رواية وريث آل نصران الجزء الثاني للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل السابع
قصص قصيرة كلها عصفت بقلب حزين
والعين تبكي باحثة عن مأوى للشاردين
ودموعه لا تظهر إلا إلى الأوراق
أوراق قلب رحل لم يترك سوى القصاصات
فتعلقت روحه بها إنسان، ليعود قلب يحيي ذكرى ظنها أوهام.
أخبرها عيسى بقنبلته الجديدة واحتضنها، كعادته دائما يفعل كل ما يسبب الجنون للبشر من حوله، ولكن ما يتحدث فيه لا يتحمل أي صمت، كان يتشبث بها بكل قوته وكأنه يخبرها أنه لا مجال للإفلات ولكنها أبعدته، طالع عينيها فأسمعته قولها الغير مصدق: أنت بتهزر صح؟
هز رأسه بالنفي، فبهت وجهها ليتحدث هو وقد فارقتها عيناه لينظر أمامه متحدثا: خوفتي ولا ايه؟
حثته على النظر إليها وهي تكرر عليه ما قال باستنكار: نعم؟، هو أنت عايز تقولي انك شليت واحده ومخافش؟، وبتقولي أبوها بيكرهك، المفروض يعمل ايه لسيادتك؟، يطبطب عليك؟
لم ينطق بأي شيء، كادت أن تجن، أبعدت اللهجة المستنكرة واستخدمت اخرى ظهر الرجاء فيها: طب ما تسيبنيش كده، دماغي بتودي وتجيب...
أنت عايز تحكي علشان كده قولت، متقفش في النص بقى كمل حكي.
تحرك بسيارته ثانية، بعيدا عن منزلها، بعد أن كان يقف أسفل منزلها بالسيارة، رحل مرة اخرى فاعترضت: ماما كده...
قاطعها بقوله المختصر: أنا هبقى اطمنها.
لم تكن راضية أبدا، ظل يتحرك بسيارته حتى وصلا أخيرا إلى المكان المراد، مجلس تحاوطه المياه من كل جانب يقع جوار أحد الجسور، الساعات الأولى من الصباح، ساعة الشروق والهواء يحرك أوراق الأشجار هنا وهناك، شعرت به يحركها معهم، نزل عيسى من سيارته، وتبعته هي، كان من الصعب عليها الوصول إلى ذلك المجلس المجاور للجسر فأخذ بيدها حتى استطاعت أخيرا الجلوس وجاورها هو، دقائق من الصمت استغلتها في تأمل المياه التي تحيط بهما، ثم تطلعت إلى السماء الصافية فسمعت حينها صوته يقول: كان عندي وقتها 21 سنة، اتعرفت على شلة في سباق من بتوع العربيات...
أعطته كامل انتباهها واستدارت تنظر له، تحثه على الإكمال فتابع: كنت اعرف قسمت من قبلهم، عرفتها في الكلية،
كنت بعتبرها زي رفيدة، أمها متوفية وأبوها أغلب الوقت مسافر، أبوها الوقت اللي كان بينزل فيه مصر كانت بتفضل تحكيله عني لحد ما في مره عزمني عندهم...
أخرج لفافة تبغ وقبل أن يشعلها أخذتها من كفه معترضة: أنا مبحبش ريحة البتاعة دي.
هتتشرطي كمان.
قال هذا متصنعا التعجب فرفعت كتفيها تجيبه باستعلاء: أيوه براحتي.
ضحك على طريقتها، ومدت هي كفها بلفافة تبغه قائلة: خد بس متشربهاش هنا، وكمل يلا.
تجاهل أخذها منها، وتابع ما بدأه متذكرا أحداث من الماضي: اليوم اللي عزمني فيه، كانت القعدة كلها كلام انشا...
هو بيحب بنته أوي، ففرح إنها بعدت عن وحدتها وبقت تندمج مع المجتمع، عزمني علشان يطمن من ناحيتي، وعلشان يبينلها إنه الفترة اللي فاضي فيها بيشاركها اهتماماتها حتى اصحابها.
سألته مبدية استغرابها: وأنت عرفت منين إنه عزمك علشان كده؟
أشار على جانب رأسها قائلا: علشان ده المفروض إنه بيفكر.
ثم تبع إشارته، بواحدة آخرى على عينيها مكملا: ودول المفروض انهم بيعرفوا يقرأوا الناس كويس.
تمنت لو أنها لم تسأل، حيث جعلتها الإجابة تشعر بمدى غباء السؤال، لم ينتظر طلبها أن يكمل بل فعل ذلك من تلقاء نفسه مردفا: خد رقمي، وكان دايما لما بيسافر بيتصل بيا يسألني عنها، لحد ما اتصاحبت على ال group اللي قولتلك عليهم في السباق، أو بمعنى أصح هما اللي جم يتعرفوا عليا، وأنا مكنتش من النوع القافل أوي، عادي بتعرف الكل
قلبك بيساع من الحبايب ألف ما شاء الله.
أجاب على تعليقها الساخر بقوله المنبه: مش معنى إني اتعرفت على حد إنه بقى في حياتي، عادي أتعرف عليك ونتكلم ونتقابل حتى بس مش هتدخل حياتي غير لو أنا عايزك تدخلها، الحدود أنا اللي برسمها علشان دي حياتي أنا، ولو مش عايزك هطردك برا عادي.
طالعته بخوف لمع في عينيها، هذا الحديث يذكرها بحديث سمعته قريبا، كان صاحبه باسم، قوله يتردد في ذهنها الآن: أنا جاي أنبهك لأخطاء اللي قبلك علشان هيجي عليكي الوقت اللي تبقى مجرد رقم من قايمة ضحايا عيسى نصران
هل تصبح إحدى ضحاياه حقا!، نفضت عن رأسها هذا التفكير وحثته على الإكمال حيث نطقت بارتباك حاولت عدم إظهاره: كمل، سامعاك.
تابع من حيث وقف، وهو يحرك كفه في المياه المجاورة له: كانت كيمي بتيجي معايا، لما بيكون فيه سباق علشان تتفرج...
كررت خلفه الاسم باستغراب فصحح ما قال: قسمت قصدي.
أكمل يسرد التفاصيل التي لا ينساها أبدا: وبحكم إنها معايا دايما، اتعرفت على group السباق، خدنا أرقام بعض، واتصلوا بيا أسهر معاهم في بيت واحد منهم، روحت. خروجة جابت التانية جابت التالتة لحد ما عرفت انهم ضريبة، فقطعت معاهم.
ضريبة ايه؟
سألته فطالعها بغيظ مجاوبا: هيكونوا ضريبة ايه يعني، اللي بيضرب ده مبيضربش غير مخدرات، بلاش الاسئلة اللي بتقفلني دي.
شهقت مرددة بغير تصديق: مدمنين!، طب وأهاليهم فين؟
أجاب على سؤالها بقوله: مش هلف وراهم أكيد، أنا بعدت عنهم، الموضوع كان أكبر من كونهم مدمنين، كان فيهم كمان ناس بتبيع مخدرات، أنا بعدت عنهم بعد الحوار ده، وجه بعدها الوقت اللي كنت عايز اهتم فيه إنه يكون ليا شغل بتاعي لوحدي، فاتشغلت في التدوير هنا وهنا، وكمان قابلت ناس جديدة، وشوية بقيت بعيد عن قسمت.
سألته مستفسرة: هي كانت بتخرج معاكم، وعرفت انهم مدمنين؟
هز رأسه نافيا وهو يتابع: لا، هي قابلتهم مره واحده بس في السباق، كانوا لسه متعرفين عليا جديد وبحكم ده اتعرفت عليهم، خروجاتي معاهم كنت ببقى لوحدي، الفترة اللي اهتميت فيها شوية بالشغل والتدوير، حسيت انها بتبعد، بقت غريبة، تصرفاتها مش زي الأول، مش بتيجي معايا أي مكان زي ما كانت بتعمل، وعلطول ساكتة لوحدها.
أكمل وهو يزيل يده من المياه: دورت وراها علشان أعرف مالها، فعرفت إنها اتلمت عليهم، عرفت كمان انها مشيت في السكة دي، حاولت ابعدها عنهم معرفتش، فلجأت لآخر كارت إني لازم أقول لأبوها يبعدها هو عنهم.
عند هذه النقطة، شعر بألم يغزوه ولكنه تابع فامتزج الألم بكلماته: لقيت أبوها بيتصل بيا قبل ما اكلمه أنا، أول ما نزل مصر قالوله الحق بنتك في المستشفى، روحت معاه المستشفى مكانش يعرف لسه أي حاجه عن موضوع المخدرات، والنتيجة كانت جرعة زيادة واتشلت.
هنا توقف عن الحديث يتذكر ذلك اليوم حين واجهته صارخة أمام والدها: أنا محدش يحاسبني، الناس دول انت اللي معرفني عليهم، الناس دول فضلوا موجودين لما انت بعدت.
فاق من شروده متابعا بضحكة متحسرة: أبوها حملني تمن اللي حصلها، وكأني ولي أمرها المفروض امشي وراها واعرف هي راحه فين وجاية منين، لحد النهارده أبوها شايف إن أنا السبب في اللي حصلها علشان أنا اللي عرفتها على الناس دول.
سألته ملك بتأثر مما قصه عليها: طب أنت ليه لما عرفت انهم وحشين، محذرتهاش منهم؟
هي مكانتش صاحبتهم أصلا علشان أحذرها منهم، أنا اللي كنت معاهم وبعدت، هي لما قربت منهم كان من ورايا، وانا اهتميت وكنت هقول لأبوها بس اتفاجأت بيه بيكلمني يقولي انها في المستشفى.
أخرجت تنهيدة حارة تبعتها بقولها: وايه اللي حصل بعد كده؟
وجه نظره للمياه من جديد وهو يردف: بعد ما خرجت من المصحة حاولت كتير أزورها، بس أبوها منع ده، وخصوصا لما صاحبتها أكدتله إنها اتعرفت على الناس دول عن طريقي، صاحبتها دي كانت بتيجي معاها السباق، ومشيت معاها في سكة المخدرات بس اتلحقت قبل ما يحصلها كده هي كمان، من اليوم ده وأبوها بقى شايف الموضوع حساب بيني وبينه، وإن أنا السبب في اللي حصلها.
استدار يطالع ملك مكملا بصدق: مش بقول إني مليش ذنب، أوقات بحس عليا جزء من الذنب، بقول جايز لو كنت حذرتها منهم مكانتش حصلها كده، بس لما برجع افكر بقول إنها هي اللي مشيت في السكة بمزاجها، هي مكانتش صاحبتهم أصلا علشان أحذرها منهم، وطبيعي أنا كنت هتشغل في حياتي شوية فأنا مش مسئول عن أي مصيبة تعملها وأنا مشغول.
معاك صورة ليها؟
لم يتوقع منها طلب هكذا، ولكن أعطاها إجابته: اه معايا.
أخرج هاتفه وفتحه وذهب إلى صوره معها، فتح إحدى الصور وأعطاها لها.
تطلعت في الصورة، كان يبدو عليه الصغر، يضحك من قلبه حقا وكذلك تلك الشابة التي جاورته في الجلوس في أحد الأماكن العامة وأمامهما كعكة عيد ميلاد مزينة بأرقام تدل على عمر صاحبها، تأملت الفتاة كانت جميلة حقا، خصلات حمراء متوسطة الطول، وعيون واسعة سوداء، ملابس عصرية، و تقاسيم تبث الراحة في وجه من ينظر إليها، خاصة هذه الضحكة المشرقة.
أشارت على الصورة وهي تسأله: كان عيد ميلادها؟
هز رأسه مؤكدا وضغط على صورة اخرى قائلا: دي صورة ليها دلوقتي.
بهتت وهي تراها أمامها وقد ذبلت تماما، كتلة من الحياة انطفأت، وعيناها لا تنطق إلا بالحزن، شعرت بقلبها يتمزق من الألم، طالعته بغير تصديق لما رأته وهي تصارحه: عارف مين الغلطان بجد في الموضوع ده.
ضحك وهو يجيبها قبل أن تتفوه هي بالإجابة: هتقوليلي أبوها، علشان أهملها، بس أبوها مش شايف كده أو جايز شايف بس محملني أنا الذنب الأكبر، مشيلني سبب اللي حصلها ولو طال يقتلني هيعملها.
بعدت عنها طبعا علشان المشاكل.
كان هذا توقعها ولكن صدمها بقوله: ببعتلها كل سنة في عيد ميلادها تورتة الأيس كريم اللي بتحبها.
طالعته بدهشة مرددة: وأبوها يعرف انك بتب...
قاطعها مجيبا على تساؤلها: هي أكيد عارفة إنه إنا اللي ببعتها، أنا الوحيد اللي كنت أعرف إنها بتحبها، أبوها بقى أكيد ميعرفش إن أنا اللي ببعت، حاولت تكلمني من فترة من ال account بتاعها تقولي إنها فهمت إني مليش ذنب، جايز بس هي وقتها كانت مصدومة من اللي حصلها، وشايلة مني علشان بعدت عنها الفترة اللي مشيت فيها في السكة دي، وحاولت تقنع أبوها كتير لكن هو مقتنعش وخصوصا مع كلام صاحبتها إن أنا اللي معرفها عليهم.
ورديت عليها؟
هز رأسه نافيا، وهو يخبرها: مردتش، مش علشان أبوها، بس علشان أنا مبقتش حاسس إني عايز أكون موجود، دايما حاسس إن أبوها هيعمل حاجه أنا مش متوقعها، مش عارف هيأذيني ازاي بس متأكد إنه هيعمل ده، أنا مش خايف منه، مش خايف على نفسي أصلا، أنا أقدر أواجه، أنا بس اللي قلقان منه إنه يوجعني بنفس الطريقة اللي هو شايف إنه اتوجع بيها.
كان لجملته الأخيرة مغزى حاولت أن تدركه ولم تفلح، فقامت بالمسح على كفه قائلة برفق: مش هقولك أنت مش غلطان، لأن أنا عارفة إن أنت مش عايز تسمع الكلام ده، لكن هقولك إن الغلط كله مش عليك، اللي حصلها ده مكتوب إنه يحصل، حتى لو أنت مكنتش تعرفها خالص برضو كانت هتتعرف عليهم ويحصلها نفس الحاجة، ممكن دايرة الغلط تبقى أنت جزء منها لكن مش كلها وده اللي لازم كان والدها يفهمه.
وضح لها سبب حزنه الحقيقي: مش زعلان من نفسي على قد ما أنا زعلان عليها وعلى حياتها اللي باظت، وكل الناس في دايرتها بيقولوا إني كنت سبب في كده، بس بحاول من فترة للتانية أساعدها من بعيد تتخطى اللي هي فيه، من غير طبعا ما اظهر في الصورة خالص.
شعرت ملك بالحيرة، فطالعت المياه وهي تخبره: حكاياتك أكثر تعقيدا من إني أقول رأيي فيها.
أكثر تعقيدا!، أنتِ هتعمليلي فيها دكتورة، قومي أروحك قومي.
ضحكت على قوله، واستدارت تسأله: طب حكيت ليه؟
أجابها بصدق نبع من داخله الذي يعج بالحيرة: مش عارف.
ابتسمت وهي تقول له: مش مهم تكون عارف، المهم تكون ارتاحت شوية، لو حسيت في وقت انك عايز تتكلم ومش لاقي حد تتكلم معاه، أو مش حابب تحكي، اكتب اللي أنت عايزه في ورقة وارميها في الماية أو قطعها، هتحس شوية انك ارتاحت.
كان يطالعها باهتمام فأكملت: وبالمناسبة عايزة أقولك حاجه، بلاش تشيل أكتر من شيلتك، كل واحد فينا عنده اللي يكفيه وزيادة بلاش تشيل نفسك حاجات كمان مش بتاعتها.
ابتسم وعيناه لا تفارق المياه وهو يتحدث: قولتي كلام حلو
شعرت بالفرح فقتل فرحتها بباقي قوله: بس ملهوش لزمة، كلام انشا يعني.
جحظت عينيها وحثته على القيام قائلة: قوم روحني دلوقتي حالا.
ضحك وهو يقوم من مكانه، بدأ السير فأسرعت تتبعه حتى يساعدها في العبور من هذا المكان، وصلا أخيرا إلى سيارته، وما إن دخلت سألته: هو ليه في ورق جرايد قديم كتير كده، وايه الجوابات دي كمان؟، وبرضو في المعرض بتاعك الحيطان عليها ورق جرايد قديم.
قالت هذا وهي تشير على الأوراق الكثيرة الموضوعة في سيارته فابتسم حين تذكر وأخبرها: أمي كانت بتحب الجرايد أوي، الجرايد والجوابات، وانا من كتر حبها افتكرت وانا صغير ان الحاجات دي مقدسة فبقيت بعلق الورق على الحيطة، وبشتري أي جوابات بلاقيها، اعتقد هيجي اليوم اللي هخلي حيطان القرية كلها عندنا عليها ورق جرايد قديم، وجوابات اتبعتت من ناس لناس تانية مش هتقرأها.
هبقى اروح اتصور جنبهم لما تعلقهم.
أضحكه تعليقها، ثم غادر المكان ليعود بها إلى منزلها وهو على يقين أن والدتها اشتعلت حتى أوشكت على الاحتراق الآن، أما عنه فلم يجب إلا على مكالمة طاهر التي طمأنه فيها أنه سيعود الآن، سيعود بها إلى المنزل وإلى والدتها.
يجلسوا في محل والدتها، نصران و هادية و شهد و مريم و طاهر أيضا، قطع طاهر الصمت قائلا بغيظ: يا ست هادية، عيسى قالي إنه جاي، احنا جبنا حضرتك لحد بيتك اهو ولسه بدري أوي على انك تفتحي المحل، اطلعي ولما تيجي هتطلع متخافيش، ونتكلم بعدين.
أخبرته هادية وهي تضع أكواب الشاي أمامهم: أنا مش هطلع غير لما اشوف بنتي، ولما الحاج نصران يفهمه إن اللي عمله عيب وميصحش، وإن عدم احترامه كلمتي ده مينفعش.
طالعها نصران بضجر وتبع ذلك بقوله: يا صبر أيوب.
همست شهد إلى طاهر الجالس جوارها بنبرة ظهر فيها رغبتها الشديدة في النوم: هو أنا لو طلعت نمت، امي هتقول حاجه.
حذرها بنفس الهمس: أنتِ مش هتقومي من هنا، متبقاش أمك مكدره اللي خلفوني، وأنتِ طالعه تنامي...
أشار على شقيقتها وتابع بأسف: اختك مريم يا عيني نامت على نفسها.
صححت له بغيظ: ما هو الغلط مش عليها، الغلط على ابن عمك اللي متسبب في قعدتنا القعده دي.
كانت مريم ما بين النوم واليقظة، ما حدث يجعلها لا تستطيع النوم، حين أخذتها رفيدة معها ثم تفاجأت بأنها في غرفة حسن، وقفت رفيدة جوارها وسمعتها وهي تقول بلهفة وعيناها تتفحص كل إنش من الجالس على الفراش لتتأكد أنه بخير: حسن أنت كويس.
بقيت كويس.
كلمات قليلة مع ابتسامته صنعت الكثير، في حين كانت رفيدة تطالعه ساخرة وهي تقول بغنج: يا واد يا واد.
تابعت مريم بقلق حقيقي: ألف سلامة عليك، أنا كنت هتجنن من القلق، ومقدرتش اجي ازورك مع ماما في المستشفى،
خوفت تكون مش كويس.
كان يطالعها مبتسما بهيام وهو يسألها: اخلي رفيدة تجبلك ايه تشربيه.
أخذتها شقيقته من مرفقها ناطقة بغيظ: تشرب ايه يا حبيبي، اصحى كده، ده انا جيباها سرقه، يلا يا بنتي قدامي على تحت بدل ما امك تقول خطفتك.
لوحت له بكفها قبل خروجها: مع السلامة يا حسن.
دي تاني أحلى حسن بعد بتاعة أمي.
ابتسمت بحرج وغادرت الغرفة ولكن وصلها صوته يقول منبها: مريم هبعتلك ابقى ردي، علشان خاطري.
لم تجب وكذلك خرجت شقيقته وقبل أن تغلق الباب عليه أردفت: تربية شويه، نشم التربية شويه.
قبل أن يقذفها بالوسادة أغلقت الباب وارتفعت ضحكاتها.
فاقت مريم من تذكرها على صوت سيارة عيسى التي توقفت أمام محل والدتها، ما إن نزلت ملك من سيارته حتى جذبتها والدتها تقف جوارها وهي تطالعه بتحدي وتنتظر ردة فعل والده، ترك نصران مقعده واستقام واقفا وهو يسأله: كنت فين يا عيسى؟
نطق ببراءة: كنت مع ملك.
اقترب والده منه وهو يقول بحزم: ولما امها قالتلك متخدهاش وتنزل،
خدتها بالغصب ليه؟
أخبر والده بهدوء: والله هما أكيد حكولك أنا جيت ليه أصلا، ملك كانت قلقانة وخايفة خدتها ونزلت، اكيد مش هسيبها قلقانة وخايفة
أشار لملك قائلا بنبرة أثارت غيظ هادية: مش أنا خدتك اطمنك برضو؟
هتفت والدتها بغيظ: يا بجاحتك يا اخي.
هادية.
لأول مرة ينطق نصران بهذه اللهجة الحادة معها، ترك طاهر مقعده وفاقت شهد ترى ما يحدث، توجه نصران ناحية ملك قائلا: اخرتها يا ملك، انتِ عايزه عيسى ولا لا، لو مش عايزاه هخليه يرمي عليكِ اليمين دلوقتي.
طالعته مسرعة، ولكنها لم تجد الإجابة بل وجدت في عينيه انتظار لاجابتها، قالت بارتباك وهي تحاول إيجاد مخرج: هو يا عمو بس كان سوء تفاهم بين ماما و عيسى.
عايزاه ولا لا يا ملك؟
كررها نصران ومعها تتكرر في أذنها صوت باسم مجددا وهو يقول: عيسى مبيعرفش يحب، مغناطيس بيشدهم ليه، وعنكبوت بيبقى مبسوط بخيوطه اللي منسوجة على اللي حواليه، هوب هتلاقي نفسك مشدودة ليه، هوب بتحبيه، وتفضلي تستحملي لحد ما هو يقرر ينهي كل حاجة وتترمي زي اللي قبلك، تترمي وأنتِ عمرك ما توقعتي إنه يرميكي.
هتف نصران مجددا وهو ينبهها: ردي يا بنتي.
رفعت رأسها لترى أي شيء في عينيه، لم تر سوى أن قولها الآن ربما يكون خذلان اخر يضاف له، شعرت أنها ستفعل فعلة خالته، تلك التي عاتبها عليها بأنها في كل مره لا تختاره.
لذا وبدون تردد نطقت مسرعة: عايزاه يا عمو.
هنا فقط تحرك نصران ناحيته وجذبه من مرفقه قائلا: طالما هي عايزاك، أمها دي كلمتها سيف على رقبتك، الكلمة اللي تقولها اعتبرها كلمة أبوك.
لم يكن معه بل كان ينظر لها، يتأكد من أنها قالت هذا حقا، أكمل نصران: سمعت يا عيسى.
طالع هادية وهو ينطق: سمعت.
كانت نبرته تدل على أنه لم يهتم بأي شيء مما يقال، ولكن قول والده جعله ينهى الأمر: ميتكررش تاني يا عيسى وتاخدها من غير إذن أمها.
وأنهى الحديث وهو يأخذه ويسير قائلا بضجر: وامشي بقى يا بني وخلصنا، أنا مش حمل المناهده دي، عايز أرتاح.
تحرك والدهم راحلا وغادر طاهر مرافقا عيسى وهو يهمس له: عاجبك كده يا عيسى.
أنا هاخدها منها خالص علشان تقعد بقى.
قال عيسى كلماته بضيق واستدار ينظر لها فوجدها تأخذ ملك معها صاعدة إلى المنزل، تبادلا النظرات فسحبتها والدتها وأغلقت البوابة.
تابع رحيله مع طاهر بعد فعلة والدتها، وبداخله لا يتذكر سوى ما حدث قبل قليل فقط، اختارته وكان أمامها الرفض، شيء شتت كل شيء.
توقيت الظهيرة في منزل مهدي لم يكن حارا فقط بل زاد الأجواء توتر صياح علا، والتي دخلت غرفة والدتها ووقفت جوار الفراش قائلة: قومي شوفي ابنك، منيم الصايع صاحبه تحت، وحتى مقالش وانا نازلة لقيته في وشي.
فاقت والدتها من نومها لتنطق بضجر: بقولك ايه اصطبحي أنا مش طايقاكي.
متقلقيش يا ماما، أنا مش قليلة الأصل زي شاكر، لو مش طايقاني علشان نص الورث اللي بقى بتاعي.
ضغطت على كلمة أنه خاص بها جيدا وتابعت: فأنا فلوسي هي فلوسك يا حبيبتي.
سمعا صوت شجار في الأسفل فهرولا بكل سرعتهما، وجدا المحامي في الأسفل وقد أتى، و شاكر في شجار عنيف معه يحاول فضه محسن، علا صوت المحامي الذي قال: اسمع يا شاكر أنا صحيح مش راضي عن القسمة اللي أبوك عملها دي، لكن أنا مش مزور علشان تقولي قطع كل حاجه، وعلى فكره أنا كلمت الحاج نصران قولتله إن مرات ابنه ليها ربع الورث، علشان تعرف بس إن أي محاولة منك خلاص مبقتش تنفع.
ابتسم شاكر وهو يقول بهدوء: اتصلت بالحاج نصران؟
هز رأسه موافقا، وشقيقته ووالدته ومحسن يراقبوا ما يحدث بغير ارتياح، وبالفعل انتفضوا ثلاثتهم حين صرخ شاكر: ده أنا هعلق اللي خلفوك النهارده.
قالها وأطاح بقدمه بالرجل ولم يراع عجزه أبدا، سقط المحامي على الأرضية، ونهرته شقيقته مدافعة عن الرجل: ايه اللي بتعمله ده، ده قد أبوك حرام عليك.
ماهو كاتبلك النص، وكل اللي بيحصل ده على هواكي.
قالها بشراسة جعلتها تقول بعنف: لا ده انت اتجننت خالص.
جذبها من ملابسها، وقام بضربها أمامهم جميعا، اتخذها أداة للضرب، حاول محسن منعه كثيرا وإبعاده عنها وصراخ والدته ولكن الأمر انتهى بأنه ألقاها في غرفة المكتب وأغلق عليها، وعاد للمحامي من جديد، قام الرجل واتجه ليخرج من المكان ولكنه جذبه من ملابسه قائلا بشر: رايح فين.
وكأنه جن الآن، بل هو بالفعل مجنون، وظهر هذا وهو يصيح: قولت لنصران؟، ولا يهمني، البت اللي ليها ربع الورث دي هتبقى مراتي، برضاها، غصب عنها هتبقى ليا، لو هقلب البلد دي واللي جنبها دم مش هسيبها تتهنى مع حد غيري، هموتها لو ده حصل، لو معرفتش اخليها تبقى ليا هموتها.
دقات متواصلة على باب المنزل جعلته يتوقف، فتح البوابة ليجد عيسى أمامه، طالع عيسى ما يحدث بعينين ثاقبتين وهو يقول بسخرية: مكنتش عايز اخبط على الباب، كنت بقول دول عالم بهايم متستاهلش الواحد يخبط عليهم، بس رجعت في رأيي وقولت كل واحد بيعمل بأصله لكن طلعت صح وانتوا فعلا بهايم.
لاحظ ما أصاب وجه المحامي من كدمات، وقبل أن يفعل أي شيء نطقت كوثر: هو أنت محرمتش، جاي هنا...
قاطعها ناطقا بشراسة: بس بدل ما انسى انك ست وكبيرة، وساعتها معاملتي معاكي هتخليكي متكمليش على الأرض ربع ساعة كمان.
اقترب منه شاكر يقول بشر: وده مين بقى اللي هيسيبك تعملها كده.
ابتسم عيسى وهو يجلس على الأريكة قبل أن يقول: أنت صعبان عليا يا شاكر، اه والله صعبان عليا، سمعتك كده من على الباب بتقول البت اللي ليها ربع الورث دي هتبقى مراتي، مين البت دي بقى؟
نار حقيقية تنهش به الآن وخاصة حين وقف عيسى ليواجهه قائلا: أنا عارف إن الفلوس تهمك ومحروق عليها أوي...
بس عارف برضو إنك محروق أكتر علشان مش طايلها، ولا هتطولها وحياتك، عارف ليه؟
مال يهمس جوار أذنه: علشان بقت مراتي، وقريب هتبقى أم العيال، وأنا هسيبك عايش متقلقش، قتلك مش في خطتي أصلا.
احمرار وجهه وبروز عروقه يبرهن أنه على وشك قتل عيسى الآن وخاصة حين تابع عيسى: وعيالي إن شاء الله هبقى أجبهم هنا مخصوص، علشان يتفوا على عمو، أخبره بابتسامة واسعة: اللي هو أنت يعني، ويدوه على قفاه كمان مفيش مانع.
بعد أن انتهى سأله شاكر بعيون حملت من الشر الكثير: خلصت؟
غمز له عيسى قائلا: لا، ولا هخلص دلوقتي، أنت حسابك تقيل أوي يا شاكر، وأنا علشان رحيم هقسطهولك.
اتجه ناحية البوابة ثم استدار يقول للمحامي: بيت الحاج نصران مفتوح ليك في أي وقت بخصوص موضوع الورث بتاع مراتي، لكن العالم البهايم دول لا يتدخل ليهم بيت ولا زريبة حتى.
ثم بصق وعيناه تحاوطهم بالشر قبل أن يترك المنزل راحلا تماما عن أنظارهم، أنظارهم فقط، أما عقولهم فما زالت معه.
اليوم مميز للغاية، لم تدع مقتها للسير في شمس فصل الصيف يفسد عليها هذا، بل ارتدت شهد فستان من اللون الرصاصي توسطه حزام عريض، وأسفله قميص من اللون الأبيض، وعقصت خصلاتها للأعلى، وتركت إحداهن تنسدل على وجهها، فبدا مظهرها رسمي أنيق وهي تتوجه لمقابلة حورية، هي الآن تجلس تنتظرها في مقهى شبابي بالمحروسة، وما إن أتت
حورية أبدت اعتذارها: أسفه جدا لو اتأخرت.
كانت شهد تتفحصها ولكن أوقفت ذلك بقولها اللطيف: أنا اللي أسفه لحضرتك، إني مقدرتش اجي القاهرة في المقر الرسمي لظروفي، من حظي الحلو إنك موجودة اليومين دول في اسكندرية.
أتى النادل وأخذ طلباتهما، فطلبت شهد منها التفسير: ممكن بقى حضرتك تشرحيلي أكتر.
أخبرتها حورية دون تعقيد: هتعملي project، شوفي ايه أكتر الأماكن الحلوه في اسكندرية واللي تساعد في تنشيط السياحة واشتغلي عليها، اللي يعجبك بقى، كل واحد من المشتركين عنده فكره هيشتغل عليها، فيه اللي هيعمل برنامج، فيه اللي هيصور، فيه اللي هيكتب شوفي انتِ هتختاري ايه بقى، وهبعتلك لينك ال form اللي تبعتي عليه ال project بتاعك.
ابتسمت شهد بحماس، وزادت حورية من حماسها بقولها: المتميزين اللي هنختارهم منكم، أولا هيبقى ليهم جايزة مادية قيمتها كويسة، ثانيا هينضموا لينا في الشركة، أنا بعتلك المقر وكل التفاصيل.
هزت شهد رأسها موافقة ثم قالت: طيب تمام أنا كده فهمت كل حاجه، ممكن أعرف اخر ميعاد لتسليم المشروع امتى؟، حضرتك قولتيلي لازم اخلص بسرعه.
أيوه هو فعلا لازم تنهي بسرعه، معاكي مهلة تلات أسابيع بالكتير شهر، وده علشان الفرصة متروحش منك.
أنهت حديثها وهي تمد يدها لمصافحة شهد تقول بضحكة واسعة: أنا حبيت اجي نتقابل، لأن كل اللي اخترناهم، عملنا معاهم مقابلات في المقر الرسمي، بس زي ما انتِ قولتي حظك حلو اني هنا، للأسف حاليا مضطرة استأذن
بادلتها شهد الضحكة وهي تصافحها وأخبرتها: شكرا، وإن شاء الله ال project يعجبكم.
كانت تضحك، وحماسها كبير ولكنها غفلت عن تلك التي تحسن التقاط الصور بهاتفها، ليست صور بل أدواتها في إفساد علاقة هذه الفتاة مع زوجها السابق، إفساد وتدمير شامل لها.
مرت الساعات حتى قبيل الغروب، الغروب الذي أعطى منظرا بهيا لمنزل نصران وما حوله، جلست سهام مع يزيد في غرفته تحثه على شرب الحليب قائلة بعتاب: لو مش أنا اللي بهتم، مش بتشربه أبدا، أنا زعلانة منك.
يا تيتا أنا مش بحبه.
قرر لها الصغير بضيق طفولي، ثم سريعا ما قال بحماس وهو يفتح يديه على وسعيهما: بابا عاملك مفاجأة جميلة، بس هو قالي ما اقولكيش.
اقتربت سهام منه بضحكتها واتخذت مكانها على الفراش جواره قائلة: أنت ممكن تقولي، وأنا مش هقول لحد السر خالص خالص.
سألها رافعا حاحبه بمكر: ومش هشرب اللبن تاني؟
هزت رأسها مؤكدة، فقال بحماس شديد: بابا هيتجوز شهد.
اختفت الابتسامة، وأدت ضحكتها وهي تسأله بصدمة: شهد مين؟
بنت طنط هادية.
وكأن دلو ماء بارد سقط على رأسها الآن، حاولت إخفاء توترها بقولها: طيب اتفرج انت يا حبيبي على ال tv وأنا مش هتأخر عليك.
لم يمر سوى بضع دقائق، كانت بعدها في غرفتها ومعها ابنها الذي كان يجلس في الأسفل مع عيسى و حسن.
ما إن دخل طاهر حتى سألها بقلق: في ايه يا ماما؟
سألته بتكذيب لما قاله الصغير: كلام يزيد ده صح؟، أنت صحيح هتتجوز بنت هادية؟
لم يجب فتابعت تحاول أن تطمأن نفسها: شوفت بقى، شوفت مش أنا قولتلك متخليش الولد يتعلق بيها ويروحلها أكتر من كده، أهو بدأ يستنتج ويألف حاجات من عنده.
هز طاهر رأسه نافيا وهو يخبرها: لا هو يزيد مش بيألف، أنا هتجوز شهد.
هتفت باستنكار ونبرة عالية: شهد مين اللي هتتجوزها أنت اتجننت؟
سألها بنفس نبرة استنكارها: والله؟، هما اللي بيتجوزوا اليومين دول مجانين؟
رفعت كفها معترضة وبشدة: البت دي لا يا طاهر.
حاول تقليل الأمر بمزاحه المعتاد: لا ليه؟، ما هي حلوه وزي القمر، هي طبعا مش في حلاوتك بس شغال.
زاد تصميمها وهي تقول: أنا مش بهزر، ومفيش مجال للهزار، البنت دي أنا مش برتاح ليها، ومش بحبها، ومش هتتجوزها.
انفعل بسبب لهجة الأمر هذه وقال: ماما أنا راجل، أنا عديت التلاتين
مش عيل عنده 15 سنة تقوليله يعمل ايه وميعملش ايه.
صاحت بغضب: وأنا قولت لا.
وأنا قولت هتجوزها.
حاولت إرجاعه عن هذا القرار بقولها اللين: طالما عايز تتجوز، هجبلك عروسة، واحده تنفعك وتليق بيك.
وضع كفه بين خصلاته يحاول كسب بعض الهدوء وهو يقول لها: ماما الموضوع مش في الجواز من أي واحده،
أنا عايز واحدة بعينها، عايز شهد وبحبها.
عنفته بكل قوتها: الحب والمشاعر دول كلام فاضي، ياراجل ياللي لسه كنت بتقول انك كبرت وعديت التلاتين.
اعترض على قولها بانفعال: لا لا لا، عمرهم ما كانوا كلام فاضي، ولا عمرهم هيكونوا، لو كانوا كلام فاضي مكانش الحاج نصران يبقى بيتمنالك الرضى ترضي، وبيعاملك معاملة أي ست تتمناها، ولا هو أنتِ مش معتبرة ده حب.
إقناعه مهمة صعبة ولكنها تحاول جاهدة: أيوه يا حبيبي، الحب اللي بيني وبين نصران جه بالعشرة، هنقيلك واحده بنت ناس وصدقني مش هتندم.
وأنا مش هتجوز غير شهد، وبحب شهد، ولو هتفضلي معترضة يا ماما أنا هجيب شقة واخدها هي ويزيد ونعيش بعيد.
كان الرد على كلماته صفعة، لم تفعلها أبدا في حياتها ولم تدر كيف فعلتها، شعرت بجرمها وهي ترى نظرات عدم التصديق في وجه ابنها، انتظرت رده، حتى لومه أو عتابه ولكنها وجدته يغادر الغرفة مسرعا، ويذهب إلى غرفة صغيره ويحثه على القيام قائلا بانفعال: قوم يا يزيد تعالى.
قلق الصغير وهو يسأله بخوف: في ايه يا بابا.
لم يجب بل جذب مرفق صغيره ووالدته ملاحقته على الدرج قائلة: يا طاهر استنى.
انتبه عيسى و تيسير التي كانت تضع الطعام ل حسن لما يحدث، فتركا غرفة حسن ولحقا به و تيسير تعترض طريقه: استنى بس يا أستاذ طاهر في ايه...
ومجري وراك الست سهام كده ليه؟
صاح بغضب شديد: اوعي من وشي، أنا مش طايق نفسي.
حاول عيسى إيقافه بالإجبار ولكن طاهر منعه بقوله: أنا طالع شقتي فوق،
ومحدش يطلع عندي علشان مش هفتح لحد.
قال هذا ورفض أي محاولة للنقاش أو الحديث، رفض كل شيء بسبب صفعة تلقاها من والدته العزيزة.
خرج عيسى، يبحث عن والده الذي لم يعد منذ صلاة المغرب، وتأكد ظنه حين وحده يجلس مع مجموعة من أهالي البلده، يتبادلون الحديث في الأرض المجاورة للمسجد، علت قهقهات والده وهو يحتسي الشاي، وما إن رأى عيسى حتى تهلل وجهه، ورحب الجالسون بابنه كثيرا، الذي شاركهم الجلسة، صب أحدهم له الشاي قائلا: اتفضل يا أستاذ عيسى.
شكره ووقعت عيناه على عز فنطق عيسى ضاحكا: ايه ده عز كمان هنا.
أخبره بضحك: هو الواحد يقدر يشوف الحاج نصران في حته ويمشي، الراجل قعدته ميتشبعش منها.
همس عيسى لوالده مازحا: وبقى بتقول عليا أنا برضو اللي صايع والطريق صاحبي، امال القعدة دي ايه بقى.
وكزه نصران ضاحكا وهو يردعه: اتلم يا واد.
تبع ذلك بقوله: بقولك يا عيسى، البت رفيدة مشيت من الصبح علشان تروح القاهرة، علشان كليتها، انا قولتلها تستناك بس انت كنت نايم، فبعتها بالعربية توديها، هو السواق وداها وجه بس انا من بعد العشا برن عليها مبتردش، حاول انت كده علشان قلقان عليها اوي.
كلمات والده أقلقته بالفعل، فأخرج هاتفه وهمس لوالده: متقلقش أنا هتصرف، روح أنت بقى علشان في خناقة و طاهر مش عايز يحكي، وخد ابنه وطلع شقته.
استنكر نصران حديث ابنه بشدة، طاهر لم يفعلها أبدا في حياته، غادر المجلس بهدوء، وكذلك قام عيسى يحاول الوصول إلى شقيقته، لا يملك رقم صديقة لها، ولكنها كانت نشطة قبل قليل على حسابها على (انستجرام ) لذا أرسل لها تسجيلا صوتيا: أنتِ مبترديش ليه يا رفيدة؟
تبعها برسالة اخرى: أول ما تفتحي ردي، بابا قلقان عليكِ.
تصلها الرسائل ولكن لا رد، ظل يتجول حتى وصل أمام محل هادية، كان مفتوح وكانت هي تعطي لأحد الزبائن ما طلبه، طالعته ولم ترحب به، فضحك قائلا: ده أنتِ قطعتي الكلام معايا بقى.
أخبرته هادية معاتبة: لما تتعلم تحترمني هبقى أرجعه.
أكمل ضحكه وهو يحاول مجددا الاتصال بشقيقته، و هادية تضع له مقعد قائلة بغيظ: اتفضل.
اختفت الضحكة تماما حين وجد أن هاتف شقيقته قد أُغلق، شعرت هادية بهذا فسألته: هو في حاجه؟
لم يجب حيث أنه وجدها قد ردت على رسالته باخرى مكتوبة: معلش يا حبيبي كنت عاملاه silent ومسمعتش،
بص لو قفل متقلقش، شوية وهكلم بابا علشان أنا برا ولسه راجعة على البيت.
شعر بالراحة قليلا ولكنها ليست راحة كلية، وهنا انتبه إلى هادية وقال: لا مفيش حاجه.
تشرب ايه؟
هو رأسه بالرفض وهو يخبرها: لا خليكي مش عايز حاجه.
أخبرته بعبارات ذات مغزى: مينفعش أنا ست صاحبة واجب، مش زي ناس.
ضحك عاليا، قبل أن يقول وهو يطالعها: قهوة.
تركت مقعدها واتجهت للداخل فناداها متابعا: مظبوط، يا صاحبة الواجب.
كتمت هادية ابتسامتها واتجهت للداخل، ترك مقعده حين لفت نظره شيء ما، الحائط المجاورة لمحل هادية عليها إحدى أوراق الجرائد القديمة وقد عُلِقت بإحكام، وورقة من ورق الخطابات القديمة دُوِن عليها جملة وكأنها رسالة له، تخيل منظر الجدار وأوراق الجرائد والرسائل تملأه كاملا، وكان يقرأ الجملة المكتوبة على الورقة بابتسامة واسعة، جملة أسرت قلبه ولكن قطع قراءته صوت هاتفه فأجاب سريعا ظنا منه أنها شقيقته: ايه يا بنتي، مية سنه علشان تردي.
لم يسمع صوتها بل نحيب إحداهن فأنزل الهاتف سريعا ينظر في رقم المتصل، شعر بقلبه يؤلمه وهو يسأل: مين معايا؟
كانت تبكي وقالت بتوتر مسرعة: أنا جيهان صاحبة رفيدة، الحقها، سعد معرفش عمل فيها ايه، ولا خدها فين.
هنا فقط لمع في ذهنه ذلك الحين لحظة شاهد هذا الاسم على هاتف شقيقته، الكارثة هذه المره أكبر مما يتوقع، الكارثة شقيقته، شقيقته التي سافرت إلى القاهرة صباحا ويجب عليه إنقاذها الآن وهو في عروس البحر المتوسط، هذا الذي يشعر به الآن لن ينساه أبدا،
ربما صوت إحداهن يخبرك أن أحبتك في خطر لا تنساه أبدا.