قصة السيدة مريم العذراء بنت عمران أم المسيح
بداية: مريم بنت عمران هي مريم العذراء أم المسيح عيسى بن مريم، وهي القديسة مريم العذراء، شخصية مميزة ورد ذكرها في العهد الجديد والقرآن. هي أم يسوع الناصري، الذي ولدته، حسب المعتقدات المسيحية والإسلامية، ولادة عذرية دون تدخل رجل.
إنها السيدة مريم الصديقة القانتة التي يرتبط اسمها ارتباطا وثيقا في أذهان المسلمين باسم السيد المسيح عيسى بن مريم، الذي جُعل آية للناس حيث خلق من أنثى بلا ذكر شأنه في عجب الخلق شأن آدم الذي لم يخلق من ذكر ولا أنثى وكذلك حواء التي خلقت من ذكر بلا أنثى.
وهي مريم العذراء عند المسيحيين الذين يختلفون في تحديد طبيعتها بين مؤمن بأنها أم الإله كما يؤمن الأرثوذكس بل وشريكة في الخلاص كأحد خصائص الرب يسوع عند الكاثوليك، وبين منكر لأمومتها للإله ومؤمن بأنها القديسة التي أنجبت الإله كما يؤمن البروتستانت.
وبغض النظر عن طبيعة السيدة مريم وعن اعتقاد المسلمين أو المسيحيين بطوائفهم المختلفة في طبيعتها، فإن فضل السيدة مريم العذراء وتسليط الضوء على بعض تفاصيل حياتها في الإسلام من الأمور التي تدهش العقول وتذهل الألباب. ففي الإسلام ومرجعياته المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، نجد الكثير من الآيات والأحاديث التي تتناول فضل السيدة مريم وبعض تفاصيل حياتها.
ميلاد السيدة مريم
يتناول القرآن الكريم والسنة النبوية ميلاد السيدة مريم وفضلها حتى عند مولدها. فعن ميلاد السيدة مريم، نقرأ في القرآن الكريم:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا… (آل عمران 33:3-37)
وعن ميلاد السيدة مريم عليها السلام، قال أبو هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها” ثم يقول أبو هريرة وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (رواه البخاري)
نشأة السيدة مريم
فعن نشأة السيدة مريم، نقرأ في القرآن الكريم:
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (آل عمران 37:2)
كما نقرأ أيضا:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (آل عمران 42:3-44)
ولادة السيد المسيح
رواية ميلاد المسيح، تبين أن الملائكة بشرت السيدة مريم بالسيد المسيح قبل مولده باعتباره كلمة من الله وآية للناس من عند الله. ففي القرآن الكريم نقرأ:
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ.قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (آل عمران 45:3-47)
كما نقرأ: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (مريم 21:19)
ويوضح القرآن الكريم أن الملك الذي ظهر للسيدة مريم طلب منها الصوم عن الكلام والتوكل على الله تعالى فيما جرت به المقادير. ولقد أجرى الله على لسان السيد المسيح وهو لايزال في المهد صبيا ما يثبت أنه عبد لله ونبي ورسول من عند الله وأن أمه السيدة مريم بريئة من الوقوع في الخطيئة بدليل وصاية الله له ببرها. فنقرأ:
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (مريم 30:19-32)
تبرئة السيدة مريم من الزنا
تعرضت السيدة مريم لاتهامات بالزنا سواء حال حياتها أو تاريخيا وبعد موتها. لكن القرآن الكريم أكد براءة السيدة مريم من تهمة الزنا في أكثر من موضع. فنحن نقرأ على سبيل المثال رمي اليهود بالكفر في معرض توبيخهم لاتهامهم السيدة مريم بالزنا:
…وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا.. (النساء 156:4)
ونقرأ: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (التحريم 12:66)
كما نقرأ أيضا: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء 91:21)
فضل السيدة مريم
إلى جانب إعاذتها من الشيطان الرجيم وحسن نشأتها ورزقها بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف وجعلها وابنها آية للعالمين، يعدّد الإسلام فضائل السيدة مريم ومناقبها. ومن هذه المناقب تطهيرها واصطفائها على نساء العالمين. فنقرأ:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (آل عمران 42:3)
ويحكي لنا الكتاب المقدس هذا المعنى أيضا، ففيه نقرأ: فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». (لوقا 28:1)
كيف ماتت مريم العذراء
وحديث موتها من تراث أهل البيت عليهم السلام، كالتالي:
عاشت مريم عليها السلام مع ولدها عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دهرا طويلا في الجبل يعبدان إلههما الجبار يقومان الليل ويصومان النهار ويأكلان من ورق الأشجار ونبات الأرض ويشربان من ماء الأمطار، ثم أن عيسى ذات يوم نزل من الجبل يلتقط من نبات الأرض ما يفطر به هو وأمه إذ هبط ملَك على مريم.
(عليها السلام) وهي معتكفة في محرابها وقال: السلام عليك يا مريم الصائمة القائمة فخرت مغشيا عليها من شدة هول ملك الموت.
فلما أفاقت من غشوتها قالت له: من أنت يرحمك الله ؟ فلقد اقشعر جسمي وارتعدت فرائصي وذهب عقلي وتلجلج لساني وتغيرت من مخافتك ألواني وسقطت من خوفك مغشية على وجهي؟
قال لها: يا مريم أنا ملك الموت الذي لا أرحم الصغير لصغره ولا الكبير لكبره ولا الشاب لشبابه، أنا هادم اللذات، أنا مفرق الجماعات، أنا منغص الشهوات، أنا قاطع الأمنيات، أنا مرسول لقبض الأرواح، أنا مخرب القصور، أنا عامر القبور، أنا الذي لا أستأذن على أحد بدخولي عليه من الملوك والجبابرة، أنا ملك الموت.
فقالت مريم: جئت زائراً أم جئت قابضاً ؟ قال: بل قابضاً فاستعدي يا مريم، فقالت: يا ملك الموت لا تعجل علي حتى يجيء قرة عيني وثمرة فؤادي وريحانة قلبي وفلذة كبدي عيسى.
فقال لها ملك الموت: ما أمرني الله تعالى بذلك وأنا عبد مأمور من الله تعالى الحي الذي لا يموت، وقد أمرني أن لا أرفع قدم حتى أقبض روحك في موضعك هذا،
فقالت: يا ملك الموت قد سلمت أمري لله تعالى ورضيت بقضائه.
فدنى ملك الموت عليه السلام منها وقبض روحها الى رحمة الله تعالى.
فأمسى عيسى تلك الليلة لم يصعد إلى الجبل حتى دنى وقت العشاء الآخرة، فلما صعد الجبل نظر الى أمه فإذا هي ممدده فظن إنها نائمة، وقد أدت الفريضة لربها، ونامت لتستريح ولم يعلم عيسى بما نزل عليها من أمر الله تعالى، فوضع ما كان عنده من حشيش الأرض ولم يفطر بشيء.
كل هذا لأجل أمه يريد أن يفطر معها ولم يعلم أن ملك الموت قد نزل بها.
وقام عيسى عليه السلام في محرابه وجعل يصلي حتى مضى من الليل ثلاث ساعات،فجاء ووقف عند رأسها وناداها بصوت خفيف وقلب يدها وقال: السلام عليك يا أماه قد انتصف الليل وأفطر الصائمون وقام العابدون الى عبادة الجبار، فلم تكلمه، فقال في نفسه لكل نومة لذة وهي الآن في لذة نومها فما أنا بالذي منغص عليها لذتها.
فعاد إلى محرابه فصلى ثلث الليل الثاني وجاء ووقف عند رأسها وبكى وقال: السلام عليك يا أماه قد انصرم الليل وأفطر الصائمون وقام العابدون إلى عبادة الرحمن فلم تكلمه.
فظن أنها تعبة من العبادة وقد نامت لتستريح ثم عاد إلى المحراب ولم يفطر تلك الليلة بشيء حتى كان عند الفجر جاء إليها ووقف عند رأسها وناداها فلم تجبه فأنكر شأنها فوضع فمه على فمها وخده على خدها وهو يقول: يا أماه حملتني في بطنك و أرضعتني من ثديك وسهرت علي ليلك وتعبت عليّ نهارك، يا أماه مضى الليل وجاء النهار وقد جاءت فريضة، رب العالمين التي لا بد منها، فبكت عند ذلك ملائكة السماوات رحمة لهما، وأوحى الله تعالى. الى الملائكة يا ملائكتي ما يبكيكم ؟ فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا نبكي رحمة على عيسى وأمه عبديك وكلمتك وروحك، فإذا منادي ينادي في السماء يا عيسى ارفع فمك وخدك عن أمك الصائمة القائمة فإنها عرج بروحها الى ربها.
فلما سمع ذلك الكلام خرّ مغشياً عليه، فلما أفاق من غشوته نادى بأعلى صوته و حسرتاه وانقطاع ظهراه، واغربتاه، واوحشتاه يا أماه من يؤنسني في وحشتي، ومن يعينني على عبادة ربي، فأوحى الله تعالى إلى الجبل أن يكلم عيسى فكلمه وقال: يا روح الله ما هذا الجزع أتريد أحسن مني مؤنساً؟ فقال: أعوذ بعزة ربي ورأفته، ثم أن عيسى عليه السلام صبر على قضاء الله وقدره وشكره على نعمته وحكمته.