قصة الحاسة السادسة بقلم بسمة ممدوح الفصل الخامس
تمر الايام وكارمن لم تعد تحدث ريم ..ازدادت حالة كارمن إلى حد كبير، تصل إلى ادنى واعظم التفاصيل تراها او تشعر بها او تحلم بها وفي جميع الحالات تتحقق ..ظلت تتألم بمطاردة تلك الأهتاف لها، حتى بدى الاكتئاب على وجهها وتصرفاتها ووحدتها، حيث اعتقادها انها السبب الرئيسي لكل ما يحدث وبالأخص الكوارث.
تحزن حياء على حالها كثيراً، فكانت دائماً تشعر أنها ابنتها بالفعل وليست ابنة زوجها فقط ..حاولت عدة مرات إخراجها من تلك الحالة ولكن دون جدوى، حتى إنها في يوماً من أوائل أيام شهر ديسمبر، دلفت غرفتها هاتفة بأمر ناتجاً عن حبُ وليس تسلط:
-انا في واحدة صاحبتي قالت لي على شيخ بتقول كويس، وحجزت عنده عشان نروح له بكرا، يمكن يشوف لنا حل، أحسن تكوني ملبوسه يا بنتي ولا حاجة ..اعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
لاحقتها كارمن على الفور بالرفض، ولكن مع محاولاتها معها أن توافق واقناعها لها، وافقت، لكنها وافقت على سبيل التجربة لا أكثر.
في مساء اليوم التالي، ذهبتا كارمن وحياء سوياً إلى ذلك المشعوذ ومعهما صديقة حياء التي أرشدتهما لهذا الرجل.
وصلن الثلاثة إلى المكان الساكن به ذلك الرجل، كان حوش كبير من أحواش المنازل القديمة المتهالكة ..جلسن أمام هذا الرجل المتقدم في العمر، الغاضب الوجه، الذي تصل لحيته التي يكسوها البياض إلى صدره، بعدما سمحت لهن السيدة التي تعمل معه بالدخول.. شرعت حياء في روي القصة له في حين يغطي وجوههن الثلاثة الخوف، وترتجف عينيهن، والرعشة تتملك ايديهن في برودة، حتى انتهت حياء، وأضافت جملة أخيرة قبل ان تصمت:
-ودي يا شيخ كانت كل الحكاية ..ومش عارفين في اية؟ ولا لاقين حل.
تحدث هذا الغليظ اًمطمئن أياها، ثم بدأ في طرح طلباته:
-هنعمل لها ٦ جلسات زار، هتخرج من اللي هي فيه، دي ممسوسة ..بس الجلسة الواحدة هتبقى بخمس آلاف جينيه، وهتجيبوا كل مرة مع الفلوس...
استمر في الثرثرة والطلبات حتى انتهى، وتحدثت حياء:
-من عينيا يا شيخ، حاضر.
-تمام ..معاكوا شهر.
قالها بصوته الاجش، ثم اجابته هي برعشة واضحة بصوتها:
-وقبل كدة كمان.
ابتسم ابتسامة صفراء، ثم أجاب بصوت قوي:
-على الله.
بعدما انتهيا من حديثهما، انصرفن جميعاً في هدوء، وهن يحاولن تمالك ما تبقى من أعصابهن كي يحملن اقدامهن المتثاقلة، ويختفين من هذا المكان سريعاً.
عادا إلى المنزل، وكارمن رافضة تمام الرفض أن تعود ثانية، وحياء تحاول معها وتحاول أن تعرف سبب ذلك الرفض، فتجيبها كارمن بانفعال:
-نصاب، بقول لك نصاب ..كلامه مش متركب ..مش هروح له، مش هبقى فار تجارب ..وزار ايه وهبل ايه، احنا هنكفر على الأخر الزمن؟
-ليه يا بنتي؟
-كده ..وكلامي انتهى، انا مش هضيع وقت في هبل
قالتها وركضت مسرعة نحو غرفتها، ولم تستطع حياء اقناعها ثانية.
اغلقت الباب خلفها بضيق، ثم بدلت ملابسها بانفعال، واستلقت فوق فراشها بإرهاق حتى غطت في النوم.
يطرق الباب طرقات قوية حتى فتحت له شابة بفزع، فحادثها بلهفة وهو يدلف إلى الشقة:
-فين جوزك؟
أجابته بقلق:
-نايم جوا ..في حاجة؟
-ما لكيش دعوة انت .
تركها ثم ركض مسرعاً نوح غرفة نوم شقيقه، وفور دخولها تحدث:
-بقولك ايه ..البت شكلها عايزة تلبسني.
اعتدل أخاه في فراشه ناظراً له بعدم فهم، وهو يكمل:
-انا اخدت منها ورقة الجواز، وهسيب الاتنين عندك هنا ..مش عايزها تعرف انهم لسه معايا ..عايزها تفكر اني قطعتهم.
جلس بجواره فوق أطراف الفراش في تلك اللحظة، وهو يخرج من جيب سرواله الورقتان الخاصة به وبها، ويهتف بتساؤل:
-هتحطهم فين؟
أجابه باستسلام وهو يعود لرقدته، حيث تعود منه على تلك المصائب والافعال الغير متوقعة، فهو شقيقه ويحفظه جيداً، حتى صارت تصرفاته بالنسبة له عادية وليست غريبة بالمرة:
-حطها عندك في درفة الدولاب بتاعتي بأيدك عشان تبقى عارف مكانها.
نهض على الفور، وأتجه إلى الدولاب الخاص بشقيقه ليضع به الورقتان.
انتفضت مستيقظة من نومها بذعر، جلست تلتقط أنفاسها، وقبل أن تنهض من الفراش توقفها صوت رنين هاتفها، عادت إلى موضعها وامسكت به لتجد "ريم "هي المتصلة ..تنهدت ثم أجابت باستسلام:
-ازيك يا ريم؟
اتاها صوت ريم مليء بالبكاء، متحدثة باستغاثة:
-انا عارفة اني غلطت، وغلطت اوي كمان يا كارمن ..بس انا ما ليش حد.
تستمع إليها كارمن بقلق ولم تجيب، وهي مستمرة في حديثها:
-انا حامل يا كارمن، والندل الحقير عاوزني انزل البيبي، وقال لي مش هعترف بيه واخد مني ورقه الجواز غصب عني وقال انه خلاص كده ما فيش دليل عليه وانه هيحرق ورقتي وورقته..
وبيقول لي مش هفضحك ما تخفيش، بس عشان ما يبقاش في دليل ان اللي في بطنك مني..
لأني ما اضمنش انه يكون مني اصلا، ان ت واحده رخيصة..
انا بموت يا كارمن، بموت. انهارت في تلك اللحظة، والدهشة رسمت على وجه كارمن حتى لجمت لسانها وابعدت شفتاها عن بعضهما بعدم استيعاب، ثم بعد ثواني تفوهت بهدوء ممزوج بصدمة قائلة: -اهدي يا ريم..
وتعالي لي النهار ده، هستنا ك. وافقت ريم على الفور، وبعد مدة قصيرة من محاولة كارمن أن تهدئها انهتا المكالمة واغلقت كارمن هاتفها، ونهضت من فراشها متجهة إلى المرحاض.
رحبا كارمن وحياء بريم فور وصولها في المساء، وجلسن الثلاثة يتبادلن اطراف الحديث، ثم هتفت فجأة كارمن بما جعلهما يصمتا بعدم فهم: -ورقة الجواز عند اخوه في البيت. لم يجيبا، ويرمقانها في صدمة، وهي تواصل: -انا عندي استعداد نروح النهار ده او بكره نجيبها من عنده..
بس عاوزة نروح ومراته لوحدها عشان نعرف نتصرف. اندفعت ريم بالحديث متعجبة: -وان ت عرفتي منين الكلام ده! -حلمت..
حلمت يا ريم..
شوفته وهو بيديها لأخوه..
وبعدين اعتبروني مجنونة، بس اهو نجرب يمكن يطلع صح، مش هنخسر حاجة. 65 نظرا حياء وريم لبعضهما، ثم هتفت حياء بالموافقة قائلة: -نجرب يا ريم، مش هنخسر حاجة يا بنتي. صمتت ريم لحظات بتفكير، ثم قالت باقتناع: -موافقة. اندفعت تلك اللحظة كارمن قائلة: -طب بقول لك اية، ان ت بقالك كتير معاه..
ما تعرفيش اخوه شغله امتى؟ -بالليل. قالتها باندفاع وتأكيد، ثم واصلت: -هو كان قايل لي انه شغال في شركة وردية مسائية. -طب تعرفي عنوانه؟ تساءلت كارمن، فأجابت ريم: 66 -آه اعرفه..
اكتر من مرة كنت معاه وكان بيروح عنده ياخد منه فلوس، او يجيب من عنده حاجة، وكنت بستناه تحت. صمتت، وظللّن الثلاثة يفكرن، ثم قاطع صمتهن صوت كارمن هاتفة: -لازم نروح النهار ده..
الساعة ١٢ بالليل ننزل احنا التلاتة.
الساعة الواحدة صباحًا..
وصلن الثلاثة إلى المنزل الذي يقصدانه..
دقن الباب بطريقة فزعت من تسكن تلك الشقة..
فتحت بعد لحظات بإرعاب، وعندما رأتهن تحدثت برهبة: -نعم؟ انتوا مين؟ هتفت كارمن في ذلك الوقت قائلة: 67 -بقول لك ايه، احنا عارفين انك لوحدك، فجاوبي على طول كده احسن ما نخلص علي ك ..
اخو جوزك جالكم الصبح وساب عندكم ورق جواز، صح؟ اومأت بنعم في صمت، فتبادلن الثلاثة النظرات..
نظرات تعجب تملئ عيني ريم، واخرى اطمئنان في عيني حياء، والأخيرة ثقة تملكها كارمن. دفعتها كارمن للداخل بعنف وهي تدلف الشقة، ويتبعاها حياء وريم، وتتحدث بنبرة صوت أعلى: -طب فين؟ خلصينا. هرولت تلك الشابة تجاه غرفة النوم، وهي تجيب بذعر ورجفة: -انا سمعته بيتكلم مع جوزي، وجوزي قال له حطهم في دولابي..
حشوفهم لكوا حاضر.
دلفت الغرفة مسرعة، ثم فتحت خزانة ملابس زوجها على عجل، وشرعت في تفقدها حتى عثرت على ورقتين لزواج "عرفي" موضوعين تحت ملابس زوجها من الداخل..
أخذتهما وخرجت راكضة إلى الصالة حيث يقفن الثلاثة ينتظرانها بترقب..
امدت يدها بهما لهن هاتفة بتلعثم أثر خوفها:
-اهم، ل لقيتهم..
خدوهم ب بس ابعدوا عني الله يخليكوا. التقطتهما منها كارمن، وهي تتحدث بشده لتزيد من رعبها: -عارفة لو جوزك عرف ان الورق ده حد اخده هنعمل في ك ايه؟ اومأت بخوف، وكارمن تواصل:
-كأنه ما حصلش..
ده لمصلحتك يعني.
دفعتها ثانية في كتفها، ثم غادروها على الفور وجذبن الباب خلفهن بقوة، ونزلن الدرج مسرعين إلى الشارع. فور وصولهن لأرض الطريق، تحدثت كارمن بحدة موجهة حديثها إلى ريم:
-الورقتين دول ورقة منهم هتكون معايا، عشان لو حصل اي حاجة ما يعرفش يوصل لها، وتبقى امان لي ك ..
اما الورقة التانية هتاخديها، وبكرا الصبح هتروحي ترفعي قضية بيها عشان يكتب علي ك رسمي، او يوثق الورقة دي، عشان تضمني حقك ونسب ابنك وحقه..
وماما حياء هتساعدك..
صح يا ماما؟ وجهة أخر كلماتها إلى حياء وهي تنظر لها، فأجابتها حياء بتأكيد، ثم عادت كارمن ببصرها إلى ريم لتكمل: 70 -بس انا عايزا ك تعرفي حاجة..
اوعي تفكري اني بساعدك عشان ان ت صح..
انا بساعدك عشان ان ت صاحبتي وفي بينا سنين وعيش وملح، لكن غير كده ما كنتش عرفتك في الجزمة. نظرت لها ريم بصدمة، وهي تواصل: -انا لحد دلوقتي مصدومة في ك ..
ان ت ارتكبت كبيرة من الكبائر..
اوعي تفكري انك عشان كتبتي ورقة تبقى اتعافيتي من الذنب، بالعكس ان ت بتضحكي على نفسك..
الزواج ما إلا إشهار، والورقة إذا كانت عرفية أو رسمية فهي ما إلا إثبات لحقوق الزوجة ونسب الاطفال فقط..
انما حتى الجواز الشرعي على يد مأذون لو كان في السر لا يسمى زواج..
الزواج اشهار فقط..
اما السر فهو "زنا" وبس وما لهوش أي مبرر..
ان ت يمكن ربنا يسترها معاكي عشان ان ت هبله وغلبانة، بس اللي بيغلط لو كرر غلطه يبقى يستحق الموت..
ياريت تكوني اتعلمتي من غلطك. صمتت، وسحبت نفسًا عميقًا إلى رئتيها، وحياء ترمقها بفخر وسعادة، وريم يكسو وجهها الندم، ثم تنهدت كارمن وأضافت: -انا بقول لك الكلام ده خوف علي ك ..
انا واضحة معاكي مش بخادعك..
توبي يا ريم وارجعي لربنا..
وارضي امك اللي غضباها، وكسرتيها..
خليها تسامحك عشان ربنا يسامحك..
وصارحيها بهدوء عشان تتقبل الوضع من غير ما يحصل لها حاجة..
ربنا يهديكي..
وانا برضه هفضل واقفة جنبك ومش هسيبك. بكت في تلك اللحظة ريم بحرقة، واخذت تعلو انفاسها بألم، فاقتربت منها كارمن وضمتها إلى صدرها بحنان حتى تهدأ..
فمن الممكن ان تنهر أم طفلتها، او تنهر شقيقة كبرى شقيقتها الصغرى، ولكن لن يحتمل قلبها دموعها أو ألمها، فقسوتها لا تكن إلا خوف عليها، ومحاولة في الحفاظ عليها لا أكثر.