رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثاني والعشرون
كانت المرة الثالثة على أقصى تقدير التى تراه فيها من هذا القرب فدوما ما كانت تطالعه من البعيد و لا قبل لها لتقترب منه او حتى تلقى التحية فى اعتيادية فوجيب قلبها لمرأه ما كان سامحا لها بذلك.. لكن فى تلك اللحظة هى تراه و بينهما مسافة لا تتجاوز المتر الواحد و لكنه منكس الرأس على غير عادته و كأنه مهزوم فى معركته مع الحياة و هو الذى كان يسير دوما فى شموخ ملكى يجعل قلبها يترنح تيها و عشقا..
اندفعت تفتح ضلفتى باب حجرته التى ساعدت فى تجهيزها مع امه زهرة بعد مجيئها للسراىّ بعد سفر أمها و اخيها ماهر للحج منذ يومين حتى تسمح بمرور كرسيه المدولب لداخلها تدفعه امه فى سعادة مغموسة بشجن تحاول مداراته فى طيات نبرات صوتها الذى تحاول تغليفه بالمرح هاتفة و هم بقلب الغرفة:- أيه رأيك يا ماجد!؟.. جهزنا لك الاوضة دى و فتحنا ليها باب ع الجنينة الورانية عشان لو حابب تخرج تشم هوا شوية او حتى تقعد فى أوضة القراية.. ده لو حبيت يعنى..
هز رأسه فى لامبالاة و كأن الامر لا يعنيه..لمحت ايمان نظرات زهرة المتحسرة و دموعها التى تترقرق بمقلتيها فهتفت فى محاولة لجذب انتباهه و التخفيف عنها فى نفس ذات الوقت:- بص كمان يا حضرة الملازم.. عملنا لك ركن فيه شوية أدوات رياضية تسليك..
و اشارت لركن ما بعيد داخل الغرفة ما كان لاحظه بالفعل و خاصة مع عصابة عينه اليمنى التى تحصر عنه رؤية هذا الجزء من الغرفة لكنه تطلع اليه بنفس اللامبالاة و هتف فى حنق:- انا مش حضرة الملازم.. و لو ضرورى ألقاب يبقى كفاية استاذ.
انحدرت الدموع على وجنتى زهرة فى صمت بينما نظرت اليه ايمان فى ثبات عجيب على الرغم من دقات قلبها المضطربة و هتفت فى
ثقة:- اى كان اللقب اللى عايزنى أناديك بيه.. انت لسه ماچد.. و هاتفضل ماچد.. انت اللى بتدى للقب جيمة مش هو اللى بيديك الجيمة يا واد عمى..
و همت بالاندفاع لخارج حجرته الا انه هتف يستوقفها متعجبا و هو لا يراها بشكل جيد نتيجة لتلك العصابة المحكمة على عينه اليمنى و التي اخبره الطبيب انه سيزيلها قريبا:- مش ايمان اللى بتتكلم برضو !؟..
توقفت و استدارت نصف استدارة تتطلع اليه هاتفة فى عزم:- ايوه هى يا واد خالى.
انتفض ماجد و كأنه يراها للمرة الاولى و تطلع اليها فى اضطراب و قد تذكر انها اخر من نطق مؤمن بأسمه موصيا اياه عليها.. و تذكر الان فقط ما دار بينهما من حوار كان يشملها.. قال مؤمن انها عنيدة و رأسها يابس كالحجر الصوان و عزيمتها لا تلين.. كان يعتقد انه يغال فى وصف اخته لمحبته المفرطة لها لكنه يراها الان و نظرة التحدى التى تطل من عينيها يزاحمها حزنها على فراق اخيها تؤكد ان كل كلمة قالها مؤمن كانت فى محلها و ربما اكثر.. و تذكر وعده الاخير لمؤمن قبل ان يبدأ صوت الانفجارات بثوان.. بانه سيتزوجها..
كان وعدا مازحا لا يعد وعدا من الاساس الا انه شعر بشكل ما انه مسؤول عنها تجاه روح مؤمن.. لقد رأها مرتين فقط كانت فيهما أشبه بحمل وديع مذعور لا ينطق حتى ظن ان طبعها الطفولى ذاك و بكائها عند رؤيته لم يتغير لكنه كان مخطئ تماما في ظنه و ما يراه الان منها يؤكد ذلك.. و يؤكد كل ما وصفه بها مؤمن من صفات مما دفعه ليهتف فى ثبات:- كنتِ اخر حد نطق مؤمن بأسمه.. بيقولك ذاكرى كويس عايز مجموع كبير و..
لم تمهله ليكمل بل اندفعت الدموع من عينيها حيث غلب فيهما حزنها على اخيها عند ذكره تحديها و اندفعت خارج الغرفة ما ان سمعت بوصية اخيها الغالى على قلبها..
تمالكت زهرة نفسها و لم تشأ ذرف المزيد من دموعها بمجهود جبار هامسة بصوت متحشرج:- تحب أساعدك تتمدد ع السرير شوية يا حبيبى لحد ما نحضر الغدا!؟.. و لا تخرج للجنينة شوية!؟..
هتف ماجد بصوت ثلجى:- سيبينى يا ماما انا هتصرف زى ما أحب متشغليش نفسك بيا..
تنهدت زهرة فى ألم هامسة:- حاضر.. انا هروح ااكد ع الغدا يجهز و انت خد راحتك زى ما تحب..
وربتت على كتفه و اندفعت خارج الغرفة مهرولة تدارى دموع كبتتها فى صعوبة و اخيرا انحدرت فما عاد لها القدرة على حبسها و الا اختنقت بها.
اما هو.. فقد تحرك بكرسيه المدولب فى اتجاه الباب الذى يفضى للحديقة الخلفية و فتحه دافعا اياه للخارج يتنسم فى شهيق عميق ذاك الهواء الذى اندفع منه كأنما يريد ان يتأكد انه لايزل حيّا رغم كل ما كان و لكن هل هناك اختبار ما يستطيع القيام به ليدرك ان روحه مازالت حية هى الاخرى و ليس جسده فقط!؟..
هتف سيد العشماوي في سعادة عندما طالعه محيا حمزة في غرفة الاجتماعات الخاصة بشركته و جلسا يتبادلا الأحاديث عن مشروعهما المشترك و بعض المشروعات الأخرى و في ظل النقاش هتف حمزة مؤكدا:- طب خلاص يا باشمهندس.. الشحنة دى علينا.. هچيبها بأسمى و عمى زكريا ليه حبايب كَتير ف الميناء تخلصها لنا جوام..
مد سيد كفه محييا:- برافو.. كده تمام قوى.. انا كنت قلقان ان الشحنة دى تتأخر بسبب ركنها ف الميناء.. ربنا يسهل و تيجى عشان نخلص شغلنا بقى..
هتف حمزة في حماس:- متجلجش.. الشحنة بأسمى و هروح بنفسى اخلصها م الچمارك.. و هتكون موچودة ف اجرب فرصة عشان ميبجاش في تأخير ف المشروع..
و نهض حمزة هاتفا و هو يمد كفه بالسلام يلقى التحية قبل مغادرته:-اشوفك على خير بجى يا باشمهندس..
انى مش هنزل النچع جبل ما استلم الشحنة دى.. لو حبيت انت تروح..اسبجنى و شوف الأحوال ايه..
اشوفك على خير..
ابتسم سيد في دبلوماسية هاتفا و هو يصافح حمزة:- بإذن الله يا باشمهندس.. هنزل البلد قريب.. اهو اشوف اخر الاخبار..
اومأ حمزة برأسه إيجابا و غادر و سيد يودعه بإبتسامة عجيبة تحمل بين طياتها الكثير..
هتف بها من الاعلى صارخا باسمها و هو يعلم انها قادرة بعض الشئ على مغادرة امه و لو قليلا بعد ان بدأت صحتها ف التحسن:- يا شيماء..
اندفعت تجيبه فى هدوء مطأطئة الرأس:- نعم..
امرها مشيرا اليها:- اطلعى اعمليلى كباية شاى.. الصداع هيفجر دماغى..
همست من موضعها بالأسفل:- طب انزل اعملهولك هنا..
زمجر فى غضب:- بقولك اطلعى اعمليه.. هو انا هتحايل عليكِ..
صعدت الدرجات فى تؤدة بروح منكسرة و عزيمة خائرة فمنذ كلماته التى أوجعتها و جرحت قلبها و هى لا تقو على التطلع اليه.. انها تشعر بالوجع يتجدد كلما تطلعت لمحياه العابس و تشعر بالذنب تجاهه يكبلها بسلاسل من قهر دامٍ لا تستطيع منه فكاكاً..
افسح لها الطريق عندما وصلت لعتبة الشقة و تطلع اليها فى حنو بالغ يعاكس تماما تكشيرته المعتادة.. كان يعلم انها تعانى من كلماته الجارحة التى ألقاها بلا وعى منه..
توجهت للمطبخ و هتف هو:- بسرعة عشان مستعجل.. فى زبون جايلى الورشة كمان شوية..
اومأت فى طاعة و لم تنبس بحرف ودلفت للمطبخ تمد كفها تلتقط إبريق الشاى لتملأه بالماء الا انها سمعت صوت شئ ما يرن بالداخل..
تطلعت بداخله فى تعجب و مدت أصابعها الصغيرة تلتقط ذاك الشئ المعدنى من قاع الإبريق و تخرجه متطلعة اليه فى انبهار من جمال صنعه.. كانت تعشق الخواتم لحد كبير و ما تراه الان هو أروعها على الإطلاق..
انتفضت عندما جاءها صوت إغلاق الباب لتتأكد انه خرج مندفعا ليلحق بميعاده المزعوم بالورشة و قد ادركت انه ما دعاها الى هنا الا ليعطيها هذا الخاتم.. فهل كان يصالحها !؟..
هل كان يعتذر بطريقته عما بدر منه فى حقها !؟.. ابتسمت للخاطر فى سعادة و هى تشعر انها غفرت له ما تقدم من ذنبه.. و على استعداد لغفران المزيد غير قادرة على ادراك السبب الذى يجعلها تتحمل مزاجه العكر دوما.. و عزت ذلك الي جميله الذى يطوق رقبتها.. فهل تراها صادقة فى ادعائها!؟..
هتف سيد في حنق و هو يضغط اذرار هاتفه محاولا الاتصال بذلك الرقم عدة مرات لكن لا فائدة.. فألقى بجواله جانبا على مكتبه في ضيق هاتفا:- راح فين البنى آدم ده!؟.. بتصل ليه بيه و مش بيرد!؟.. ده كان هو اللى على طول قارفنى اتصالات..
تنهد في حنق ليستطرد محادثا نفسه في غيظ:- يغور.. نشوف غيره.. ده مفيش حاجة م اللى طلبتها منه نفذها صح من أساسه..
لكنه أعاد التفكير لثوان ثم هتف من جديد:- مضطر ألجأ له للأسف..
أعاد الاتصال بذاك الشخص لكن لا مجيب..
ألقى سيد هاتفه في سخط من جديد لتقاطعه طرقات على الباب و تدخل ثريا بردائها الأسود حاملة بعض الأوراق و التصميمات لتعرضها عليه ليهتف في نفاذ صبر:- باشمهندسة ثريا.. مش وقته خالص عرض اى حاجة عليا..
شعرت بالضيق بدورها لمحادثته إياها بهذا الشكل و هتفت ساخرة:- طب يا باشمهندس يا ريت تبجى تعلج يافطة على باب مكتبك تجول فيها.. "المود لا يسمح ".. عشان بس نوفرعلى نفسينا و على حضرتك التعب..
و جمعت اوراقها و تصميماتها التي كانت بالفعل وضعتها امامه على سطح مكتبه..
استفزته كلماتها الساخرة فهتف بدوره متهكما:- هو فيه ايه يا باشمهندس.. هو انتِ معندكيش مود ممكن يتعكر لسمح الله!؟.. انتِ لسانك ده ايه.. يا ساتر..
هتفت ثريا في غيظ:- ماله لسانى..!؟ مش عاچبك عشان دغرى!؟..
هتف بغيظ:- لا حضرتك ده مش دغرى.. ده عايز يقصر حبتين تلاتة بس..
وضعت ثريا كفها على فمها في صدمة هاتفة:- يجصر!؟.. لاااه.. ده تچاوز انى مسمحش بيه يا باشمهندس.. عن اذنك..
همت بالانصراف ليندفع يسد عليها باب الخروج هاتفا في تلطف:- يعنى عمال اقولك المود وحش بدل ما تقوليلى سلامتك يا باشمهندس.. قاعدة تتريقى..
هتفت بحنق بالغ ممعنة في التهكم:- سلامتك دى و شوية الدلع دول تلاجيهم عند الست الوالدة او مراتك هناك ف البيت.. لكن هنا مكان اكل عيش مش مكان للدلع و المسخرة..
هتف بصدمة:- دلع و مسخرة!؟.. و أخيرا تمالك أعصابه حتى لا يقوم بوأدها حية في موضعها و هتف من جديد فى مسكنة:- أولا امى الله يرحمها.. ثانيا مش متجوز.. يعنى انا واحد فاقد الحنان و معدوم الدلع..
قال كلماته الأخيرة بنبرة تقطر حزنا و هو يتطلع اليها.. كادت تصدقه و هو يبدو بهذه البراءة و قلبها بدأ يلين و يأخذ صفه.. الا ان عقلها ايقظها في الوقت المناسب لتهتف في صرامة:-برضك دِه مكان اكل عيش...و انا ميخصنيش امورك الشخصية دى.. عن اذنك..
و همت بفتح باب المكتب بالفعل بعد ان تنحى جانبا الا انه استوقفها متسائلا و قد ادرك متأخرا ردائها الأسود:- انتِ ليه لابسة اسود النهاردة !؟..
تركت مقبض الباب و تطلعت اليه متعجبة ان الامر لم يصله بعد:- عشان الشهيد مؤمن..هو فى حد ف النچع مش لابس اسود عليه من يوم ما راح.. ربنا يصبر أهله على فراجه..
هتف من جديد و قد ضيق عينيه متسائلا من جديد:- الشهيد مؤمن مين؟!.. ده قريب عاصم بيه صح!؟..
اكدت بإيماءة من رأسها:- ايوه و يبجى بن عمة الباشمهندس حمزة..
همهم بتعجب:- انا قابلت حمزة قبل ما اجى على هنا مجبليش خبر..
ردت تسوق الحجج:- الباشمهندس حمزة مش بيحب يتكلم على حاچات شخصية چوه الشغل..
زفر فى ضيق و قد اعتراه شعور عجيب لا يعرف كنهه جعله يهتف بها:- واضح انك كنت بتعزى الأخ مؤمن ده و الا مكنتيش تلبسى عليه اسود الفترة دى كلها!؟..
هتفت مؤكدة:- و مين مكنش بيعزه!؟.. بنى آدم كان كله ذوج و اخلاج.. الله يرحمه..
جز على اسنانه فى غيظ محاولا وأد ذاك الشعور المتنامى داخله تجاه مدحها لأخلاق رجل رحل عن دنيانا
و هتف متخطيا الموضوع :- انا جاى أتغدى عندكم ف السرايا.. عاصم بيه عازمنى.. مش هسيبك تروحى لوحدك..
هتفت في حزم:- و انى مش هدخل معاك النچع ف عربية واحدة..
سأل مستفسرًا:- طب هشوفك هناك مش كده!؟..
هزت كتفيها مؤكدة:- على حسب الظروف يا باشمهندس.. شكلك نسيت انى مش من اهل السرايا..دِه انى يا دوب بت غفيرها..
ابتسم لأعتدادها الشديد بنفسها و هتف مؤكدا:- انا متأكد انى هشوفك هناك..
لم ترد بأى حرف بل غادرت في صمت مغلقة الباب خلفها و قد شعر اخيرا ان مزاجه السئ قد تغير للنقيض..
و تبدل تلقائيا منذ اللحظة التي هلت فيها داخل مكتبه و بدأ في مشاكستها كالعادة.. لا يعلم لما هي بالذات يحلو له استفزازها و جدالها و يستطيب شدتها و ردودها الجافة و يتطلع بلهفة للمسات الحنان التي تظهر خلسة على استحياء خلف تلك النظرات النارية الصارمة.. ابتسم من جديد هامسا لنفسه... باشمهندس ثريا.
تطلع جاسم لذاك البيت المكون من طابقين و الذى لا يقارن مطلقا بدار عمه الراحل حامد الحناوى و هو يصعد درجاته الأمامية ليطرق بابه في تأدب مصطنع.. لحظات و فتح حامد يتطلع اليه في دهشة ممزوجة بقليل من التوجس.. و أخيرا أشار اليه بالدخول ليستقر به المقام في غرفة الصالون في انتظار مجئ يونس لمقابلته..
كادت كسبانة تهتف صارخة و ضربت صدرها بباطن كفها في ذعر حينما عرفت ان جاسم بدارهم فهى تدرك جيدا ان ذاك الشخص لا يأتي من قبله الخير ابدا و لابد انه قادم من اجل مصيبة أخرى من مصائبه..
أشار يونس عليها بألتزام الصمت و نهض مسرعا لمقابلته..
دخل يونس الصالون لينهض جاسم في أدب مستحدث على طبعه.. ألقى يونس التحية و قدمت له تحية الضيافة المعتادة و أخيرا هتف جاسم:- انى عارف ان الوجت لسه مش مناسب لكلام زى اللى انى چاى اجوله.. بس خير البر عاچله..
صمت يونس و لم يعقب مستحثا إياه على الإتيان بكل ما في جعبته ليستطرد جاسم بدوره:- انى كنت طلبت هداية من عمى الله يرحمه جبل سابج و استنيت الرد.. و انى بطلبها منيك تانى... جلت ايه !؟..
سأل يونس في هدوء:- لما انت طلبتها من ابوها.. مردش عليك ليه!؟.. مدكش كلمة ليه و انت واد عمها و أولى بيها!؟..
تنحنح جاسم مؤكدا:- هو كان هيرد بس اللى حصل حصل.. و مظنيش ان عمى كان هيرفض.. و بعدين مين يستاهلها و لا يليج بيها الا چاسم واد عمها!؟..
اندفع حامد يصعد للطابق الثانى من الدار ليخبرعمته هداية بمجئ جاسم و التى وضعت خمارها الأسود فى عزم و اندفعت للأسفل تحاول عائشة أثنائها عن النزول و ترك يونس يتصرف بدلا عنها.. الا انها أبت الجلوس فى هدوء و ضربت بتوسلات عائشة عرض الحائط و جرت مسرعة للأسفل و تركت حامد يقف فى تيه امام عائشة التى لم تكن اقل تيها منه.
هتف بصوت متحشرج متسائلا:-هو چاسم ده راجل سو جوى كِده !؟.. انى شايف عمتى مش طيجاه..
اكدت عائشة بإيماءة من رأسها هامسة باضطراب:- ربنا يصرف عنينا أذاه.. دِه محراج شر..
هم حامد بالاستئذان الا ان احدى الدجاجات قفزت من سُوَر الدرج فى اتجاهه صارخة فى ذعر لمهاجمة اخرى لها لتسقط مباشرة على كتفى حامد لينتفض مندفعا بإتجاه عائشة يكاد يسقط و إياها ارضا..
الا انها شهقت بالفعل و تقهقرت فى صدمة ليسقط وحيدا على عتبة الشقة يسب الدجاج وتربيته و اليوم الذى فكر فيه فى تربية تلك السلالة المجنونة..
انفجرت عائشة مقهقهة و هى تراه بهذا الشكل.. ليتطلع اليها من موضعه مشدوها بتلك الضحكات الرنانة التى تشبه شدو الف كمان تعزف فى تناغم خلاب يسحر الأسماع..
تنبه انه تخطى الحد فى شروده فيها و خاصة انه يعلم انها ستصبح يوما ما زوجا لأبيه.. انتفض مستقيما و استأذن بسرعة مندفعا لأسفل و ما ان غاب عنها حتى اعتدل مزاجه فجأة و اخذ يترنم فى سعادة غير مدرك ان صوت شدوه قد وصل لأسماعها قبل ان تغلق باب شقتها و تعلقت تسترق السمع للكلمات و صوته الساحر بأغنيته التى كانت تنطبق على من خلفها تقهقه بالأعلى:-
صوتك ارق م النايات
صوتك غنا مالى السكّات.
اما هداية فقد وصلت لمجلس الرجال و اقتحمته في جرأة.. و هتفت و قد ألتقطت أذناها اخر أطراف الحديث الدائر لتهتف في حزم:- بجولك ايه يا چاسم يا واد عمى.. احنا سبنالك نچع الحناوى تبرطع فيه و چينا هنا نتجى شرك.. متحل عنينا بجى و بكفياك اللى خدته و نهبته و لسه عايز تنهبه بچوازك منى..
و نظرت ليونس هاتفة تخبره رأيها:-ايوه يا يونس ياخوى.. هو چاى يتچوزنى عشان ورثى من ابويا.. هو دِه اللى يهمه و اللى عايزه.. غير كِده متصدجش..
نهض يونس في هدوء و ربت على كتفها مهدئا:- متجلجيش يا هداية.. محدش هايجدر يجرب لك و لا يمس حجك طول ما انى عايش.. انتِ و عيشة بت عمنا أمانة فاتها ابوى ف رجبتى.. و مش هفرط فيكم ابدا..
و تطلع لجاسم هاتفا:- شرفت يا واد عمى... چاك الرد من صاحبة الشأن بنفسها.. مفيش بعد جولها جول تانى.
تطلع جاسم لكلاهما و عيناه تبرق بشرارات غضب و حقد كادت تردى كلاهما قتيلا و أخيرا نهض في انتفاضة راحلا كالإعصار من دار يونس و هو يهدد و يتوعد..
ما عاد قادرًا على تحمل كل هذه الهموم.. لو كانت هى بالقرب كانت هى الوحيدة التى كان باستطاعتها التخفيف عنه وإزاحه ذاك الهم الجاثم على صدره.. لكنها للأسف احد تلك الهموم التى ناء بحملها فؤاده..
تحرك فى تثاقل يبحث عن ابعد زاوية داخل مجسد سيدى عبدالرحيم القنائى ينكمش محتضنا مسبحته التى كانت يوما لجدها قدرى و اخد يسبح و يستغفر و قد لاحت الدموع بمآقيه تهدد بالهطول كسيل عرم.. لكنه امسكها فى قدرة يحسد عليها و استكان موضعه متمددا و قد شعر برغبة فى الهرب من دنياه ليسعده النوم بزيارة سريعة لأجفانه التي هجرها ليال طويلة خاصة و هى بالقرب يتعذب بها و منها..
أخذته سِنة من نوم لا يعلم كم استغرقت لينتفض منها فجأة متطلعا حوله فى ذهول.. ليتيقن ان ما رأه لم تكن الا رؤية.. اندفع ناهضا يبحث عن شيخه الذى يكن له معزة خاصة ليقص عليه رؤياه..
همهم الشيخ و هما بأحد الأركان وحيدين و صمت يتفكر للحظات و اخيرا تطلع لمهران فى عتب:- استغفر يا مهران يا ولدى.. استغفر كَتير جووى.. انت عليك ذنب كَبير..
و عليه كفارة اكبر..
ازدرد مهران ريقه بصعوبة و همس بصوت متحشرج اضطرابا:- ذنب و كفارة !؟.. بس انى..
همس الشيخ بتؤدة:- يا ولدى متجولش حاچة.. كل بنى آدم ادرى بحاله.. جوم يا مهران يا ولدى.. جوم و أعمل اللى عليك..
اومأ مهران برأسه فى طاعة و نهض بالفعل دون ان ينبس بحرف مشدوها غير قادر على التركيز الا على تلك الرؤية التى افزعته..
ليتوقف فجأة عندما ناداه الشيخ مؤكدا:- الظلم ظلمات يوم الجيامة.. الظلم ظلمات يا ولدى..
و ربت على كتفه قبل ان يلق السلام راحلا و هو يهمس بالقرب منه ناصحا:- اغفر و استغفر يا ولدى.. اغفر و استغفر..
رد السلام على الشيخ و تطلع نحو باب المسجد فى تيه مغادرا و قد قلبت تلك الرؤية موازينه..و لم يكن يحتاج اكثر من هذا ليعلم انه ظلمها.. ظلم من هى اقرب من نفسه الى نفسه.. ظلم ساكنة الفؤاد و توأم الروح.. ظلم تسنيم..نوارة قلبه و منبت وجعه..
شعر بالاختناق رغم ان مكيف الهواء يعمل داخل حجرته.. ان ذاك الهواء الاصطناعي يشعره انه جسد محفوظ ليتجمد..مثله كمثل زجاجة مياة غازية معدة للشرب او دجاجة مجهزة للإعداد..
أغلق المكيف و اتجه يفتح باب حجرته المطل على الحديقة يبغى القليل من الهواء النقى حتى و لو كان محملا ببعض سخونة الجو فى مثل ذاك الوقت من العام.. انه يشتاق لجو الصحراء و لياليها السامرة و سماءها المرصعة بالنجوم.. ليل الصحراء لا يضاهى جماله اى ليل اخر.. تنهد فى حزن و تطلع للساعة المعلقة بالحائط و التى أعلنت منتصف الليل بالضبط.. تطلع للنجوم و زفر فى غضب مكبوت و هو يتذكرها.. و تذكر وعدهما سويا عند الغياب.. هل لازالت تذكره و تذكر وعوده!؟..
منذ ما حدث و لم تهاتفه الا مرة واحدة على استحياء و بعدها لم يسمع صوتها.. ترى هل تحاول نسيانه و الابتعاد عنه بعد ما حدث خاصة و ان حياته الان ستأخذ منحى مختلف تماما عما كان يخطط له!؟.. تنهد من جديد هامسا بأسمها فى شوق.. نرمين.. انت فين!؟.. انا محتاجك قووى..
و رفع ناظريه للسماء يتطلع للنجوم من جديد و ما ان اخفضهما حتى رأها تمشى الهوينى فى هدوء متجهة لغرفة القراءة و هى تضم كتبها لصدرها فى محبة.. لم تدرك بعد وجوده بالقرب لان انوار حجرته كانت مطفأة.. جلست فى احد الأركان و فتحت احد كتبها و بدأت فى المطالعة.. يراها تكرر فى ثقة و تردد ما تحفظ.. يصله همس صوتها و لا يدرك بالضبط ما تهمس به..
كانت كأنها توشوش الليل ببعض ابيات من شعر غزلى و هى فى موضعها ذاك الذى يعطى لها هيئة ساحرة.. كانت جميلة الملامح بلا شك.. انها تشبه عمته سمية كثيرا و فى نفس الوقت لا تشبها اطلاقا.. تشبها فى ملامح وجهها المتناسقة الجميلة الطلّة لكنها تختلف عنها فى ملامح روحها و التى تشع تحدى و اصرار قلما يتواجد فى فتاة مثلها.. صدق مؤمن حين وصفها..
كان قد قرر ان يتركها لحالها و يعود ادراجه داخل الغرفة و جوها الخانق رغم مكيف الهواء الا انه عدل عن رأيه و اتجه بكرسيه المدولب فى هدوء على طول الممشى الذى تم تمهيده خصيصا لأجله.. وصل حيث موضعها و بدأ يسمعها بوضوح الان تردد بعض ابيات من شعر أبى فراس الحمدانى:-
أراك عصى الدمع شيمتك الصبر
اما للهوى نهى عليك و لا امر.
توقف يستمع للأبيات فى إعجاب و اخيرا أكمل هو فى نبرة حالمة:-
بلا انا مشتاق و عندى لوعة..
و لكن مثلى لا يُذاع له سر..
اذا الليل اضوانى بسطت يد الهوى.. و أطلقت دمعا من خلائقه الكبر..
انتفضت هى لمرأه و تطلعت اليه مشدوهة و هو يترنم بتلك الأبيات بتلك النبرة التى جعلتها تتيه فيه غير قادرة على رفع ناظريها بعيدا عن محياه الهائم فى تلك اللحظة و ادركت انه عاشق.. عاشق و غارق فى عشقه حد النخاع و ان عشقه ذاك يضنيه.. و بالتأكيد هى ليست تلك المحظوظة لانه بكل بساطة لم يعلم بوجودها الا منذ ايّام قليلة.. ايمان بالنسبة له كانت مجرد اسم كان يذكره مؤمن له فى اثناء حكاياته عنهم..
مجرد اسم اقترن الان بصورة رأها منذ فترة بسيطة لكن عشقه ذاك كان عميقا يقدر بسنوات لا يمكن ان يغفله قلب عاشق كقلبها.. شعرت بغصة قوية تكبلها عن النطق بحرف الا انه ابتسم ما ان انهى إلقاءه هاتفا بإبتسامة:- العربى كان المادة المفضلة ليا ف ثانوية عامة.. و الصحرا ف الجيش تخليك تتحول شاعر من غير ما تدرى..
واتسعت ابتسامته فأذردت هى ريقها و لم تنطق بحرف ليكمل هو حديثه هاتفا :- انا أسف انى اقتحمت عليكى مكان مذاكرتك كده و عطلتك.. اسيبك تذاكرى بقى..
ما ان هم بالإستدارة راحلا عنها حتى هتفت هى فى تهور:- هى مين..!؟.
جذبه سؤالها ليترك اليد الأتوماتيكية المحركة للكرسى المدولب هاتفا بتعجب:- هى مين ايه !؟.
سألت بثقة اكبر تبتسم فى وجع:- اللى استولت على چلب الچنرال و بتخليه يجول شعر و يحفظه كمان!؟..
اضطرب هو و تعجب من قدرتها على ثبر أغواره و الغوص لأعماقه ببراعة حتى انها اكتشفت سره الدفين و الذى لا يعلمه احد غيره و صاحبته مالكة قلبه..
هتف فى سخرية يدارى تعجبه:- هو انا باين عليا قوى كده.. و لا انت اللى خبيرة بأمور القلوب..!؟
كان الاضطراب من نصيبها هى هذه المرة لتتلعثم و توجه ناظريها بكل الاتجاهات الا صوب عينيه و نظراته التى تنفذ الى روحها فى تلك اللحظة تجعلها تنتفض ذعرا فربما يكشف سرها بدوره و يقرأ ما هو مسطور على صفحات القلب تجاهه منذ سنوات خلت..
تناولت كتبها فى اضطراب متزايد ظهر جليا فى ارتعاشة كفيها و هى تجمعهم من هنا و هناك ما أشعره بالذنب فهتف بنبرة معتذرة:- نرمين.
انتفضت و توقفت كفها عن جمع كتبها و تسمرت كتمثال حجرى لا حياة فيه.. هى ادركت انه عاشق لكن لما اعترافه الان له طعم اخر.. طعم المرارة و العلقم بحلقها.. شعرت بالاختناق و هو يهتف بأسم حبيبته من جديد:- اسمها نرمين.. و هى اخت مدحت صاحبى اللى كان اجازة وقت اللى حصل.. متفقين على الارتباط بس بعد ما تخلص اخر سنة ليها السنة دى فى الكلية..
جلست فى هدوء و هى تستمع لأعترافه و هزت رأسها فى تفهم ما ان انهى اخر كلماته.. و اجبرت نفسها على الهمس قائلة بنبرة
جوفاء:- ربنا يتمم لكم على خير يا واد خالى..
سأل و هو غير مدرك بتلك التى يقتله حديثه عن حبيبته بهذا الشكل
الملهوف:- تفتكرى ان اللى حصل ممكن يغير شئ بينا!؟..
ازدردت ريقها هاتفة فى ثبات حاولت ان تغلف به نبرة صوتها:- لو اللى حصل غير اللى ما بينكم و مخلهوش اجوى.. يبجى اللى كان بينكم ميستاهلش تتعب نفسك عشانه يا واد خالى..
تطلع اليها فى حيرة متعجبا من تلك الفتاة التى تفوق حكمتها سنها بمراحل و تعجب اكثر من قدرتها على جعله يحكى لها ادق أسراره خصوصية و الذى لا يعلم به مخلوق غيرها..
انتبه عندما هتفت هى فى عجالة:- عن إذنك يا ماچد.. الوجت أتأخر..
و ضمت كتبها لصدرها و اندفعت هاربة من امامه تضم الكتب اكثر بين ذراعيها لعلها تخفف قليلا من ذاك الالم الذى انتشر بداخلها و ما عاد لها القدرة على مداراته امامه اكثر من هذا و خاصة و هو ينكأ بكلماته عن حبيبته و قلقه عليها وجعا بروحها لا يعلم عمقه الا الله..
اما هو فتنهد فى ضيق و هو يتطلع اليها مغادرة و استدار بكرسيه مغادرا بدوره..