رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل السادس عشر
تلمست موضع قدمها فى اضطراب و هى تدخل الى السراىّ حاملة بين كفيها صندوق كرتونى و تنحنحت فى تأدب متوقعة ان صوت ذَاك الاستئذان المتواضع قد يسمعه احد ما ليأذن لها بالدخول لكن ها قد ظلت لحظات تتطلع حولها فى توتر و لا احد هنا يكفيها شر الحيرة التى تملكتها.. و تساءلت فى نفسها هل فى الإمكان رؤيته قبل ان يذهب!؟..
تمنت من صميم قلبها ان تراه و لو لمرة اخرى قبل ان يعود لعمله حيث معسكر تجنيد اخيها الغائب الذى اشتاقته كثيرا.. لقد جاد عليها الزمان بهدية قلما تحدث عندما وجدته امامها منذ يومين يلوز عنها و يقف بينها و بين ماهر اخيها كحائط صد عنها ما كانت تلاقيه منه.. افلا تطمع فى مزيد من كرم و عطف الزمن و تراه و تسمع صوته و لو مرة اخرى.. !؟.
انتفضت حتى كادت تسقط ما تحمله عندما تناهى لمسامعها صوت زهرة تهبط الدرج مرحبة فى سعادة:- اهلًا.. ازيك يا ايمان.. عاملة ايه يا حبيبتى!؟..
اقتربت زهرة فى مودة و قبلتها رابتة على كتفها فى حنو فدوما ما كانت تفرق بين تعاملها مع سمية و تعاملها مع ابنائها و خاصة مؤمن و ايمان كانت لهما معزة خاصة و هتفت فى ترحاب:- اتفضلى يا مونى و حطى اللى انت شيلاه ده..
ده ايه يا حبيبتى!؟..
نطقت ايمان اخيرا فى هدوء بعد ان استجمعت شتات نفسها:- ده
شوية حاچات بعتاها امى لمؤمن.. يعنى لو مش هانتعب حضرة الظابط يوصلهاله..
همت زهرة بالكلام الا ان صوتا ما من اعلى الدرج هتف فى ترحاب:- يا سلام.. من عنين حضرة الظابط..
انتفضت ايمان عندما باغتها صوته الاجش الذى تعشق و المحمل برنين المرح و معطر بأثير الرجولة.. و لزمت الصمت غير قادرة على الرد حتى بكلمة شكر.. فى لحظة كان يقف امامها هى و امه التى هتفت فى سعادة:- فيك الخير يا ماجد..
كانت ايمان تطأطئ رأسها خجلا.. على الرغم انها لم تكن ابدا من نوع الفتيات المطيعات المنطويات اللاتى تضطربن من مجرد حديث عابر او تحمر وجههن خجلا من مجرد اطراء فقد علمها مؤمن ان تصير رجلا و تتعامل كرجل حتى تحمى نفسها فى عدم وجوده و عدم جدوى وجود ماهر كأخ اكبر وجب عليه حمايتها.. لكن معه هو يتبخر كل ذلك فى ثوان و تصير أنثى بمشاعر و أحاسيس و رغبات و قلب أنثى..
هتف ماجد عندما طال صمتها و ما زالت منكسة الرأس غائبة فى حالها المضطرب و غارقة حتى الثمالة فى خضم مشاعرها تجاهه:- ايه!؟.. مالك يا آنسة ايمان!؟.. شوفيها كده يا ماما تكون بتبكى زى ما كان بيحصل زمان اول ما تشوفنى!؟..
انفجرت زهرة ضاحكة بينما رفعت ايمان رأسها حرجا هاتفة فى صوت متحشرج:- لاااه.. ابكى ايه!؟..
هتف ماجد مؤكدا:- انا مش عارف كنتِ اول ما تشوفينى و انت صغيرة تبكى و تجرى على مؤمن و هو يفتكر انى ضربتك او زعقت لك.. اقوله اختك اللى بتتفتح ف البكا من غير ما حد يجى جنبها.. ايه مركبة ف عنيها حنفيات!؟..
انفجرت زهرة من جديد فى الضحك و ابتسمت ايمان للذكرى فى سعادة.. بل سعادة طاغية فهو ما زال يذكر بعض من ذكريات طفولتها العزيزة على قلبها و التى تجترها لتهدهد املا يرتع بروحها فى ترقب..
نهض ماجد مسرعا فى تعجل هاتفا:- طب انا كده اتاخرت و لازم امشى.. الطريق لسه طويل..
و انحنى مقبلا زهرة التى لحقته بالدعاء هاتفة:- ام سعيد حطت لك الاكل اللى طلبته كله.. انت بتأكل الكتيبة كلها يا ماجد!؟..
انفجر ضاحكا و هتف:- لا يا ماما.. ده يا دوب كام واحد من صحابى.. تلاقيهم شمين ريحة الأكل من هنا و صايمين لحد ما اروح لهم..
انفجرت زهرة ضاحكة:- بالهنا و الشفا يا حبيبى..
انحنى ماجد يتناول الصندوق الخاص بمؤمن من الطاولة المقابلة لإيمان متطلعا اليها متسائلا:- انت هتقعدى يا ايمان و لا ماشية !؟..
نظرت لعمق عينيه و تبدلت كل خرائط العالم بمخيلتها و ما عاد هناك منطق و لا تعقل و ما عادت الأرض هي نفسها الأرض و ما ظلت السماء ذات السماء الا ان صوت زهرة جعلها تنتفض خارجة من مجال تأثيره و هى توجه كلامها اليها:- ما تخليكى معايا يا ايمان..
تنحنت ايمان فى اضطراب هاتفة:- لااه معلش يا مرت خالى.. اصل امى لحالها و انا كمان عندى مذاكرة كَتير.. بالأذن..
و ما ان همت بالاندفاع خارج السراىّ حتى هتف ماجد بأسمها يستوقفها:- طب استنى أوصلك معايا..
هتفت مؤكدة:- مفيش داعى.. البيت جريب.. دوول خطوتين..
اكد ماجد:- برضو هوصلك.. اتفضلى.. مش بتقولى عندك مذاكرة كتير.. و لا انت حابة تزوغى منها!؟ ده حتى مؤمن بيقول انك شاطرة..
ابتسمت و دلفت للسيارة و اندفع هو الى الكرسى الامامى بجوار السائق..
تطلعت اليه من موضعها يجلس شامخا كملك و هامت فيه و هو يضع كابه العسكرى المموه على رأسه كتاج.. و تنبهت ان السيارة توقفت اخيرا لتستيقظ من شرودها فيه و تترجل منها..
ليهتف مودعا:- مع السلامة.. سلميلى على عمتى سمية..
اومأت فى إيجاب دون ان تجيب حرفا و ما ان غابت سيارته عن ناظريها حتى انطلق لسانها خلفه مودعا.. مع السلامة..
ذرع حمزة غرفته ذهابا وإيابا عدة مرات فى غضب و تحفز.. فها هو خطيبها الاحمق ذاك بإنتظارها فى بهو الفيلا ليذهب بها لحفل عيد ميلاد احدى صديقاتها كما سمع..
ضرب باطن كفه بقبضة يده فى غيظ متسائلا.. كيف سمحت لها زوجة عمه بالذهاب رغم تأكيد عمه على عدم مغادرتها الفيلا فى عدم
وجوده!؟..
زفر فى حنق و هو يتذكر كلمات عمه له قبل سفره المفاجئ للقاهرة و الذى تمنى مصاحبته فيه الا انه تعلل بأمور الشركة التى يجب ان يظل احدهما لمتابعتها و أوصاه ساعتها بهدير مؤكدا انها ذات عقل متحرر و تصرفات جامحة لذا يخشى عليها كثيرا و ترك له حرية التصرف في غيابه كأنه هو او اخيها حازم.. فهو بن عمها على ايه حال و هى مسؤولة منه فى غياب كلاهما..
انتفض فى تحفز غير قادر على الوقوف ساكنا و هو يرى ما لا يطيق و ان أمانة عمه التى وضعها بين كفيه تتسرب منهما دون تحرك منه..
خرج من جناحه الملحق بالفيلا و ما ان تقدم لمدخلها حتى وجدها تركب السيارة مع خطيبها و ترحل..
اندفع فى ثورة نحو سيارته و ركبها لتزمجر فى قوة و هو يجبرها لتنطلق خلف سيارتهما حيث تذهب و قد قرر انه لن يدع ابنة عمه المتهورة تلك مع خطيبها الاحمق ذاك و الذى لم يطقه منذ قابله للمرة الاولى..
سار خلفهما مدة لا يستهان بها و دمه يغلى و هو يتخيل انها بجانبه فى السيارة وحيدة معه.. و اخيرا و على حين غرة وجدهما توقفا فتخطاهما بسيارته قليلا حتى استطاع ان يصفها و يندفع خلفهما حيث دلفا منذ قليل..
جابت عيناه المكان المظلم الذى كانت مسيقاه الصاخبة تصم الأذان.. اخيرا و بعد جهد كبير استطاع تمييزها بين مجموعة من الشباب من الجنسين يجلسون متحلقين فى احد أركان المكان.. اتخذ مكانا لنفسه يستطيع ان يتابع تحركاتها به و جلس يود لو يذهب اليها لينتزعها من بينهم و يعيدها لبيت ابيها لكن هنا لا سلطة له عليها.. فسلطته كابن عم لها ليس لها مكانتها هنا و لا يُعترف بها كما هى هناك فى النجع..
اضطربت الاضواء و اختلطت فيها الألوان و بدأت الموسيقى تزداد صخبا و فجأة و مع بريق احد الاضواء اختفت.. تطلع حيث كانت تجلس منذ قليل.. لكن لا احد يشغل مقعدها و لا يعلم اين تراها ذهبت..
جال بناظريه فى ذعر هنا و هناك بين الجالسين لكنه لم يجدها و فجأة وقعت عيناه عليها حيث لم يبحث و لم يعتقد انه بحاجة للبحث لكنه كان مخطئا فها هى تتمايل فى ميوعة مع خطيبها الديوث ذاك فى قلب المكان و بين الكثيرين من امثالهما و الذين اسكرتهم الموسيقى.. حاول الولوج الى موضعها فلا قبل له لرؤيتها على هذا الوضع المخزى لكن لم يستطع التسلل اليها من شدة الزحام..
اخيرا استطاع الوصول لمنطقة مرتفعة قليلا بجانب طوله الفاره مكناه من رؤيتها لازالت ترقص و لكن ليس مع خطيبها هذه المرة بل مع احمق مختلف.. و الأدهى من ذلك ان ذاك الحقير يحاول ان يتطاول عليها و يجبرها لتقترب منه.. لم يشعر بنفسه الا و هو يلقى بجسده وسط مجموعة الراقصين من موضعه ليجد نفسه و قد اضحى بالقرب منها و كل ما استطاع القيام به هو انتزاعها بعيدا و تسديد لكمة قوية لأنف ذاك الاحمق الذى كان يتحرش بها كانت من القوة ليصرخ ساقطا أرضا و يصرخ الجمع و يتفرق معظمه فى ذعر لما يحدث.. خرست الموسيقى و عم الصمت للحظات قطعها عمر خطيبها هاتفا:- فى ايه!؟.. انت ايه اللى جابك هنا!؟.. و ازاى تعمل فى أصحابنا كده.!؟..
اندفع اليه حمزة فى ثورة أفقدته التمييز صارخا:- انت لسه شفت حاچة يا اللى محسوب ع الرچالة غلط!؟..
و سدد عدة لكمات لوجه عمر جعله يترنح ليسقط غير قادر على الإتيان بحركة..
تدخل حراس المكان لإنقاذ عمر من بين يدى حمزة قبل ان يقتله.. و بدأوا فى عراك حمزة الذى كال لهم ما استطاع من لكمات و ضربات كما تلقى بالمثل.. كانت هدير على ذاك الجانب الذى ألقى بها حمزة فيه تقف مشدوهة و لم تتزحزح قيد انملة.. و اخيرا صرخت فى ذعر ما ان بدأت فى استيعاب ما يحدث..
لكن لم يعرها احدا إلتفافا و المعركة بين حمزة و مقاتليه على أشدها.. استطاع حمزة التغلب عليهم و فى خضم الاحداث و قبل ان يستفيق الجميع كان قد جذبها و اندفع خارجا تجاه عربته..
فتح الباب الامامى لسيارته و دفعها للداخل كجوال من البطاطا و أغلق الباب فى عنف و دفع بنفسه خلف المقود و انطلق بها فى جنون..
كانت هى تبكى فى حرقة و لا تصدق ما يحدث بينما كان حمزة يلتقط انفاسه فى تتابع ملقيا عليها نظرة يود لو يقتلها بها.. رفعت رأسها لتواجهه فى ثورة:- انت ايه اللى عملته ده!؟.. مين اللى جابك ورانا و خلاك تتصرف بالطريقة الهمجية دى و تبوظ عيد ميلاد صاحبتى!؟..
هتف جازً على اسنانه يود لو يقبض على رقبتها مزهقا روحها:- ايه اللى عملته.. !؟. عِملت الواچب و اللى كان المفروض يعمله خطيبك اللى ملوش عازة دِه لو كان راچل صح..
هتفت فى ثورة:- خطيبى مش ممكن يعمل اللى عملته لانه راجل متحضر.
هتف فى ثورة مماثلة:- لو التحضر يا بت عمى هو انى اسيب خطيبتى مش بس ترجص وسط الخلج.. لااه و ترجص كمان مع راچل غيرى و يضايجها و اجف اتفرچ.. يبجى الحمد لله انى متخلف.. و متخلف جووى كمان و خلينالكم إنتوا التحضر.. جال تحضر جال.. دى جلة حيّا..
هتف كلمته الاخيرة صارخا لترد بدورها صارخة:- انا مسمحلكش تقول...
قاطعها هاتفا بحنق و صوته كهزيم الرعد وهو ينحرف لشارع جانبى:- انا اجول اللى انا عاوزه.. و الله لو كنتِ ف النچع لكان زمانك مدفونة و بيجروا عليكى الفاتحة..
ارتعشت فى رعب و صمتت للحظات و اخيرا همست فى صوت مستكين النبرات:- انت بتعمل معايا كده ليه يا حمزة!؟.. ليه من ساعة ما جيت من البلد و انت بتحاول تضايفنى و تعكنن عليا.. !؟
تطلع اليها فى تعجب و قد هدأت ثورته قليلا لمرأها بهذا الشكل هاتفا فى استنكار:- انا!؟.. انا عمرى ما حاولت اضايجك و لا اعكنن عليكِ.. عمرى ما كان جصدى ان دِه اللى يوصلك.. انا كل اللى عملته عشان خاطرك.. عشان خايف عليكِ.. عشان انت أمانة عمى و حازم اللى لازما اصونها و مفرطش فيها ابدا..
شملهما الصمت للحظات ثم تنهد و هو يضرب على المقود فى عنف اجفلها و اخيرا همس بصوت هادئ النبرات على الرغم مما يعتمل بداخله:- بصى يا بت الناس.. من اللحظة دى انا مليش صالح بيكِ.. و عمرى ما هضايجك و لا اعكنن عليكِ زى ما بتجولى.. انا كنت فاكر انى بعمل كِده الصح و المفروض.. بعمل كل اللى بعمله عشان مصلحتك.. لكن طالما انتِ مش شايفة فاللى بعمله الا انه بيضايجك فانا هبعد كنى مش موچود.. هبعد برضك عشان خاطرك.. و يا رب ترتاحى.. انا يهمنى راحتك..
مع اخر كلماته كانا قد وصلا للفيلا التى فتحت ابوابها على مصراعيها و ما ان توقفت السيارة امام بابها الداخلى حتى اندفعت منها خارجا لداخل الفيلا و نحيبها العال يصل مسامعه حتى اختفت تماما فتنهد فى ضيق و اندفع بدوره لداخل جناحه..
انتظر طويلا و لم تظهر بعد و زفر في ضيق متعجبا من نفسه متسائلا لما هو ينتظرها من الأساس!؟.. هو لا يعرف سببا لكنه يتعلل بحاجة العمل لوجودها و ها هو ينتظرها ما يقرب من ساعة و لم تظهر بعد و ربما ينتظر النهار بطوله دون ظهورها.. هو متأكد انها ليست بالمكتب فهو قد سأل عليها هناك و أجابوه انها ليست موجودة بل اليوم هو ميعاد محاضراتها بالجامعة.. اندفع قادم الى هنا بلا تفكير رغبة في رؤيتها و اصطحابها لموقع المشروع معه فحمزة ليس هنا هذه المرة..
أخيرا تنهد في راحة و هو يراها تخرج من باب الجامعة تضم أدواتها لصدرها و تتلفت باحثة عن وسيلة مواصلات تقلها لمقر الشركة بالتأكيد
تقدم حتى توقفت السيارة مزمجرة بالقرب منها.. كادت ان تهتف بسباب لذاك الاحمق الذى كاد ان يدهسها بسيارته و لكن ما ان زالت زوبعة الغبار التي اثارها وقوفه الفجائي حتى تنبهت انه سيد العشماوي رب عملها
و الذى هتف في امر:- اركبى..
كظمت غيظها و لم تلتفت له و سارت فى طريقها مما دفعه للسير ببطء بالسيارة جوارها مكررا امره مما دفعها لتهتف بغيظ:- اركب فين!؟.
هتف متعجبا:- اركبى العربية.. هيكون فين يعنى!؟..
هتفت و هي تسير بلامبالاة:- سيد بيه.. اتفضل و انا هحصلك ع الشركة..
هتف بغيظ:- بقولك اركبى.. انا رئيسك ف الشغل و بأمرك تركبى عشان مستعجل و عايزك ف شغل ضرورى..
هتفت و قد ارتفعت نبرة صوتها بحنق:- بجولك ايه يا سيد بيه.. رئيسى ف الشغل ده هناك ف الشركة ابجى أتأمر زى ما تحب لكن هنا جدام الچامعة ملكش عندى حاچة.. و لو ممشيتش دلوجت.. و ربنا لألم عليك الخلج..
صدمة اعتلت ملامح سيد من ردة فعلها التي لم يكن يتوقعها مطلقا و توقف بغتة بسيارته يحاول استيعاب ما فعلته به تلك المجنونة و ما هي الا لحظات حتى رأها تركب احدى سيارات الأجرة و تغادر مما دفعه ليضغط دواسة البنزين منطلقا بعربته في غضب هادر يتوعد تلك المتنمرة.
ربتت زينة على كتف ابنتها الملقاة تنتحب على فراشها بقهر هاتفة:- خلاص يا هدير.. حصل خير..
اهدى شوية.. هو حمزة كان عمل ايه يعنى!؟..
انتفضت هدير هاتفة فى ثورة:- عمل ايه!؟.. قولى معملش ايه!؟.. يا مامى ده كسر النايت كلاب على راس اللى فيه.. ده همجى و متوحش و اخره يعيش مع الوحوش ف الغابة مش مع بنى أدمين..
ابتسمت زينة رغما عنها و هتفت:- انا معرفش تفاصيل اللى حصل بس واضح كده ان عنده اللى يبرر اللى عمله.. حمزة راجل عاقل و مش ممكن يعمل اللى عمله الا لسبب قووى..
صرخت هدير من جديد:- عاقل ايه بس!؟.. بقولك كان شبه الوحش مخلاش حد الا لما ضربه و كسر الدنيا.. حتى البودى جاردز بتوع المكان ضربهم.. تخيلى!؟.. ده مجنون رسمى.. لازم يروح يتعالج.. حتى عمر خطيبى مسلمش منه و فتح له دماغه..
بجد مشفتش ف عقله.. !!
انفجرت زينة ضاحكة على تعبيرات هدير ابنتها و هتفت:- ع العموم اهو الدنيا مقلوبة تحت.. انا لسه شايفة ظابط داخل الفيلا عشان الموضوع ده و اكيد طلبينه.. كويس ان حازم لسه واصل.. اهو يبقى معاه..
هتفت هدير:- معاه فى ايه!؟.. يا ريت حازم يسبهم يحبسوه.. ده اخره و الله.. و لسه كمان انا لما أقول لبابا بس يرجع بالسلامة من كايرو.. ابتسمت زينة فى سخرية هاتفة:- بابا!؟.. ده زكريا هيديله نشان.. انتِ فاكرة ان باباكِ هيلوم حمزة على اللى عمله.. بالعكس ده هيهلل له.. و ربنا يستر بقى لما يعرف انى انا اللى وافقت على مرواحك العيد ميلاد ده!؟
فغرت هدير فاها غير مصدقة:- بابا!؟.. . لا زكريا حبيبى مش ممكن يعمل كده.. اكيد هيديله كلمتين ف عضمه و اتشفى انا فيه شوية.. و بعدين فيها ايه يا ماما.. رحت عيد ميلاد صاحبتى و معايا خطيبى.. ايه اللى حصل يعنى.. و ايه جاب حمزة ده ورانا اصلا!؟.. لااا.. اكيد بابا هيأكد عليه ملوش دعوة بيا تانى و كفاية اللى عمله مع عمر..
اكدت زينة:- و الله ما هيحصل.. الصعيدى اللى جوا زكريا هيطلع و يقف مع حمزة قلبا و قالبا و ابقى قولى ماما قالت..
صمتت هدير و لم تعقب و اخذت تفكر فى كلام أمها و لديها احساس قووى بأنها على حق.. تركت أمها داخل غرفتها و تسللت خارجا تتطلع من الاعلى لذاك الضابط الذى يقف مع اخيها يتشاور معه فى امر حمزة الذى كان يقف جانبا شكله أشبه ببلطجية السينما قديما بجروح وجهه و قميصه الممزق.. و تذكرت انه فعل كل ذلك لأجلها.. ألم يخبرها بذلك و هو يصطحبها الى هنا فى سيارته!؟..
انها هدير مدللة عائلتها و التى لا يُرفض لها طلب و التى يُفعل كل شئ لأجلها.. لماذا تشعر الان ان هذه
" الفعلة لأجلك ".. و التى نطقها..
تختلف عن اى " لأجلك " أخرى قُدمت لها فى حياتها.!؟..
استمر هاتفها يدق فى صخب.. تطلعت للشاشة لترى انه هو.. بن عمتها المجنون.. و زوجها المزعوم.. هل حقا ستصبح زوجته بعد عشرة ايام من اليوم.. ارتعشت عندما تيقنت بتلك الحقيقة.. و تذكرت كلماته الماجنة وغمزة عينيه لها قبل ان يغادر مكتب ابيها منذ عدة ايام.. فتحولت ارتعاشاتها لانتفاضة قوية.. انتقاضة تحمل كل منتناقضات العالم بين طياتها..
انتفاضة شوق مختلط بلهفة ممزوج برهبة معجونة بتوجس.. لازال ذاك الصراع ما بين رغبة قلبها به ورفض عقلها له يضنيها.. انه باسل حلم طفولتها وشبابها.. لكن فى لحظة ما.. شعرت ان ذاك الحلم لم يعد كاف لها.. تضاءل امام طموحها.. وغمز ولمز صديقاتها اللاتى كان لسان حالهن جميعا يقول.. انت وانظرى من انت على وشك الحصول على ليسانس الحقوق بتفوق.. وهو ذاك العابث الذى لم يستطع الحصول على مؤهل عال..
اكتفى بمؤهله المتوسط.. بجانب عبثه الذى لم ينقطع.. فقد كان دائم السفر للقاهرة يغيب بالايام بحجة الأشغال التى يديرها للعائلة.. كانت تلك الأشغال لا يتجاوز قضاءها اكثر من يومين.. لكنه كان يغيب بالأسبوع كاملا..
بالتأكيد كان يلهو كما يحلو له هناك.. لا يدخر وسعا فى إسعاد نفسه.. و يأتى اليها يدعى محبتها و يرغب فى الزواج بها.. لن تجيب على الهاتف ولو ظل الدهر كله يدق..
هكذا كررت بينها وبين نفسها.. فسماع صوته الان و هى تفكر بما كان يفعله بالقاهرة خلف ظهرها يجعلها كالمجنونة تريد لو تفصل رقبته عن جسده..
صمت الهاتف اخيرا.. فتنهدت بأرتياح.. ولكن ما هى الا لحظات حتى جاءها اشعار بوصول رسالة.. دق قلبها بصخب بين اضلوعها فما كان من الصعب ان تخمن انه صاحب الرسالة..
فتحتها فى وجل وكأنها قنبلة على وشك الانفجار.. لتجدها منه كما توقعت.. كان نصها " ردى على تليفونك يا استاذة بدل ما تلاجينى جدامك دلوجتى.. "..
قذفت بالهاتف على الفراش فى زعر.. لا.. انها لا تتحمل رؤيته الان.. وهى فى خضم كل تلك المشاعر و الخواطر التى تدميها.. ان مجرد تذكر محياه يفقدها ثباتها و رجاحة عقلها المعتادة.. و هذا ما لا.. ولن تسمح به ابدااا..
رن الهاتف من جديد فأنتفضت.. و وضعت كفها على صدرها تهدئ ذاك الوجيب المتهور.. ألتقطت انفاسها
تحاول ان تستعيد ثباتها قبل ان تجيب بلهجة خشنة:- نعم!؟
اجاب باسل بلهجة مرحة:- نعم الله عليكى يا استاذة..
اجابت فى تعال تحاول مدارة بسمة قفزت لشفتيها:- انا مشغولة لو سمحت.. قول اللى عندك وخلصنى.
استمر فى مزاحه:- فى واحدة تكلم چوزها كده برضك!؟..
استشاطت غضبا:- لو سمحت متقولش جوزها!؟..
صمت لبرهة ثم اجاب بصوت جاد على غير العادة:- انا كنت فاكر ان كلمة خالى عاصم دى معناتها موافجتك.. !!؟..
ارتبكت وتلعثمت:- ايوه.. ما هو..
استطرد بحزم يحمل نبرة حنونة.. لا تعرف كيف جمعهما فى جملة واحدة :- ايه يا استاذة.. منتيش موافجة على چوازنا.. !!؟.. وماله.. حجكِ..
قاطعته و هى ترى انحراف الحوار ليتخذ مسار لم يكن فى حسبانها:- يا واد عمتى.. انت بس مش فاهم..
قاطعها هو بدوره بنبرة متعبة كانت للمرة الأولى تسمعها منه بهذا الشكل الذى أدمى قلبها بشكل لم تتوقعه:-لاااه انى فاهم.. فاهم كل حاچة.. و اللى انى فاهمه دلوجت حاچة واحدة بس.. انا اللى بخيرك تانى يا بت خالى.. انتِ عيزانى ولا لاه!؟.. جوليها.. ومتخافيش من اى حد.. انى اللى هتحمل الليلة كلها لحالى و لو كان ده جَبل ما نكتبوا الكتاب بدجيجة واحدة.. بس عرفينى.. وملكيش انتِ صالح بأى حاچة.. انى مرضهلكيش تجضى حياتكِ مع حد مش ريداه..
سلام عليكم يا بت خالى.. ووعد منى مش هضايجك تانى لا بمكالمة ولا برسالة... انى مسافر اخلص مصالح للعيلة و راچع جَبل كتب الكتاب بيومين.. يومها وانا راچع عايز اعرف ردّك عشان ألحج اتصرف.. سلام.. ومنتظر ردّك مهما كان..
قطع الاتصال بينهما لتظل ممسكة بالهاتف بكفها كالمشدوهة لا تعرف ما الذى دفعه ليقول كل ما قاله.. هل يستشعر رفضها له بهذه القوة.. لكنها لا ترفضه..
جاءها ذاك الهاتف الداخلى مؤنباً.. لكنك لا تقبليه ايضا..
انتِ دوما فى منطقة وسطى.. ما بين الجنة والنار..
لا انتِ قادرة على الانصياع لقلبكِ.. او حتى تغليب صوت عقلكِ..
و هو !!؟؟.. ما ذنبه!؟؟.. وانت الحائرة ما بين بين..
اجابت فى نفاذ صبر تقول لنفسها:- انه لم يساعدنى فى حربى.. لم يعطينى الأسباب التى تجعلنى أصارع لاجله.. لم يخبرنى يوما انه يحبنى فيستميل جانب قلبى.. و دوما يسخر من طموحى و يلقبنى بالاستاذة ساخراً من لدغتى التى لا حيلة لى فيها..
هتف فيها من جديد هاتفها الداخلى بنفاذ صبر:-لا.. لقد فعل.. هتف بها و أعلنها امام الجميع انه يريدك.. ماذا تريدين إثبات اكثر من هذا!؟.. انظرى الان.. ها قد ألقى الكرة بملعبك و وضع الاختيار رهن اشارتكِ.. عليكِ انتِ ان تختارى.. ما بين جنته أو ناره... عشرة ايام فارقة هى كل ما تبقى لكِ.. لتحكمى ذاك الصراع و للأبد..