال يتأمل الباب الموصود بصدمة، فاستدار للجانبين المحاط الشباب بهما ثم عاد يتطلع للباب بصدمة، هزه أحمد بغضب: أنت كنت بتعمل أيه جوه؟
الصمت حاله والصدمة لا تتركه، فنغزه عمر بضيق: ما تنطق يالا، أيه بلعت لسانك.
أبعدهما معتز ودنى منه يتساءل بفضول: شوفت أيه جوه بالظبط اشرحلنا.
رمش بعينيه ومازال يحاول استيعاب ما رأى والدته وزوجته به بالداخل، جذبه جاسم ليقف على قدميه وسأله بضجر: هنتحايل عليك عشان تنطق، ما تتكلم!
تساءل مازن باستغراب وهو يتفحص الحقيبة: وأيه اللي أنت خارج بيه ده أنت مهاجر!
فتح الحقيبة يتفحصها باهتمام، بينما لازم حازم الصمت فاقترب منه عدي وردد بسخرية: هما قطعوا لسانك ولا أيه؟!
لاحظ ياسين انسحاب حفيده من مجلس الأولاد، حتى اليوم لم يختار الجلوس لجواره على طاولة الطعام كعادته، فلحق به حتى وجده يجلس بالحديقة الخلفية بحزن يلمع على عينيه، فاقترب منه وردد بحنانٍ: ممكن أعرف حفيدي الغالي زعلان مني ليه؟
زوى حاجبيه بحركته المتوارثة عنه، ليمنحه نظرة حزينة من عسليته القاتمة، وأدلى بوجهه لجهة الاخرى، ضم ياسين شفتيه معًا وهو يردد بثبات مخيفٍ: محدش يقدر يتجاهل سؤال طرحه ياسين الجارحي، وغفراني ليك يدل على معزتك الكبيرة عندي!
تطلع إليه مجددًا، فتساءل تلك المرة بحنان ماكر: عدي نفسه يتدخل بينا هتديله الفرصة وتفرحه فينا!
أزاح الصغير دمعة كادت بالانفلات عنه وردد بضيقٍ واضح: من يوم ما دراع إنكل عمر انكسر وحضرتك مهتم بيه زيادة عن اللزوم حتى إنك نسيت خروجتنا بتاعت كل أسبوع، وخليته يقعد مكاني على الأكل وآ...
لم يكمل حديثه واكتفى بمراقبته بصمت وغيظ جعل ياسين يرمش بعدم تصديق، وقد استرد لمخيلته ما حدث بالاسبوع الأخير، فاقترب ليجلس جواره على الأريكة الخشبية، ثم قال بتمعنٍ وابتسامته لا تفارق وجهه: أنا مقدر حزنك ده، بس لازم تعرف إن عمر زي عدي بالظبط، يعني بالنهاية زي والدك.
وضمه إليه بحركة مباغتة، فمسد على ظهره بحنان ورأسه مسنود على ظهره وهو يردد: ياسين أنا عارف انك بتحبني ومتعلق بيا جدًا، وأنا كمان متعلقتش بحد من أولادي زي ما اتعلقت بيك بس مش عايزك تكون أناني، لازم تعرف إن لكل فرد من العيلة واجبات مفروضة عليه ولازم ينفذها.
ابتعد عنه الصغير يتأمله باهتمام، فاستكمل ياسين بنفس ابتسامته الهادئة: بمعنى إنك عليك واجبات لوالدتك واختك وكل اللي حواليك وأنا كذلك، لازم تكون عاقل وقادر توزن الأمور كويس، أنا مش عايزك تتصرف التصرفات الطفولية دي تاني أنت أعقل من كده، وجود والدك وعمك وأي فرد من العيلة جنبي مبيمحيش مكانتك ولا حبي ليك، وبكره تفهم كلامي ده كويس.
ابتسم وهو يراقب كل رد فعل يصدره، يحاول قدر الامكان التعلم من قدوته، ولم يبخس عليه ياسين شيئًا يحاول دائمًا منحه ما يراه يهتم به، يشعر بأنه سيكون على نفس وتيرته بيومٍ ما ويعاونه بكل ما يمتلك، مسح بيده على شعره الطويل وهو يستكمل: بعد امتحاناتك هتسافر كام يوم مع رحيم ومراد، عايزك تفهم كل اللي هيقولهولك كويس، وتتعود إن في كل اجازة ليك هتسافر معاهم.
وسأله باهتمام: مش أنت عايز تحقق حلمك وتكون ظابط.
صحح له الصغير بارادة وعزم: ظابط مخابرات.
ابتسم وهو يؤمي برأسه: ظابط مخابرات حقك عليا.
واسترسل بعزيمة تحمسه: بداية طريق حلمك إنك تسمع وتستوعب الدروس اللي هتاخدها منهم.
هز رأسه بتأكيد وتساءل بحيرة: طب ليه بابا اللي ميدنيش الدروس دي.
رد عليه بحذر بانتقاء كلماته: عدي له دور ومسؤوليات تجاهك بس لسه مجاش دوره، لازم تفهم إني بختارلك المناسب واللي هيقدر يساعدك توصل لحلمك والمناسب ليك حاليًا الجوكر والاسطورة.
وضم وجهه بيديه معًا وهو يخبره كلمات عميقة صعب للصغير مسها: الأب مهما كان قوي وشأنه عظيم ميقدرش يقسى على ابنه فمستحيل يقدر يساعد!
مال أحمد برقبته على المقعد وزفر مرددًا بملل: هنفضل كده كتير؟
ابتسم عمر وشاكسه ساخرًا: ادعي ربنا ينفخ في صورتهم بدري بدري.
أضاف رائد ضاحكًا: المشكلة إن الكبار مشاركينهم في هبلهم ده، وكأن الواقفة دي اتعملت للنيولوك الجديد.
مال جاسم عليه يهمس له بضيق: أتمنى بس متصرعش بالنهاية، العيد اللي فات أختك صبغتلي شعرها بتنجاني وبتقنعني إنه حلو عليها وهي حرفيًا شبه البلياتشو.
تعالت ضحكاته الرجولية حتى أدمعت عينيه فتساءل مازن باستغراب: أيه اللي بيضحك للدرجادي!
لوى معتز فمه بتهكمٍ وأضاف: الضحكة دي مفهومة بالنسبالي، كان عندي نفس اللون العيد اللي فات وعملت ثورة لحد ما تم تغيره بفضل الله!
زفر عدي بملل، فمال ياسين إليه يردد: أنا عارف إنك مالكش في الجو ده يا سيادة المقدم بس معلش مضطر تتعود علينا دلوقتي ويوم تكريمك لاننا السنادي هنكون معاك كلنا بأمر من الباشا ياسين الجارحي.
اعتدل بمقعده وتساءل بجدية: بابا!
أكد له بهزة من رأسه وأضاف: مأكد علينا الصبح إنك بعد العيد هتتكرم وكلنا هنكون معاك
ارتسمت بسمة سعادة على وجه عدي، وقال: غريبة مقاليش.
ضحك قائلًا بمرحٍ: أنا قولتلك.
بالداخل.
صاحت باصرارٍ: والله اللون تحفة عليكٍ يا مامي واسألي رحمة.
حانت منها نظرة لرحمة التي أكدت لها بإبماءة رأسها: والله جميل عليكِ ومصغر حضرتك جدًا.
ألقت على ذاتها نظرة متفحصة ثم قالت بخجل: بس اللون فاتح وأنا مش متعودة ألبس فواتح.
فرقعت مليكة أصابعها وهي تخبرها: وده المطلوب التغير.
وأضافت: صدقيني اللون ده هيعجب الباشا جدًا.
تركت ساحة المرآة وجلست جانبًا وهي تردد: أنا مكسوفة أظهر كده قدامه.
جذبت مليكة المقعد وقربته منها قائلة بانهاكٍ: الظاهر إن لسه في مهمة أصعب وهي اقناعها.
بالخارج.
طالت الساعات ومازال الجميع بالخارج، والشباب يتمددون على المقاعد، ولجوارهم أبناءهم الذكور، غفى يحيى برأسه على قدم ياسين، فمرر يده بين خصلاته وهو يردد بانزعاجٍ: طب كانوا سابوا الاولاد يطلعوا أوضهم!
أجابه عمر ساخرًا وهو يحاول تهدئة صغيره الرضيع: يعني هما خرجوا عدي أبو كام شهر على إعتبار إنه راجل ولا يجوز له البقاء وهسيبوا إبنك اللي في نظرهم محتاج الجواز!
ضحك وهو يشير له: ستات دماغها غريبة!
اقترب منهما أحمد وهمس وعينيه تجوب المنطقة المحظورة بجانبهم: ده حتى ياسين الجارحي خرجوه!
ضحك عمر وهو يردد: هموت وأعرف عملوها ازاي!
علي جانب منهم، زفر يحيى بغضب: وبعدين بقا يا ياسين هنفضل كده كتير، بقالنا أربع ساعات قاعدين القعدة دي، يطلعونا ننام أحنا مش صغريين على البهدالة بتاعت كل سنة دي!
استدار برأسه إليه ثم قال ببسمة هادئة غير منزعجة: إصبر كام ساعة وبعدها تنول المراد.
سدد نظراته القاتمة إليه، وبشكٍ قال: مالك النهاردة يا ياسين، هادي كده ومش متعصب ولا حازم مع الجماعة اللي اتمادوا دول كعادتك.
ربع يديه خلف رأسه وهامت عينيه بالسماء مرددًا بصوته الرخيم: حرام أتحرر من الوش اللي لابسه ده وأحتفل بالعيد زي أي إنسان طبيعي.
تعالت ضحكاته وقال بصعوبة بالحديث: هو فين الاحتفال ده، حبيبي احنا مطرودين بره في الهواء الطلق!
غمز بعسليته بمشاكسة: هتحلو دلوقتي.
فُتح الباب على مصرعيه فعلم الجميع بانتهاء فترة الحجر المفروض، وهموا جميعًا للداخل فتوجهوا بالاولاد للاعلى أولًا وتوجه كلا منهم لجناحه الخاص.
بالجناح المخصص لياسين الجارحي.
ولج للداخل يبحث عنها، فتفاجئ بها تقف خلف الستار المخصص للشرفة، راقبها بنظرةٍ ماكرة وبسمته ينجح باخفائها، فوضع يده بجيب بنطاله القماشي وتساءل بخشونة: واقفة عندك بتعملي أيه؟
منحته بسمة مرتبكة وهي تجيبه: مش أنا مليكة اللي صممت ألبس الفستان ده، وشكله مش لطيف عليا.
مجددًا يكبت ضحكاته، ومع ذلك لم يخسر ثباته الذي يخبرها: إخرجي يا آية وسيبك من لعب العيال ده.
ابتلعت ريقها بإرتباكٍ، وبتوترٍ حررت الستار عن يدها وظهرت من أمامه، تفحصتها نظراته التي شملتها من الأعلى للأسفل، ضربت رغباته في مقتل وهو يراها متألقة بفستان من اللون القرمزي الفاتح، تاركة لشعرها العنان، وجهها مزين بالقليل من المستحضرات، كانت فاتنة، تحاول الاستيلاء على قلبٍ ملكٍ لها من البداية.
صمته المطول زاد من قلقها، أرادت أن تستمع لتعليقه عما أجبرته بارتدائه، وجدته يقترب منها فأغلقت عينيها بقوةٍ وقلبها يزيد من دقاته، وقف قبالتها يتمعن بها عن قرب، ومن ثم قال ببسمة هادئة: متعارضيش مليكة تاني وإلبسي أي شيء تختاره ليكِ!
تطلعت إليه بحماسٍ تشكل بسؤالها: بجد حلو.
رفع يده يضم وجهها وإبهامه يمر على شفتيها ببطءٍ قاتل، وهمس صوته المغري يصل لها: إنتِ تحلي أي شيء تلبسيه!
ودنا منها وعينيه العاشقة لا ترى سواها، تلك الفتاة التي أضرمت النيران بقصره العاصي، لتفيضه بنورٍ متأجج طال قلبه أولًا ومن ثم تسلل لمن حوله!
أول شيء بحث عنه كان غطاءٍ سميكٍ يحمي جسده من البرودة التي أثلجته بالخارج، تمدد يحيى على الفراش وداثر ذاته بالاغطية جيدًا وهو يهمس بضيق: لو حبسونا في غرفنا مش كان أحسن من البرد ده!
أتاه سؤالًا مستنكر لما يفعله الآن بتلك اللحظة: يحيى أنت هتنام؟
أجابها من أسفل الاغطية: مش حابب أجاوبك على سؤالك في الوقت الحالي، سبيني فرصة أخد وأدي مع نفسي كده وبعدين أجاوبك.
أزاحت ملك عنه الغطاء بغيظٍ: أنا بقالي أربع ساعات بعمل التسريحة دي عشان تعجبك.
ردد بضقٍ: مكنتيش محتاجة لشيء أنا شايفك جميلة من غير حاجة، فمكنش في داعي للتزنيبة دي وآ.
بترت كلماته حينما رآها تقف أمامه بجاذبية فتاة تبلغ الثمانية عشر من عمرها، كان من الصعب أن يحيل عينيه عنها، حتى حينما جلست لجواره والتقطت الغطاء وهي تردد بحرج: بصراحه أنا كمان بردانه بس هعمل أيه مليكة اللي صممت تلبسني الفستان القصير ده!
خرجت الكلمات على لسانه بصعوبة فقال: ملك انتي صغيرتي كده ازاي!
منحته نظرة قاتلة قبل أن تهاجمه: قصدك أيه أنت كنت شايفني ازاي قبل كده؟
رمش بتوتر وهو يعدل من كلماته: لا مقصدش بس أنتِ خدتيني لعمرك العشريني بجمالك ده.
ابتسمت على استحياء وسألته: يعني أستاهل الأربع ساعات!
لعق شفتيه بارتباك وهو يدنو منها: تستاهل عشرة يا باشا.
واستطرد بمكر: حالا هشكر مليكة إنها صممت تعمل فيكي كده!
نجح أخيرًا بنقل ابنه لغرفته الخاصة، واتجه لجناحه، فوصلته مكالمة والده الذي يعبر عن امتنانه لزوجته، وذكر له بأنه كان يود أن يبلغها بنفسه ولكن هاتفها مغلق، الأمر ذاته الذي أخبره به ياسين الجارحي منذ قليل، لوهلةٍ شعر وكأن زوجته مصممة أزياء عالمية وبدأت للتو لاستقبال جماهيرها العريقة وليس أي جمهور، عمالقة آل الجارحي بأنفسهم، اتجه ياسين لجناحه متلهفًا للقاء زوجته المشهورة، فوجدها تجلس على الأريكة بهدوء لا يتناسب مع عملها الحديث، برق بعينيه بصدمة لما ترتديه وصاح متجهمًا وعينيه تجوبها من أعلاها: بقى ياسين الجارحي وبابا يشكروني بنفسهم على ذوق في اختيار اللبس وفي الأخر لابسالي ملحفة!
كبتت ضحكاتها بصعوبة وتصنعت عدم مبالاتها بما يقال: بجد بابا وأنكل يحيى كلموك!
اقترب ياسين منها وجذب طرف الاسدال وهو يتساءل مجددًا بخيبة أمل: أيه ده فهميني!
جذبت الاسدال عنه وإتجهت للاريكة مجددًا وهي تخبره: أيه يا ياسين النهاردة أخر يوم في رمضان اتقي الله يا أخي.
زوى حاجبيه بسخطٍ وجلس جوارها وهو يحاول التحكم في ذاته، فرسم بسمة واسعة وهو يردد: كل سنة وأنتي طيبة، العيد بكره!
هزت رأسها بفرحة وهي تؤكد له: آه ما أنا عارفة إن العيد بكره.
ضرب كف بكف وهو يصيح: العيد بكره يا مليكة مش هنحتفل احنا كمان؟!
تابعته بصمتٍ، فقال بتذمر: يعني حنيتي على والدي وعمي وأنا أيه وضعي معاكي؟
فركت أصابعها بارتباكٍ لحق نبرتها: اديني وقتي لو سمحت.
ضيق عينيه بعدم فهم: وقت أيه!
وجدها تنزع عنها اسدالها ليتفاجئ بما ترتديه، فستان قصير من اللون الأحمر، وحذاء يلتف حول ساقها، شعرها مفرود من حولها بمظهر سلب قلبه وجعله لا يستطيع رؤبة شيء سوى عينيها، وتلك البسمة التي سيطرت على عواطفه الكامنه، همست مليكة إليه بخجل: كنت تحت فأكيد مش هنزل كده، ويدوب لسه داخله لقيتك ورايا.
وبمرحٍ قالت: أنا قلبي ميقساش عليك يابو يحيى.
ابتسم ياسين ودنى منها يردد أمام اغرائها: قلبك قسى لما بعدك عني المسافة دي.
وأشار لها بمكرٍ: حني وقربي!
اقتربت إليه، وانطوت بين أحضانه، فضمها إليه بعشقٍ سحبها بعالمهما الذي لم تتخلى عنه عاطفتهما المتبادلة، خاصة بهذا اليوم.
بجناح عمر.
أزاح رابطة يده الملتفة حول عنقه ليريح يده قليلًا، وإتجه لخزانته فجذب البنطال وارتداه بصعوبة، ومن ثم ارتدى قميص البنطال المنزل وحاول باستماتة قفل أزازه، وفجأة وجد يدها تعاونه على ففل الأزرر، ابتسم وهو يتأملها من هذا القرب الخطير لمشاعره، وما كادت بغلق نصف الأزرر حتى أوقفها، فأحاط يدها بيده، ورفعها عاليًا ليجبرها على أن تلف بفستانها الطويل، مطلقًا صفيرًا إعجابًا: أيه الجمال ده كله.
ايتسمت نور وتساءلت بخجل: بجد، عجبك الفستان.
لفها بذراعه حتى ارتطمت بصدره وهمس لها: ده يعجب الباشا يا باشا.
تلاشت ابتسامتها تدريجيًا حينما تذكرت أمرًا، وصرحت به على الفور: عندك فين عديتي؟
انكمشت تعابيره بغضب: ده وقته يا نور، الصبح يا حبيبتي هديكي العدية!
أشارت بالنفي وباصرار قالت: إن كنتوا اخوات اتحاسبوا يا حبيبي، عديتي من فضلك.
ردد ساخرًا: إخوات!
ومال لجاكيته المعلق ومن ثم جذب مبلغًا من المال، قدمه لها عمر وأغلق باقي أزراره ثم اتجه للفراش ليغفو بهدوءٍ غريب، لحقت به وهي تتساءل باستغراب: هتعمل أيه؟!
رد عليها بسخرية: مش بتقولي اخوات يبقى أنام أحسن.
ألقت المال إليه ورددت بغضب: لا الكلمة دي مش مقصرة معاك أكتر من المبلغ اللي ادتهوني، أنا عارفاك مكار، خد فلوسك والصبح هعرف أخدها منك وبطريقتي.
نهض عن الفراش وانحنى يلتقط المال، ثم قدمه لها وهو يخبرها بجدية ابتسامته الساحرة: العيد ميحلاش غير لما تكوني أول واحدة واخده عديتها يا نور.
واستطرد برجاء: بلاش طريقتك دي لانها مش بتضرني لوحدي، خليكي عاقلة كده زي ما كنتي طول الشهر وسيبي الشباب في حالهم.
التقطت منه المال وهي تخبره بخبث: هفكر.
ردد بتريثٍ وهو يضمها اليه: مش مرتحلك!
ابتسمت وهي تخبره بمكر: هضطر أعاملهم كويس لإني محتاجة لمساعدتهم، انت ناسي إن لسه كام يوم على عيد ميلادك.
تلاشت ذاكرته للعام الماضي وبالأخص ليوم عيد ميلاده السابق
##.
ولج لمكتبه بخطوات سريعة قد تكون أشبه للركض، إلتقطت السكرتيرة الحقيبة من يديه، فبدأ بفك زر جاكيته، ليستعد لأرتداء البلطو الطبي فور دخوله، إستعداداً لدخول العمليات بعد أن تم إستدعائه لحالة طارئه فأتى على وجه السرعة، ولج لمكتبه ليجد الظلام يعبئ المكان، كاد بتشغيل الأضاءة ولكنه تفاجئ بمن تضيء الشموع بالغرفة، ليظهر وجهها على ضي أحد الشموع، نور قلبه التي إستحوذت عليه منذ النظرة الأولى، أغلق عمر باب مكتبه ثم إقترب ليقف أمامها بذهول وقد بدأ بأستيعاب ما يحدث حوله، حملت قالب الكعك وإقتربت منه ببسمة مشاكسة، لتتغندج بوقفتها بدلال مردة «كل سنة وأنت طيب».
رسمت البسمة على وجهه وهي تدور حوله بسعادة وفرحة تكاد تقفز من عينيها، مدت يديها أمام لتشير له ببسمة هادئة: طفي الشمعة...
حمل منها القالب ليضعه على مكتبه، ثم قربها منه ليحاوطها بين ذراعيه مردداً بسخرية: يعني كان لازم تدبي معايا شكلة الصبح عشان أصدق إنها مفاجأة؟
إبتسمت بخجل لقربه منها فمازال الحياء يتمكن من قلب المرأة حتى وإن عاشت دهراً كاملاً مع الرجل: عشان الخطة تنجح، وبعدين المكان هنا حلو بعيد عن دوشة القصر.
إقترب منها بخبث ليردد بمكر ونظراته تهلل بالخطر لها: والله؟
تراجعت للخلف لتدفعه بخفة قائلة بأرتباك: مش هنطفي الشمع ولا أيه؟
ضيق عينيه بتفكير: على حسب، فين هديتي؟
عدلت من فستانها بغرور: لا مش هنا هديتك بالبيت.
إقترب منها بمكر وهو يغمز لها بنظرات تعرفها جيداً: وأنا مش هطفي الشمع من غير ما أخد هدية.
تراجعت للخلف بتعثر وهي تجيبه بضيق: مجبتش هدايا معايا قولتلك حضرتها بالبيت.
كادت بأن تتعثر بفستانها الطويل فوجدت ذراعيه تطوف بجسدها، تلاقت نظراتهم لقليل من الوقت قطع بفتح الباب على مصراعيه ليطل من خلفه شباب الجارحي بأكملهم، فمرر جاسم قالب الجاتو الذي يحمله قائلاّ بنبرة رجولية مناسبة: كل سنة وأنت طيب يا شبح.
توقفوا جميعاً ليتطلعوا إليهم بصدمة لتحل وابل الأسئلة والمرح فيما يينهما ليعلو صوت حازم بسؤالا يطوف على جميع العقول: أنتوا بتعملوا أيه؟!
أجابه عمر بغضب: خليك في نفسك، ثم انك جاي هنا تعمل أيه؟
ضحك وهو يخطف قالب الجاتو ويهرول للخارج: جاي أكل تورته.
وما زاد من صدمة عمر بأن الشباب بأكملهم ركضوا جميعًا خلف حازم بأرجاء المشفى التي زفت خبره الساخر على الألسنة «الطبيب الذي أتى بعائلته للمشفى للاحتفال بعيد ميلاده فسرق أحد أفراد العائلة قالب الكعك وهرول بالمشفى يلتهمها»
عاد من مجلد ذاكرته يشير لها بتحذير: مش عايز أعياد ميلاد تاني في حياتي كلها يا نور!
فرك عينيه مرتين وهو يحاول التأكد مما يراه، فردد بتشتتٍ: أنا أكيد بهلوس مش معقول.
ابتسمت من تراقبه وبقيت محلها جوار الطاولة المزينة بالورود والشموع الحمراء، تراقبه على استحياء، دنى منها أحمد حتى بات قبالتها، يخطف نظرة للطاولة وقال بعدم تصديق: ورد وشمع!
ونقل بصره إليها وهو يستطرد: وصاحية لحد دلوقتي، لأ في حاجه غلط!
ابتسمت إليه وقد أشرقت الحياة ببسمتها الرقيقة، معشوقة طفولته وصديقته الوحيدة، من كان لها زوجًا وحبيبًا وصديقًا، لم يقصر يومًا بواجباته تجاهها ومازال نفسه الحبيب الذي لم يكسره واجبات الزوجية وتعاسة ما يواجه بعدها، اقتربت منه ويدها تطوف رقبته بدلالٍ وجدته معه والآن يشاركها به، ضمها إليه فهمست آسيل بخجل: بحبك.
لف ذراعه حول خصرها ليضمها كُلها إليه، وأنفاسه تكاد تحرق آذنيها: أنا بعشقك!
زفر بمللٍ وهو يجوب غرفته ذهابًا وإيابًا، يتفحص ساعته وهو يصفق كفًا بالأخر، فاندفع لباب الحمام يطرقه بقوةٍ وهو يصيح: بقالك ساعة حابسة نفسك جوه، انتِ كويسة طيب!
أتاه ردها المرتبك: أنا كويسة صدقني بس مش طالعه غير لما تنام.
مرر معتز يده على وجهه بعصبية جعلته على وشك تحطيم هذا العائق، فصاح بغضب: طب افهم طيب ليه؟!
واستطرد بغضب وهو يزيد من طرقه: شروق افتحي الباب ده وحالًا.
خشيت أن تزداد الأمور سوءًا بينهما، ففتحت الباب وطلت برأسها من خلفه مرددة برجاء: طيب ممكن تجبلي الروب من عندك.
ربع يده أمام صدره وصاح من بين اصطكاك أسنانه: لأ.
لم تستلم أمام مطالبها، فعادت تخبره: طب غمض عينك.
أدمى شفتيه السفلية وقال: اطلعي بدل ما أنا اللي هخرجك وبطريقتي!
فتحت الباب وأجبرت ذاتها على الخروج، لتقف أمامه بخجلٍ، فر الغضب عن معالمه فور رؤيتها، فلف من حولها وهو يحاول استيعاب بأنها ذاتها زوجته، لأول مرة يراها بهذا الفستان الجريء، وينتبه لخسارتها وزنها بالايام الماضية، أهلكته للتو بجاذبيتها التي تحاول إخفاءها عن عينيه، فقالت بارتباكٍ: اشتريته من فترة بس آآ، عنته للعيد يعني وآ، معرفش حاسة انه ضايق.
وهرعت للخزانة وهي تردد: هروح أغيره حالًا.
سد طريقها، وببسمة عريضة قال: تغيري أيه ده انتي أخيرًا ابتديتي تفهميني!
تراجعت للخلف بارتباك وهي تردد: عيب يا معتز.
نزع عنه جاكيته وهو يشير ساخرًا: هو انتي ليه تصرفاتك غريبة جدًا النهاردة، ده أنا جوزك بقالي عمر مش لسه ضاربين ورقة عرفي امبارح!
لكمته بقوة: ألفاظك!
مال إليها وبمكر همس: أغيرها عشان عيونك يا جميل.
ارتبكت أمام نظراته فكادت بالسقوط على الفراش، ساندتها يده وأحاطتها بقوة، وسبقها بقوله الخبيث: حاسب يا وحش.
بتذمرٍ قالت: مش هقع في البحر أنا!
نزع يده بسخطٍ: حقك عليا.
صرخت حينما سقطت على الفراش، فلحق بها حتى تمدد جوارها، اعتدلت إليه ورددت بانفعال: هان عليك تسبني!
نزع عنه قميصه قائلًا بمكر: ما أنا رميت نفسي وراكي!
واقترب منها فتراجعت للخلف وهي تشير له بالتوقف: انت رايح فين؟
ضحك وهو يقربها إليه: ده سؤال بذمتك!
تردد جاسم في الدخول إليها، فظل أمام باب الجناح لوقتٍ لا بأس به، وحينما استدار انتفض حينما وجد أبيه قبالة عينيه، فتساءل باستغراب: واقف كده ليه؟
ابتلع ريقه بهدوءٍ وهو يخبره: مفيش بفكر أدخل ولا أخلع لأي جناح.
ردد أدهم بدهشة: تخلع ليه! هو انتوا اتشاكلتوا تاني؟!
عاشر يا حاج تقصد عاشر.
زفر أدهم بسخطٍ من ابنه الذي لا يكف عن مشاكساته التي لن تتخلى عنه مطلقًا، فردد بهدوء متوازن: يا ابني ارحمني بقا الله يكرمك، داليا جدعة وبتحبك بس أنت إسلوبك اللي دبش.
أشار لذاته بتأثرٍ: أنا دبش!
أومأ برأسه بتأكيدٍ، وأضاف: اتعلم مني أنا وأمك، أو من أحمد وأختك بلاش أحمد بص لأي شاب من شباب الجارحي المحترمين المهم تتعلم العقلانية والتعامل الراقي مع مراتك.
وحينما وجده ينصت له جيدًا، قال: انزل اشتريلها ورد، هاتلها بوكس فيه هدية شيك بمناسبة العيد، اتحرك كده أنا اللي هعلمك!
بقى أنا بقالي ساعتين قاعدة أستناك وانت واقف تدي محاضرات لابنك!
صرخت غاضبة فيه بكل طاقتها، جعلته ينتفض للخلف محتضنًا ابنه الذي همس إليه: كان بودي أقولك شوشو وراك بس مجتش الفرصة!
انتبه لذاته فابتعد عنه وهو يعدل من جرفات بذلته بثبات مخادع، وقال: متأخرتش يا شذا أنا لسه راجع من برة حالا.
رمقته بنظرة محتقنة وصاحت: بدل ما أنت بتدي نصايح لابنك المتهور اللي مفيش منه رجا كنت علم نفسك يا حبيبي ما أنت راجعلي ايد ورا وإيد قدام!
حك جبهته بحرج، فناوله جاسم زهرة موضوعة بال?ازة المجاورة له وهو يخبره بصوت منخفض: طلعت إنت اللي محتاج مساعدة يا والدي، رضيها بيها ومتقلقش عليا!
التقط منه الزهرة ثم دنى منها وهو يردد ببسمة واسعة: لأحلى وردة في الدنيا كلها.
التقطتها ببسمة رقيقة وخاصة حينما مال عليها يمدح بجمالها الرقيق وتميز طالتها، فغادرت برفقته لجناحهما، فما أن غادروا حتى ردد جاسم بسخرية: حتى ماما طلعت بتتثبت!
واسترسل بضيق وهو يتأمل الباب الموصود: خايف أدخل أتفاجئ بلون صبغة تعكنن يومي.
ومرر مقبض الباب وهو يهمس: يا رب ميكنش أخضريكا.
بحث عنها وهو يتمنى أن لا يرأها، فبرق بحدقتيه حينما لمحها تجلس على الفراش، اطمئن قلبه فور رؤية شعرها مازال أسود اللون كطيبعته، فابتهجت ابتسامته وصاح: يا ما أنت كريم يا رب.
وما أن دنى منها حتى تبلدت بسمته فور أن جذبت شعرها لكتفيها، فردد بصدمة: أيه ده انتي قصيتي شعرك!
ابتسمت بسعادة وكأنه يمدحها: حلو مش كده.
كز على أسنانه بغيظ: هو انتي يا تصبغي يا تقصي مفيش حل وسط!
توسطت يدها خصرها وصاحت بنفور: أنت مش بيعجبك حاجة أبدًا، أعمل أيه تاني عشان أعجبك!
خشي أن تنتزع ليلته وحينها سيسخر منه أبيه، فأسرع يتمدد جوارها وهو يصحح كلماته: مين قال إنه وحش انتي زي فلقة القمر يا دودو.
أشرقت ابتسامتها مجددًا: بجد.
هز رأسه بتأكيد، ففركت أصابعها بخجل وهي تحاول القاء قنبلتها القادمة، والاخر يتقرب إليها بشوقٍ، فهمس برغبةٍ: وحشتيني أوي.
ابعدته وهي تخبره: في حاجة لسه حابة أقولك عليها.
ردد بهيام بعينيها: لسه في مصيبة تانية غير شعرك!
أكدت بإيماءة رأسها، فكور يده وهو يحدث ذاته: اهدى خالص واسمعها بقلبك مش بعقلك.
وأشار لها بالحديث فقالت: ألف مبروك عليك أنا حامل.
رمش بعينيه ببعض الصدمة، وردد: هو فعلا مبروك عليا!
ولطم ساقه بغيظ كاد باسقاط أسنانه، فتراجعت بجسدها للخلف وهي تتساءل بخوف: انت كويس يا جاسم؟
رسم بسمة حقن بها غيظه المحترق وقال: كويس. كويس جدًا.
وتحررت ابتسامة اخرى وهو يجذبها اليه مرددًا باصبعيه: بصي مهما حاولتي تنزعي عليا ليلة العيد مش هعدهالك، هنحتفل وهنحب في بعض وبكره نتخانق مهو بصي هتتثبتي يعني هتتثبتي الحاج آدهم أبو وردة سلف مش أحسن مني!
شيلي البتاع ده عن عيوني هتعمي كده!
ضحكت وهي تراقبه يحاول إزاحة القماش عن عينيه، فابعدته رانيا عن عينيه وهي تشير له بتتابعها للداخل، لحق بها رائد فتفاجئ بصندوق أسود موضوع على الفراش ومن حوله ورقات من الأشجار الرقيقة، فتح هديتها فوجد احدى زجاجات العطر التي كان يستخدمها سابقًا، استدار لها وهو يتساءل باستغراب: اشمعنا ده؟!
رفعت كتفيها بدلال: بحبه عليك.
فتح العلبة ونثر منها على قميصه، ثم قربها إليه وهو يردد أمام وجهها: مش هحط غيرها بعد كده.
لفت ذراعيها حول رقبته، ويدها تعبث بالريموت الصغير، فتحرر لمسمعه صوت موسيقى هادئة، تحركت برفقته بخفةٍ ورأسها موضوع على كتفيه، فضمها إليه بحنانٍ وترقب لانتظار اللحظة التي تدعوه بها لعالمهما السري.
مش حاسس بتغير يعني، شكلك زي مهو!
قالها بعدما سئم من سؤالها المتكرر عن رأيه بما فعلته بذاتها، فحطم حازم سقف أمنياتها حينما قال ذلك، فجلست على الفراش بحزنٍ ولحق بها وهو يخبرها بمشاكسة: فكري وركزي شوية، أنتي مش شايفة البنات بقوا عاملين ازاي.
عبست بعينيها بصدمة من حديثه وصاحت: قصدك أيه يعني؟
أخبرها بضحكة خبيثة: سبيلي نفسك وأنا هخرجك مزة. بعدها مش هتعرفي نفسك تاني وبعد كده هتتحايلي عليا إني أتمملك على الأوت فيت بتاعك.
أسرعت إليه بحماس: بجد يا حازم.
أشار لها وهو يتجه للخزانة: جد الجد يا روحي، بينا اختارلك فستان منحرف أقصد محترم.
وولج للداخل حاملًا عصا رفيعه، فدار على الخزانة الطويلة، مشيرًا على مجموعة متتالية قائلًا: قيسي ده وده وده. وتعالي بره أقولك رأيي.
وخرج ينتظرها على مقعده حاملًا طبق من التسالي وعينيه تراقب الخزانة حتى خرجت إليه بفستان وردي اللون كان يبرز جمال عينيها، ولكنه لم يصل لغايته فأشار لها: لأ، شوفي التاني أحسن.
عادت للداخل ثم عادت مجددًا ترتدي فستانًا أخر، فأشار بعصاه بأن تعود للداخل مجددًا، ظلت هكذا حتى انتهت من أكثر من خمسة عشر فستانًا، فخرجت بالسادس عشر تستند على الحوائط وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة، فسقطت أرضًا وهي تحاول الاستقامة بقامتها كعارضات الازياء المشاهير، فقال قبل أن يلمحها: لسه مجاش اللي في بالي جربي غيره وياريت يكون قصير، أنتي داخلة على لائحة الطوويل مفيش واحد منحرف عندك جوه، ده حتى رمضان خلص وكل سنة وانتي طيبة!
تلونت حدقتيها بالاحمر القاتم، فجذبت العصا عن يده وانهالت عليه وهي تصرخ بغضب: تكونش صدقت نفسك يا انسان يا عديم الضمير والمبادئ، ثم اني ازاي اسمع كلام واحد متحرش وعينه زيغة زيك.
نهض عن المقعد وهو يحتضن ذراعه بألمٍ: عيب يا ولية حد يسمعك يقولوا عليا أيه، هو الواحد حيلته أيه غير سمعته اللي زي البفتة البيضة.
أشارت لذاتها باستنكارٍ: ولية! ده تمامك بعد كل اللي قسته قدامك ده وعمالة أصبر نفسي وأقول سبيه يمكن يحس بالاتنين كيلو اللي خستهم لما يشوف فرق الشكل من فستان للتاني وأنت معندكش دم.
ردد ساخرًا: ليه بتقسي وتقلعي في المقطم، ده الفرق بين الخزنة والصالة فردة رجل!
طالته العصا فاجتازت كتفه، والاخرى تصيح به: ده أنا هخلي يومك أسود من الخروب.
ركض للخارج وهو يصيح بها: عيب يا نسرين اعقلي، احنا في ليلة مفترجة.
ركضت خلفه فتعركلت قدميها بطرف فستانها الطويل، فسقطت أرضًا ومع ذلك لم تتركه، حملت طرفه وركضت خلفه مجددًا، فخرج للتراس فقال وهو يلتقط أنفاسه: أعتذرلك طيب ونحل الأمور؟
تحملت على ذاتها وهي تركض بتعبٍ من خلفه: مش هسيبك يا حازم، رقبتك تمن الليلة دي يا منحرف!
طالته عصا أخرى، فهرول مسرعًا لابواب الاجنحة الخلفية، فاختار الباب الزجاجي المخصص لجناح والده، فتح الباب وهرع للداخل فسقط على الفراش، فوق حمزة الذي يستعد لنزع قميصه، فصعق حينما وجد وزنًا يفوق طاقته فردد بصعوبة بالحديث: انتي تخنتي كده ليه يا تالي!
رفع عنه الغطاء فصعق حينما وجد حازم يقابله والاخر يحيه: مساء الزبيب يا ميزو.
لف الغطاء حول جسده وكأنه يراه متعري، ليصيح بانفعال: أنت دخلت هنا ازاي يا حيوان!
أجابه وهو يرفع الغطاء عنه ليتمدد جواره ومن فوقه الغطاء ليتخفى عن أعين زوجته التي مازالت تبحث عنه بالخارج: من الباب هدخلك منين يعني.
دفعه حمزة بصدمة: اطلع بره أنت ازاي تيجي في وقت زي ده!
كلما حاول حمزة رفع الغطاء ليبعده، تمسك حازم بالغطاء وهو يترجاه: اهدى وداريني هنا نسرين هتموتني.
جحظت عينيه صدمة حينما لمح من تقتحم الغرفة، فتخفى جوار حازم وهو يحاول اغلاق ازرار قميصه مرددًا بذعر: عملت أيه يالا، الله يخرب بيتك يا شيخ زي ما أنت هتخرب بيتي في ليلة العيد!
وجذب الغطاء يداثر ذاته به، وحازم يجذبه ليخفي ذاته، فردد حمزة بغيظ: استر أبوك يا حيوان!
أجابه حازم وهو يتخفى أسفل الغطاء: الصحة أهم من الستر!
تفحصت نسرين الغرفة وهي تصرخ بعصبية بالغة: اطلع يا حازم هتستخبى فين يعني، هي خلاص كبرت في دماغي وهقتلك يعني هقتلك.
همس حمزة لحازم من أسفل الفراش: اخرج وخلي عندك ذوق هتقتل معاك!
همس له: هتتخلى عني عشان عصايا!
تساءل بخوف: هي معاها عصايا!
صحح مفهومه الخطئ: شومة يا حاج!
هز رأسه بأعين مذعورة، فرفع ساقه ودفعه خارج الفراش وهو يصيح به: حل مشاكلك برة أوضتي يا حيوان.
صرخت نسرين بصدمة حينما وجدت حمزة قبالتها يحاول اغلاق أزرر قميصه، فالتقطت عينيها حازم الذي يهرول للخارج فاتبعته مرددة بصراخ: تعالى يا جبان يا عديم المنفعة.
وما كادت بالخروج حتى تراجعت لتردد بحرج: لامواخذة يا عمي.
أشار بيده من أسفل الغطاء: خدي راحتك ياسو بس براحة على الواد يخليلك عيالك مفيش مستشفى فاتحة النهاردة، احنا مش حمل بهدالة يا بنتي.
أشارت بالعصا وهي تهرول خلفه: متقلقش.
فتحت تالين باب الحمام وخرجت تتساءل بصدمة: ده صوت نسرين صح!
ركضت خلفه للأسفل فوجدته يجلس على الاريكة بانهاكٍ، جلست جواره وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة، التقط حازم زجاجة المياه وقدمها لها فارتشفتها باكملها ومازالت تلتقط أنفاسها، منحته بسمة رقيقة وهي تردد: شكرًا.
اعادها للطاولة وهو يجيبها: العفو يا حبيبتي، أجبلك ميه من المطبخ تانية؟
هزت رأسها بالنفي ومالت على كتفه بتعبٍ، ثم قالت: لو تطلعني الاوضة تبقى مشكور معتش قادرة أتحرك، بيني عجزت يا حازم.
ردد بسخط: كل الجري ده وعجزتي!
بتقول حاجة؟
أبدًا، بقولك عيوني يا قلبي.
واكمل بينما ينحني ويحملها بتعب: بس الحكاية كده انتهت كفايا الجري والشيل، أشوفك العيد الجاي إن كان لينا عمر.
هزت رأسها باقتناعٍ وهي تميل على كتفه لتغفو سريعًا وكأن شيئًا لم يكن!
بغرفة مازن.
سئم من انتظار انتهاء مكالمتها المتبادلة مع والدتها يارا، وأشار لها كثيرًا بأن تغلق ومع ذلك مازالت مستمرة، فتسلل من جوارها لخارج الغرفة ثم اتصل بعز الذي أجابه بغضب: عايز أيه أنت التاني!
كبت مازن ضحكاته ثم قال بخبث: على ما يبدو بأن الغضب اللي بينا متبادل يا حمايا عشان كده لازم نتكاتف لحل تلك المشكلة.
أعمل أيه يعني؟
أجابه بمكر: افصل شبكة النت، أرمي الفون، اعمل نفسك تعبت فجأة، اتعصب واقلب التربيزة أعمل أي حوار.
ومتعملهوش أنت ليه؟
أنا الجهة الضعيفة أنت الأقوى
مش مكسوف من نفسك!
هعمل أيه ما بنتك اللي مفترية!
بنتي أنا اللي مفترية ولا أنت اللي مش عارف تمشي دنيتك.
هنتاقش بعدين نحل الاساسي دلوقتي، اتصرف يا باشا.
اقفل أنا هشوف حل.
وبالفعل أغلق مازن وحينما ولج للغرفة تفاجئ بها تحمل الهاتف وتعبث بأزراره مرددة باستغراب: النت فصل عندها! هحاول أرن فون
حان وقت تدخله فجذب الهاتف من يدها وهو يردد: عيب يا موجة، أكيد مامي مبقتش فاضيلك.
ابعدت يده عنها وهي تجيبه: لأ في موضوع مهم بنتكلم فيه.
أكد لها: زمانها مش فاضيلك دلوقتي يا حبيبتي اسمعي مني.
وجذبها جانبًا وهو يقربها إليه بمكرٍ: احنا لينا موضوع مهم احنا كمان!
مالت على ذراعه ومازال يجلس بها جوار الشرفة، يده تحتضن يدها وابتسامته لا تفارق وجهه، قطعت أجوائهما الرومانسيه حينما قالت: فاكر لما ركبت المبكروباص معايا لأول مرة!
امتعضت ملامحه بغضبٍ، فسحب رعد ذراعه عنها وخاصة حينما لم تتمكن من السيطرة على ذاتها من الضحك، اخشونت نبرته المتعصبة: ما خلاص بقا يا دينا مسكهالي ذلة من سنين ومش عايزة تنسيها.
برقت بعينيها بصورة مضحكة: ودي حاجة تتنسي يا باشا.
صاح بجدية تامة: دينا خلصنا!
هزت رأسها بتقبل وعادت تميل برأسها على كتفه، فاحتضنها بحبٍ، قضت بأحضانه دقائق نعمت بعشقه، وبعدها رفعت رأسها إليه مجددًا تخبره وتدعي البراءة: بس كان شكلك لطيف وانت جنبي في المواصلات والله يا رعد!
ذم شفتيه معًا وحينما وجدها تضحك غرق بالضحك برفقتها وخاصة حينما بدأت تخبره بتفاصيل متعلقة بذاك اليوم.
راقبته وهو يقف بالشرفة وتسللت بخفة في محاولةٍ لأن تفزعه، ابتسم وهو يرتشف عصيره مرددًا: حبيبتي متفكريش تعمليها تاني مع ظابط شرطة!
واستدار إليها ليجد خيبة الأمل على وجهها وشفتيها المتدلية للأسفل، فابتسم وهو يتأملها بعشقٍ زف بنبرته الرخيمة: لو فجأتيني بأنا اتفاجئت فعلًا بجمالك وسحرك ده.
دنت منه بابتسامتها الرقيقة، فضمها عدي إليه وهو يقربها من السور الخارجي بين ذراعيه، دفن رأسه بين خصلات شعرها يشم عبيرها الذي يتسلل إليه كلما داعب الهواء خصلاتها، استدارت رحمة إليه تطل لعينيه وتتمعن بها، ابتلعت ريقها بارتباكٍ غريب، شعرت بالتيهة لحالها الغريب، لم تجرأ يومًا أن تبادر بالبوح بمشاعرها إليه، كانت تترك له مهمة دعوتها كل مرةٍ، تمنت يومًا لو تمكنت من فعلها، ولكنها كالعادة تقف ثابتة متبلدة أمامه.
اقتربت رحمة منه ومازال يراقبها بثباتٍ عجيبٍ، ينجح في قراءة غموض عينيها، يستمع لحربها المرتبكة ويتمنى أن تفعلها يومًا وتطالب وصاله، ومع انزعجه من تحفظها الشديد الا أنه كان يراعي دائمًا بأن زوجته الشرقية، التقية، عذراء المشاعر لا تعرف الكثير عما يود تجربته يومًا معها، وها هي الآن تحاول للمرة التي فشل بمعرفة عددها.
تجمد جسده فجأة حينما فعلتها، شعر بأنه يفقد زمام أموره جنونًا لعاطفته التي انساقت خلفها، فحملها وولج بها للداخل وهو يخبرها بعشقٍ: بحبك.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أنصار سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذُرّيّة سيدنا محمد وسلم تسليمًا كثيرًا».
الأجواء مبهجة للغاية، وصوت التلفاز يعلو داخل قصر الجارحي، الشباب يهبطون للأسفل بالجلباب الأبيض وكلا منهم يحملون سجادة الصلاة الخاصة بهم، حتى الفتيات جذبن السجادات ذات اللون الوردي وارتدين الاسدال وهبطوا خلفهم، فاجتمعت العائلة بأكملها وذهبوا برفقة الأطفال لاداء صلاة العيد، وما أن انتهت الصلاة وقفت رحمة ونور ومليكة وباقي الفتيات توزع على الأطفال الألعاب والشوكولا كمعتادهم كل عام، وكلما نفذ الكرتون أسرع إليهم الحارس بكرتون أخر، فنجحوا بزرع البسمة والسرور على أوجه عددًا كبيرًا من الأطفال.
وبالرغم ما فعلوه وقفت الفتيات جوار أزواجهم تنتظرن بحماس انشقاق القماش الضخم الذي يحوي عددًا ضخمًا من البلالين أعلى المسجد، فما أن حرر الرجال الخيط عنه حتى صرخن بحماس لازواجهن ليحصلوا على البلالين، وكأنهم في سباق طاحن، سرت الوجوه وخاصة الاطفال بهذا اليوم المميز، الجميع يتبادل السلام وجملة لا تترك الألسنة
«كل سنة وأنت طيب، عيد مبارك».
عاد الجميع للقصر، فصعد الشباب للاعلى ليبدلن ملابسهم، فتسابقت الفتيات بتنفيذ مخططاتهم لحين هبوطهم للاسفل.
كان رائد أول الشباب هبوطًا للأسفل، فتفاجئ بالكمين المنصوب بحرافية على مدخل الدرج، فابتلع ريقه بتوتر مصطنع وهو يتساءل: في أيه؟
صدمته تشكلت بسؤاله المطروح حينما وجد الدرج مقفول بعدد من الألواح، بنهايته فتحة صغيرة بالكد تسمح بمروح شخصًا واحدًا، توجه رائد للمرور، فتفاجئ بالفتيات يتجمهرن خلف الالواح، ومن أمامه مكتب ضخم يسد طريقه، على ما يتذكر بأنه مكتب ياسين الجارحي نفسه الخاص بغرفة المكتب الرئيسي، يترأس الآن المكتب من أمامه نور والفتيات، ابتلع ريقه بتوتر من تجمعهم الغفير، وردد بخفوتٍ: خير يا نور؟!
نهضت عن مقعدها، ومرت من حول الطاولة بعصاها الغليظة، ومن ثم هوت على الطاولةٍ وهي تصيح: فين البقشيش؟
رفع أحد حاجبيه متسائلًا بدهشة: بقشيش أيه؟
مالت بالعصا جوار رقبتها وهي تشير لشروق التي تحمل دفتر وقلمًا: اكتبي عندك معدوم الملاحظة.
وعادت لتصرخ به: العيدية يا حضرت مش النهاردة العيد؟
جحظت عينيه صدمة، فدس يده بجيب جاكيته وهو يهمس بذعرٍ: كل ده عشان العيدية، ما كنتي تقولي من الأول بدل الرعب ده؟!
أشارت له بحدة: وباقي البنات؟
أومأ برأسه وهو يوزع لكلا منهن مبلغ من المال، فأشارت لرانيا بغمزة ماكرة: عديه يا رانيا.
واتجهت نظراتها للدرج مشيرة اليهن: اللي بعده، استعدوا عايزين نعمل ثروة النهاردة.
بعد قليل هبط أحمد بصحبة ياسين، فصعق مما رأه، استدار تجاهه الاخير مرددًا: ده كمين وأنا مش مطمن!
تقوس حاجبي أحمد بمللٍ، وهبط أولًا ليتبعه الآخر فما أن اقترب من الفتحة حتى تلقفته العصا لتصرخ به: على فين يا حضرت مش في لوحة قدامك مكتوب عليها ممنوع المرور؟
عبث بحدقتيه بدهشة: مرور أيه هو أنا داخل أطلع بطاقة!
تعالت ضحكات ياسين فلحق به متسائلًا بفضول: خير يا نور، النهاردة مزاجك جايب أيه؟
وتابع بمكر: ده احنا حتى أول يوم العيد وكل سنة وانتي طيبة.
اجابته مليكة تلك المرة بسخرية: متنفعش حاف يا حبيبي، طلع العيدية بما يرضى الله.
كبت أحمد ضحكة كادت بالانفلات منه، وقال هازئًا: وهو شغل البلطجة ده يرضي الله بردو!
اشارت له آسيل بملل: أحمد لسه ورانا غيرك شخلل وعدي يا حبيبي متقرفناش!
تعالت ضحكاته الرجولية، فدس يده بجيب سرواله القماشي ثم وضع لكلا منهن المال، واتبعه ياسين مردفًا باستهزاء: عنيفات انتم!
صاح أحمد بسخرية: نعدي ولا لسه في تفتيش.
صاحت رحمة بضحك: عدوهم يا بنات.
فتحت نسرين مشيرة اليهما: جنب اخوكم هناك متعطلوناش عن شغلنا الله يكرمكم.
انفجروا ضاحكين ولحقوا برائد الجالس على الاريكة المقابلة للدرج يتابع ما يحدث بصدمة، فقال مستهزئًا: اتقلبتوا ولا لسه؟
اشار ياسين بحدة: واحنا نقدر نقول لا.
راقبت الفتيات الدرج، فاستمعن لصوت اقدام تدنو منهم فقالت نور: استعدوا في واحد نازل اهو.
ليتسلل اليهن صوت صارم من خلف الالواح: هتدفعوني أنا كمان!
ارتعبت نظرات الشباب، وخاصة حينما همس رائد بشماتة: ياسين الجارحي هيدكم أحلى عيدية!
ارتعبت نظرات الفتيات، وخاصة حينما انفجر يحيى ضاحكًا، فأشار لياسين قائلًا: أخرتها كمين وبمكتبك يا باشا.
وهبط للاسفل يضع المال وهو يشير اليه: عديها وكل سنة وانت طيب.
هبط ياسين للأسفل، فتراجعت نور وهي تشير لهن بحزم لم يكن مصيري منذ قليل: طريق للباشا وهو معدي يا بنات.
زوى حاجبه بنظرة جعلتها ترفع يدها كتحية تعبيرية: هنرجع المكتب بعد ما نخلص لم العيديات يا باشا، ولو تحب هشيله حالا وأرجعه بس والله اتزنقنا ومالقناش حاجة تسد فجوة السلم العريق ده غيره.
وتابعت بمزحٍ: مهو الفخم ميقعدش غير على الفخم اللي زيه.
ابتسم ياسين وهو يراقبها تعود لطبيعتها، كان منزعجًا طوال الأيام الماضية حينما لزمت الصمت، والحزن ينبع داخل حدقتيها، أمرها يعنيه والفتيات بأكملهن يعنيه، ابتسامته جعلت الفتيات مسرورة، أخرج ياسين من جيب جاكيته ظرف مغلف سكبه على المكتب فتحرر منه عدد من الفيز البنكية وأخبرهما بثبات: أنا مش هديكم عيدية أنا هديكم حق تعبكم في شغل المقر، الفلوس اتحولت بحساب بنكي في حساب كل واحدة فيكم، بتمنى بعد العيد نرجع للشغل من تاني.
وتركهم وغادر، فسحبت كل فتاة الفيزا المدونه باسمها، فرددت داليا بمزحٍ: دي فرجت أوي.
صاحت شروق اليهن: في صوت. حد نازل!
دفعوا المكتب مجددًا فوجدوا حازم يهبط للأسفل وهو يتناول الشوكولا وبعض التسالي، فضحك فور رؤيتهن، وصاح بسخرية: ناقصكم فرع الشجرة اللي بيبقى مرمي قدام العربية قبل ما ينقض البلطجية على المارة.
اقتربت نسرين منه ورددت بغضب: هتدفع ولا ترجع.
زم شفتيه بسخطٍ، ومد يده بجيبه في محاولات عسيرة للحصول على المال، فوضع عن يده الشوكولا على المكتب وأخرج التسالي على المكتب، ومن ثم أفرغ جيبه الأخر بحبات(الترمس)، والفول وغيره من المكسرات فصاحت مروج باستهزاء: أنتي معبي البونبنيرة كلها وإنت نازل!
لطمت نسرين صدرها مرددة بقهر: شقى عمري كله ضاع على جيوبك، أنا مزينة الجناح قبل ما أنزل عشان نقضي انا والبنات السهرة فوق.
رد عليها وهو يلقي قشور الفول أرضًا: وهما البنات أحسن مني في أيه، ده أنا لسه امبارح شايلك ومطلعك السلم ده كله بطولي!
ليه وإنت كنت محتاج حد يساعدك!
قالتها رحمة بسخرية، فتعالت ضحكات الفتيات، بينما صاحت نسرين بتذمر: ما تنجز في يومك الله.
قال بنفور: ما أنتي شايفاني أهو بحاول!
ضحكت مليكة قائلة: ملقيش معاك كحك وبسكوت يا حازم.
أجابها بجدية تامة: كان معايا وكلته والله.
ونطق بحماس: بس لقيتها.
وأخرج الفيزا ثم ألقاها إليهم مرددًا: 55522
أجابته نور: ده أيه يا خفيف؟!
أجابها وهو يعيد التسالي لجيبه مجددًا: الرقم السري، واسرقوا بضمير ورايا اقساط لسه!
جذبت رانيا الفيزا مرددة: وماله مش بطال، عدي يا حازم.
جذبت مروج المكتب مشيرة له بالمرور، فوجد الشباب يتابعون ما يحدث على الاريكة، جلس برفقتهم وهو يتناول التسالي قائلًا بشماتة: الجيش كله هنا ومتعلم عليه، شاطرين تفردوا عضلاتكم علينا بس!
اجابه رائد بسخط: اذا كان باشا القصر بنفسه دفع، تفتكر احنا هنعترض.
بصق القشور التي بفمه وهو يجيبه بثقة: الوحش مش هين، هيعلم عليهم الوقتي.
دقائق مبسطة وهبط عدي للأسفل، فتفاجئ بما يحدث ومع ذلك استكمل طريقه بكل ثقة، وحينما وصل للأسفل ردد بثبات تام: خير على الصبح؟
اجابته نور ببسمة عريضة: زي ما حضرتك شايف يا وحش ضرايب وفلوس ومديوع وحوار طويل.
واسترسلت بمكر: ولو مدفعتش شكلنا هيبقى وحش وهيتقال اننا بنميز ناس على ناس يرضيك.
زوى حاجبيه وأجبرها ببرود: مهو أنا مش بدفع شيء غصب عني وانتوا عارفين الكلام ده.
حكت خديها بتمعن، فهبطت للاسفل ودفعت رحمة قائلة: ادخلي انتي اتفوضي معاه.
ارتبكت رحمة حينما باتت قبالته، ففتحت يدها وهي تدعي القوة: خليك متعاون.
ضحك بصوته كله، وحرر جاكيته ثم وضع لها ظرف من الجلد الثمين مكتوب عليه «عيد سعيد زوجتي الحبيبة»، التفت الفتيات من حولها يتأملن الظرف باعجاب، وخاصة حينما منح عدي كلا منهن ظرف مطوي مدون باسم الاخت.
في ذلك اليوم المبارك صمم ياسين ويحيى بالذبح واطعام الفقراء والمساكين، واتاحة جزء مخصص لعمال المصانع التابعة إليهما، كان يومًا لا ينسى برفقة الأبناء والاصدقاء والعائلة بأكملها، اجتمعوا جميعًا بساحة القصر الخارجي، وقد انتهت آية ودينا، شذا، يارا، ملك، تالين من صنع الطعام لاعتيادهم تناول الغداء باكرًا.
جلسوا على طاولة ضخمة شملت العائلة بأكملها ومن حولهم الاطفال يمزقون اللعب الجديدة التي قدمها إليهم رعد وعز، رافضين للطعام المقدم (الفتة، الكفتة)، فقدمت لهم رحمة البيتزا وبعض الواجبات السريعة، ليتمكنوا من تناول الطعام والمرح بالالعاب.
ومن بينهم نهض حازم ليلتقط صورة مفاجئة للعائلة دون أن ينتبه إليه أحدٌ، فوجوده يهرع إليهم وهو يشير لمكان الكاميرا، فصعقوا جميعًا ولم يتمكن احدٌ من أخذ وضعية تناسب التصوير، فمنهم من برز ضاحكًا ومن يحاول ابتلاع الطعام، ومن يتوعد لحازم بالهلاك ومن حولهم الاطفال تزين صورتهم المحفلة بجوٍ مميز لا يخلوه الحب والتسامح.
تمت