رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل السادس والعشرون
هتفضلي لحد أمتى بتهربي يا ريتال؟ مش يمكن لو كنتِ شجاعة كفاية إنك تواجهي كانت الأمور تختلف؟ مش كان يمكن كل حاجة كانت تحصل زي ما أنتِ بتتمني؟
 توقفت ريتال عند سؤاله الأخير، تُرى كيف كانت الأمور ستسير لو حدث ما تمنت هي؟ ثم ما سر تلك الأسئلة الغريبة؟ تلك الأسئلة المُبهمة لا تعني سوى شيء واحد، صالح يعرف حقيقة مشاعرها تجاهه!
الأرض تدور بها وشعور بعدم التوازن تمكن منها، لوهلة ظنت أنها ستفقد الوعي لكنها حاولت أن تهدأ فهي لا تنوي الإنهيار أمامه، أرادت أن تقف لتسأله عن مقصده من قوله بل وما الغرض منه على أي حال؟
وربما أرادت أن تواجهة بحقيقة مشاعرها أن تصرخ بكلمة أحبك وتخبره كذلك بأنه فتى أحلامها منذ أن فتحت عيناها على هذه الدنيا، أرادت أن تحكي له كيف أنه كان سببًا من أسباب تشبثها في الحياة وعدم تكرار تلك التجربة الشنيعة التي فعلتها من قبل وبمناسبة تلك التجربة لقد كان هو مُنقذها حينها لتترسخ فكرة كونه بطلًا داخل عقلها لكن...
لكن كل ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة إليها للإعتراف له بحقيقة مشاعرها فعلى الرغم من تشوش عقلها وربما اضطراب مشاعرها كذلك إلا أنها كانت مدركة أنه سيكون من الخطأ فعل ذلك وأنه من الأفضل لو أن تدفن تلك المشاعر في أعماق قلبها وألا تعترف بها قط حتى وإن كانت على فراش الموت.
معندكيش رد ولا أيه؟ سألها ليحثها على التحدث فربما لو صرحت بمشاعرها ستنتهي دوامة الحيرة والإضطراب التي سُحب داخلها رغمًا عنها، ألتفتت لتواجهه مجددًا وكان التوتر باديًا عليها كان ذلك قبل أن ترسم ابتسامة صغيرة على ثغرها وهي تقول:.
ألف ألف مبروك يا أخويا وربنا يتمملك على خير. كانت نبرتها هادئة واثقة جعلته يرتجف من الداخل، يكاد ينفجر من الغيظ، الآن قد شعر بقليل مما كانت تشعر به حينما كان يُجيب على حديثها المعسول بكلمات باردة كتلك، رمقت تعبيرات وجهه المُمتعضة وثغره الذي كاد يلامس الأرض من فرط الدهشة قبل أن تستدير لتُغادر وهي تصفع الأرض بكعب حذائها العالي بثقة شديدة وكأنها تدهس مشاعرها الساذجة أسفلها مُتخلصة منها للأبد.
عادت إلى الداخل لتصطدم بالعروس والتي كانت في الغالب تبحث عن صالح، عقدت حاجبيها حينما رأت ريتال التي في طريقها نحو الداخل ويتبعها صالح الذي لم يبدو سعيدًا للغاية من المحادثة التي جرت، طالعتهم سارة بشك وقد ضيقت عيناها قبل أن تسأل ريتال بنبرة لا تخلو من الحنق:
هو أنتوا كنتوا بتعملوا أيه برا لوحدكوا؟
اسألي خطيبك. لا تدرِ ريتال من أين جاءت بتلك القوة والبرودة في الآن ذاته لتُجيب بهذا الرد لكنها كانت سعيدة بذلك على أي حال.
  ماما هو أحنا هنمشي أمتى؟
ربع ساعة كده، نانسي كانت بتدور عليكي روحي شوفيها هتلاقيها هناك. تمتمت زينة لتومئ ريتال ثم تذهب للبحث عن نانسي وبالفعل بعد مرور القليل من الوقت بدأت الإستعدادت للرحيل على الرغم من أن الحفل لم يكن قد انتهى بعد.
يلا يا ريتال علشان نمشي. صاحت زينة قليلًا لتلفت انتباه ريتال، جاءت الأخيرة وارتدت حذائها والذي خلعته بسبب الآلم الذي اجتاح قدمها، في تلك الأثناء كان فؤاد قد جاء إلى الداخل مرة آخرى لكي يصطحبهم إلى الخارج.
ما لسه بدري يا زينة خليكوا شوية، أنا ملحقتش أقعد مع ريتال أو سافري أنتِ وسبيها تبات عندنا النهاردة وبكرة هجبهالك. صدرت هذه الجملة من والد ريتال الذي ظهر من اللامكان ليمتعض وجه زينة بينما تطالعه ريتال بسخرية فهو لم يكن يهتم بها بتاتًا في السابق فما الذي تغير الآن؟
أنا جبت العربية وركنتها قدام الباب برا، لو أنتوا مستعدين يلا علشان منتأخرش أحنا. أردف فؤاد بنبرة هادئة ولكن بنظرات تحدي واضح إلى زوجها السابق، ابتسمت مريم بإنتصار وهي تراقب ما يحدث فهنالك معركة على وشك البدء ولقد كانت واثقة من فوز شقيقها بلا شك.
أنا بقول نمشي فعلًا يا ماما علشان أنا مبقتش طايقة أقعد هنا أكتر من كده. علقت ريتال بإزدراء واضح ليضم عبدالرحمن قبضته بغيظ وما زاد من غيظه هو قول فؤاد الآتي:.
أنا جبت الچاكيت بتاعك أنتِ وريتال من العربية، الجو سقعة برا لو خرجتوا كده هتاخدوا برد. شكرته زينة برسمية وهي تتناول المعطف من يده وترتديه دون أن تتكلف عناء النظر نحو عبدالرحمن من الأساس قبل أن تتركه وحيدًا هي وريتال ويذهب كلتاهما لتوديع سائر أفراد العائلة.
بقولك أيه يا عبدالرحمن، استحمى. علقت مريم ساخرة قبل أن تغادر المكان هي وشقيقها متجهة نحو الباب في انتظار زينة وريتال.
 ساد الصمت داخل السيارة فيما عدا صوت الهواء مع حركة السيارة المُسرعة، كانت زينة تُمسك رأسها بآلم وكذلك أذنها بسبب الطنين والتي كان للموسيقى الصاخبة في الحفل الفضل فيها.
بس الخطوبة كانت لذيذة بقالي كتير محضرتش حاجة كده ولا أنتوا أيه رأيكوا؟ صدر هذا التعليق من مريم وكانت تستخدم هذا المدخل لبدء محادثة يشترك فيها جميعهم.
  بصراحة أنا أكتر حاجة بسطتني هو إن أنا شوفت عائلة طليقي وأنا في وضع قوة كده وواقفة من نفسي وأكيد اتبسطت علشان صالح أنا يعتبر ربيته بعد وفاة والدته ولو إني مش مرتاحة أوي للبنت.
هي شكلها تس تس بصراحة، أنتَ يا فؤاد أكيد مش هتقول رأيك أنتَ قضيت نص الخطوبة وأنتَ مستني في العربية.
 علقت مريم ساخرة لتبتسم زينة لكن فؤاد لم يُجيب عليها بل لم يستمع من الأساس حيث كانت عيناه مُعلقة على المرآة يُراقب ريتال الجالسة في الخلف والتي لم تبدو على ما يرام إطلاقًا.
فؤاد أنا بكلمك على فكرة عيب تنفضلي.
  ريتال أنتِ كويسة؟ سألها لتُحرك رأسها ب لا، أوقف فؤاد السيارة على الفور لتفتح ريتال الباب سريعًا وتغادر السيارة، يُصيبها دوار قوي فتجثو على ركبتيها قبل أن تتقيء كل ما تناولته قبل قليل.
ريتال، ريتال مالك في أيه؟ سألت زينة بهلع شديد وهي تقترب منها لكنها لم تستطع أن تُجيب بل أخذت تبكي بحرقة قبل أن تشعر بصعوبة بالغة في التنفس، شاركتها زينة البكاء وهي تحاول أن تجعلها تهدأ بلا فائدة.
أقترب منهم فؤاد وهو يحمل مناديل ورقية ليساعد ريتال على تنظيف فمها ووجها ثم منحها كيسًا بلاستيكيًا فارغًا طالبًا منها التنفس داخله كطريقة لتنظيم أنفاسها بينما يطلب من زينة أن تقوم بفك الدبوس خاصة وشاحها كي يتحسن تنفسها.
ريتال، أنتِ كويسة ومفيش حاجة، أحنا كلنا هنا حواليكِ متخافيش، ريتال أنتِ سمعاني صح؟ كان يحاول أن يجعلها منتبهة قدر الإمكان كي لا تزداد حالتها سوءًا وكذلك حاول منعها من فقد الوعي، وبالفعل في غضون دقيقتين تقريبًا بدأت أنفاسها تنتظم وبدأت تستفيق من نوبة الهلع تلك.
حبيبتي بقيتِ أحسن دلوقتي؟ سألت زينة وهي تعانقها، لم تجد ريتال طاقة كافية للإجابة لذا أكتفت بإماة بسيطة.
متقلقيش دي كانت Panic attack وهي بقت أحسن دلوقتي، أحنا ممكن نشوف صيدلية قريبة من هنا تاخد حقنة علشان نوقف ال vomitting علشان متتعبش تاني في الطريق.
بالفعل توقفوا بالقرب من أحدى الصيدليات كما طلب فؤاد وبعد مدة وجيزة أصبحت ريتال في حال أفضل وإن كانت مُرهقة بشدة، غفت على كتف ما تبقى من الطريق واستيقظت أمام منزل جدها، حينما سمع جدها صوت السيارة توجه نحو الأسفل مسرعًا هو وفريدة، وحينما رأى حالة ريتال أمسك بيدها بلطف وساعدها على الصوت إلى الأعلى هو وفريدة بينما وقفت زينة لتقوم بشكر مريم وشقيقها على اليوم.
شكرًا جدًا يا دكتور فؤاد حقيقي مش عارفة أقول لحضرتك أيه، مش علشان التوصيلة بس لا علشان كل حاجة وإنك كنت معانا طول اليوم وعلى ريتال وكده يعني.
ولا أي حاجة، ده واجبي صدقيني على العموم أنا محتاج ريتال تيجي العيادة نعمل كشف ونشوف لو محتاجة تحاليل أو حاجة وطبعًا محتاجين نحجز عند دكتور نفسي لأن سبب البانك أتاك غالبًا بيكون حاجة نفسية، المهم الجو برد أوي أطلعي بقى. كان يتحدث بنبرته الهادئة المعتاد وختمها بإبتسامة صغيرة ونبرة لا تخلو من الإهتمام.
حاضر، تصبحوا على خير، لما توصلي يا مريم أبعتيلي مسدچ.
ودعتهم زينة قبل أن تتجه نحو الأعلى وهي تبتسم ابتسامة واسعة بلهاء ولكن سرعان ما أدركت ما يحدث لتوبخ نفسها قائلة أن عليها التركيز في وضع ابنتها الآن وليس من المسموح لها أن تشغل بالها بأي شيء آخر غير ذلك، بالفعل صعدت ريتال إلى الأعلى وبدلت ثيابها قبل أن يغلبها النعاس وتنام دون أن تتفوه بحرف واحد بينما سردت زينة ما حدث لأبيها وفريدة سريعًا حتى لا يشعروا بالقلق.
بالعودة إلى القاهرة، كان صالح يقود بطريقة متهورة جعلت والده يسبه تلقائيًا عدة مرات، لم يكن عقله في موضعه بعد ما حدث اليوم بدءًا من رؤيته لريتال في ثوبها الجديد وهيئتها التي بدت مُختلفة كليًا ومرورًا بذلك الحوار الغير مفهوم الذي دار بينهم وبالتأكيد انتهى الأمر بشجار لم يكن له أي داعي بينه وبين سارة وفي الواقع لقد كان الشجار الثالث تقريبًا لليوم فقط فمنذ أن ذهب لإصطحابها من المنزل إلى جلسة التصوير والشجار لم يتوقف.
 فور وصولهم إلى منزل حمل صالح عطر التي غلبها النعاس طوال الطريق إلى حجرتها ومن ثم توجه إلى خاصته ليُغلق الباب بقليل من العنف، وقف يراقب انعكاسه في المرآة قبل أن يوبخ نفسه قائلًا:
غبي، غبي! مكنش المفروض تقول كده! صاح بها قبل أن يقوم بلكم الحائط المجاور للمرآة بقوة ثلاث مرات متتالية مُسببًا بعض الجروح في يده مع كدمة واضحة.
جذب منديل ورقيًا وغلف به يده وهو يجلس على الأرضية الباردة يُحدق في الفراغ، لقد شعر بالتيه ذلك الشعور البشع الذي كانت ريتال تحاول وصفه على الدوام الآن هو يذوقه بلا رحمة، لقد كان سعيدًا بل الأسعد على الكوكب حينما وافق والده على أخذ خطوة رسمية في أمر سارة ولقد ظن أن ذلك الأمر سيجعل حياته أفضل لكنه الآن لم يعد واثقًا من ذلك بتاتًا بل وبدأ يشعر أنه ربما تسرع قليلًا كما أخبره والده في السابق...
وماذا عن ريتال؟ لماذا تبدل شعوره نحوها بدون أية مقدمات؟ لقد أصبح شعورًا غير مفهوم مزيج من عدة أشياء آنٍ واحد لكن ما يعرفه جيدًا هو أنها لم ولن تكن شقيقته يومًا لكنه أعتاد على تكرار تلك الكلمات حتى أصبحت أمرًا مُسلمًا بالنسبة إليه لكن الآن لم يعد يستطيع إقناع ذاته بذلك لكن في الوقت نفسه لا يعلم ما طبيعة شعوره أو ما طبيعة علاقتهم وكلما انغمس في التفكير أكثر شعر بالمزيد من التيه والإضطراب لذا كان ملجأه الوحيد هو إيجاد شيء آخر ليشغل به عقله، كالآلم الجسدي كما في يده الآن على سبيل المثال.
 أطلق تنهيدة طويلة وهو يُعيد خصلات شعره التي تبعثرت نحو الخلف قبل أن يُخرج هاتفه من جيب بنطاله ويبحث عن اسم ريتال وقد قرر أن يبعث لها برسالة يعتذر عن العبث الذي حديث اليوم وكان محتوى الرسالة كالتالي:
ريتال أنا أسف بجد عالتخريف اللي قولته النهاردة ده أنا دماغي مكنتش فيا ومكنتش مركز بقول أيه أتمنى إنك متزعليش، أنتِ بنت عمي وأختي الغالية اللي محبش أبدًا إنها تكون زعلانة مني.
بعد أن تأكد من وصول الرسالة أغلق هاتفه دون أن يُجيب على رسائل سارة المُعلقة والتي بالطبع لم تكن تخلو من العتاب واللوم لكنه لم يملك الطاقة الكافية للتعامل مع شيء كهذا في الوقت الراهن.
في صباح اليوم التالي جلست ريتال لتناول الفطور برفقة والدتها وفريدة حيث ذهب جدها لإنهاء بعض الأعمال الخاصة به، كانت أعين ريتال منتفخة من آثر النوم وكذلك من بكاء ليلة أمس، كان الصمت طاغيًا على مجلسهم فيما عدا صوت الملاعق والأطباق لذا قررت زينة أن تقطع هذا الصمت قائلة شيء حماسيًا لعلها تحسن من حالة ابنتها النفسية قليلًا:.
بس أنا كنت مبسوطة بيكي أوي يا ريتال امبارح يعني كنتِ أسد كده ولا كان همك أي حد وكانت الثقة باينة عليكِ وكله خد باله على فكرة.
كل ده ولا ليه أي لازمة يا ماما ما أنا فضلت طول اليوم بمثل إن أنا كويسة وقوية ومش فارق معايا أي حاجة ولا أي حد وفي الآخر كنت شبه الفرخة الدايخة وتعبت زي ما شوفتي. تحدثت ريتال بعد أن أطلقت تنهيدة طويلة فلقد كانت تشعر بالخيبة والإستياء من نفسها فلو استطاعت تحمل ذلك الآلم والحزن الذي عصف بقلبها لمزيد من الوقت ما كان لينتهي اليوم هذه النهاية الدرامية.
ولو على الأقل يا عبيطة عرفتي تداري ضعفك قدامهم ومخلتيش حد فيهم يشمت فيكِ ولا يحس إنك زعلانة، ده طبعًا لو هنسميه ضعف لكن أنا بقى شايفة إن اسمه زعل وحزن عادي. أردفت والدتها بلطف وهي تُربت على يدها قبل أن تتابع مُردفة:.
و بعدين الموضوع مش بس مرتبط بصالح لا أنتِ شوفتي باباكي ومراته وعائلته متجمعين في مكان واحد ودي كانت أول مرة تشوفيهم من بعد اللي حصل الفترة اللي فاتت طبيعي نفيستك متبقاش أحسن حاجة وإلا متكونيش إنسانة طبيعية.
عندك حق يا ماما بس أنا برضوا مش حاسة إن أنا كويسة خالص،.
فؤاد، قصدي دكتور فؤاد أخو مريم قال إن هو هيشوف حد من زمايله الدكاترة يكون كويس تروحي تكملي علاج. كان التوتر باديًا على زينة منذ أن نطقت باسمه لتبتسم فريدة بخبث تلقائيًا ومن ثم تغمز بإحدي عينيها إلى خالتها.
عينك فيها حاجة يا فريدة يا حبيبتي؟
لا يا خالتو مفهاش المهم عينك أنتِ يا خالتو تبقى سليمة وتشوف كويس.
كادت زينة أن تضربها لولا أن جاءتها مكالمة من مريم تُخبرها أن فؤاد أراد منها أن تطمئن على حالة ريتال الآن وليُخبرها بأنه وجد طبيبة نفسية جيدة من أجل ريتال لكنه لم يستطع أخذ موعد قبل الأسبوع القادم، شكرتها زينة كثيرًا وطلبت منها أن تشكر شقيقها كذلك على مساعدته لهم، أنهت المكالمة وعادت إلى مقعدها مرة آخرى.
أيوا بقى يا زوزو، أنا أصلًا كان نفسي من زمان ألبس فستان سوارية أحمر شكله هيطلع من نصيبك أنتِ بقى.
هو أنتوا بتتكلموا على أيه؟ صدر هذا السؤال من ريتال التي لم تكن تستمع لمحادثتهم من الأساس فلقد كانت منخرطة داخل أفكارها للدرجة التي لم تجعل عقلها قادرًا على إستيعاب ما يُقال بجانبها.
ولا حاجة، معلش يا فريدة عايزاكي تبقي تاخدي ريتال توريها السناتر بقى اللي قريبة من هنا ويعني تعرفيها على المدرسين وكده، أنا طبعًا مش هخليها تروح الدروس لوحدها أول فترة.
ليه يا ماما؟ هو أنا صغيرة؟ وبعدين أنا الحمدلله بدأت احفظ شوية الشوارع وأسامي الأماكن اللي قريبة من هنا.
أنا عارفة بس خايفة تتعبي ولا يحصل حاجة وأنتِ لوحدك، أنا كده بقى مطمنة أكتر. أردفت زينة بنبرة لا تخلو من الحنان لكن ما قالته لم يروق لريتال كثيرًا حيث أمتعض وجهها على الفور قبل أن تستأذن منها وتغادر طاولة الطعام.
هو أنا قولت أيه يزعل؟
بصي يا خالتو هي ريتال طبيعي هتبقى حساسة أوي الفترة دي وأكيد هي متوترة من فكرة تعبها المتكرر وكلامك ده هيحسسها بالمشكلة زيادة.
  يعني الحق عليا إن أنا خايفة عليها؟ سألت زينة بإستنكار شديد لتبتسم فريدة ابتسام صغير قبل أن تقول بلطف:
لا يا خالتو الموضوع مش بيتحسب كده، الفكرة كلها إن أحنا اللي هو ولادكوا يعني بنشوف الأمور بطريقة، وأنتوا كأمهات وأبهات بتشوفوها بطريقة تانية خالص وهي دي المشكلة.
يعني أيه المطلوب مني؟
المطلوب إنك تخليني حلقة وصلة فترة مؤقتة بينك أنتِ وريتال لحد ما حالتها تتحسن وتلاقوا أرض وسط تتناقشوا فيها.
خلاص ماشي أما نشوف هيحصل أيه.
في ذلك الوقت في القاهرة، دلفت تسنيم إلى حجرة شقيقها لتجده غارقًا في نومٍ عميق، خصلات شعره مبعثره وقدمه تدلي خارج السرير والغطاء بالكاد يُحيط بجسده.
  تليد، أصحى يا بني أنتَ واخد منوم ولا أيه؟ صاحت تسنيم وهي تقوم بجذب ذراع شقيقها لعل ذلك يجعله يستيقظ لكن بلا فائدة حتى انتهى بها الأمر وهي تضربه بالوسادة ليفتح عيناه بتملل قبل أن يسأل بإستنكار لا يخلو من الغيظ:
أيه في أيه؟ حد يصحي حد كده؟
  قوم بسرعة ماما وبابا قدامهم ساعة ويوصلوا المطار يلا علشان نروح نستقبلهم. أردفت بحماس شديد ليرمقها بإحتقار قبل أن يقول:
طب وأيه الجديد ما هما كل مرة بيجوا من المطار عادي ما هما راكبين طيارة حد قالك أنهم جايين بجمل يعني؟
هو أيه خفة الدم دي يعني؟ يا بني آدم ماما وبابا بقالهم أربع شهور تقريبًا مسافرين واجب علينا نروح نستقبلهم كويس. كالعادة قامت بإستعطاف تليد ولقد كان تسنيم الوحيدة بعد ياسين القادرة على فعل ذلك، زفر بضيق قبل أن يقوم بطردها من الحجرة كي يستحم ويبدل ثيابه.
ساد الصمت معظم الطريق فيما عدا صوت تسنيم وهي تصرخ لقيادة تليد المتهورة وكذلك صوت أغنية إنجليزية مُزعجة لا تخلو من السباب، وصل تليد في وقت قياسي وقبل وصول والديه بخمسة عشرة دقيقة تقريبًا، جلس تليد وتسنيم في انتظار والديهما.
كان تليد مشتاقًا إليهم كثيرًا وكانت نبضات قلبه تتسارع كلما مر المزيد من الوقت آخرى فهو يتحرق شوقًا لرؤيتهم لكنه كان يرفض الإعتراف بذلك لأنه كان غاضب منهم، إنهم يتركونه بمفرده منذ أن كان في التاسعة من عمره تقريبًا على حسب ما يذكر وذلك كله من أجل متابعة أعمالها وإنهاء الدراسات العليا لوالدته.
وعلى الرغم من أنه كان مُدركًا جيدًا للغرض من وراء ذلك وهو ببساطة جعله يعيش هو وشقيقته حياة أفضل، مليئة بالرفاهية إلا أنه في أحيانًا كثيرة كان يلعن المال والعمل الذي جعل والديه في دولة آخرى لأشهر طويلة، لقد شعر تليد بأن عمره يتضاعف في كل مرة يرحلون عنه وكأنه لم يعد مراهقًا أو على مشارف الشباب بل شعر بأنه كهلٍ ضائع.
تليد حبيبي، تسنيم! جاءه صوت والدته ليخرجه من شروده، هرول نحوها ليحاوطها بذراعه ولقد بدت قصيرة للغاية بالمقارنة به، فصل العناق بعد دقيقة تقريبًا ليفعل المثل مع والده.
أخبار الرحلة أيه؟
الحمدلله كانت كويسة، جبنا هدايا كتير أوي ليكوا وكمان جبت لزميلتك اللي في المدرسة. تمتمت والدته وهي تغمز بإحدي عينيها، توتر تليد وشعر بالحرارة تصعد إلى وجهه ومن فرط التوتر قال شيء سخيف لا معنى له.
زميلة مين؟ أنا مدرستي ولاد بس!
  ده اللي هو ازاي يعني؟ أنتَ غيرت المدرسة من ورانا ولا أيه؟ سألت والدته ساخرة وهي تقهقه على ردة فعل تليد فهي لم تراه بهذا الخجل والتوتر من قبل، حك مؤخرة عنقه قبل أن يقول:
لا لا مش قصدي، هو يعني أنا مش فاهم أنتِ بتتكلمي عن أيه يا ماما.
مش فاكرة اسم البنت بس هو كان حاجة بحرف ال R تقريبًا مش كده؟
اه يا ياسين يا فتان! ده أنا هخلص عليه! تمتم بحنق شديد حينما أستوعب أن ياسين بالطبع لم ينسى ذكر ريتال في التقرير الأسبوعي الذي يرسله إلى والديه.
أصلًا أنا وريتال بطلنا نتكلم.
  اتخانقتوا يعني ولا أيه؟ سألت والدته بهدوء ليتنهد بضيق قبل أن يقول الآتي مع ابتسامة صغيرة:
هبقى أحكيلك بعدين، يلا أركبوا أنا اللي هسوق.
قضى تليد ما تبقى من اليوم برفقة والديه قبل أن يصعد إلى حجرته في الواحدة بعد منتصف الليل لكي يعبث في هاتفه قليلًا قبل النوم وحينها دلفت والدته إلى حجرته وهي تحمل حقيبة هدايا صغيرة.
دي هدية ريتال، أنا عرفت من ياسين إنها محجبة فجبت ليها طرحتين من براند حلو أوي هناك، كان نفسي أجبلها حاجة أقيم بس أنا مش عارفة شكلها أو مقاسها.
شكرًا يا ماما بس هو أنا مش هعرف أديهالها كده كده لأن مامتها يعني قالتلي متكلمش معاها تاني وأنا وعدتها بكده.
حصل حاجة ولا هي مش عايزة تتكلموا من وراها يعني؟ سألت والدته بنبرة متفهمة وهي تقترب لتجلس إلى جانبه على الفراش، تنهد بضيق قبل أن يُجيبها قائلًا:.
اه، هي شايفة إن أحنا صغيرين أوي ويعني مش المفروض نكون بنتكلم غير في إطار الدراسة وبما إنها سابت المدرسة ونقلت مكان تاني فمش هنتكلم خالص غير لما ينزلوا القاهرة هنخرج الشلة كلها وطبعًا طنط هتبقى معانا. وضح تليد لتتسع لتومئ والدته دلالة على استماعها واهتمامها بما يقول قبل أن تُردف الآتي مع ابتسامة صغيرة:
تزعل مني لو قولتلك إن عندها حق؟
لا مش هزعل لأن أنا خلاص أقتنعت إنها صح بس برضوا الموضوع مش سهل بالنسبالي بس لما بفكر مثلًا لو تسنيم بتكلم ولد وبتقابله أو بتقعد تهزر معاه على أساس أنهم بقى صحاب و Cool وJust friends والهبل ده أكيد هتضايق جدًا واللي مش هقبله عليها مش هقبله على ريتال. كان حديث تليد صادقًا وكان مقتنعًا تمامًا بما يقوله هذه المرة، ابتسمت والدته بفخر قبل أن تُردف بلطف:.
ما شاء الله ده أنت عقلت أوي يا تليد في الكام شهر دول، هو أحنا سيبناك كتير أوي كده؟
لسه واخدة بالك يا ماما؟ عالعموم البركة في عمو ياسين اللي بيجي يذاكرلي نص ساعة ويقعد 23 ساعة ونص يديني نصايح حياتيه ولا كأني في كورس تنمية بشرية.
والله ياسين ده أحسن حد أنتَ عرفت في حياتك وكان قرار سليم مني أنا وباباك لما اتفقنا معاه إنه يفضل معاك طول ما أحنا غايبين.
دي حقيقة، أنا هكلمه يجي يتغدى معانا بكرة إن شاء الله.
تمام يا حبيبي، عالعموم أنا هشوف برضوا طريقة نوصل بيها الهدية للبنوتة حتى لو وصلتلها الهدية أنا بنفسي. أردفت والدته قبل أن تطبع قبلة على جبينه وتتركه وحيدًا لينام وهو يتخيل كيف يمكن أن يكون اللقاء بين والدته وبين ريتال.
بعد مرور يومان تقريبًا جلست ريتال في حجرتها وقد وضعت أمامها المفكرة خاصتها والتي مزقت من عدة صفحات وهي تحاول وضع جدول مناسب من أجل مواعيد دروس الثانوية العامة وفي كل مرة كانت المحاولة تبوء بالفشل لتدخل المواعيد.
فريدة بقولك أيه أنا بفكر احجز مع تنين الكيمياء ولا ديناصور الكيمياء باين وفي بقى وحش الفيزياء بيقولوا عليه جامد والعربي جدو حبيبي يذاكرلي، عندك اقتراحات بقى لباقي المواد؟
ثواني بس ديناصور أيه وتمساح أيه؟ أنتِ كنتِ مطبقة على ناشيونال جيوغرافيك؟ سيبك من كل ده ومتبصيش لأسامي كبيرة وناس بتاخد عدد وخلاص أنا هشوفلك مدرسين كويسين كنت باخد معاهم والأعداد معقولة علشان على الأقل تعرفي تركزي وتسألي براحتك.
ماشي خلاص أنا هتعمد عليكِ، لسه مكلمة عالية وحنين لاقيتهم في نفس الدوخة اللي أنا فيها دي، حقيقة السنة دي لعنة. أردفت ريتال بضيق بينما خطر إلى بالها تليد، تُرى ماذا يفعل؟ هل استعد لذلك العام المصيري بعد أم لا؟
طبعًا مش هتصدقيني لو قولتلك إنها كانت من أحلى سنين حياتي، الفكرة كلها إنك تنظمى وقتك وتصدقي من جواكِ إنها مش نهاية الدنيا.
الكلام سهل خاصة وإنك دخلتي الكلية اللي نفسك فيها واطمنتي بس أظن لو مكنتيش جبتي المجموع اللي عايزاه كانت وجهة نظرك هتختلف.
يمكن يكون كلام صح لكن مش في المطلق، هو صح لكن مرهون بفترة زمنية محددة، يعني لو مثلًا كلمتي حد في سنة أولى مدخلش الكلية اللي كان بيحلم بيها هتلاقيه منهار وشايف الحياة واقفة وبتاع، لكن روحي كلمي حد في سنة تالتة أو رابعة أو حتى متخرج هيقولك كل محصل بعضه المهم تلاقي مجال تحبيه وتبقي شاطره فيه بغض النظر عن الدراسة نفسها.
هحاول أقنع نفسي بالكلام ده، أنا بس اللي مش قادرة أتخيله لما أنا بعاني من اكتئاب واضطرابات قلق من دلوقتي أومال لما أدخل ثانوي هيحصل فيا أيه بس؟
ما أحنا هنتابع مع الدكتورة زي ما اتفقنا وهي هتساعدنا في حل المشكلة وهتساعدك كمان ازاي تعرفي تهدي نفسك وكده.
إن شاء الله. أردفت ريتال بعد أن أطلقت تنهيدة طويلة وهي تدعو الله أن تسير الأمور في صالحها هذه المرة.
في مساء ذلك اليوم ذهبت نانسي للتسكع مع بعض من أصدقائها داخل مول تجاري وبمجرد أن أشارت الساعة إلى التاسعة بدء الجميع يرحلون واحدٍ تلو الآخر بينما جلست هي وحيدة لبعض الوقت، أخرجت من حقيبتها الصغيرة لفافة تبغ كانت أختلستها في السابق من عُلبة عمها الأكبر لتقوم بإشعالها على الفور بعد أن طلبت من النادل إحضار مطفأة، في البداية سعلت قليلًا قبل أن تعتاد على ذلك المذاق المُقزز الحار وحاولت جاهدة تجنب الدخان الصادر منها والذي أحرق عيناها.
في أثناء ذلك كانت تتجول بعيناها في المكان لتلمح رجلًا يبدو في بداية الخمسينات يجلس على مسافة بعيدة منها لكنه في المقهى نفسه، كان ذلك الرجل يُطالعها بنظرات غير مفهومة وكأنها نظرات لومٍ أو عدم رضا لكنها لم تهتم وأشاحت بنظرها بعيدًا عنه.
ممكن ال Check لو سمحت. أردفت وهي تُشير إلى النادل ليومئ لها ويعود بعد دقيقة تقريبًا وهو يحمل ورقة مطبوعة داخلها الحساب والذي كان مبلغًا ليس بقليل لكن نانسي كانت معتادة على ذلك.
أخرجت حافظة النقود خاصتها لتبحث عن المال لتجد أنها لا تملك القدر الكافي لدفع الفاتورة كاملة لذا طلبت من النادل أن يُحضر لها الماكينة لتقوم بالدفع من خلال بطاقة الإئتمان خاصة والدتها لكن حديث خطأ ما جعلها غير قادرة على إتمام العملية، طالعت النادل بحرج شديد قبل أن تطلب منه أن يمهلها القليل من الوقت ليومئ ويرحل من أمامها.
يالهوي عالموقف الزفت اللي أنا فيه، هو مفيش غير صالح اللي هينقذني. تمتمت وهي تبحث في هاتفها عن رقم هاتفه، في البداية لم يُجيب لكن بعد المحاولة الثالثة أجاب على هاتفه، سردت له ما حدث بإختصار ليُخبره بأنه قادم على الفور.
 جلست تنتظر صالح بحرج شديد من الموقف البشع الذي تعرضت له للتو وبينما كانت تفعل وجدت النادل يقترب من طاولتها مرة آخرى لتسب بصوتٍ منخفض قبل أن تستعد لسماع ما سيقول والذي بالتأكيد سيكون متعلق بعدم دفعها للفتورة لكنها فوجئت به يقول الآتي مع ابتسامة صغيرة:
المشكلة أتحلت يا فندم، في حد دفع لحضرتك الفتورة الحساب كاش، خلاص كده حضرتك تقدري تتفضلي لو عايزة.
حد دفعلي ازاي يعني؟ مين ده أصلًا؟
هو دفع الحساب ومشي يا فندم وأنا معنديش فكرة عن اسمه أو أي حاجة هو بس طلب مني أدفع حساب الفاتورة بتاعت حضرتك وأنا نفذت.
وهو أي حد يقولك تدفع حاجة لحد تدفعها؟ أيه التهريج ده؟ فين مديرك؟
سألت نانسي بغيظ شديد وقد كانت نبرتها أقرب إلى الصياح ليطلب منها النادل أن يتم حل المشكلة بهدوء كي لا تسبب مشكلة تؤدي إلى مجازاته، زفرت بضيق وهي تسحب حقيبتها وتغادر المكان بينما أخذت تسب بصوتٍ أقرب إلى الهمس، في طريقها نحو الخارج لاحظت أختفاء ذلك الرجل الذي كان يراقبها بفضول ولسبب ما شعرت بأن هناك رابط بينه وبين من قام بدفع الحساب، غادرت المكان ووقفت تنتظر صالح في الخارج وبالفعل لم يتأخر.
أنا بس عندي سؤال واحد، أيه اللي مقعدك برا البيت لوحدك في مول بعيد عننا الساعة 10 بليل؟
هو أنتَ هتحقق معايا؟ أنتَ مالك أصلًا؟
  أنا مش هرد عليكِ ومش هقولك أنا غلطان إن أنا عبرتك لأنك بنت عمتي وزي أختي ولازم أخاف عليكِ وأجي أطلعك من أي مصيبة أنتِ فيها حتى لو غلطانة ولسانك طويل. كان غضبه مدفوعًا بالخوف لكن كالعادة كانت نظرة نانسي قاصرة للأمور ولم يروق لها أسلوبه أو ما يقول من الأساس لذا عقبت على حديثه بإزدراء قائلة:
متشكرين يا سيدي، يلا نروح بقى.
ثواني كده بس، هو مش أنا المفروض جاي أدفع حساب الكافية؟ أنتِ خرجتي ازاي؟ يلاهوي أنتِ خلعتي من المكان من غير ما تدفعي؟
  أيه الهبل اللي بتقوله ده لا طبعًا! في حد دفعلي، واحد معرفوش وطبعًا اتخانقت مع ال Waiter وبهدلت الدنيا بس برضوا معرفتش مين. أردفت بضيق وهي تعقد ذراعيها بإعتراض واضح، رمقها صالح بطرف عيناه قبل أن يقول موبخًا إياها:
طب هو حضرتك فاهمة معنى الحركة اللي عملها أيه ولا تحبي أشرحلك يا آنسة يا محترمة؟
اه محترمة ومؤدبة غصب عنك، أنا كنت قاعدة عادي هو عمل تصرف مش مفهوم أو مش كويس دي حاجة متخصنيش بتلومني أنا ليه؟ صاحت بإستنكار شديد ظنًا منها أن صالح يطعن في أخلاقها لكن لم يكن ذلك مقصده بتاتًا لكنها كالمعتاد أساءت الفهم، بمجرد أن أنهت جملتها تبعها صوت صالح غاضب وهو يُردف:.
يا بنتي أنا خايف عليكِ! يا نانسي أنتِ بتفضلي تعملي في تصرفات متهورة وأنا خايف تضيعي نفسك أنتِ ليه مش عايزة تفهمي؟ هذه المرة لم تجادل نانسي حينما شعرت بأنه خائف حقًا ولا يفعل ذلك من باب التسلط.
أنت عندك حق، يمكن أسلوبك مش ألطف حاجة بس أنا أقتنعت بكلامك،.
طب الحمدلله، يلا بقى نروح علشان منتأخرش أكتر من كده وعلشان عمتو متقلقش. أومئت وساد الصمت معظم الطريق حيث وضعت نانسي سماعات الأذن خاصتها لتشاهد بعض مقاطع الفيديو.
عادت نانسي إلى المنزل لتتلقى بعض التوبيخ من والدتها لتأخرها لكنها كالعادة لم تُبالي وتوجهت إلى حجرتها مباشرة، ألقت بجسدها على السرير بإهمال وهي تُفكر في شيء واحد فقط، ذلك الرجل غريب الأطوار من المقهى اليوم، لم تكن نظراته خبيثة أو تنم عن نية سيئة فهي تستطيع تمييز تلك النظرات بكل تأكيد، نظراته كانت تحوي بداخلها إعتراض وربما القليل من الحزن؟ لا تدرِ...
هنقعد نحلل في نظرات الراجل طول الليل وفي الآخر هيطلع مش بيشوف وكان باصص ناحيتي بالصدفة أساسًا. علقت ساخرة من سخافتها قبل أن تُبدل ثيابها وتخلد إلى النوم.
في مغرب اليوم التالي ذهبت نانسي إلى النادي الرياضي للتسكع مع أصدقائها هناك كما كانت تفعل بصورة شبه يومية منذ أن انتهى العام الدراسي، كان كل شيء يسير على ما يرام حتى لمحت تليد يسير إلى جانب رفيقه الذي أصبحت تراه برفقته كثيرًا مؤخرًا لكنها لم تكن تعلم له اسم لكنها كانت تظن أنه لطيف ربما لا يشبه تليد بتاتًا أو من تعرفهم هي من رفاقها من الذكور فلقد كان أكثر جدية وحزم، لم تراه يمازح تليد بصوتٍ عالٍ أو بإ سلوب غير لائق قط.
 بعد بضعة دقائق مر تليد من أمامها مجددًا لكن هذه المرة كانت المسافة بينهم أقرب وكان من السهل استنتاج أنه رأها لكنه أدعى أنه لم يفعل حتى أوقفه صوتها وهي تسأله بإستنكار غُلف بمزاح عنيف:
تليد، أيه هتعدي من قدامي ومش هتسلم مش عيب كده ولا أنتَ قلة الذوق عندك هواية؟
  معلش يا نانسي مشوفتكيش، عايزة أيه؟ تمتم بتملل واضح وهو يتحاشى النظر إليها كعلامة على التجاهل وعدم الإهتمام، اضطربت معالم وجهها على الفور قبل أن تسأله بحنق:
هو أيه يا ابني قلة الذوق دي بجد؟ هو مش أحنا كنا صحاب برضوا ولا أنتَ فقدت الذاكرة؟
أعتبريني فقدت الذاكرة، وعلى فكرة مش معنى إن ريتال طيبة وعلى نيتها وسامحتك إن أنا بقى هنسى اللي كنتِ بتعمليه معاها.
وأنتَ مالك أصلًا باللي بينا؟ مشكلة بين وبين بنت خالي يعني حاجة عائلية وخلاص راحت لحالها ده أيه علاقته بينا كصحاب؟
 كانت حجتها مقنعة حيث أنه لم يكن لتليد الحق في التدخل ليس فقط كونه لا يُعد فردًا من العائلة بل في الحقيقة لا تربطه أي علاقة بريتال تجعله يدافع عنها بإستماتة هكذا كانت تُفكر نانسي، ساد الصمت لثوانٍ قبل أن يعقب بنبرة لاذعة:
بقولك أيه أنا قررت مصاحبش بنات تاني، حلوة صيغة الكلام دي ولا أيه؟
خلاص في داهية، أنا مش بشحت منك على فكرة وكان ممكن تقول إنك مش عايزنا نبقى صحاب تاني بس بإسلوب أحسن من كده.
بقولك أيه هو ده اللي عندي والمهم إن الرسالة خلاص وصلت. قال جملته الأخيرة قبل أن يتركها تقف وحيدة على وشك البكاء من شدة صدمة وقسوة حديثه لكنه لم يهتم.
ربما شعر بقليل من الذنب حينما رأى تعابير وجهها لكنه قرر تجاهل ذلك الشعور بالطبع كان ذلك قبل أن يعود للوقوف إلى جانب ياسين الذي ابتعد عنهم لبضع خطوات لكي يتحدثوا بحرية، رمقه ياسين بنظرة حادة لا تخلو من اللوم ليقلب تليد عيناه بتملل وهو يستعد لسماع المحاضرة التأديبية التي سيتلوها ياسين الآن.
هو على فكرة أنتَ مينفعش تتكلم معاها كده أبدًا، حرام عليك يا أخي راعي شعورها، حتى لو مش عايز تتكلم معاها أو مش عايز تتكلم مع بنات في المطلق ممكن توضح ده بطريقة كويسة عادي.
  وهي دي بتحس ولا عندها دم أساسًا؟ سأل تليد مستنكرًا وهو يبتسم ابتسامة ساخرة ليعقد تليد حاجبيه وهو يلكمه في كتفه بخفة قبل أن يقول:
تليد! مينفعش كده متغلطش في البنت.
أنتَ عارف اللي أنتَ بتدافع عنها دي تبقى أيه ولا عملت أيه؟ دي،.
بس مش عايز أعرف، هي غلطت في حاجات وكلنا بنغلط وواضح أنها بتحاول تصلح غلطتها يبقى خلاص دي حاجة بينها وبين ربنا وبينها وبين الشخص اللي زعلته ولو ريتال سامحتها فعلًا يبقى خلاص. كان حديث ياسين منطقيًا لكنه لم يروق إلى تليد كثيرًا فحينما يتعلق الأمر بشخصًا ذو مكانة كبيرة وخاصة عند تليد فإن عقله يتوقف عن العمل بالمنطق بل ما يحركه هو الغضب والإنتقام.
بس هي مأذتش ريتال بس يا ياسين، نانسي دي عملت حاجات كتير ومشاكل أكتر.
ولما أنتَ معترض على سلوكيتها أوي كده كنتوا صحاب ليه؟ ساد الصمت لبرهة حيث شعر تليد بالحرج، وفي الواقع هو لم يكن يمتلك إجابة منطقية على سؤال ياسين الإستنكاري وقد علم الأخير ذلك حينما طرح سؤاله.
لكن في الحقيقة الإجابة كانت واضحة كوضوح الشمس، تليد كان سيء مثلها تمامًا ربما لم يرتكبوا الآثام والأخطاء ذاتها لكنها كانت متشابهة إلى حدٍ كبير ولقد كان مُتقبل أفعالها وكان يجد لها المبررات لكن بعد ظهور ريتال أعاد ترتيب العديد من الأمور وأصبح يمقط نفسه القديم وبالتالي تصرفات نانسي.
في تلك الأثناء كانت نانسي قد غادرت مقعدها باكية وذهبت للتمشية بعيدًا عن الأنظار لكن ياسين أخذ يمسح المكان بعيناه بحثًا عنها ليطمئن أنها بخير على الرغم من أنه كان واثق أنها لن تكون كذلك بعد ما قاله تليد منذ قليل، بالفعل بعد بحث مكثف وجدها تجلس على أحد الأرصفة خاصة النادي، تبكي في صمت بينما انسدلت خصلات شعرها الناعمة لتُغطي جزء لا بأس به من وجهها.
أنتِ كويسة؟ سأل ياسين بإهتمام حقيقي دون أن يقترب منها أو ينظر إليها، رفعت عيناها الدامعة وهي تُشير برأسها ب لا ليتنهد قبل أن يُخرج منديلًا ورقيًا ويمنحها إياه.
أنا أسف على الكلام اللي تليد قاله، أتمنى إنك متزعليش منه هو مش قاصد، تليد لما بيبقى خايف على حد بيحبه أو فارق معاه بيشوط في الكل فمتخديش كلامه بصورة جدية أوي.
حد بيحبه؟ عالعموم تليد عنده حق أنا فعلًا إنسانة مش كويسة وطبيعي ميبقاش حابب إننا نكون صحاب.
أنتِ تقدري تاخدي كلامه يا إما بصورة سلبية وتضايقي نفسك وتكتئبي أو ممكن تشوفي لو فعلًا في عيوب أو مشاكل وتحاولي تصلحيها كده كده رأيه فيكي مش هيفرق في حاجة، أتمنى تبقى كويسة أنا لازم أمشي، عن إذنك.
أردف بنبرته الهادئة اللطيفة، كفكفت دموعها وهي تنظر نحو الأسفل وحينما رفعت عيناه لم تجده وكأنه تبخر في الهواء أو كأنه ملاكًا حارس ظهر لنصحها وجعلها تشعر بالتحسن وحينما أنهى مهمته أختفى.
في ذلك الوقت كان تليد يبحث عن ياسين الذي تركه وحيدًا فجاءة وبالفعل وجده يتحدث إلى نانسي، نمت ابتسامة جانبية على ثغره حينما رأه يسير نحوه وقد كان مُستعد لإثارة غيظه.
أيه يا عم الصدر الحنين صالحتها ولا أيه؟
عارف يا تليد لو فتحت بوقك بكلمة معايا النهاردة هوريك نسخة سيئة أوي مني بجد.
هو أنا قولت حاجة يا عم المصلح الإجتماعي؟ يلا نروح نتغدى زمان الأكل جيه.
طيب. تمتم ياسين بعد أن زفر براحة فهو لم يملك الطاقة الكافية لتحمل تعليقات تليد وسخريته.
بعد مرور ساعة عادت نانسي إلى المنزل وهي تحمل داخلها مشاعر مختلطة بين الحزن والغضب من قول تليد وفي الوقت ذاته شعرت بالسعادة والإطراء من حديث ياسين معها واهتمامه فيما بعد، لكن ما كان يسيطر عليها هو رغبتها في التغير حقًا ونسيان ذلك الماضي السيء الذي مازال يلاحقها حتى الآن.
بمجرد وصولها إلى المنزل جاءها صوت شجار عمها وزوجته ولقد كان صوتهم مسموع للدرجة التي جعلتها تستطيع فهم سبب المشكلة بطريقة أو بآخرى ولقد كان حديثهم متعلق بالمال الذي تستنذفه بدون رحمة بينما تتهم هي زوجها بأنه مازال يُفكر في زينة زوجته السابقة وكيف أنه يقوم بمقارنتها بها لذلك هو مستاء من كل تصرفاتها.
في الواقع لم تهتم نانسي كثيرًا بما يحدث بينهم بل سعدت بذلك الشجار كثيرًا ظنًا منها أنها عقوبة عادلة يستحقها كلاهما بسبب أفعالهم البشعة مع ريتال ووالدتها في السابق بل ولأن تلك الحرباء كانت تتعمد استفزاز والدتها في كثير من الأحيان، ألقت نانسي بجسدها على السرير وقد جلبت الحاسوب اللوحي خاصتها وشرعت تبحث عن شيء ما في حساب تليد حتى وجدته، الحساب الشخصي لياسين!
في مساء اليوم التالي والذي كان نهاية الأسبوع وبالعودة إلى الإسكندرية، كان من المفترض أن تأتي شقيقة زينة وزوجها وفريدة بالتأكيد وابنها الصغير في اليوم التالي ليتناولوا الغداء سويًا وقد قررت زينة أن تطهو لهم بنفسها اليوم وكان الطبق الرئيسي هو المحشى بمختلف أنواعه بالإضافة إلى الدجاج المشوي، بعد انتهاء دوام زينة ذهبت لتبتاع كل ما ينقصهم من طعام.
عادت زينة من الخارج بإرهاق شديد، كانت تحمل عدة حقائب في آنٍ واحد وعلى الرغم من أن الجو كان باردًا إلا أنها كانت تتصب عرقًا بالإضافة إلى وشاح رأسها الذي خرب مما أدى لهروب بعضًا من خصلات شعرها الناعمة وظهورها على جبهتها، لسبب ما لم تقوم بطرق الباب ظنًا منها أنها ستجد ريتال ووالدها نائمين لذا استخدمت المفتاح والذي وجدته بصعوبة بالغة.
بابا حبيبي أنتَ صاحي؟ أنا جيت وجبت حاجة المحشي معايا وجبت بطاية، دكتور فؤاد؟
 
							