رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثامن والثلاثون
تحركت باتجاه تلك الدار المشؤومة التى اشتراها سيد من اولاد منصور و ما ان همت بأول خطوة على درج الدار حتى استوقفها احدهم فى سخط هاتفا:- انت مين !؟.. و عايزة ايه !؟.
هتفت محاولة الظهور بمظهر الواثق:- انا الباشمهندسة ثريا.. اكيد الباشمهندس سيد جالكم انى هاچى ازور والدته !؟..
تنح ذاك الجلف جانبا مشيرا للداخل هاتفا:- اتفضلى..
دخلت فى رهبة تتطلع حولها تعاين المنزل من جميع جوانبه.. الدار مدججة بالرجال المسلحين و هذا لا ينذر بالخير ابدا..
توجهت الى اقرب حجرة و طلت داخلها لتجد سيدة ممدة على فراش وثير.. اقتربت منها فى قلق محاولة إيقاظها هامسة:- خالتى.. اصحى يا خالتى.. فوجى و جولى حاچة.. ولدك ف خطر.. چه للنار برچليه.. جومى يا خالتى..
كادت تبكى متوسلة لسيدة ان تستيقظ لكن هيهات.. مسحت دمعها الذى سال رغما عنها..و قررت ان تندفع راحلة فورا و إبلاغ عاصم الهوارى بما يحدث... لكن صوت الأعيرة النارية شل حركتها و جعلها تقف مشدوهة لا تأتى بأى رد فعل.. انتفضت سيدة بدورهاعندما سمعت الأعيرة بهذا القرب و كأنها تُطلق جوار اذنيها و بدأت تتشنج بشكل عجيب جعل ثريا تندفع اليها فى ذعر هاتفة:- خالتى سيدة !؟.. مالك.. فيكِ ايه !؟..
استمرت سيدة فى الارتجاف و هى تضع كفيها على اذنيها فى ذعر و اخيرا صرخت بصوت هادر لم يُسمع من هذه السيدة المستكينة منذ زمن طويل.. صرخة شقت الصخب الدائر بالخارج ليصمت الجميع و لا احد يعلم ما يحدث فى الداخل..
صرخة من جوف وجعها نادت بأسم واحد ثم فقدت وعيها:- سيييييد..
انتفضت ثريا تبحث عن جوالها تستدعى ولدها و هتفت ما ان اجاب على الطرف الاخر:- يا باشمهندس..خالتى سيدة شكلها اترعبت م صوت ضرب النار اللى ضربوه الرچالة حوالين الدار و اغمى عليها.. ألحقنى بسرعة..
انتفض مسرعا الى الدار فلحسن الحظ كان فعلا ف النجع و ليس بالقاهرة و لم ينس اصطحاب طبيبها المعالج.
اندفع ما ان وصل لداره برفقة الطبيب المعالج..
اتم الطبيب فحصه بعد ان استمع لكل الملابسات التى قصتها ثريا عن حالة سيدة و اخيرا هتف:- هاتبجى كويسة متجلجش.. واضح ان ضرب النار ده
رچع لها ذكريات صعبة عليها محدش يعرفها غيرها طبعا.. فى تطور ف الحالة و ان شاء الله يبجى للاحسن بس مش هانعرف ده الا لما تفوج بإذنالله.. انا أديتها حجنة مهدئة و هتنام شوية.. و هاتصحى احسن..
هتف سيد:- متشكر يا دكتور.. بس انت شايف انها هاتبقى بخير يعنى !؟
هتف الطبيب:- ان شاء الله.. كله هيبان لما تفوج بإذن الله..
اندفع سيد لخارج الدار و هتف فى كبير حراسه مناديا:- جعفر...
وما ان أتى حتى صرخ معاتبا:- مين اللى ضرب نار !؟.. مين اللى سمح لكم اصلا بضرب النار !؟..
هتف جعفر و الذى لم يكن الا احد أبناء اولاد منصور:- ضربنا نار لانه چتنا اخبار بتجول ان الهوارية كلهم ملمومين عشان فرح واد زكريا فجلنا ناخد احتياطنا..
عقد سيد حاجبيه مفكرا:- مين اللى بلغك الكلام ده !؟..
ابتسم جعفر فى سماجة:- عيب يا سيد بيه..هو دِه سؤال يتسأل برضك!؟..
هتف سيد:- طب استعدوا لأى حركة مش عادية..
اومأ جعفر برأسه فى إيجاب و اختفى من امام سيد الذى تطلع حوله فى حيرة لا يعلم ما الذى طرأ على حال امه..
و تطلع للأفق البعيد مستشعرا ان الامور لن تمضى على خير ابدا..
و يبدو ان كثير من المستور سوف يرفع عنه الستارفيبدو انه قد حان وقت الحساب.. و جاءت اللحظة التى يثأر فيها من الهوارية جميعهم و خاصة عاصم الهوارى جراء ما لحق بأبيه و امه من هذا الرجل الذى يعتقد نفسه آله يحكم و يتحكم فى مصائر البشر و ما عليهم الا السمع و الطاعة..
نظر فى عزم تجاه الأفق و هو يقسم انه لن يبرح هذا النجع حتى يحصل على مبتغاه و يقضى على عاصم الهوارى مهما كلفه الامر..
دق ناصر على باب شقة ابيه متوقعا انها ستكون اول وجه يطالعه ما ان يُفتح.. لكن امه كانت هى المطلة من الباب.. ابتسمت فى ترحاب ليدخل هو باحثا عنها بناظريه فى كافة الأرجاء..
تنبهت امه لنظراته و قبل ان يهتف مناديا باسمها لعلها بالمطبخ او ما شابه حتى قاطعته هاتفة:- شوشو مش هنا.. شوشو فوق ف شقتكم بتستريح.
هتف ناصر مذعورا:- بتستريح !؟.. ليه !؟..هى تعبانة و لا حاجة !؟..
ابتسمت نعمة و هى تراه قد انتقض متوجها ناحية الباب مغادرا لتلحق به رابتة على كتفه فى محبة هامسة:- متقلقش.. هى هتقولك كل حاجة..
و دمعت عينى نعمة فى شجن فهى تدرك تماما أهمية تلك اللحظات لكل امرأة تعشق زوجها.. تلك اللحظة التى لم يكتب لها الله يوما ان تعيشها لكنها عاشتها مع من تحب..
اندفع ناصر فى اتجاه شقته يعتلى الدرج فى اضطراب و سرعة..دلف للشقة و منها لحجرة النوم ليراها ممددة على الفراش.. اقترب منها و منحنيا و هو يمسح على جبينها فى رقة هامسا:- شوشو.. انتِ كويسة !؟. فى ايه !؟.
فتحت عيونها فى هدوء هامسة:- مفيش يا ناصر متقلقش.. انا بس تعبت شوية النهاردة و..
هتف يتعجلها فى قلق:- و ايه !؟.. قومى نروح لدكتور..
همست و ابتسامة على شفتيها:- ملوش داعى.. انا عرفت انا عندى ايه..
تطلع اليها فى تعجب لتهمس و هى تقترب برأسها من أذنه:- تحب تسميه ايه !؟..
هتف متعجبا متطلعا الى عمق عينيها الدامعة فرحا و هو لم يستوعب بعد ما كانت تحاول الإشارة اليه:- هو مين!؟..
همست هى و قد اتسعت ابتسامتها و تعلقت برقبته:- ولى العهد..
زاغت نظراته باضطراب على محياها و همس و كأنه ادرك اخيرا ما كانت تقصده:- انتِ حااامل !؟..
اومأت برأسها فى تأكيد تتطلع اليه فى عشق.. غاب للحظات فى تيه لا يدرى ما عليه فعله و هو غارق فى اضطرابه و اخيرا جذبها فى قوة مطوقا إياها بين ذراعيه.. و همس فى ابتهال:- الحمد لله يا رب.. الحمد لله.. عمرى ما تمنيت حاجة اكتر من انك تكونى ام عيالى..
كان لايزل يعتصرها بأحضانه يصلها ابتهاله همسا فيزيد عشقها لذاك الرجل الذى ما عادت تريد شيئا بهذه الدنيا الا إسعاده..
انتقض مهران فى زعر و هو يجيب حازم على الطرف الاخر من الهاتف:- انت بتجول ايه يا حازم!؟.. معجولة !؟..
اكد حازم:- ايوه يا مهران هى الحاجات دى فيها هزار..هو صاحب النمرة..
هتف مهران مصدوم:- سيد العشماوي !؟.. طب و ليه يعمل فينا كِده !؟..
هتف حازم:- انا معرفهوش شخصيا و لا حتى شفته الا مرة.. محدش يقدر يجاوبك على الأسئلة دى غير عمى عاصم.. اكيد فى سر ف الموضوع.
اكد مهران:- صح.. ابويا لازما يعرف.. انى رايح ابلغه و نشوف الأخ اللى طلع لينا ف البخت دِه ايه حكايته..
هتف حازم مودعا:- اكيد لازم تبلغه و انا ف الخدمة ف اى حاجة..انا اسف انى اتاخرت عليك بس انت عارف الظروف كانت ازاى..
هتف مهران ممتنا:- متجولش كِده..تسلم يا واد عمى و تعبناك.. لولاك مكناش عرفنا مين الأخ دِه.. تشكر يا بطل..
هتف حازم:- العفو يا مهران هو احنا بينا الكلام ده برضو.. سلام مؤقت لحد لما اجى اشوف حكاية الأخ ده..و طبعا هشوفك ف كتب الكتاب..
هتف مهران:- سلام عليكم.. و اكيد طبعا ده الهوارية كلهم هيكونوا هناك و انا و عمك عاصم أولهم.. الف مبروك يا عريس و ربنا يتمم لك على خير يا رب..
هتف حازم فى سعادة:- الله يبارك فيك..
أغلق مهران الهاتف و انتفض من موضعه مندفعا حيث ابوه عاصم الهوارى حتى يطلعه على الأمر و يروا كيف يمكن لهم التصرف مع هذا السيد الذى ظهر لهم من خلف استار الماضى و يبدو انه عاد لينتقم و يأخذ بثأر قديم لا علم لهم به من الاساس..
تسللت باحثة عنه حتى تكحل عينيها بمرأه الذى افتقدته و اشتاقته حد اللامعقول.. لقد وصلت مع ابيها لتوهم و لكنها لم تجده ف دار ابيه..
تراه اين يمكن ان يكون !؟.. و تذكرت عشقه لفرسته ذهبية التى دوما يذكرها و يفتقدها كثيرا عندما يكون هناك بالإسكندرية..
اندفعت بلا تفكير ناحية الاسطبلات باحثة عنه و بالفعل صدق حدسها فقد كان هناك.. يقف بالقرب من فرسته الجميلة تلك و يداعبها فى حنو بالغ أورثها غيرة حمقاء..
اقتربت فى هدوء و همست عندما اصبحت خلفه:- كنت متأكدة انى هلاقيك هنا.. ده نفس المكان اللى اتقابلنا فيه اول مرة.. فاكر!؟..
انتفض مستديرا يطالعها و قد اخذ يتطلع لمحياها الذى يعشق و الذى افتقده بحق تلك الأسابيع المنصرمة
و هتف ما ان جمع شتات نفسه المبعثرة فى حضرتها:- حمد الله بالسلامة يا هدير.. انتوا چيتوا امتى!؟..
لم ترد على تساؤله و كأنها لم تسمعه و هتفت فى امتعاض:- حمد الله ع السلامة يا هدير !؟.. مفيش وحشتينى يا هدير.. كنت هتجنن عشان اشوفك يا هدير...و الله هدير هتموت مقهورة..
هتف فى ذعر:- بعد الشر عليكِ..
لانت سرائرها و هى تدنو منه هامسة:- صحيح يا حمزة !؟..
هتف بدوره فى اضطراب و قد شعر انه وقع فى فخ رقتها من جديد:- صحيح ايه !؟..
همست بدلال:- صحيح خايف عليا !؟
اكد و هى يتوجه للجانب الاخر من الفرس محاولا الابتعاد و لو قليلا عن مجال تأثيرها:- ايوه طبعا.. مش بت عمى و مرتى..
كان يعدل السرج على ظهر الفرس محاولا الانشغال قدر الإمكان عن التطلع الى محياها.. لكن و بلا اى مقدمات وجد كائن صغير الحجم قصير القامة يقف منحصرا بينه و بين الفرس هامسا بالأسفل متوسلا مادا ذراعيه لأعلى كطفل متطلب:- حمزة.. ركبنى عشان خاطرى..
ابتعد متقهقرا خطوة و هو يتطلع لنظراتها المتوسلة لتستطرد:- عايزة اجرب اركبه مرة.. عشان خاطرى..
هل يمكن له ان يرفض مطلب عُرض عليه بكل هذا الكم من الرقة و الدلال!؟..
اقترب فى وجل و بلا ادنى مشقة طوق خصرها بكفيه و دفع بجسدها فوق ظهر الفرس..
تنهد هو و انفاسه تتلاحق و نظراته متعلقة بها لتبتسم هى فى سعادة غامرة هاتفة:- الله دى حلوة قووى.. انا عرفت دلوقتى انت بتحب الفرسة دى ليه !؟..
همس بصوت متحشرج يتذكر حادثة قديمة:- بس حاسبى تچرى على فچأة.. و..
هتفت تقاطعه فى مرح:- متخفش مش هقع من عليها.. اولا لانى بعرف اركب خيل.. ثانيا.. حتى و لو حصل ووقعت و جرى لى حاجة مش هاتبقى ملزم تتجوزنى.. لانك ادبست و اتجوزتنى فعلا..
ابتسم لمزاحها و هو يتطلع من موضعه الى تلك الرائعة بالأعلى و التى استطردت و قد تغيرت نبرة صوتها بشكل خطر جعل ضربات قلبه تزيد عن معدلها الطبيعى:- و الأهم من ده كله.. ان مش ممكن يحصل لى حاجة وحشة و انت جانبى يا حمزة..
وقف مشدوها بلا حراك حتى انه اقترب فى ألية دون اعتراض عندما مدت كفيها رغبة فى النزول عن صهوة الجواد.. احتضنت كفاه خصرها الدقيق من جديد و انزلها فى هوادة لتقف قبالته هامسة بصوت أذاب أعصابه:- حتى و لو مكنتش وحشتك انت وحشتنى قووى يا حمزة..
تساقطت دفاعاته واحدا تلو الاخر امام ذاك الشلال المتدفق من النعومة و ذاك الاقتراب النارى.. وما ان هم برفع رايات الاستسلام حتى تنبه لموضعهما داخل الإسطبل.. فتقهقر مبتعدا هامسا بصوت متحشرج:- ياللاه نرچعوا.. عشان نلحج نستعد للكتاب..
اكدت بإيماءة من رأسها و هى تسير خلفه تحاول اللحاق به بعد ان اندفع مبتعدا كمن تتعقبه الشياطين و ما ان اصبحت بمحازاته حتى تطلعت الى محياه المحبب تتشرب ملامحه السمراء و هى لا تدرى انها تفعل بذاك الرجل الصلب الافاعيل دون ان يكون لديها اية فكرة..
خرجت متسللة من الدار دون ان يدرك هو غيابها و قد قررت الاندفاع الى السراىّ لاخبار عاصم بكل ما يحدث.. فبعد ما رأت.. و تلك الكلمات التى تسللت لمسامعها بينه و بين ذاك المدعو جعفر ما عاد السكوت يجدى و كفاها دفن رأسها فى الرمال متجاهلة كل تلك الشواهد حتى تقع كارثة و ستكون لها يد فيها لانها لم تتكلم من البداية و تخير عاصم بما يجرى فى الخفاء..
اندفعت تجرى كالمذعورة بإتجاه السراىّ من ذاك المكان المتطرف بأخر النجع.. كادت انفاسها ان تنقطع
و قد وضعت اقدامها اخيرا على درجات سلم السراىّ مندفعة للداخل..
اتجهت لغرفة المكتب تلهث و قد سمعت صوت عاصم يعلو قادما من هناك.. ما ان اقتربت حتى سمعت مهران يخبره بما علم من حازم فيما يخص سيد.. استندت على الباب تلتقط انفاسها و عاصم يسأل مهران فى تعجب:- طب و ليه سيد العشماوى يعمل فينا كِده !؟..
اندفعت ثريا من الباب هاتفة:- عشان عايز ينتقم منكم يا عاصم بيه..
انتفض عاصم و مهران و ساد الصمت للحظات دنت فيها ثريا من مجلسهما و اتخذت مقعدا تستجمع نفسها حتى هتف عاصم اخيرا:- انتِ بتجولى ايه يا ثريا!؟..
اكدت بإيماءة من رأسها:- ايوه يا عاصم بيه.. سيد عايز ينتجم منك و من الهوارية كلهم..
هتف مهران مقاطعا إياها فى حنق:-و احنا عملناله ايه م الاساس !؟.. دِه احنا منعرفوش الا من كام شهر..
اكدت ثريا هاتفة:- سيد بن سليم الهوارى.. واد عمك يا عاصم بيه..
انتفض عاصم ناهضا فى صدمة:- انتِ بتجولى ايه !؟.. ولده كيف !؟..
سليم مخلفش الا حمزة من كسبانة..
و الكل عارف جصتها..
حركت رأسها نافية:- لاااه يا عاصم بيه.. سيد يبجى واد سليم الهوارى من سيدة بت حسنين الحاوى..
هتف عاصم متعجبا:- واد سيدة المجذوبة !؟.. كيف ده !؟.. و ميتا حصل !؟..
اكدت ثريا:- سليم الهوارى وعدها يتچوزها لما تروح معاه مصر هى و ابوها.. و صدجته و راحت و اتچوزها و خلف منيها سيد.. لكن ايه اللى حصل ف الفترة دى !؟.. و ايه اللى رچعها ع الحال دِه !؟.. هى الوحيدة اللى تجدر تچاوبك يا عاصم بيه..
ثم استطردت فى عجالة:- المهم دلوجت تلحجوه..
هتف مهران:- نلحجه كيف !؟.. هو انتِ تعرفى مكانه !؟..
هتفت:- ايوه.. اشترى دار ولاد منصور اللى ف اخر النچع..
انتفض عاصم من جديد هاتفا:- ولاد منصور !؟.. يا وجعة سودا.. ايه اللى وصله ليهم دوول!؟..
هتفت ثريا:- دوول بيحرسوه.. و بيحرسوا الدار.. و هو اللى راح اتفج معاهم على كِده.. على أساس انه عارف العداوة اللى بينكم و بينهم..
اندفع عاصم من خلف مكتبه مشيرا لمهران على عجل:- هم يا مهران.. هم اچمع الهوارية كلهم بسرعة.. الحكاية بينها واعرة و شكلنا داخلين على موال كَبير..
اندفع مهران ينفذ أوامر ابيه بينما هتفت ثريا فى نبرة منكسرة تشعر بذنب هائل يسربلها جراء سكوتها كل تلك الفترة:- انا آسفة يا عاصم بيه.. كان لازما أتكلم اول ما عرفت و اچى اجول لك كل حاچة.. بس..
شعر عاصم بما يعتمرها من ذنب و صراع داخلى فهتف بدوره:-الحمد لله يا بتى.. حصل خير.. المهم دلوجت نلحجه من يد ولاد منصور.. دول جتالين جتلة.. ربنا يسترها..
واندفع عاصم خارج مكتبه حتى مقاعد الاسطبلات ينتظر اجتماع الهوارية بينما هى فقد قررت ان لا قبل لها على الجلوس و الاكتفاء بدور المتفرج و هى تعلم انه بخطر هناك بين ايدى هؤلاء القتلة فقررت الاندفاع بدورها فى اتجاه دار اولاد منصور.. داره..
و ليكن ما يكون..
اندفع عاصم و ولده مهران باتجاه إسطبلات الهوارية حيث استدعى رجال الهوارية على عجالة بعد ان اخبره مهران و كذلك ثريا بكل ما كان من امر سيد العشماوي و الذى لا يعلم حتى الان ما الذى يكنه للهوارية و التهامية حتى يُلحق بهم كل هذا الاذى!؟..
حضر الجميع على عجالة فلابد ان الحدث جلل حتى يقوم عاصم الهوارى باستدعائهم بهذا الشكل الملح و فى ليلة عقد قران ابنة اخته سهام على بن زكريا الهوارى..
هتف عاصم بالتحية و من خلفه ابنه مهران لجمع الرجال الذى ازدحم المكان بهم و جلس الجميع فى ترقب
ليهتف احدهم فى قلق:- خير يابو مهران !؟.. لمتنا شكلها لحاچة كَبيرة..بس لعله خير !؟..
هتف عاصم متنهدا:- و الله يابو حسان كان نفسى اطمنك بس انى نفسى معرفش ايه اللى بيحصل دِه عشان كِده چمعتكم اشوركم يمكن حد يدلنى..
و استطرد عاصم هاتفا:- الصراحة كان فى سر كبير انى مخبيه عليكم من زمن و النهاردة بس لجيت ان السر دِه هاياجى من وراه مصيبة كَبيرة.. جلت لازما تعرفوه و اشوركم..
هتف احدهم:- وااه يا بومهران.. ايه فى !؟.. جلجتنا و الله..
سأل عاصم مستفسرًا:- حد يعرف سيد العشماوى !؟..
نظر كل منهما للأخر فى انتظار اجابة شافية على سؤال عاصم لكن كان النفى بهز الرأس هو الإجابة.. ليهتف عاصم من جديد:- متأكدين كلكم !؟..
هم الجميع بتأكيد عدم معرفتهم بذاك المدعو سيد الا ان احدهم هتف فى ثبات:- دِه عمل ايه يا عاصم !؟.. نورنا..
هتف مهران مؤكدا:- عمل بلاوى يا عمى صابر..بيعمل مصايب و يلبسها فينا يا هوارية.. عايز يضرنا منعرفش ليه و لا ايه غرضه من كِده!؟..
هتف احد الرجال بإنفعال:- دِه اتچنن باينه و لا ايه !؟.. عايز ايه منيكم البَعيد دِه..
هتف عاصم متنهدا:- عايز ينتجم يا هوارية.. الواد ده بن سليم واد عمى..
ارتفع صوت الهرج و المرج بين الجمع حتى هتف احدهم متسائلا:- واد سليم كيف !؟.. سليم الله يرحمه من زمن و كلنا عارفين انه مخلفش غير حمزة.. و كلنا حافظين الجصة الجديمة يابو مهران..
هتف عاصم:- ما هو ده السر اللى بجولكم عليه.. سليم مامتش يوم ما طبت عليه الحكومة ف الچبل.. لاااه.. كان عايش.. عرف يهرب منيهم و چالى يوميها.. باس على يدى و طلب انه يسيب النچع و ينزل على مصر و اجول انه مات لانه مش ناوى يرچع تانى.. حاولت اجوله يفضّل وسطينا بما يرضى الله لكنه كان خلاص ركب راسه مش عايز يسمع لحد.. طلب انه ياخد تمن ورثه من ابوه على أساس انى هشتريه منيه اديته كل اللى طلبه و وعدته انى اروح النيابة أتنازل عن البلاغ ضده عشان محدش يلحجه تانى..
و نفذت كل اللى طلبه بالحرف و هو كمان موراناش وشه من يوميها.. و ادفن السر ده و معرفش حتى انه مات م الاساس..و..
هتف احد الرجال من احد الأركان صارخا:-لاااه مات.. من عشر سنين.. دِه اخرة ظلمك يا هوارى و ربنا بعت لك اللى ياخد بحج سليم اللى ظلمته..
هنا لم يستطع عاصم الصمت اكثر من هذا و انتفض صارخا بصوت هادر اعاد لأذهانهم الغول على حق:- لاااااه.. الا الظلم.. يعلم الله انى مظلمتش سليم و لا كنت حابب تبجى نهايته كِده بس كان جدامكم كلكم لما ظهر زكريا و جلت نديله حجه رفض و عاند و ضربنى بالنار و اللى محدش يعرفه انى روحت النيابة و اتنازلت عن حجى عشان ميبجاش مطلوب ليهم و لكنه برضك محفظش الچميل و طلع الچبل مع ولاد الليل و جعد يجلع ف الزرع و يسم البهايم و يرازى ف خلج الله..
و ف يوم نزل م الچبل هربان م الحَكومة اللى كبست على ولاد الليل اللى كان موالس معاهم و زى ما جلت خرچ م النچع و من يوميها لا اعرف راح فين و لا اعرف فين أراضيه و لما عرفت بچوازه من ورانا و مرته چاتنا تستنچد اكرمناها و ولده اتربى وسطينا واحد م الهوارية... تاجى دلوجت يا سلمان تجولى ظلمته.. لو حد ظلم سليم يبجى هو اللى ظلم حاله و ظلم ولده سيد لانه مجلوش الحجيجة و عبا جلبه من ناحية أهله كره و انتجام.. و بعدين ام سيد دِه من النچع هنا و عارفة الحجيجة كلها و كان ممكن تجولها لولدها لولا ظروفها..
هتف احد الحضور:- امه كيف م النچع !؟.. تلاجيها من مصر..
هتف عاصم مؤكدا:- لااه.. امه م النچع.. امه تبجى سيدة.. بت الحاوى..
هتف الجمع متعجبا:- سيدة !؟.. سيدة المچذوبة !؟..
هتف عاصم:- ايوه هى.. اتچوزها بعد ما جال لها تسبجه هى و ابوها على مصر و خلف منيها الواد.. و لما رچعت معرفش ايه اللى حصلها خلاها ع الحال دى و مش معاها الواد كمان..
و استطرد عاصم امرا بصوت هادر كالرعد:- بجولكم ايه يا هوارية.. واد سليم لازما يعرف الحجيجة.. لازما يعرف ان اللى بيعمله دِه مش هيضره لوحده دِه هيضر بالهوارية كلهم.. انى رايح له مع مهران ولدى.. حد چاى معاى و لا مصدجين حكاوى سلمان..!؟
هتف رجال الهوارية فى ثقة:- معاك يابو مهران..
اكد عاصم:- يبجى نتچمع بعد كتب كتاب حازم واد زكريا و نروحوا كلنا..
هتف سلمان ساخرا:- انت عارف هو فين م الاساس يا عاصم!؟..
هتف عاصم مؤكدا:- ايوه اعرف.. اشترى بيت ولاد منصور اللى ف اخر النچع و جاهد ف حماهم مع امه..
هتف بعض الرجال:- ولاد منصور.. و ايه اللى وصل واد سليم ليدهم.!؟
هتف عاصم بغيظ:- بيصيدوا ف المية العكرة هيكون ايه يعنى!؟.. و هو مهما كان غريب برضك و ميعرفش هو حط يده ف يد مين.. عشان كِده لازما نلحجه من يدهم.. محدش عارف ماليين راسه بأيه تانى!؟..
ثم استطرد عاصم ناهضا فى عجالة:- ياللاه يا هوارية كلنا على كتب الكتاب و بعدها نتچمع و نشوفوا الموال دِه هيخلص على ايه..
هتف سلمان فى غيظ عندما وجد الهوارية كلهم على قلب رجل واحد خلف عاصم:- هتچر الهوارية لموال واعر جوووى يا كَبيرهم..
تجاهله عاصم راحلا وانفض الهوارية لحضور عقد قران حازم و تسبيح و قد عزموا امرهم على التوجه لسيد مهما كانت العواقب لكنهم لن يدعوا احدهم بين أيدي اولاد منصور مهما حدث..
أعلنت تلك الزغاريد الصادحة بالأسفل انه قد تم اخيرا عقد القران و اصبحت زوجته.. دق قلبها بعنف معلنا عن فرحة غير مسبوقة و هى لا تصدق انها أصبحت زوجته شرعا و قانونا امام الله و الناس و ان ذاك الذى خطف قلبها منذ وعته عيناها دون غيره من الرجال قد اضحى رجلها الأوحد.. تنهدت فى سعادة لتتغامز كل من سندس زوجة اخيها و تسنيم اختها على مظهرها الحالم و اخيرا اطلقتا الضحكات على شرودها الغير معتاد منها و هى التى لا ينفك لسانها عن إطلاق النكات و السخرية على خلق الله..
تنبهت لضحكاتهما و ايقنت إنهما يتغامزان عليها فعبست متصنعة الغضب هاتفة:- ايه!؟.. بتتمسخروا عليا!؟.. طب مبلاش ده كل واحدة فيكم سيديهاتها عندى..
انفجرت سندس و تسنيم فى الضحك من جديد و قد أيقن انها عادت لطبيعتها بعد ان أفلت لسانها بهذه الطريقة و هتفت سندس فى مرح:- الحمد لله اطمنا عليكى.. كنّا خايفين الصدمة تأثر على عقلك..
هتفت تسبيح بخيلاء:- صدمة ايه..!؟ ده انا جبلت اتچوزه شفجة لما عرفت انه بيموت فيا..
قهقهت الفتيات من جديد و لكنهن ألتزمن الصمت ما ان علا صوت باسل متنحنا هاتفا و هو يدخل الحجرة على اختيه و زوجه:- بجولكم ايه..
العريس عايز يبارك للعروسة.. تعالى معايا يا سندس و انت يا تسنيم شوفى چوزك فين..
اندفعت كل منهما تنفذ فى سرعة متجاهلات توسلات تسبيح للبقاء معها و عدم تركها بمفردها مع عريسها الا ان سندس هتفت متشفية فى مزاح:- مش اتجوزتيه شفقة.. قدميله حسنة لله بقى..اهو جاى ياخدها بنفسه..
جزت تسبيح على أسنانها غيظا و قهرا و هى ترى الجميع يتخلى عنها و يتركها و بدأت قدماها تخور قواها و لا تقدر على حملها فجلست على اقرب مقعد بعيدا عن الباب محاولة استعادة رباطة جأشها فهى المرة الاولى التى ستراه فيها بعد ان اصبح زوجها.. كادت تذوب خجلا لمجرد تذكر ذلك.. و تاهت فى خيلاتها الوردية و هى تترقب ظهوره على اعتاب حجرتها..
تلفت باسل فى حذّر و هو يشير لحازم لكى يمر مبتعدا عن مرأى النساء المجتمعات بالخارج و همس و هو يمرره لداخل غرفة اخته:- و الله ابوى لو علم ليطخنى عيارين و تبجى انت السبب..
همس حازم معترضا:- هو فى ايه يا باسل.. هى مش بقت مراتى يا جدعان..
هتف باسل:- مرتك دى لما تروح بيتك جبل كِده و لو كاتب ميت كتاب.. مليكش حاچة عندينا.. انى بس اللى جلبى رهيف و حاسس بالوچيعة اكمنى مچرب.. ادخل يا خوى و هى دجيجتين بالعدد و لو اتاخرت چوه انى اللى هبلغ ابوى بنفسى و اعمل فيها بطل..
ابتسم حازم و هو يربت على كتف باسل هاتفا:- مردودالك يا واد عمى.
ابتسم باسل بدوره مدعيا الذعر:- ربنا يسترها و متبجاش نهايتى على ايديكم.. انچز الله يسترك..
اندفع حازم مبتسما لداخل الغرفة و ترك الباب مواربا قليلا احتراما لوقوف باسل بالخارج..
تسمر فى موضعه و هو يراها تجلس فى ذاك الركن البعيد أشبه بلوحة فنية مكتملة الإبداع.. تاه فى حسنها للحظات ثم تذكر ان الوقت يمر و ذلك ليس فى صالحه و لا فى مصلحة ذلك المسكين الذى ينتظر بالخارج يقرأ الفاتحة مقدما على روحه الطاهرة.. تقدم نحوها و هو يضغط فى توتر على تلك العلبة الكرتونية الراقية التى يحملها بين كفيه حاملا بها هدية لها.
وقف قبالتها و همس فى صوت متحشرج تأثرا:- مبروك..
توقع ان ترفع رأسها مجيبة اياه الا ان الصمت كان المجيب الوحيد و ظلت على حالها منكسة الرأس فى حياء غير قادرة على التطلع اليه..
انحنى بجزعه و انخفض ليصبح بمحازاتها و هو يستند على احدى ركبتيه و مد كفه يرفع ذقنها ليرى عيونها الشقية التى يعشق.. لكنه رأى دموع تتأرجح بمآقيها.. عبس فى تعجب هامسا:- دموع ليه يا تسبيح !؟ كفاية دموع لحد كده.. ده احنا ما صدقنا..
حاولت الابتسام و مدت كفها تمسح تلك الدمعات اللاتى تساقطن رغما عنها قبل ان يستبيحن خديها
وضع الصندوق الكرتوني على حجرها و مد كفه يفتحه هامسا:- دى هدية ليكِ..
تطلعت لداخل الصندوق لتشهق فى سعادة و انبهار بمرأى محتواه
هاتفة:- دى ليا انا..!
اومأ مؤكدا فى سعادة فائقة و هو يرى ردة فعلها على هديته.. كادت ان تمد كفها لتخرجها من موضعها الا انه كان الأسبق ليمد هو كفه مخرجا ذاك الحذاء الفضى الرائع و الأشبه بحذاء سندريلا و امسك احدى فردتيه و انحنى مستأذنا و هو يضعه فى قدمها بسرعة حتى أنها شهقت مرتعدة عندما رأت ما يصنع.. هتفت متوسلة:- انت بتعمل ايه يا حازم!؟..
هتف غير مبالى بذعرها ممسكا بالفردة الاخرى و انحنى من جديد يمد كفه ليلبسها إياها هاتفا فى مشاكسة غير معتادة على مسامعها:- ايه !؟.. هو انا لو جبت أسورة ولا خاتم مش كنت هلبسهملك برضة!؟.. يبقى ايه الفرق بقى..
كان منطقه لا يقبل الجدل او المناقشة و ما أعطاها هو فرصة من الاساس لتجادل بل جذبها لتنهض لتكون قبالته تماما لا يفصلهما الا سنتيمترات قليلة فهمس هو فى شوق متطلعا لعيونها الحائرة رغبة و رهبة:- امتى يجى بعد بكرة !؟..
و انحنى مقبلا جبينها فى نعومة فأنتفضت مبتعدة فى توتر و اضطراب و كادت تسقط على المقعد خلفها الا انه أعادها لموضعها من جديد لتصطدم بصدره شاهقة ليتطلع اليها بنظرات عاشق ما عاد بوسعه الابتعاد لكنه رغم ذلك هتف و هو يجذب نفسه بأعجوبة من امامها:- انا همشى دلوقتى عشان اخوكِ الغلبان اللى مستنى بره ده لكن و الله لو عليا ما اخرج من هنا و لو الدنيا ولعت..
انفجرت ضاحكة رغما عنها ليستدير اليها من جديد متطلعا الى ثغرها البسام و اشراقة وجهها الندى ليتنهد فى قلة حيلة و يندفع للخارج دون ان ينبس بحرف واحد..
تسمرت فى موضعها للحظات و هى لا تصدق انه كان هنا و مدت كفها تضعها على موضع قبلته على جبينها لتتنهد فى عدم تصديق و اخيرا تنبهت للحذاء الفضى الرائع الذى ترتديه و الذى سيتواءم بشكل لا يُصدَّق مع ثوب زفافها الذى يحمل الكثير من الخطوط الفضية.. تحركت به فى حذّر خوفا من ان تسقط ارضا فهذه هى المرة الاولى التى ترتدى فيها حذاء ذو كعب عال نظرا لحال قدمها المصابة و التى ترتدى لأجلها احذية منخفضة و مريحة..
و لكم احزنها الا ترتدى حذاء ذو كعب عال فى يوم زفافها و هى التى حلمت به طوال عمرها و ظل هذا الحلم دفينا بداخلها لم تطلع عليه احدا حتى و لا اقرب الناس اليها..
الان تراه يحقق لها حلمها بالحصول على واحد مخصوص لأجلها.. لكن السؤال هو.. هل ستستطيع السير به دون قلق و لن يمثل ارتدائه عبءً على قدمها!؟..
تحركت بغية الحصول على اجابة و لم تكد تخطو اولى خطواتها حتى تعجبت من حالها و هى تسير فيه بمثل تلك السهولة و اليسر و تطلعت لحالها فى سعادة و وقفت امام المرآة غير مصدقة ان تلك الفتاة مكتملة الأنوثة و الجمال التى تظهر امامها الان هى تسبيح.. تسبيح تلك الفتاة التى كانت ستلقى بنفسها فى زواج منزوع العاطفة و محكوم عليه بالفشل لمجرد انها لا ترى نفسها كاملة بسبب إصابة قدمها و التى لا ترى لها اثرا الان..
جلست و خلعت الحذاء متطلعة اليه لتدرك ان ذاك الحذاء صُنع خصيصا من اجلها و انه قد أوصى بصناعته ليناسب حالة قدمها و يخفى عيب العرج البسيط الذى يلازم مشيتها.. ضمت الحذاء لصدرها فى سعادة و هى تهتف داخلها بألف كلمة عشق تحملها لصاحب الهدية الذى اصبح.. زوجها.. و تورد خداها لهذا الخاطر و انفجرت ضاحكة على حالها و قد اصبحت أشبه بالممسوسة..و لما لا تكون.. و هل هناك جنون يضاهى جنون العشق!؟..
كانت ترتب غرفته كالمعتاد و تعدل من وضع غطاء فراشه.. جلست فى قدسية على طرف الفراش تتطلع لذاك الصرح الذى جمعهما ليلة ما كزوجين.. ليلة واحدة و وحيدة كان نتاجها يونس الصغير.. مدت كفها تمسد على موضعه المعتاد من الفراش و رفعت تلك الوسادة الصغيرة التى هى موضع رأسه والتى تود لو تضمها الان لصدرها..
ضمت الوسادة فى عشق و تلمست رائحة عطره المنسابة بين طياتها لعلها تهدئ بعض من شوقها اليه.. انها تعشقه.. و بعد اعترافه بحبها و الذى سمعته يبثه لأخيه اصبحت تعشقه أضعافا لكن لا قبل لها بالبوح قبل ان ينطق هو.. لا سبيل لها لتجهر بعشقه قبل ان يبثها هو اعترافه كاملا على مسامعها.. انها تشتاق تلك اللحظة و تتوق اليها شوق تائه فى الصحراء لشربة ماء تروى بعض من عطشه و تنجيه من التهلكة..
توقف هو على باب حجرته مشدوها و هو يراها على تلك الحالة الهائمة تحتضن وسادته المفضلة الى أحضانها و كم شعر بالغيرة تكاد ترديه قتيلا و هو يتمنى ان يكون فى موضع تلك الوسادة و لو لليلة اخرى بعد ليلة زفافهما اليتيمة.. ليلة اخرى معها كافية يعوضها ما كان وتعطيه القدرة على الصبر على تمنعها و تباعدها عنه الفترة السابقة.. انه يتمناها بكل خلجة من خلجات روحه..
لكن ماذا عليه ان يفعل كى تشعر تلك الحمقاء هناك انه ما عاد يرغب الا بقربها هى فقط!؟.. هى وحدها من ادرك انها عشقه الاول و الاخير.. و ان ما عاداها كان مجرد تجربة حب حتى حضر العشق بحق مجسدا فى محياها ليدرك انه ابدا قبلها لم يعشق بل كان يمثل دور العشق..
تقدم بلا وعى حيث لازالت تجلس على طرف فراشه ليجلس خلفها لتنتفض هى فى ذعر تستدير لتواجهه شاهقة و هى تلقى الوسادة بعيدا كأنما ضُبطت بالجرم المشهود..
ألتقط هو الوسادة فى حركة بهلوانية قبل ان تسقط ارضا و تطلع اليها مبتسما و ما ان هم بمشاكستها حتى سمع صوت يونس الصغير يبكى بالغرفة المجاورة تنبهت لصوته لكن حامد كان الأسبق اليه ليحضره لغرفته التى مازالت تقف فيها فى نفس موضعها حيث تركها حامد و لم تتزحزح قيد انملة من شدة اضطرابها و توترها..
دخل حامد الغرفة و هو يداعب الصغير الذى بدأ يبتسم له و هو بين ذراعيه.. قبله فى حنو و وضعه بمنتصف الفراش لتتطلع عائشة اليه متعجبة لما احضر الصغير الى هنا و كان ف الإمكان ذهابها هى اليه فى غرفتها!؟.. هتف حامد وكأنه وعى تساؤلها الصامت:- يونس هينام معايا هنا النهاردة..
تحشرج صوتها و هى تقول:- بس دِه بيصحى كَتير بالليل و هيجلج منامك.
و اندفعت تحمل الصغير من موضعه الا ان حامد وضع كفيه فى سرعة على كفيها التى كانت تهم بحمل يونس و همس فى شوق:- لو خايفة يصحى بالليل و انتِ مش چاره.. خليكى معاه..
اضطربت و جذبت كفيها من تحت حرارة كفيه و هى تنتفض فى خجل:- بس كِده هنضايجوك ف نومتك..
هتف فى تأكيد:- انى راضى..
أزعنت لطلبه و سارت بقدم متخشبة الى موضعها ع الجانب الاخر من الفراش و صعدته و تمددت كالمحنطة بجوار صغيرها ليصعد هو على الجانب الاخر مدعيا النوم حتى تهدأ تلك التى يهتز الفراش من اثر ارتجافات قلبها الذى يدق بصخب كاد يصم أذنيه.. و بالفعل و بعد فترة لا يدركها شعر باسترخاء جسدها فتأكد انها راحت فى النوم اخيرا..
نهض فى حذّر بجزعه مستندا على مرفقه متطلعا الى محياها الناعس فى محبة و شوق طاغ كاد يدفعه دفعا ليوقظها فى تلك اللحظة ليبثها لواعج قلبه الذى يكاد يموت فى سبيل لحظة رضا واحدة منها و بالفعل كاد يفعل الا انه انتفض اثر انتفاضتها مندفعة من الفراش تظن انها تسمع صوت يونس باكيا بالغرفة الاخرى كعادتها دوما هاتفة بإسمه الا ان حامد اندفع خلفها ليجذبها من ذراعها مستوقفا إياها ليتراجع جسدها مستديرا و مرتطما بصدره..
تطلعت اليه فى تشوش واضح لا تعلم ما يحدث.. ليهتف هو مشاكسا و بصوت متحشرج متطلعا الى رداء نومها الحريرى ذاك و الذى ارتدته خصيصا و هى تدخل لغرفته اول المساء لتعدل فراشه:- سيبانى و رايحة على فين!؟.. ده انى ما صدجت..
تطلعت اليه و بدأت ترتجف و هو تشير للغرفة الاخرى هامسة:- يونس الصغير بيبكى..
ابتسم و هو يدنو منها اكثر هامسا:- يونس الصغير نايم اهو ع السرير.. بس فى حد تانى هو اللى بيبكى.. موخداش بالك منيه!؟..
تطلعت اليه مشدوهة و كأنما فقدت عقلها غير مدركة معنى ما يتفوه به لتشهق و هى تراه يحملها فجأة و يخرج بها حيث الغرفة الاخرى دافعا بابها بقدمه سائرا بها فى تملك حتى فراشها..انزلها فى رقة و طل عليها من عليائه يدنو منها فى شوق هاتفا بالقرب من مسامعها:- مش كفاية كِده بعاد.. علمتينى الفضيلة يا بت عم ابوى..
لم تستطع كبح تلك الابتسامة التى باغتتها لتطل على شفتيها ليقفز هو على الجانب الاخر من الفراش فى رعونة و كأنما ابتسامتها تلك هى الدعوة التى كان ينتظرها منذ زمن بعيد ليقرب محرابها و يدنو من سُوَر شرفتها متطلعا لينل تلك الهدية الثمينة من ثغرها الوضاء ذاك الذى يدعوه الى عتباته الكرزية..
انحنى بجزعه محتضنا خصرها ضاما إياها لصدره ليتنهد فى راحة و كأنما ضم بعض روحه الغائبة عن روحه و انحنى يلثم جبينها و همس بأذنها مترنما:-
يا غزال و شارد من الچنة
من كد ايه وانا بتمنا
يا فرح ليلة وانا استنا
يا توت ملون عالي يا توت
من كد ايه وانا فيكي بموت
حب الياجوت مفروط مفروط
دي ليلة واحدة ما تكفيش
التوب يا دوب كان كد كد
والميه كانت ميه ورد
سألت جلبي جلبك رد
فرجنا عجد وكان ملضوم
و بحنا بالسر المكتوم
يا عيون و سار مچفيها النوم
دي ليلة واحدة ما تكفيش
شفيف حريرك دفانى
برجوج شفايفك كفانى
تمرك وطعمه الحيانى
الشهد كان ملو الإبريج
يادوب يادوب بنبل الريج
زعج الوابور واخدنى طريج
دى الف ليلة ما تكفيش..
كرر على مسامعها المقطع الاخير عدة مرات لترفع رأسها المغروز بصدره و تتطلع الى عيونه بنظرات دامعة غير مصدقة ما يفعله بها و بقلبها الذى فقدت الإحساس به نابضا بصدرها و كأنما فقد وعيه دفعة واحدة من جراء ما يحدث..
انسابت الدمعات على خديها بالفعل ليمد كفه اليها يغتالها مشفقا ليهمس من جديد:- و الله العظيم بحبك..
شهقت باكية فى لوعة و قد أستجيب ذاك الدعاء الذى أجهدت قلبها فى ترديده.. انه هنا.. انه لها.. انه يحبها.. نطقها الان و هى تشعر بكل ما تحمله من أحاسيس انه صادق تماما.. بل هو الصدق ذاته بتلك اللحظة.. ليستطرد هو حتى يقضى على اخر ذرة شك قد تتسلل الى قلبها هامسا بأسمها كأنما هى المرة الاولى التى تسمعه يردده:- بحبك يا عيشة..
و اخذ يردد اسمها كالمحموم محاولا ان يمحو تلك الذكرى الرهيبة لليلة زفافهما الدامية لتندفع هى الى صدره باكية من جديد.. ضمها اليه اكثر فأكثر حتى أضحت جزءً من أضلعه كما كانت حواء يوما..
و ستظل.. لينعم حامد اخيرا بذاك المستقر لجبينه و يُطفئ نار غيرته من الوسادة..