رواية وريث آل نصران الجزء الأول للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الثاني عشر
وكأن حرب طاحنة نشبت داخل رأسك الآن، أصبحت زجاجة مياه غازية يتم تحريكها بقوة يمينا ويسارا، إن ألم الرأس مميت لدرجة تجعل صاحب الألم يهشم رأسه ليتخلص منه.
كانت هذه حالة شهد حين استيقظت على صوت شقيقتها مريم وألم شديد يحتل رأسها فقالت بانزعاج: في إيه يا مريم؟
قالت مريم بهمس خوفا من أن تكتشف والدتها الأمر: شهد اسمعيني، لو ماما سألتك كنتي فين امبارح قوليلها إن أخر حاجة أنتِ فاكراها أنك كنتي بتشربي حاجة مع صاحبتك في أي مكان.
بدأت شهد تدرك تدريجيا ما يحدث، آخر ما تتذكره هو وجودها في الحفل، ماذا حدث وكيف آتت
سألت شقيقتها وهي تضع كفيها على جانبي رأسها: إيه الصداع ده، وأنا رجعت ازاي أصلا؟
اعترضت مريم بغيظ وهي تجاورها في الفراش: مش وقت أي أسئلة دلوقتي، طاهر هو اللي رجعك امبارح وكانت حالتك زي الزفت، ماما قالتلي إنه قالها إنك كنتي بتشربي حاجة مع صاحبتك ومكنتيش تعرفي إن المشروب فيه نسبة كحول، ماما مش مصدقاه، وهو شكله قال كده علشان تطلعي منها، تابعت شقيقتها بتحذير: لو ماما سألتك قولي نفس كلامه يا شهد، أنتِ مشوفتيش ماما امبارح كان شكلها عامل ازاي.
لم تكمل إنهاء حديثها حيث وجدت والدتهما تقتحم الغرفة دون سابق انذار، وتأمرها بترك الغرفة
حاولت مريم أن تقلل من حدة والدتها فقالت بتوتر: ماما ممكن بالراحة.
تنهدت هادية واستدارت لمريم تقول بلهجة آمرة: قولت اخرجي برا، أنتِ مبتسمعيش؟
خرجت مريم من الغرفة وتركت والدتها بمفردها مع شهد، قامت شهد فشعرت بألم رأسها يشتد لذا وضعت يدها على جبهتها ووالدتها تسأل: كنتِ فين يا شهد امبارح؟
أنا أخر حاجة فاكراها أن ريم عزمتني على الغدا، وشربنا حاجة في المطعم وبعد كده ناسية كل حاجة.
قالتها شهد ولم تواجه عيني والدتها التي قالت بحدة: أنتِ قولتيلي أنك هتخرجي مع ريم.
قالت شهد بدفاع: الموضوع جه فجأة يا ماما، هو حصل إيه؟
جذبتها هادية من سترتها التي لم تقوم باستبدالها منذ أمس: حصل إن الهانم رجعت سكرانة بعد نص الليل.
لم تجب شهد بأي شيء إذ دفعتها والدتها على الفراش تقول بتحذير: اسمعي يا بت أنتِ أقسم بالله العظيم لو عرفت بعد كده أنك خرجتي ولا روحتي حتة من غير ما أكون عارفاها هتكون سنتك مش معدية معايا يا شهد.
تابعت هادية بانفعال: جدولك هجيبه، ودقيقة تأخير زيادة عن المواعيد اللي فيه هولع فيكِ، علشان أنا لو معرفتش أربيكي زمان يبقى أصلح غلطتي وأربيكي دلوقتي بقى.
صاحت شهد بضجر إثر معاملة والدتها: وعلى إيه كل ده مش نازلاها خالص.
يبقى أحسن.
قالتها هادية وهي تغادر غرفة ابنتها، متجهة ناحية المطبخ، وهي تنادي على مريم قائلة: تعالي يا مريم علشان تفطري قبل ما تروحي الدرس.
ذهبت إلى والدتها يحضرا معا وجبة الإفطار، وانتهت هادية من إعداد قدح من القهوة فناولته لمريم قائلة: خدي اديه لأختك.
قبل ما تفطر؟
سألت مريم باستغراب مما جعل والدتها تقول بغيظ: آه قبل الفطار خليها تفوق من الزفت اللي كانت شرباه،
ومخلي الصداع ماسك دماغها.
وجدت مريم شقيقتها تدخل المطبخ فناولتها الكوب ناطقة: ماما عاملالك ده.
قالت هادية متجاهلة وجود شهد معهما: روحي يا شهد صحي ملك علشان تفطر، وتشوف وراها إيه.
قالت شهد مدافعة بنبرة شبه باكية: يا ماما أقسم بالله ما شربت غير برتقال.
زفرت هادية بانزعاج فهرولت شهد ناحيتها تحتضنها قصرا وتقبلها رغم اعتراضها وهي تقول بإصرار: طب خلاص متزعليش بقى، مش هشرب حاجة تاني في الشارع هصوم.
لم تجب والدتها فقالت مراضية: طب هشرب القهوة وأنزل أفتحلك المحل، وأقعد فيه، مش أنتِ بتحبي حد يقعد معاكي تحت؟
قالت كلماتها و أغرقتها في وابل من القبلات فابتسمت والدتها رغم غضبها منها، وأخذت هي منها الأطباق كي تضعها في الخارج حين استيقظت ملك.
جلسن معا حول مائدة الإفطار، ولاحظت ملك النظرات المشتعلة التي تصوبها والدتها ناحية شهد،
قطعت قطعة من شطيرتها وتبعتها برشفة من كوب الشاي لتسمع والدتها تسأل: هتبدأي شغل من النهاردة؟
هزت ملك رأسها وهي تؤكد: أيوة المفروض، قالي إنه هيجيلي النهاردة ويفهمني الشغل هيمشي ازاي.
سألت شهد باستفسار ولكن قطع سؤالها صوت والدتها تقول: قومي انزلي افتحي المحل لحد ما أنزل.
زفرت بانزعاج ولكن قول والدتها الصارم: يلا اخلصي.
جعلها تأخذ مفتاح الحانة من أعلى الطاولة وتتجه للأسفل بضجر وكل منهم يسمع كلماتها المعترضة على ما يحدث، فهي حتى الآن لا تعلم ما حدث، وكيف حدث من الأساس.
هنا حيث السيارات المتراصة بعناية، والعاملون يمارس كل منهم عمله بنظام، جلس بشير في الغرفة العلوية التابعة حيث مكتب صديقه عيسى في معرض سياراته، كان يباشر العمل حيث باع سيارة لإحداهن، بعد أن أتعبتهم في الاختيار، وعندما انتهى وأثناء تناوله قدحا من القهوة دخل المكتب أحد الموظفين يقول: باسم عراقي عايز يشوف حضرتك.
كسى الانزعاج عيني بشير وهو يقول بضجر: هو ليه عين يجي هنا، تسارعت أنفاسه إثر الانفعال فحاول ضبطها حين أردف: طلعه.
انتظر دقائق حتى ظهر أمامه باسم الذي دخل وعلى وجهه ضحكة واسعة، واتخذ المقعد المقابل لبشير وهو يقول: بشير واحشني يا راجل.
عايز إيه يا باسم، جاي تكسر إيه المره دي؟
سأله بشير بتهكم مما جعل باسم يقول ببراءة: لا أنا جاي في خير المرة دي.
مد بشير رأسه منبها باسم بنبرة تحذيرية: عيسى مردش عليك على حركة تكسير المعرض الأخيرة، خد بالك بقى علشان عيسى نصران قرصته والقبر.
ضحك باسم عاليا وحاول أن يقول من بين ضحكاته: لا ما هو مفيش قرص تاني.
انتهى من نوبة ضحكه الهستيرية وقال بمكر: أنا عندي deal لو عيسى وافق عليه هنبقى حبايب وبس.
نظر بشير لساعته أثناء قوله بملل: مش هكدب عليك وأقولك إني كان نفسي أقعد معاك، بس أنا عندي شغل، فياريت تلخص وتقول عايز إيه
ترك باسم مقعده واتجه ناحية البوابة متأملا المكان من حوله: لا أنا جاي أتأمل في جمال المعرض، أصله حلو أوي.
تأفف بشير بانزعاج فرفع باسم كفيه قائلا باستسلام: خلاص خلاص متزعلش، عايزك تقول لصاحبك يرد على تليفونه.
تابع يقول جملته الأخيرة قبل أن يغادر الغرفة كليا: قوله العرض اللي عند باسم مش هيتكرر،
والعرض على توأمه فريد.
لم ينتظر أي ردة فعل من بشير بل انطلق مغادرا كالسهم، حتى بشير لم يستطع اللحاق به، وأصبح الحديث الدائر في نفس بشير يبحث عن ماهية العرض الذي يقصده، بل يبحث عن علاقة لشقيق صديقه المتوفي به، إن باسم تفوه بحديث بالتأكيد لا يعرف خطورته جيدا، لم يفكر من الأساس في هذه الخطورة التي قد تدفعه إلى الهاوية.
أشعة الشمس الذهبية عمت المكان حول منزل نصران بالدفء، فبدا الارتياح على كل شيء هنا حتى الأشجار، أوقفت فريدة سيارتها أمام المنزل، ودقائق وكانت بالداخل و سهام ترحب بها: أزيك يا فريدة، اتفضلي اقعدي.
وضعت فريدة حقيبتها على المقعد المجاور لهذه الأريكة المريحة وقد جلست عليها وهي تقول باعتذار: أنا أسفه يا طنط لو جيت بدري، بس كنت عايزة طاهر في حاجة مهمة.
جاوبت سهام على اعتذارها بقولها المخيب لأملها: أسفة والله يا حبيبتي لكن طاهر فضل صاحي طول الليل، هما يادوب ساعتين اللي نامهم مش هقدر أصحيه.
أعصابها تتآكل، والنيران مشتعلة بداخلها، هل فعلا تخسره!، تذكرت حديث رفيدة حين أتت لتقوم بتعزيتها ولكنها سمعت منها ما لم يرضيها عن علاقة طاهر الودودة بهذه المرأة وبناتها الثلاثة.
بدأت فعليا في البكاء، ولم تشعر بسخونة دموعها إلا حين سألت سهام باستغراب: مالك يا فريدة بتعيطي ليه؟
طنط أنا لسه بحب طاهر.
صرحت بها بصدق لوالدة زوجها علها تساعدها ولكن وجدت منها نظرات معاتبة سبقت قولها الذي وضعها أمام جرمها: ما هو كان معاكي، و بيحبك، طاهر بيقول إنه حب مراته الأولى، لكن الحقيقة إنه لا حبها ولا حبك، ده حب عشرة، اتشد لمراته الأولى فاتجوزها، و أنتِ ظروفك كانت مناسباه وظروفه مناسباكي، وبدأ فعلا يحبك لكن قصاد كده عملتي إيه؟
رمقتها بلوم متابعة تسرد لها ما فعلته: حطيتي نفسك في مقارنة مع عيل صغير، لو طبطبتي بس عليه هيحبك أكتر من أبوه، و المصيبة إنك مخلفة ومعاكي بنت يعني عارفة يعني إيه تبقي أم وعارفة يعني إيه طفل، طاهر روحه في ابنه تدي ابنه عينك تاخدي طاهر كله، تقفي قدام ابنه تبقي غبية وتخسري.
نظرت لها فريدة بدموع فربتت سهام على قدمها ناصحة: عيدي حساباتك يا فريدة، بس عيديها بسرعة، علشان أنا شايفة طاهر اليومين دول مبسوط و شكلها كده واحدة.
وكأنها على مشارف الموت من الظمأ، ورأت قطرة ماء فأخذها أحدهم بكل عنف مما أشعل لهيبها تجاهه، لذا استقامت واقفة وسحبت حقيبتها لتغادر وهي تقول: طب أنا مضطرة أمشي يا طنط.
سمحت لها سهام إلا أنها عادت تسأل: صحيح يا طنط، رفيدة كانت قالتلي عن واحدة وبناتها قعدوا فوق في الشقة اللي كانت بتاعتي أنا و طاهر، هما لسه فيها؟
اه تقصدي هادية؟، لا دول كانوا ضيوف كام يوم لحد ما أجروا بيت وفاتحين محل كمان هنا.
وضحت لها سهام ما طلبت ولكنها كانت تريد الوصول إلى نقطة بعينها فسألت مجددا: فعلا!، هي عندها بنت اسمها شهد تقريبا، أصل أنا سلمت على واحدة من البنات دول وأنا نازلة من عندكم بس نسيت اسمها.
تمنت لو كانت الإجابة بالرفض، لو أن فتيات هذه المرأة ليس بهن من تُدعى شهد، ولكن خر جبل أملها أرضا، وسقطت هي معه حين سمعت سهام تقول: اه واحدة من بناتها اسمها شهد.
نظن الإجابة ستعطينا الراحة ولكن الحقيقة أن بعض الإجابات ليست إلا فتح بوابة، بوابة من التعاسة والمعاناة.
إن شعور الاختناق مميت، أن تنسحب أنفاسك وتبقى وحدك تواجه اللهب، هو عدو شرس لك وأنت لا حول لك ولا قوة، إنه يقترب رويدا رويدا، إن النيران ستفتك بك ولن تترك منك شيء و...
هنا استيقظ عيسى لاهثا والعرق يغطى وجهه، أخذ يستنشق الهواء من حوله كمن حُرِم من الأكسجين دهرا، وصُرِح له به الآن فقط!
نظر جواره ليجد يزيد يغط في نوم عميق، كان سيترك الفراش ولكنه سمع دقات والده المتكررة بشدة، وهو يقول بإصرار: البس يا عيسى وانزل في حاجة ضروري.
مسح على وجهه الذي ما زال يحمل أثار النوم وأمام طرقات والده المزعجة قال بانزعاج: حاضر يا بابا خلاص هلبس ونازل.
فتح والده الباب ودخل إلى الغرفة، وقعت عيناه على.
الزجاجات الفارغة و التي انتشرت هنا وهناك، و ملابس ابنه الملقاة على الأرضية، إنها الفوضى بعينها مما جعله ينطق باستنكار: ده منظر يعجب حد!
توجه عيسى إلى المرحاض قائلا بكسل: والله هو عاجبني.
قال نصران بانزعاج: ولو اتجوزت مش هيعجب مراتك.
نطق عيسى وهو يغلق الباب: ليها حق الاعتراض، وساعتها هحرمها من طلتي البهية.
ضحك والده وهو يجلس على الفراش منتظرا خروجه، ولم يطل الانتظار حيث خرج واتجه ناحية خزانته أخرج منها قميص أبيض ناسب سرواله الأسود، نثر من عطره بهدوء، فسمع والده يقول: ايه الشياكة دي كلها، سيبت ايه للي مستنينا تحت؟
كان قد انتهى من كل شيء فتحرك ناحية والده يجذب كفه وهو يساعده على الوقوف مردفا بابتسامة: هو أنا معرفش مين اللي تحت، بس ابنك باشا.
ضحك نصران عاليا وهو يغادر معه الغرفة ثم أخبره بما ينزلا من أجله: منصور وابنه جابر ومعاهم مهدي جايين تحت وطالبين نزولك بالإسم، وده طبعا بما إنهم كبار بلدهم، مهدي أنت عارفه، منصور ده بقى واحد من الكبار هناك برضو، وواحد من اللي موهوم وفاكر إن ليه حق هنا، عموما الموضوع ده يطول شرحه هحكيهولك بعدين، احنا دلوقتي ننزل نشوف عايزين إيه.
وافقه عيسى في الرأي وغادرا حتى يستقبلا من انتظروهم في الأسفل، كان كل شيء مرتب، هم يجلسون وأمامهم الحامل المعدني عليه المشروبات و قطع الصمت دخول نصران و عيسى وقد ألقى كل منهما السلام، انضما إلى الجلسة وبدأ نصران بسؤاله: خير؟، طلبتم تشوفوني أنا و عيسى ليه؟
بدأ مهدي الحديث بقوله المعترض: اسمع يا حاج نصران احنا كبار البلد عندنا، وكلنا مش ساكتين عن اللي حصل لفريد الله يرحمه، و بندور لكن اللي حصل امبارح ده ميرضيش ربنا.
هنا نطق عيسى بدلا عن والده متصنعا عدم معرفة ما حدث: وإيه اللي حصل بقى؟
هنا تحدث جابر بحدة ملقيا بالتهم: حصل إنك روحت للحاج مهدي بيته، وهددت إن لو ملقناش اللي عملها هتحرق البلد، وامبارح كان أولها. البيت المهجور اللي جنب الأرض اللي لقوا فيها أخوك اتحرق، مش غريبة دي؟
انتهى جابر من حديثه وانتظر الرد ولكنه سمع ما لم يعجبه تماما: ده اتهام رسمي بقى؟
قالها عيسى ضاحكا باستهزاء مما جعل نصران يقول: ما تشوف كلام ابنك يا منصور، جايين ترموا التهمة علينا في بيتنا، لو حد ليه حق يبقى احنا، اللي ابننا مات عندكوا، وحد غيرنا كان قلب بلدكوا على اللي فيها، لكن احنا ساكتين علشان الناس ميتخربش بيوتها، و بندور على اللي عملها من غير ما نأذي اللي ملوش ذنب.
أخرج عيسى محفظته من جيبة، ثم فتحها أمام نظراتهم و منصور يقول: ما هو بالعقل كده، ابنك يهدد بحاجة، وبعدها تحصل، كده انتوا بتاخدوا عاطل في باطل ودي بلدنا ولازم نتكلم.
كان بطاقة عيسى في يده، فرفعها أمام أعين الحاضرين مقاطعا: البطاقة اهي.
قربها من جابر ذلك الشاب الذي يماثله في العمر تقريبا، ومن وجه له الاتهام أولا ثم قال بابتسامة زينت جانب ثغره: اقرأ كده اسمي.
لم ينطق أحد منهم بشيء فنطق هو متابعا بضحك: شكلكوا مبتعرفوش تقرأوا.
اسمي عيسى نصران.
أشار لهم ناحية الباب قائلا بهدوء: هتخرجوا من الباب ده، و تطلعوا على المركز عندكوا، تقولولهم عيسى نصران هددنا وقال إنه هيولع في بيوتنا وأراضينا، وامبارح لقينا بيت مهجور بيولع، وبنتهمه رسمي، وكلامي معاكوا بقى يبقى عندهم.
اشتعل ثلاثتهم وزاد هذا الاشتعال حين تابع: علشان يا ولاد الأصول، الأصول بتقول إنه عيب، عيب يبقى دم ابننا لسه عندكوا، و جايين بكل بجاحة تتهمونا من غير دليل، دم فريد ده ببلدكوا واللي فيها، عايزنها خراب مستعدين جدا، و أهو بجملة التهم، لكن زي ما الحاج نصران قال هو عامل حساب للناس الغلابة اللي ملهاش ذنب، وعموما أنا مش هريحكوا اعتبروني أنا اللي حرقته،
استقام واقفا وقال خاتما: واللي عندكوا اعملوه.
أشار منصور على عيسى وهو يقول بغضب: سامع كلام ابنك يا حاج، يرضيك اللي قاله ده.
رفع نصران كفه مشيرا حين نطق: المعاملة بالمثل، وأنتوا جايين تتهموه في بيته، فده حقه، وعموما عيسى معملهاش، ولو مش عايزين تصدقوا هو قالكم على الحل.
قام منصور أولا وتبعه ابنه الذي رمق نصران و عيسى بمقت، ثم مهدي، وانصرفوا دون التفوه بأي شيء بل همس نصران أثناء رحيلهم: ده الدم انعدم صحيح.
هم لا يعلموا من فعلها، ربما هم من فعلوها لافتعال المشاكل، والتهديد بحرب دامية إذا لم يكف ابنه، وربما فعلوا غيرها ليثبتوا عليه، إن الحرب مع منصور قديمة و أسلحته في الحرب لم تكن شريفة يوما ما، بل لم تنل الشرف لثانية واحدة.
أختي ممكن كيسين ملح.
قالها صغير لشهد التي جلست بمقعدها أمام الدكان، تراقب المارة، وتعطي للقادمين إلى دكانهم ما يريدون، كانت قد سئمت من القيام كل دقيقة ولكن لفت نظرها لهجة هذا الطفل المختلفة فقالت باستغراب: أنت من هنا؟، أنت شكلك مش مصري صح؟
ابتسم الصغير وهو يوضح لها: بابا مصري، وإمي من غزة.
مسحت على خصلات الصغير الناعمة ومالت تقبض على وجنته وهي تقول ضاحكة: وأنت أكيد حلو كده لماما، وعيونك القمر دول شبه ماما.
ضحك الصغير خجلا، وتوجهت هي إلى الداخل ووضعت له الملح وتناولت زجاجة مياه غازية، وأحد أكياس الشيبسي، ووضعتهم له مع الملح ناطقة بابتسامة ودودة: خد دول علشانك.
أخذهم منها ومد يده بالنقود قائلا: شكرا أختي، اتفضلي.
أخذت منه ثمن الملح وانصرف هو، فابتسمت بحزن، بالتأكيد والدته كانت تعاني تحت القصف، تحارب كحال كل محاربين فلسطين، الأرض لهم مهما مر التاريخ، ونقاء وجوههم وقلوبهم و ألسنتهم يثبت ذلك، يثبت براءة لم يستطع المحتل أن يلوثها ولن يستطيع.
فاقت من شرودها على إحداهن تقف أمامها، كانت ترتدي ملابس دلت على كونها ابنة أحد الأثرياء هنا، أنزلت نظارتها الشمسية وسألت بشبه تأفف: المحل ده بتاع الست اللي اسمها هادية؟
ضايق شهد نبرة الواقفة أمامها لذا تحدثت بانزعاج: اه بتاعها وأنا بنتها، خير؟
سألت فريدة بتخمين ربما يحمل الصواب أو الخطأ: أنتِ شهد؟
أرجعت شهد خصلاتها للخلف و هي تردف: أيوة أنا شهد.
قيمتها فريدة من أعلى لأسفل وازداد غيظها أكثر، جميلة بتقاسيم حملت البراءة، ولكن عيونها لمع فيها الشراسة وهي تتحدث، لاحظت شهد ما يحدث لذا قالت بملل: هاتي تليفونك أتصورلك صورة وخديها يا حبيبتي بصي فيها.
مالك ومال طاهر؟
سألت فريدة بحدة فقالت شهد باستغراب وقد انكمش حاجبيها: طاهر مين؟
هنا لم تتحمل فريدة أكثر فتحدثت بانفعال: طاهر نصران نسيتيه يا بت ولا إيه؟
استشاط غضب شهد وقالت بنفس النبرة المنفعلة: بت مين يا بتاعة أنتِ، إيه قلة الأدب دي، أنتوا بتتحدفوا علينا منين؟
صاحت فريدة وهي ترمي التهم بسخرية: دلوقتي بقيتي محترمة أوي، لكن امبارح لما كنتي معاه في نص الليل كنتي ناسية الاحترام.
هنا تحدثت شهد بعضب حقيقي تملكها وهي تدافع بشراسة: أقسم بالله العظيم لو ما احترمتي نفسك واتكلمتي بأدب، لهكون مفرجة عليكي الشارع كله ولا هيهمني.
تذكرت أنه حكى لها عن طليقته وأنهما في طريقهما للرجوع فتابعت: و بعدين هو مش أنتِ طليقته، عاملة الشو ده كله ليه بقى، روحي يا حلوة شوفي طليقك بيحب مين مش جاية ترمي بلاكي على الناس بكل بجاحة
رمقتها باستنكار وهي تقول: ده ليه الجنة إنه كان مستحملك أصلا.
اعتدت فريدة أولا حين قامت بالاشتباك معها وهي تقول: هستنى إيه من واحدة رخيصة زيك.
نشب العراك بينهما و صادف نزول ملك التي تركت والدتها تؤدي الفريضة في الأعلى، رأت ما يحدث فهرولت تدفع تلك الغريبة عن شقيقتها وهي تصيح: وسعي سيبيها بتعملي إيه؟
بصعوبة أبعدتهما لتسمع قول فريدة الموجه لها: ناديلي ماما يا شاطرة روحي، عشان تشوف تربيتها.
أشارت لها ملك بتحذير وهي تقف بينها وبين شقيقتها كي لا ينشب عراك مجددا: أنتِ بتتكلمي كده ليه!، احترمي نفسك واعرفي إن اللي بتعمليه ده بيدل على تربيتك أنتِ.
دفعتها فريدة صائحة: و أنتِ مين بقى يا حلوة ياللي نازلة تعلميني الأدب أنتِ؟
جذبتها شهد من خلف شقيقتها من خصلاتها وقالت بغل: لا ده أنتِ عايزة تتربى بقى.
في نفس التوقيت.
كان طاهر و عيسى بصحبة نصران، في الطريق يتوقفون كل ثانية لرد السلام على من يلقيه، ثم قال طاهر بغيظ: يا بابا حرام عليك، أنا واحد نايم الصبح، مصحيني علشان ننزل نلف تشوف أحوال البلد، طب ما معاك عيسى.
قال نصران بحزم كي يعرفا قواعده: لازم أهل البلد يشوفوكم مع بعض، و بعدين السرير قصادك طول اليوم لما تروح نام.
استغاث طاهر ب عيسى الذي رفع كفيه ضاحكا وهو يقول: حكم القوي.
بمجرد انتهائه سمع رنين هاتفه، إنه باسم عراقي مازال يحاول التواصل منذ أمس، لذا ضغط على زر الإجابة قائلا بسخرية: ولا اللي جوزها بيخونها، وعايزة تمسكه فنازلة زن، عايز إيه؟
لمح هو ووالده و طاهر الشجار الناشب أمام محل هادية، إنهما الشقيقتان شهد و ملك ومن هذه؟
تبين طاهر ملامحها إنها فريدة.
لذا هرول مسرعا نحوهن، وتبعه والده أما عيسى فثبته ما يقال من الطرف الآخر حيث سمعه يقول بنبرة استطاع الشعور بنشوة باسم وهو يقولها وأيضا الضحكة التي ظهرت على وجهه: تتنازلي عن المعرض بتاعك،
أقولك مين اللي قتل أخوك، Deal.
هو يظنه عرض، ولكنها حياة، حياة شقيق غالي سُلِبت منه الحياة على يد خسيس، كمستعمر اغتصب الأرض دون وجه حق، إنها روح طاهرة أرادت الحياة، أرادت الفرح والسعادة مع حبيبها ولم يشفق عليها أحد بل طعن فيها محتل ظن أن الأرض أرضه، إنه شقيقه وليس عرض، ولا مجال لوضعه هنا.
غزة الغالية وأهل فلسطين الأبية، إن المعركة شرسة، ولكن العدو حربه غير شريفة، حرب تعرف القصف والنار ولكنها تهابكم، تهاب محاربين أقوياء عرفت شدتهم وذاقت صلابتهم، كان الله معكم دائما وأبدا وإن كان قصفهم اليوم شديد فحربكم تكون أشد، لكم السلام والحب والشوق من صميم فؤادي.
كان الله في عونكم فيما يحدث، أحبكم جميعا
وكلماتي تحبكم أيضا لذا دُوِنت لكم يا أبطال الحقيقة وليس الأساطير.