رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل السادس والثلاثون
هبطت الدرج من غرفتها مهرولة فى سعادة لا تصدق انها اصبحت زوجته اخيرا..فقد تم عقد قرانهما قبل أسابيع لكن منذ سمعت خبر رغبته فى الزواج منها و هى لا تراه كثيرا فدوما ما يتجنبها لا تعلم هل يحبها حقا ام انه أشفق عليها و أراد تخليص عمه من عبئها !؟.. كثيرا ما جال بخاطرها انه ما احبها و لكنه يدرك جيدا انها تحبه و ربما أراد رد الجميل لعمه بالاقتران بها.. و مما زاد من قوة هذا الخاطر هو ذاك التباعد برغم انها الان زوجته شرعا و قانونا و لا حرج على اى منهما اذا ما اجتمعا سويا لكنه يرفض ذلك بشكل عجيب حتى انه عنفها مرة بشدة عندما اندفعت لجناحه تجلس بالداخل فى أريحية فهب هو للخارج مانعا إياها من تكرار ذلك..
و اليوم هاهو يستدعيها لا تعلم لما فأندفعت ملبية فوجدته فى انتظارها ببهو الفيلا يجلس فى هدوء حتى انه ما رفع ناظريه تجاهها و هو يسمع صخبها لاندفاعها على الدرج لملاقاته و هتفت فى سخط داخلى:- ما هذا التمثال.. انه يكاد يقتلنى شوقا اليه و هو لا يبال..
جلست قبالته و قد احسنت اختيار ملابسها رغبة فى نيل رضاه و انتقتها بذوق يناسب قناعاته فنظر اليها هاتفا بعد لحظة من الصمت:- بجولك يا هدير!؟..
هتفت فى دلال:- يا عيون هدير..
تنحنح و قد تحشرج صوته تأثرا بدلالها الذى لا يسطيع مقاومته و الذى يحاول عدم إظهار تأثره به:- انى مسافر النچع اطمن عليهم.. انا سافرت كام يوم بعد اللى حصل و حضرت المعزا بتاع ستى سكينة الله يرحمها و الواچب انزل اطمن عليهم جبل فرحنا.. و خصوصى ان مش هايبجى فى فرح هناك من الاساس و هى جعدة هنا مراعاة للظروف و عشان الناس اللى عمى ليه علاقة بيهم...
هتفت هدير فى لوعة:- يعنى انت قصدك هتروح تقعد هناك لحد فرحنا!؟.. انت عارف ده قد ايه يا حمزة !؟.. ده كتير..
و دمعت عيناها مما جعله يضطرب فى موضعه و ما عاد قادرًا على النطق بحرف امام ذاك الشلال المتدفق من الرقة التى تأسره و هتفت من بين دموعها:- انا هقعد من غير ما اشوفك كل ده !؟..
لم ينطق.. و تنهد فى قلة حيلة فهى لا تدرك انه ما فعل ذلك الا رغبة فى الهرب من تأثيرها القاهر على أعصابه و الذى تمارسه ببراءة منقطعة النظير غير مدركة لما يتحمل من اجل عدم إظهار ذلك و الان لم يعد يحتمل فقرر البعد.. قرر الهرب حتى يخرج و لو قليلا من تحت تأثير عشقها الذى ما حلم بأروع منه بحياته.. و الذى يعده هدية ربانية جديرة بالصيانة و الحفظ..
كان صوت نحيبها الرخيم يوتره و يدفعه ليهتف مؤنبا و مدعيا الحنق:- چرى ايه يا هدير !؟.. دول كام يوم..
هتفت معاتبة:- دول ٣ أسابيع يا حمزة..هتقدر تبعد عنى ده كله !؟..
ماعاد قادرًا على تحمل كل هذا اللوم الندى و العتاب المعطر بعبير عشقها فأنتفض ناهضا ينهى الحوار هاتفا:- انى مسافر دلوجت ان شاء الله.. مش عايزة اچيب لك حاچة معاى من هناك!؟..
وقفت دامعة العينين قبالته ترفع ناظريها تطالعه لفارق الطول الشاسع بينهما هاتفة:- هاتلى حمزة.. خليه يجى بسرعة عشان خاطر هدير..
تاه فيها للحظات و استفاق منتفضا و اندفع راحلا من امام سحرها و طغيان براءتها لتهتف هى تستوقفه معاتبة:- حمزة.. منستش حاجة !؟..
توقف يفكر و هتف:- لااه.. خير..
اندفعت اليه ووقفت قبالته من جديد هامسة:- نسيت تودعنى..
و استطالت و هى تقف على أطراف أصابعها و طبعت قبلة سريعة على ذقنه و ابتعدت هامسة:- مع السلامة.
اضطرب و ما ان تمالك نفسه حتى هتف فى غضب لفعلتها:- هديييير..
فأندفعت من امامه مسرعة تصعد الدرج هاربة من تعنيفه لفعلتها العفوية
لكن ما ان رأى ردة فعلها حتى وضع كفه على ذقنه التى لحسن حظه نال شرف ملامستها و ابتسم رغما عنه و اصبح على يقين تماما ان ابتعاده عن تلك القاهرة بالأعلى هو الحل الأمثل للحفاظ على أعصابه بكامل لياقتها حتى يوم زفافهما..
تحسنت تعاملاتها معه بشكل واضح بعد موت سكينة جدته و التى كان يعشقها بحق و قد ورث منها روح الدعابة و عشقه للمرح..
و كم تجمعوا و دمعت عيونهم ضحكا على ما كان بينها رحمها الله و بين حامد من دعابات..
لقد كانت تسمع نحيبه ليلا بعد وفاتها و كأنه يتعمد الثبات امام ابيه و المعزين نهارا و ما ان يأتى الليل حتى تنهار قدرته على مقاومة حزنه على فراق جدته فيبكى بقهر و لوعة كما الاطفال داخل حجرته وحيدا و لكم أدمى قلبها صوت نحيبه الذى كان يحاول كتمانه عنها لكنها كانت تسمعه بقلبها الموجوع على حاله لا بأذنيها..
و الليلة ليست استثناءً فها قد أتى من الخارج يدعى الثبات كعادته ليدخل لحجرته ليمارس طقوس حزنه التى
اصبحت معتادة لها.. لكنها ما عادت قادرة على تركه وحيدا دون مواساة
فأندفعت على قدر ما استطاعت و بطنها المنتفخ على أشده يسبقها و وقفت بوجيب قلب أشبه بطبول حرب بربرية بين جنباتها امام باب حجرته
طرقت الباب سريعا و ما انتظرت ان يؤذن لها للدخول بل دفعت الباب فى رفق و دخلت..
كانت بالفعل على اعتاب الباب تقف حائرة و هى تراه يضع رأسه ما بين كفيه و جسده يهتز فى صمت دلالة على نحيب مكتوم يكاد يقتله اختناقا
ما عاد لقلبها قدرة على تجاهله و هو فى هذه الحالة فأقتربت فى تردد حتى وصلت حيث يجلس و وقفت قبالته..
مدت كفا مرتعشا تربت على رأسه مواسية و لكن فجأة حدث ما لم تتوقعه فقد جذبها حامد فى لوعة و دفن رأسه فى صدرها متشبثا بها كطفل يحيطها بذراعيه أسرا إياها..
شعرت بالصدمة جراء ما يحدث و تخشبت للحظات لكن صوت شهقاته المقهورة بصدرها جعلتها تلين رغما عنها و تجد نفسها تضمه بذراعيها بالمثل تجذبه اكثر لأحضانها لعله يهدأ و لو قليلا..
لا تعرف كم مر عليهما و هما على هذه الحالة حتى انقلب العناق المواس لعناق محموم و بدأ فى جذبها هو لأحضانه.. كادت تلين و تنصاع لمشاعرها العطشى لقربه لكن صوت كرامتها كان الاعلى من صرخات مشاعرها المتطلبة قربه.. توهمت انها تسمع تنهداته و همساته يوم زفافهما بأسم محبوبته ترن من جديد بأذنيها.. اسم مالكة قلبه الذى انتزع فرحتها يومها بقسوة مخلفا القهر و الدموع..
فأنتفضت رغما عنها مبتعدة و نائية عنه فى ذعر..
تعجب من ردة فعلها فما كان بينهما منذ لحظات كان يؤكد انها راضية و راغبة فيه مثله تماما..
هتف بصوت متحشرج متسائلا:- بعدتى ليه !؟.. دِه انى ما صدجت انك جربتى..
هتف و هى تهم بالاندفاع خارج الغرفة:- مفيش.. مفيش.. تصبح على خير..
انتفض فى عنف مندفعا اليها و قبض على ذراعها قبل ان تخرج من باب الغرفة هاتفا من بين اسنانه فى حنق و هو يهزها بقوة:- عايزة تبعدى تانى ليه!؟.. و لما انتِ مش طيجانى ليه بتجربى م الاساس.. ليه مبتنطجيش الا بحاضر و طيب و نعم و بس.. ليه مصرختيش فيهم يوم ما جالوا لك هنچوزكِ حامد و رحمتى نفسك و رحمتينى.. ليه مجلتيش مش عيزاه.. ليه!؟..ليييه..!؟
كان هزه لجسدها وصل لذروته فى تلك اللحظة فانتبه و تركها لتسقط لحسن الحظ على الأريكة التى خلفها تماما و هى تضع كفها على بطنها المنتفخة..
لم تبك بل صمتت متجمدة فى مكانها لم تأت برد فعل لما قاله.. كان يلهث و هو يقف ينتظر منها اجابة على كل تلك الأسئلة التى تحيره منذ زواجهما و ربما قبله و ما ان علم انه لا فائدة و ما هناك من قوة يمكن ان تخرجها عن صمتها الذى يمقته و استسلامها الذى يدفعه للجنون حتى ركل طرف الفراش بقدمه و استدار مغادرا الا انه سمع همسها مما استرعى انتباهه ليتوقف لعله يستشف منها ما يشفى غليله.. أعاد التطلع اليها من جديد بعد ان استدار ليواجهها..
فهمست من جديد و هى تتطلع لنقطة بعيدة على الارض لا تحيد ناظريها عنها:- عارف ليه مبجلش لااه.. عشان متعودتش اجول لااه يا واد عمى.. عشان اليتيمة اللى چابوها لبيت عمها بعد موت ابوها و أمها اتربت متجولش لااه.. مينفعش من اساسه تجول لااه ف بيت كانت فيه ضيفة.. كانت تنفذ و هى ساكتة.. مينفعش تطلب.. مينفعش ترفض.. مينفعش تعاند و تعمل اللى على مزاچها..مينفعش.. و لما عمى مات و جالولى هاتاچى هنا مجلتش لااه..
ما انى لو جلت لااه هبجى من نصيب واد عمى التانى..جاسم..و المرة دى روحة بلا رچعة لانه اكيد كان هيتچوزنى عشان ابجى بچملة التركة اللى سابها ابويا و هو طمعان فيها.. چيت و انى عارفة ان عمى وصى ابوك يتچوزنى.. هجول كيف لااه.. من واد عم.. لواد عم يا جلبى لا تحزن..
و نهضت من مكانها و تقدمت لطرف الفراش تتمسك بأحد أعمدته لتستطرد فى وهن:- و اما جالوا حامد عايزك.. جلت و ماله هو انا أجدر اجول لااه.. اليتيمة اللى انكتب عليها تتنجل من يد لِيَد.. هتاجى تجول لااه دلوجت و هى ف بيت واد عمها ضيفة و مكنش ينفع أرفضك و الا أمك كانت فهمت انى رايده ابوك.. و ان وصية عمى واچبة و لازما ينفذها.. اجعد ازاى ف بيتكم بعد دِه كله.. اورى وشى لامك و ابوك كيف و انا جاعدة ف خيرهم بعد ما اجولهم انى مش عايزة اتچوز ولدكم و لا عايزة اتچوز واد عمى يونس و لا عايزة حاچة من الدنيا من اساسه..
و بدأت تجهش ف البكاء فجأة بتشنجات قوية اهتز لها جسدها كله و هى تستكمل بصوت متقطع هاتفة بصوت عال للمرة الاولى منذ عرفها:- انى مش عايزة غير اتساب ف حالى.. مش عايزة حد و لا عايزة حاچة من حد..طول عمرى لحالى.. ايه الچديد يعنى لما اكمل حياتى كلها لوحدى.. و افضل اجول حاضر و طيب و نعم.. و معرفش و مجدرش اجول لاااه.. لااااه..
صرخت بكلماتها الاخيرة وتشبثت بقوة بالعمود الخشبي للفراش و بدأت تشعر بألم رهيب تتزايد وتيرته فى أسفل ظهرها و بطنها.. شعرت انها ستسقط أرضا فأمسكت بالعمود بقوة و صرخت متأوهة مما دفع حامد الذى كان يقف كالمشدوه يستمع الى اعترافاتها الصادمة له دون ان ينبس بحرف او يأتي بأى رد فعل الا عندما وجدها على هذه الحالة فاندفع اليها يلتقطها بين ذراعيه قبل ان تسقط أرضا هاتفا بهلع:- ايه.. ايه اللى چرى!؟..
هتفت صارخة متشبثة به:- ألحجنى.. شكلى بولد..ألحجنى..
تطلع حوله كالتائه و اخيرا اندفع الى باب شقته يجرى هابطا لبيت ابيه حاف القدمين ليخبر امه لتستعد لاستقبال حفيدها القادم و صرخات زوجته تتعقبه..
كان فى سبيله لمغادرة السراىّ بعد زيارته لعمه عاصم فورعودته لعمله و الذى اصر على الاستمرار فيه رغم رغبة رؤسائه فى نقله لمكان افضل..
ما ان خرجت سيارته الميرى من بوابة السراىّ الحديدية حتى لمح طيفها و هى تتجه للسراىّ فأمر العسكرى بالوقوف فى سرعة.. ترجل من السيارة مندفعا اليها فى شوق جعله يخرج عن وقاره المعتاد و هو يهرول حتى يصل اليها دون الحاجة للنداء بأسمها.. لكنه لم يستطع فحال قدمه التى لم تطب بشكل تام بعد حال دون ذلك فهتف رغما عنه يستوقفها:- آنسة تسبيح..
توقفت فى صدمة لسماع صوته يناديها كانت تعتقد انها تهزى لكنها استدارت لمصدر الصوت لتجده بشحمه و لحمه يقف قبالتها.. شلتها صدمة حضوره و ظهر على محياها شوق له ما عادت قادرة على مداراته فتلك المرة الاولى التى تراه فيها بعد زيارة المشفى..
توقف يلهث أمامها فى اضطراب هاتفا:- ازيك يا آنسة تسبيح.. و ازى باسل و عمتى و عمى حسام..
تحدثت اخيرا بعد ان جاهدت لتجد صوتها هاتفة:- الحمد لله.. كلهم بخير.. و حمدا لله على سلامتك..
ابتسم فى مودة:- الله يسلمك..
ساد صمت مضطرب كحالهما قطعته هى هامسة:- انا لازما أمشى..
هتف يستوقفها مشيرا للعربة:- تعالى أوصلك..
اكدت:- مفيش داعى.. انا وصلت اصلا.. عن اذنك..
هتف من جديد يستوقفها:- آنسة تسبيح..
استدارت تواجهه من جديد ليستطرد هو فى عجالة خوفا من تردده:- فى واحد عايز يتقدم لك..
جزت على أسنانها قهرا.. هل اصبح يأتِ لها بالخُطاب !؟.. يا له من احمق.. تمالكت أعصابها فى بسالة و هتفت فى برود:- يا ريت تبلغه انى مبفكرش ف الموضوع ده دلوجت..
هتف قبل ان تستدير مغادرة:- حتى و لو كان الشخص ده هو اللى صرختى بأسمه يوم كتب كتابك..
تسمرت موضعها غير قادرة على النطق او حتى رفع ناظريها لمقابلة نظراته التى تحمل عشق مفضوح لا يمكن وأده و لو مدعية..
همس مشاكسا:- هاااه ارد اقوله ايه!؟.. مش بتفكر ف الموضوع دلوقتى..
لم ترد و زاد اضطرابها غير قادرة على استجماع شجاعتها كما هربت منها روحها المرحة و كذلك خانتها سرعة بديهتها التى كانت دوما تسعفها
ليستطرد هو مازحا:- الظاهر مليش نصيب ف البسبوسة..
و هم بالانصراف لتهتف هى اخيرا تستوقفه:- يا سيادة النقيب..
استدار اليها و قد اتسعت ابتسامته هاتفا:- تحت الامر و الطلب و سرعة التنفيذ يا فندم..
ابتسمت رغما عنها و هتفت فى حياء:- البسبوسة فى انتظارك يا فندم بعد ما تتصل و تاخد ميعاد عشان تقابل الحاچ حسام بكرة..
هتف مشاكسا:- لازم بكرة !؟.. مينفعش بعده عشان مش فاضى الصراحة!؟..
عبست فى حنق لينفجر مقهقها فتدرك انه يشاكسها و هى ما اعتادت ذلك منه فأضطربت لسماع قهقهاته التى اطربت قلبها و اندفعت من امامه هروبا و صوت تلك القهقهات تحرك شئ ما هاهنا بصدرها ما كانت تتوقع ان يسعده صوت إنسان ما لهذه الدرجة كما هى سعيدة الان و تكاد تطير فرحا..
ليعود هو للسيارة منتشيا هاتفا فى سائقه بعتب و هو يتطلع الى مذياع السيارة الذى لا يعمل هاتفا:- هو البتاع ده مش شغال نسمع حاجة !؟..
تطلع اليه عسكرى الخدمة فى تعجب و هتف اخيرا:- لااه يا فندم مش شغال..
و استطرد مسرعا:- بس اشغل لك المحمول يا باشا..
هتف حازم امرا:- افتح بس انجز..حاجة فريحى..
شغل العسكرى احد الاغانى على محموله و تطلع الى حازم الذى قهقه فى سعادة ما ان وصلته كلمات الاغنية
بسبوسة بالسمنة منقطة
ياللى رسى عليك العطا
فأبتسم العسكرى بدوره و هو يتطلع لحازم فى تعجب.. و تساءل.. هل هذا هو حازم باشا الذى يعرفه !؟..
أندفع حاملا إياها لداخل اروقة المشفى حتى وصل لغرفة الاستقبال و هى تئن فى وجع بين ذراعيه.. هتف صارخا مستدعيا الطبيب على الرغم من ان حوله عدة ممرضات يقمن بالواجب حتى وصوله و كانت فى أعقابه كسبانة و يونس يتضرعان لله فى لوعة..
اندفع الطبيب لداخل الغرفة امرا الجميع بالخروج منها حتى يستطيع القيام بواجبه.. أطاعه الكل فى صمت ملبيين حتى يتسنى لهم الاطمئنان على تلك التى تتوجع فى عذاب يشيب له الوليد.. انها لاتزل فى شهرها السابع.. ماذا حدث يا ترى !؟.. هل تراه قد ضغط عليها بشكل كبير اثناء حديثهما مما ادى لكل تلك التداعيات الغير محمودة العواقب!؟..
اندفع يبتهل فى صمت بشكل جنونى حتى تنجو من عذاباتها التى استشعرها و هى بين ذراعيه تتوجع.. و اخيرا خرج الطبيب ليكون اول المتوجهين له متسائلا فى لوعة:- خير يا داكتور!؟..طمنا..
هز الطبيب رأسه فى ألية:- متجلجوش.. خير ان شاء الله.. احتمال ولادة مبكرة..
هتفت كسبانة متعجبة:- بس دى لساتها ف السابع يا داكتور!؟..
ابتسم الطبيب مداعبا اياهم و محاولا تخفيف التوتر:- عادى بتحصل يا حاچة.. ابنكم عايز يطلع بن سبعة.. نعمله ايه !؟..
و استطرد الطبيب فى مهنية:- احنا بنچهز غرفة العمليات و دعواتكم ليها تجوم بالسلامة..
اندفع حامد متسائلا فى ذعر:- أوضة عمليات ليه يا داكتور مش الوضع طبيعى يعنى..!؟
ربت الطبيب على كتفه مطمئنا:- ده طبيعى تحسبًا لأى حاچة ممكن تحصل.. ادعيلها انت بس..
اومأ حامد بالإيجاب دون ان ينبس بحرف واحد و كل ما يجول بخاطره فى تلك اللحظة هو التطلع لمحياها من جديد.. فقط التطلع لوجهها الصبوح و قسماته المريحة و ابتسامته الطاهرة و غمازتها الوحيدة على جانب خدها الأيمن و التى تظهر عندما تضحك فى خجل لدعاباته على الرغم من ادعائها الكبرياء..
وكأن ابواب السماء قد فُتحت لتستقبل دعوات قلبه و يُفتح باب الغرفة لتخرج هى مدفوعة على سرير مدولب تغطيها الملاءات و لا يظهر منها غير ذاك الوجه الذى بات التطلع اليه إدمانه..
اندفع يحتضن كفها فى تشبث و يسير جوارها حيث مدخل غرفة العمليات.. كانت صامتة لم تنطق حرفا لكن عيونها كانت تبوح بالكثير و الذى استطاع ادراكه بسهولة و يسر اثارت تعجبه.. ترك كفها فى تردد و همس بها و هى تغيب عن ناظريه:- هستناكِ.. متغيبيش عليا..
أُغلق الباب خلفها ليكاد يسقط مترنحا فيتشبث بباب جانبى حتى استطاع الاستناد على الحائط خلفه و جلس القرفصاء على الارض فى تيه واضعا رأسه بين كفيه لا يدرك ما عليه فعله و لا يريد ان يفكر فى اى امر سوى خروجها سالمة من خلف ذاك الباب البارد الذى يتطلع اليه و كأنه هوة ابتلعتها..
اندفع كل من كسبانة و يونس اليه يربت كل منهما على كتف مواسيا و ابتدرته كسبانة محاولة تخفيف الاضطراب الباد على محياه:- متجلجش كِده.. كل الحريم بتولد.. هتجوم بألف سلامة و معاها ولدك و لا بتك.. و نفرحوا بيهم بمشيئته..
اومأ محاولا التأكيد على كلام امه كحقيقة ماثلة امامه لا يستطع تخيل غيرها الا انه انتفض عندما فُتح باب الغرفة و خرجت منه احدى الممرضات مسرعة ليستوقفها فى ذعر:- ايه فى !؟.. حصل حاچة !؟..
هتفت الممرضة فى عجلة من امرها مبتعدة:- ادعولها.. وضع الچنين مجلوب و الداكتور هيضطر لولادة جيصرية..
ما عاد باستطاعته التحمل فأندفع كالممسوس مبتعدا عن ذاك الباب المزدوج لغرفة العمليات و الذى يصيبه بالجنون و يود لو يحطمه و يدخل ينتشلها من داخل تلك الحجرة الباردة و العودة بها حيث دفء الحياة فى قربها..
توقف اخيرا يلهث مستندا على احد الأركان و تطلع حوله ليدرك انه عند نهاية احد الأروقة شعر بالضيق يكتنفه كليا يكاد يزهق روحه فخلع حذائه و توجه بناظريه كيفما اتفق و كبر فى خشوع ناويا الصلاة.. و ما ان سجد حتى ما عاد قادرًا على النهوض من جديد و جبينه متشبثا بالأرض فى تضرع و اخذ يبكى.. و يبكى و سالت دموعه غير قادر على النطق بحرف من دعاء قد ينجيها لكنه كان على ثقة رغم هذا ان علم ربه بحاله يغنيه عن سؤاله لذا كانت دعواته دموع و دموع سفكها فى تضرع حتى فاضت..
انه يحبها.. نعم يحبها.. بل يعشقها.. لا يعلم متى و لا كيف تسلل حبها لحنايا قلبه و تشبث بهذا الشكل بتلابيب روحه الا ان جل ما يدركه الان انه ما عاد يريد من دنياه الا إياها.. لا يرغب الا بقربها.. و لا يشتاق الا لعينيها البندقية.. و ثغرها الفتان و ابتسامتها الناعمة و غمازتها الوحيدة التى تسلبه لبه.. يالله.. أعدها الى.. أعدها..
لا يعرف كم مضى عليه من وقت و هو على وضعه ذاك الا انه رفع رأسه عندما شعر بخطوات تقترب فى سرعة.. انهى صلاته فى تلك اللحظة التى ظهر فيها احد الأطباء مندفعا لأحدى الغرف و خلفه اخر شخص يتوقع ان يراه فى تلك اللحظة.. ظل مشدوها لبضع ثوان و اخيرا اندفع لأحدى الممرضات متسائلا:- ايه اللى بيحصل !؟..
هتفت الممرضة بلامبالاة من اعتاد الامر:- ابدا.. مريضة ف العمليات بجالها ساعتين بتولد و للأسف مات الچنين و هى حالتها وحشة و محتاچة نجل دم و ابوها جاعد يتخانج م الصبح و احنا معندناش فصيلة دمها ف بنك المستشفى..
تركته الممرضة و رحلت ليقف مشدوه لا يعلم ما عليه فعله و اخيرا اندفع باتجاه الطبيب الذى خرج لتوه من الغرفة و خلفه ذاك الرجل الخمسينى و الذى لم يكن الا والد سلوى الذى طرده يوما من داره فى غير رحمة و تلك المريضة لم تكن الا سلوى نفسها و التى فقدت جنينها و بحاجة لنقل دم بشكل قهرى..
هتف حامد يستوقفهما و قد لمح الدهشة على وجه والد سلوى لرؤيته:- يا داكتور انى متبرع للمريضة اللى محتاچة دم..
و كأنما الطبيب وجد هدية من السماء ليصرخ دافعا اياه لأحدى الممرضات لتذهب به للمعمل للقيام بالازم.. اندفع والد سلوى يستوقفه و الدمع يكاد ينسكب من عينيه هامسا:- ربنا ينچيك يابنى من كل شر و يحفظ لك حبايبك.
دمعت عينا حامد متضرعا:- امين يااارب..
قام حامد بالازم و اخيرا عاد فى سكينة الى حيث كان قد ترك أبويه..كان يبدو من محياهما على البعد ان الوضع لم يتغير و ان الحال لازال على ما هو عليه حتى اقترب منهما ليندفع الطبيب و خلفه الممرضة المرافقة له دوما من باب غرفة العمليات هاتفا فى عجلة:- ألف مبروك.. ولد زى البدر.. و المدام بخير الحمد لله..
كادت كسبانة ان تخطئ و تطلق زغرودة مدوية ترتج لها أركان المشفى الا انها تنبهت لظرفهما الحزين فكتمت فرحتها دامعة بينما احتضن يونس ولده فى فخر رابتا على ظهره فى قوة فقد اصبح اخيرا جد و ها هو يهل اول احفاده للدنيا و سيحمله عما قريب بين ذراعيه.. اندفع حامد يتطلع من خلف زجاج باب غرفة العمليات ليرى متى ستخرج ليرى الممرضات يدفعن بسريرها خارج الغرفة.. فتح الباب فى عجلة مترقبا وصولها ليتطلع لمحياها الشاحب و هى غائبة تماما عن الوعى حتى انه اندفع خلف سريرها حيث حجرتها و ما تطلع لولده الذى تحمله امه بعد ان تناولته من احدى الممرضات و قامت بتحيتهن بما يلزم تأكيدا على سعادتها بقيام زوجة ولدها ووليدها سالمين..
مسد حامد على جبين عائشة الندى فى حنان و هو يشكر الله فى سره على استجابة دعائه و قد أيقن ان لا حياة له بعيدا عن تلك الشادية.. عصفورة قلبه التى اصبح صوتها هو نغم حياته.. تنهد من جديد و ما عاد يعنيه من امر الدنيا امر.. فقد نجت و ذلك كان يكفيه و زيادة.
كان الحزن لايزل مخيما على دار يونس بعد رحيل امه سكينة عن دنيانا كأن الدار تظلله غيمة من الكأبة و السكون و كأنما غابت بهجة الدار و سروره مع غيابها.. بكت بخيتة كما لم تبك من قبل على فراق رفيقتها الغالية و اصبحت تبيت فى فراشها تتلمس ريحها الطيب و تدعو لأجلها و تتذكرها بالطيب كما كانت وصيتها..
اما يونس فقد كان فى عالم اخر.. يلفه الحزن و يسربله الذنب و يغرقه الدمع.. عالم ما خرج منه الا بعد محاولات الجميع انتزاعه منه و خاصة كسبانة و زكريا اللذان بذلا مجهودا جبارا ليعود لو قليلا لطبيعته المعهودة التى تميل لحب الحياة و السخرية من اوجاعها و مع تشريف يونس الصغير بن حامد للحياة تبدل قليلا و عاد لطبيعته و هو يحمله بين ذراعيه فى فرحة فقد كانت لحظات حمله لحفيده هى تقريبا اللحظات الوحيدة التى ترى فيها يونس القديم قبل ان يقهره حزنه على رحيل امه..
تقدم ماهر لداخل الدار هاتفا يستأذن و هو يحمل ذراعه المصابة بحامل متعلق بعنقه.. فما ان استطاع النهوض بعد اصابته و تعافيه منها قليلا اصبح لا يمر يوما دون ان يكون فى دار يونس يطمئن على زوجته و يواسى أخاها و اليوم لم يكن استثناءً
جلس قبالة يونس الذى كان كعادته منذ وفاة امه جالسا اسفل نافذة حجرتها التى تطل على الحديقة الخلفية للمنزل
و كأنه سيستمع لصوتها تناديه منها او تطل باحثة عنه لتشاكسه كعادتها..
ربت ماهر على كتف يونس فى تفهم هاتفا فى هدوء:- وحد الله يا حاچ يونس..ربنا يرحم المراحيم كلهم..
هتف يونس متنهدا:- لا اله الا الله..
ساد الصمت لبرهة قبل ان يهتف يونس متسائلا:- كيف دراعك ؟..
اكد ماهر يومئ برأسه:- الحمد لله.. جربت تبجى تمام.. متجلجش عمر الشجى بجى..
ابتسم يونس بوهن:- انى عمرى ما هنسالك اللى عملته عشانا و لا عشان هداية..
هتف ماهر متعجبا:- واااه يا حاچ يونس ايه اللى بتجوله دِه !؟.. حد يتشكّر انه حمى عرضه.. امكنتش انى چوزها اعمل كِده نجيب مين يعمل..
هتف يونس:- حيث كِده بجى.. يبجى تاخد مرتك على دارك و كفاية عليكم الجعدة دى..
هتف ماهر:- اخدها كيف يا حاچ.. دِه أربعين الحاچة سكينة مفاتش عليه الا كام يوم!؟..
هتف يونس مؤكدا:- و عشان كِده بجولك كفاية عليكم لحد هنا..الأربعين عدى من كام يوم و من حجك تاخد مرتك اللى لولا اللى حصل كانت معاك من يوميها.. چهز حالك و تعالى خدها و احنا هنعلن للناس انها رايحة بيت جوزها و عشان الظروف مش هايبجى فى هيصة..
هتف ماهر مؤكدا:- انت بتجول ايه يا حاچ !؟.. هيصة ايه دلوجت.. ربنا يرحم الغالية و تعيش و تفتكر..
اكد يونس:- النهاردة الاثنين.. چهز حالك و تعال خد مرتك الخميس..
هتف ماهر:- بس يا حاچ..
هتف يونس بحزم:- مفيشى بس.. الخميس هتكون مرتك جاهزة تاخدها..
بكفايانا حِزن.. الغالية لو وسطينا دلوجت لكانت هى بنفسها جالت لك كِده..
هز ماهر رأسه موافقا و قد عزم امره على الحضور الخميس ليصطحب عروسه لتنير داره اخيرا.. وعلى الرغم من جو الحزن المخيم على المكان لكن الفرح قد أقام سرادقا ضخما داخله يعلن فيه عن نفسه فقد اقترب اخيرا موعد الوصل الذى انتظره طويلا..
اندفع سيد من خلف مكتبه ما ان اخبره الخدم بمقدم الطبيب.. كان قد جاء بأمه من النجع الى بيته هنا فى القاهرة حيث تتلقى العلاج اللازم
الذى يعيد لها ذاكرتها من جديد..
كان الطبيب يزورها بشكل منتظم للوقوف على حالتها و تقدمها بشكل دورى..
خرج من غرفة المكتب و اغلق بابها خلفه و هو يتطلع لصورة ابيه التى كانت معلقة خلف مقعده بصدر الغرفة و التى ما ان رأتها امه للمرة الاولى عندما اصطحبها فى جولة داخل البيت ليجعلها تحاول الاندماج مع ما حولها حتى انفجرت صارخة بشكل هستيرى جعله يحملها لغرفتها و يطلب الطبيب على الفور..
لا يعلم ما الذى حدث لتصرخ بهذا الشكل المذعور.. ربما تذكرت ما ان رأت صورة ابيه كيف انه مات و هى بعيدة عنه.. و قد افترقا قصرا فأهاج ذلك عليها الذكرى و جعلها تنفعل بذاك الشكل الذى جعل الطبيب ينصحه بإبعادها عن اى انفعالات قد تؤدى لانتكاسة فى حالتها التى بدأت الى حد كبير فى التحسن..
لذا قرر العودة بها مرة اخرى الى النجع.. و ليكن ما يكون..
كانت تتهادى صاعدة الدرج الى حيث شقتهما يتبعها هو فى وجل..
و ما ان وصلا لباب الشقة حتى وقفت تنتظر فى هدوء ظاهرى.. كان يتنازعها شعوران يقتتلان بداخلها فى حرب ضروس لا تعرف لها نهاية.. شعور بالخوف و الرهبة لقربه منها و إحساسها لأول مرة بما زجت به نفسها فهى الان أصبحت رسميا و شرعيا زوجة ماهر عدلى محروس الهوارى.. هى.. ابنة العمدة كما كان يحلو له ان يناديها عندما كان يتعقبها دوما ملقيا على مسامعها كلمات الغزل التى كانت تكره..
و الشعور الثانى.. ذاك الشعور العجيب من السكينة و الطمأنينة الذى يغمر قلبها كليا فيجعلها تشعر انها خُلقت لتكون لذاك الرجل منذ ان أراد الله بها القدوم لهذه الحياة..
يتنازعها الشعوران حتى انها لم تنتبه له و مفتاح الباب يرتعش فى كفه ليسقط محدثا جلبة خفيفة استفاقت على اثرها من شرودها و هو ينحنى يلتقط المفتاح و يفتح الباب على عجالة هذه المرة دافعا به و داعيا إياها بصوت متحشرج خرج مهزوز النبرات و هو يهمس لها:- اتفضلى.. ادخلى..
دخلت عدة خطوات حتى عبرت الممر الامامى للشقة و وقفت ف الردهة الواسعة تنتظر دخوله
أغلق الباب خلفه مترددا و اتجه نحوها فى تؤدة حتى وصل لموضع وقوفها.. شملهما الصمت للحظات و ما ان هم بالاندفاع للداخل رغبة منه فى قطع الصمت بأى رد فعل من جانبه الا و همست له متسائلة:- مش هنصلوا!؟..
توقف كالمتخشب فى موضعه و ألتفت اليها من جديد مؤكدا بإيماءة من رأسه:- اه.. لازما طبعا..
عاد عدة خطوات ووقف متوجها الى القبلة.. و ما ان هم بالتكبير حتى تناهى لمسامعه ضحكات تحاول كتمانها فأخفض كفيه من وضع التكبير الذى تسمر فيه لثوان و استدار اليها مستفسرًا:- فيه حاچة!؟..
هزت رأسها ايجابا و هى لاتزل تضع كفها على فمها تدارى ابتسامتها و اخيرا اشارت للأسفل حيث موضع قدميه لينتبه انه ما خلع حذائه من شدة ارتباكه و توتره لتهمس هى مازحة:- هتصلى بچزمتك!؟.. انت ناوى تخليها صلاة خوف.!؟.
و ابتسمت من جديد مما جعله يفقد البقية الباقية من ثباته الهش الذى يحاول التمسك به كقشة يتعلق بها غريق..
انحنى يخلع حذائه و يتركه جانبا و شرد رغما عنه هامسا لنفسه بأنها تسخر منه انه سيصلى بحذائه.. انها تفقده عقله فماذا فى ذلك!؟.. تسخر من كونها ليست صلاة الخوف التى يصليها المحاربين ف المعركة بكامل عدادهم و أحذيتهم..!؟ و الله انها بالنسبة اليه لكذلك.. فهى لا تعلم.. اى خوف يتملكه فى تلك اللحظة و اى معركة تدور رحاها بين جنبات صدره و هو يراها أمامه و هو يدرك تماما و يعلم علم اليقين انها زوجه.. نعم زوجه و حلاله و له وحده..
ازدرد ريقه عند تلك النقطة و دنى بطرفه اليها و هو يرتفع من انحنائه بعد ان تخلص من فردتى حذائه ليزداد اضطرابا على اضطراب و لكنه يقطعه بذكر الله مكبرا لتقف خلفه فى خشوع حتى انتهيا من ركعتى السنة ليبدأا حياتهما..صمتت لحظات و هى تراه يرفع أكفه للسماء فى تضرع و يهمس بكلمات دعاء ما لم يصل الى مسامعها.. انتظرت ان يرفع صوته لتؤمن خلفه الدعاء لكلاهما و لحياتهما معا.. لكنه لم يفعل.. ربما لا يدرك ان عليه ان يفعل..
صمتت و لم تعقب و ما ان شعرت بختمه لدعاءه السرى حتى أمنت بصوت مسموع له و نهضت فى روية و اتجهت لغرفتهما..
ظل على حاله لا يتحرك قيد انملة و لا تطاوعه قدميه على المضى قدما ليلحق بها حتى عشهما السعيد..
لا يعرف ماذا دهاه..انه ماهر الهوارى.. من كان له من الصولات و الجولات النسائية ما يعجز حتى عن عده لكثرته.. أمامها وحدها يقف كتلميذ خائب لا يستطيع البوح بما يعتمل بصدره و ما يجيش به قلبه من مشاعر.. أمامها وحدها ينعقد لسانه فلا يستطيع البوح بكلمة.. فى حضرتها ينسى من هو ماهر الذى كان.. ليصبح ماهر اخر تماما.. ماهر لها وحدها و لم يكن لحظة لامرأة سواها..
اخيرا تنهد فى قلة حيلة و نهض يدفع بقدميه دفعا خلفها ليقف على باب غرفتهما ليراها تجلس فى هدوء على طرف فراشهما المزدان بغطائه الحريرى الوردى اللون و حولها تلك الهالة من القدسية و الطهر التى كانت و لاتزل تبهره و تدفع به للخرس التام فى حضرتها..
تحركت قدماه بشكل ألى و تردد لثانية قبل ان يجلس على طرف الفراش جوارها و يمد كفه اليمنى ليضعها على هامتها المنكسة خجلا هامسا بدعاء لتكون الزوجة الصالحة له:- اللهم أسألك خيرها و خير ما جبلتها عليه..
ظل صامتا و لم يكمل باقى الدعاء القائل.. و اعوذ بك من شرها و شر ما جبلتها عليه.. لترفع هامتها التى لازالت تحتفظ بكفه فوقها معتقدة انه نسى باقى الدعاء لتهمس:- مكملتش ليه!؟.. و اعوذ بك..
لم يمهلها الفرصة لتكمل مساعدة اياه بل اخفض كفه التى كانت على هامتها ليضعها مسرعا على شفتيها مانعا إياها من الاستطراد بباقى الدعاء الذى كان يعلمه.. فهو لم ينساه كما كانت تظن..
همس فى وجل و عينيه لا تستطع ان تحيد عن محياها الذى اخذ يتفرس فيه برهبة مجنونة و رغبة عاشقة:- انى منسيتش الدعاء.. بس كيف ياجى منيكِ شر.. دِه انتِ كل الخير يا هداية..
و ابتسم فى محبة طاغية فرفعت رأسها اكثر لتتلاقى نظراتهما متطلعة اليه فى عشق و لم تسطع ان تمنع تلك الدموع التى طفرت من عينيها بلا اى إرادة منها ليهتف هو جازعا:- واااه.. ليه البكا دلوجت..
و هم بان يمد كفه المرتعشة ليمسح دمعاتها الا انها همست متعجبة مما أوقف كفه فى منتصف الطريق:- انا كل دِه.. ليا انا الكلام دِه..
اكملت كفه طريقها لخديها ليمسح بكفه صفحة خدها و يزيل عنه الدموع ليعود صفحة ناصعة بلا اى مساحيق تجميل أبت على وضعها حتى فى ليلة كهذه و مع ذلك لازالت تحتفظ بجمالها الذى خلب له..
ليهمس:- ايوه.. انتِ كل دِه و اكتر كمان.. لو تعرفى انت بتعملى فيا ايه!؟..
همست بتعجب و اضطراب:- انى يا ماهر!؟..
كانت المرة الاولى التى يستمع فيها لإسمه من بين شفتيها ليصمت لثوان متطلعا اليها فى عشق و اخيرا يتنهد فى راحة:- ايوه يا هداية انتِ.. يا هدايتى..
ابتسمت فى حياء ليمد كفه محتضنا كفيها بين احضان كفه هامسا:- أوعدينى انك تفضلى دايما چنبى.. و انك مهما حصل هتفضلى معاى.. و انك لو شفتينى بشرد عن طريج ربنا تردينى..
رفعت رأسها و تلاقت نظراتهما هامسة:- أوعدك يا ماهر.. أوعدك ان هداية.. و ابتسمت مستطردة.. بت العمدة.. هتفضل على طول چنبك.. هتفضل على طوول هدايتك..
ابتسم مشاكسا و هو يهمس مقتربا اليها اكثر :- طب تسمح هداية بشوية چنان!؟..
نظرت اليه مبتعدة قليلا و قد تورد خداها خجلا:- جصدك ايه!؟..
هتف مقهقها و هو يجذبها ليضمها اليه:- جصدى اوريكِ يا بت العمدة ماهر بيحبك كد ايه..
و لم تستطع ان تعترض و لا بحرف.. و قد اكد لها كيف يمكن للهداية ان تنقلب لمجون عاشق فى لحظات..